حكاية عرائس أو عذارى الإلهام
فايز مقدسي
عرائس
الإلهام ويطلق عليهن أيضًا اسم عذارى الإلهام، والاسم يأتي من
اليونانية
MUSES،
وقد دخل أكثر لغات العالم بهذه الصيغة اليونانية فمنه أتت كلمة موسيقى
في أكثر لغات العالم، وأيضًا منه أتت كلمة متحف باللغات الأوروبية
Musée
أي المكان الذي نحتفظ فيه بكل ما يدل على صناعة الجمال عبر الزمن فيكون
المتحف ذاكرة الإبداع البشري.
هناك في العربية كلمات مشابهة وتدل على الإيقاع الموسيقي وعلى مقاييس
النحت وعلى تماس الألوان في اللوحة مثل كلمة قياس، وكلمة مسار، وكلمة
تماس. وأيضًا نقول عن الفنان عندما يصنع عملاً مذهلاً في جماله إن به
"مسًّا" من الشيطان، ونقول إن الشيطان أرسى/ أسس هذه القصيدة أو تلك
عندما تكون رائعة في بيانها ودلالتها. وهناك حكاية جميلة في كتاب
الأغاني فحواها أن أخت الأمير العباسي ابراهيم وكان موسيقيًا مبدعًا
سألته ذات يوم من أين يأتي بهذه الألحان التي تسلب السمع والقلب، فأقسم
لها أن إبليس زاره وعلَّمه الإيقاع "صنعة الموسيقى" ثم صافحه مودعًا
وقال له: "اذهب فأنت الآن مني وأنا منك". مما يبرهن أن البشر أعطوا
الفن والأدب صفة سماوية وشيطانية في آن.
إنَّ أيَّة محاولة لمماثلة كلام السماء عن طريق الشعر وأصوات الحركة
الكونية عن طريق الموسيقى وشكل تلك الحركة عن طريق الرقص والعودة إلى
عصر الزمن الذهبي "الفردوس" الذي يتذكر الإنسان على نحو غامض أنه عاشه
ذات يوم غابر ثم فقده؛ تتم عن طريق تدوين واستحضار التاريخ. ومن المدهش
أن فعل سمر/يسمر/سامر، واسم مسامرة، كلها تعني قضاء الوقت في قص
الحكايات واسترجاع حوادث الماضي بين الأصدقاء، وفي اللغة السنسكريتية
الهندية القديمة نجد الكلمة ذاتها تقريبًا وتأتي في صيغة سامسارا -
يعني بالسنسكريتية "الذاكرة/ والذكرى".
اما عرائس الوحي والإلهام فقد كن في الأصل كاهنات أو راهبات مقدسات
عذروات في معبد "دلفيس" في اليونان، وكن يستمعن لكلام الآلهة وهن في
حالة وجد فوق العادة، ثم ينقلن كلام الآلهة للبشر لمعرفة ما سوف يحدث
حول موضوع معين، وكان كلامهن مبهمًا وغامضًا كما كن يسمعنه من السماء،
وكان على بعض المختصين نقل هذا الكلام وفهم ما فيه من إشارات وألغاز.
ولذلك ارتبطت الفنون والآداب، ومنذ البدء، بالغموض حيث لا يستطيع كل
إنسان فهم محتوى قصيدة إلا بعد النفوذ إلى أسرار بنائها البياني
المعقد.
ثم تحولت الكاهنات المقدسات اللواتي ينقلن كلام السماء إلى عرائس
سماويات للإلهام عددهن تسع عرائس. وتم النظر إليهن على أنهن بنات الله
"زوس" باليونانية، لذلك صرن يقطن السماء أو الجبال العالية ويمنحن
الإلهام للشعراء والموسيقيين حيث أن والدهن "زوس" أوكل إليهن مهمة نقل
الوحي والإلهام ورعاية الفنون والآداب.
أما العروس الأولى فاسمها باليونانية "كاليوب"
CALLIOPE
وهي ربة الفصاحة والبيان فيما يخص الأناشيد الشعرية
البطولية،
ومكلفة بإنزال الوحي على الشعراء الذين كانوا يكتبون ذلك النوع من
الشعر.
أما العروس الثانية فاسمها "كليو"
CLIO
وهي ربة المدونات التاريخية، ومكلفة بمد يد العون
إلى الذين يدونون التاريخ وشحن ذاكراتهم واستحضار الماضي أمامهم.
العروس الثالثة اسمها "إيراتو"
Erato
وهي العروس التي تلهم الشعراء الذين كان اختصاصهم
كتابة شعر المدائح.
العروس الرابعة اسمها "اوتيرب"
Euterp
ودورها هام جدًا فهي ربة الإلهام فيما يخص الموسيقى
والغناء وكل أنواع الأناشيد والتهاليل.
العروس الخامسة اسمها "ميلبومين"
Melpoméne
وهي تلهم شعراء المأساة التراجيدية.
العروس السادسة اسمها "بوليمين"
Polymine
وهي عروس إلهام القصائد الغنائية.
العروس السابعة اسمها "تيربسيشور"
Terpsichore
وهي عروس الإلهام في مجال الرقص ومسؤولة عن ضبط
إيقاع الجسد أثناء الحركة.
العروس الثامنة اسمها "تهالي"
Thalie
وتعني بالفن التشكيلي والنحت.
العروس التاسعة والأخيرة اسمها "اوراني"
Uranie
وهي عروس الإلهام في مجال علم الفلك والنبؤوات
والتوقعات.
كان الشاعر أو الفنان أو الموسيقي أو عالم الفلك أو المؤرخ، وحسب
التقاليد آنذاك، يتوجه إلى الربة الخاصة بكل نوع، وبشكل خاص كتابة
الشعر وصنع الألحان والرسم والنحت لكي تساعده وتوحي له بالأجمل والأكثر
تميُّزًا، وتبين له الأشكال والأساليب والأصوات التي يجهلها الإنسان.
وكانت العروس تستجيب إذا رأت موهبة طبيعية في الشاعر أو الفنان، وكانت
توحي له بالأجمل وتطلب منه أن يكون رسولها بين البشر بكلامه أو بفنه
الذي ينقله عنها. فكان البشر يعتقدون بأن الكلام الذي ينشده الشاعر هو
فعلاً صنيعة إلهية-ما فوق بشرية لما فيه من جمال وصنعة بيانية ودلالات
عالية المستوى.
وهكذا كان الشاعر الموحى له بمثابة نبي لقنته السماء ما يجب عليه أن
يفعل. لأن كل عروس كان ينظر إليها على أنها قوة سماوية إلهية تدرك
الحقيقة العليا وتلقنها للخاصة من البشر في كل أنواع الأدب والفن. لذلك
كان المبدع يتوسل لعروس الإلهام أن تمد له يد العون. ولما كان الفنان
أو الشاعر رسول ربة الإلهام إلى البشر فإنها كانت، وإذا اقتنعت به،
تمنحه قدرة خارقة مقدسة على الكتابة أو الرسم أو صنع الموسيقى، وتمده
بكل أنواع البيان والبديع وأسرار الإيقاع. هكذا يكون كل ما يصنعه
الشاعر أو الفنان حقيقيًا ومقدسًا في آن واحد طالما أنه من أصل إلهي.
مع أن الفنان أو الشاعر كان يطمح أحيانا إلى النفاذ إلى أسرار تلك
الأصول الإلهية لأنها في نهاية المطاف أصوله التي يستعيدها عن طريق
الذاكرة ولو على نحو غامض أو عن طريق الحلم الذي يمثل طموح الإنسان إلى
التعالي إلى ما فوق حدود البشرية وهو ما يفعله جمال الطبيعة، أما جمال
المرأة أو أسرار العنصر المؤنث في الاتحاد الكوني فهو العروس التي لا
تضاهيها عروس في مجال الوحي والإلهام.
*** *** ***