حان الوقت
ليف تولستوي
أنا
على حافة القبر. إنني أحتضر، وقبل أن أموت أريد – ليس بمعنى أريد، بل
لا بدَّ لي، إذ لن أموت مطمئنًا إذا لم أقل لكم، لكل البشر، إخواني
الأعزاء، إنكم تهلكون أنفسكم، ولا تهلكون أجسادكم فقط بل وأرواحكم
وأبناءكم.
لن أتحدث الآن عن جوهر العقيدة المسيحية، فقد تحدثت عن ذلك مرات كثيرة
في أماكن أخرى. سوف أتحدث فحسب عمَّا ينتج عن عدم اتِّباعكم إياها، عن
عذاباتكم المهولة، عن إفسادكم أنفسَكم وأبناءَكم فقط لأنكم لا
تتبعونها.
إنَّ نتيجة عدم الاتِّباع هذا هو أنكم تعيشون ضمن ما يسمَّى النظام
الدولتي. والنظام الدولتي ليس سوى نير يقوم البشر، في ظله، بتعذيب
وإهلاك أنفسهم، بإهلاك أرواحهم، معتبرين السيئ حسنًا والحسن سيئًا.
فما هي هذه – الدولة؟ ربما هي محتلٌّ مجرم متوحِّش ما، هجم عليكم،
وهيمن عليكم بالقوة. يجب أن يكون الأمر على هذا النحو لأنه يفعل بكم ما
قد يفعله فقط عدوٌّ كهذا. لكن لا وجود لهذا العدو؛ فهذا العدو هو أنتم
أنفسكم. هذا العدو هو ذلك النظام الدولتي الذي، في ظلِّه، أنتم أنفسكم
تُعذِّبون وتنهبون أنفسكم، جميعكم، لصالح حفنة من البشر الفاسدين
المستفيدين من هذه اللصوصية.
لكن، ربما، لا يمكن العيش من دون الدولة؟ هكذا، على الأقل، يؤكِّدون
لكم: «من دون الدولة، من دون السلطة، من دون ذلك النهب، وذلك العنف
الذي يمارس عليكم، ستقومون جميعكم، باستمرار، بنهب بعضكم بعضًا، وبذبح
أنفسكم». وأنتم، كما يبدو، تُصدِّقون هذا، وباطمئنان تسمحون بنهبكم، بل
لا تسمحون بنهبكم فحسب (لكان هذا مفهومًا) بل تنهبون أنفسكم بأنفسكم،
وتعطون الغنيمة لأولئك الذين يؤكِّدون لكم أنكم يجب أن تنهبوا أنفسكم،
وأن تعطوا الغنيمة لهم.
لقد اختلط كل شيء في رؤوسكم إلى درجة أنكم صرتم ترون كل شيء بالمقلوب.
الناس الذين يجلبون البضائع دون أن يدفعوا الرسوم الجمركية، أو يتاجرون
في بيوتهم دون أن يدفعوا الضرائب، أو يزرعون الأرض التي تعتبر ملكًا
لله – كل هؤلاء الناس يُعتبرون مجرمين، فيُقبض عليهم ويُحاكمون
ويُسجنون، ولا يخطر لأحد أنَّ المجرمين هم أولئك الذين يمنعون جلب
البضائع عبر ما يُسمَّى الحدود، أو يطالبون بدفع الرسوم الجمركية على
الفودكا والسُّكَّر؛ أنَّ المجرمين ليسوا الذين يريدون الاحتفاظ بما
كسبوه من عملهم، وإنما الذين يأخذون منهم قسمًا منه؛ ليسوا الذين
يريدون أن يعتاشوا من الأرض وإنما الذين لا يسمحون بذلك، ولا يعملون
فيها. المجرمون، بشكل خاص، هم الذين يحرمون الناس من الحرية لأنهم
يعترفون فقط بسلطة الله عليهم، ولا يريدون الاعتراف بسلطة البشر؛ لا
يريدون الالتحاق بالمحاكم والجندية، ولا يريدون أن يقتلوا ويُعذِّبوا
الناس.
يُقال إنَّ بالإمكان بلبلة إنسان سليم قويٍّ إلى درجة أنه يُصدِّق بأنه
ضعيف، وأنه عاجز عن تحريك أي عضو؛ يُصدِّق هذا فيستلقي ويسمح بأن
يُفعَل به كل ما يخطر في البال. تُرى، أليست هذه حالكم، حالنا، حال كل
الشعوب؟ إذ لم يقنعوكم فقط بأنكم عاجزون، بل وبأنَّ عليكم أن تجلدوا
وتُهينوا وتُفسدوا أنفسكم وأبناءكم. لماذا؟ لأجل ماذا تُهلكون أنفسكم
وأبناءكم، أجسادكم وأرواحكم؟ بسبب وجود الحكومة، السلطة، الدولة، ولأنه
لا يجوز عدم الخضوع لها، وأنَّ الحال كانت على هذا المنوال دائمًا.
ولكن، أولاً، كون الحال كانت على هذا المنوال دائمًا، هذا غير صحيح،
ولكن منذ زمن بعيد. وكون هكذا هي الحال فهذا لا يعني أنها يجب أن تكون
هكذا الآن أيضًا. فلأمدٍ طويل، طويل جدًا، لم يعرف البشر حياةً سوى
حياة الرعي، ولم يكونوا يعرفون وسائل للتنقل سوى أرجلهم وأرجل
حيواناتهم. وأما الكلمات؛ فلم تكن هناك لا رسائل ولا طباعة حتى، لكنَّ
الحال لم تبقَ هكذا إلى الأبد.
هذا أولاً، وثانيًا، يجب فهم ماهية الدولة، والقدرات التي تتمتَّع بها
حتى تتسلَّط عليكم. الدولة سلطة، والسلطة هي الناس الذين تضعون حياتكم
بين أيديهم. وهؤلاء استولوا على السلطة، إما عبر فسادٍ صفيق مثل
نابوليون وكاترينا، وإما عرضًا عن طريق المكر والاحتيال اللاأخلاقي
دبَّروا الأمور حتى يتم انتخابهم.
هكذا هي السلطات. أما قوتها فتكمن في أننا، نحن أنفسنا، ندعمها بكل ما
أوتينا من قوة. تكمن قوَّتها في أننا، لأجل مكاسب تافهة، ندعمها ونشارك
في جرائمها المسمَّاة "القوانين"، وفي سبيل هذه المكاسب التافهة نُهلك
حياتنا وأرواحنا وحياة الآخرين وأرواحهم.
آن أوان الإثابة، آن أوان اليقظة! آن الأوان لأنَّ الآلام، وعلى رأسها
إفساد الشعب، أي إفسادنا، يزداد ويزداد حتى بلغ حدودًا مخيفة. سافلٌ ما
– لم يعد بإمكاني تمالك نفسي – يدعى إمبراطورًا، أو لئيم ما يدعى
وزيرًا، من أجل أكثر الغايات تفاهةً وسطحيةً وغرورًا وجشعًا ودناءةً،
يعزم على ضمِّ شعوب دولٍ أخرى قليلة السكان إلى دولته، فيعلن الحروب،
ويذهب مئات الآلاف من البشر لقتل إخوانهم، ويُقتَلون في المعارك.
آن الأوان لفهم أنه، إذا كان هناك زمان كانت فيه سلطات الدولة ضرورية،
وكان زمان كانت فيه سلطات الدولة محمولة، كان زمان – الآونة الأخيرة –
لم يكن البشر فيه، رغم أنهم كانوا يرون جنون الخضوع للدولة، قادرين على
الاستيقاظ والتحرر من عطالة التقاليد، لكن آن أوان إدراك أنَّه حان
الوقت حيث لم تعد الكائنات العاقلة، البشر، قاردة على إهلاك حياتها
وأرواحها، وحياة وأرواح أبنائها، بصورة متعمدة. حان الوقت لكي يثوب
البشر إلى رشدهم، ولهذا الإنسان المنوَّم مغناطيسيًا، الذي يصدِّق بأنه
عاجز عن تحريك أيٍّ من أطرافه، أن يستيقظ بهدوء، وينظر من حوله، وأن
يعيش ببساطة الحياة الملائمة لكل الكائنات الحية. حان الوقت لكي يفهم
كل البشر، وخاصةً في العالم المسيحي، أنهم يقيِّدون ويُعذِّبون
ويُهلكون أنفسهم بأنفسهم، وآن أوان التوقُّف عن القيام بذلك.
التوقُّف – وهو أبسط الأمور – عن القيام بكل ما يناقض متطلبات ومصالح
العقل السليم والأخلاق خاصةً. التوقُّف، أولاً، عن الخضوع للذين
يسمُّون أنفسهم "السلطة"، والكفُّ عن دفع الضرائب، والكفُّ عن الاعتراف
بالجمارك والقضاء والشرطة، وعن وجوب تنفيذ أوامرها، والكفُّ عن
الاستسلام لسلطة العسكر، وبشكل خاص الكفُّ عن المشاركة في أيٍّ من
الأعمال العنفية للحكومة.
«أنتم تطلبون الضرائب ولكني لن أدفعها. باستطاعتكم أخذها عنوةً لكني لن
أدفع، ولا أعتبر نفسي مجرمًا بل أعتبركم مجرمين ولصوصًا. تريدونني أن
أجلب البضائع عبر الجمارك، عبر عصبة قطاع الطرق، لكني أعلم أني لست
مجرمًا بل أنتم المجرمون. والأكثر أهميةً هو أنني ليس فقط لن أصبح
حارسًا أو شرطيًا أو محصِّل ضرائب أو جنديًا، أو أنخرط في أيٍّ من
الوظائف الحكومية، وإنما أعتبر كل من يشارك في الحكومة مجرمًا، كما
يُنظر الآن إلى المجرمين القتلة.
«إنكم تقولون إنه إذا تمَّ التخلُّص من الحكومة فسوف نذبح جميعًا بعضنا
بعضًا». ولكن مهما قلتم لن أُصدِّق هذا، ولا يمكنني تصديق ذلك لأني
إنسان، وليست لديَّ أدنى رغبة في ذبح جيراني، وكذلك بالضبط كل جيراني
ومعارفي. إنني أرى هذه الرغبة فقط لديكم، وليس الرغبة فقط بل والتنفيذ.
ولكن إذا كان بعض الناس: الأباطرة، الملوك، الوزراء، الجنرالات،
الأثرياء، وشتى أنواع الولاة، وغيرهم، لديهم رغبة في نهب الشعب وذبحه،
وهو ما يفعلونه، ولكن لا يمكنني مطلقًا استنتاج أنَّ الشعب كله يرغب في
الأمر ذاته، وأنهم إذا كفُّوا عن تعذيبه فسوف يعذِّب نفسه بنفسه. لست
أرى هذا، وأرى فقط أنَّ الدولة هي بقايا خرافة بالغة الفظاظة، مثل
خرافة التضحيات البشرية المقدَّمة للآلهة، والتي ولَّى زمانها بحيث لم
يعد بالإمكان إلا أن يتم الخلاص منها».
سوف يقولون: «حسنًا! لكن لو كان الأمر كذلك، ورغم جلاء ضررها، لماذا
تبقى الدولة قائمة، ولا يستطيع البشر تدميرها، لماذا؟»
هناك سببان لهذا. الأول هو أنَّ البشر الذين حاولوا، ويحاولون الآن،
تدمير الدولة يحاولون تحقيق ذلك بنفس الوسائل التي حافظت، وتحافظ،
الدولة عن طريقها على سلطتها على البشر. إنهم لا يحاولون تدمير الدولة،
وإنما استبدال شكل الدولة، واستبداله بشكل آخر بنفس العنف، وبنفس الكذب
الذي يسبب له المعاناة في الوقت الراهن، وعبر تدمير أحد أشكال الدولة
سيقومون بتعذيب أنفسهم بشكل أخر.
هذا أحد السببين، والسبب الثاني هو الفساد، خاصةً الديني، الذي أوصلت
الدولة الشعوبَ إليه. ويكمن السبب في أنَّ البشر لا يؤمنون بالعقيدة
الدينية الوحيدة الملائمة لزماننا، والتي وفقًا لها البشر كلهم إخوة،
وتكون غاية الحياة تقوية المحبة والاتِّحاد اللذين لا يسمحان بأيِّ شيء
يفرِّق بين البشر: الكراهية، العدوانية، اللامساواة، وخاصةً العنف.
اجعل البشر يؤمنون بهذه العقيدة (وهم يؤمنون بها ولكنهم لا يعيشون
بموجبها)، أو بالحري، انبذ نقيضها الذي يحجبها، وسوف يستيقظون فورًا،
مثل ذلك الإنسان المنوَّم مغناطيسيًا، وسيبدأون بالعيش بإنسانية حقًا،
حياةً متوافقةً مع وعي البشرية برمَّتها.
إذ يلزم شيء واحد فقط: معرفة مكمن الكذب، وعدم المشاركة في العنف الذي
يُخرِّب حياتنا، عدم المشاركة فيه، وعدم مقاومته بذاك العنف نفسه.
الضرائب؟ لن أدفعها، كما لا أدفع المال لقاطع الطريق الذي يريد
الاستيلاء على مالي بالقوة. يمكنكم أخذ الضرائب رغمًا عني لكنكم تعلمون
أنكم لستم سلطة، لستم حكومة، بل لصوص. والأمر ذاته مع الجمارك، وفي
القضاء، وفي الاستدعاء إلى الجيش، وفي طلب المشاركة في الانتخابات
لتأسيس حكومة عنفية. فقط لو أنَّ عشرات الأشخاص تصرَّفوا على هذا
النحو، بضع مئات، ثم آلاف، عشرات الألوف، لانتهى رعب حياتنا كله.
استيقظوا أيها الإخوة؛ فقد حان الوقت.
فما الذي سيحدث؟ ما الذي سيحدث بالنسبة لكل الأفراد، وللشعب، ولما
يسمَّى الدولة؟ بالنسبة للشعب ربما لن تكون هناك ضرائب، ولا رُسوم، ولا
مُلكية إقطاعية تستولي على أراضي الكادحين، ولا محاكم وسجون وإعدامات،
ولن تكون هناك حروب، لا تلك التي تذهب إليها لتقتل وتُقتَل، ولا تلك
التي يأتي فيها الآخرون ليغزو السكان ويقتلوهم. سيقولون: «سوف تغدو
الأمور أسوأ». فليقولوا. مالذي سيغدو أسوأ؟ خيالي عاجز عن تصوُّر ما هو
أسوأ؛ فأسوأ ما يمكنني تصوره هو أزمنة الثورات العسيرة. ولكن حتى في
ذلك الحين كل الأهوال كانت بسبب الاستمرار في اعتبار العنف الوسيلة
الوحيدة لتحسين الأوضاع. وبالتالي، لا يمكنني، ولا يمكن لأحد، تصوُّر
ما هو أسوأ بالنسبة للشعب بسبب امتناعه عن المشاركة في العنف.
ولكن، ماذا سيحدث للإنسان الفرد؟ في أسوأ الأحوال، في أبعد الاحتمالات،
إذا امتنع هذا الإنسان عن دفع الضرائب، وعن الاعتراف بحدود الدولة، وعن
تنفيذ الواجبات القانونية والعسكرية، فسيبقى بمفرده، وستؤخذ منه
الضرائب عنوةً، وسيُعاقب بسبب عدم تنفيذ الأوامر الحكومية عمومًا. كنت
أريد أن أقول إنَّ الحرمانات والمخاطر التي قد يتعرَّض لها الشخص
الوحيد عند رفضه المشاركة في الحياة الدولتية، فإنَّ الحرمانات ستكون
أقلَّ من الحرمانات التي يتعرَّض لها في ظلِّ الحياة الدولتية. كنت
أريد أن أقول هذا لكنه غير صحيح. كنت أريد أن أقول إنَّ خطر العقوبة
بسبب عدم دفع الضرائب، أو عدم تطبيق أوامر الحكومة، وخاصةً رفض أداء
الخدمة الإلزامية، لن يواجه الجميع وإنما فقط الذين يستحقونها، وإنَّ
النكبات التي سيعاني منها الإنسان ستكون أقلَّ مما في الحياة الدولتية.
لكن – أُكرر- ما كان لهذا أن يكون صحيحًا، ولا يمكنه أن يكون غير صحيح
لأنَّ الصلاح، سواء الروحي أم الجسدي، يُكتسب فقط عبر الجهاد الروحي
والأخلاقي، وعبر التطلُّع إلى العيش حسب مشيئة الله، ولأجل الروح. من
دون ذلك سيبقى الإنسان عبدًا كما كان، ولن يتحرر أبدًا من العبودية
التي يحملها في داخله.
لا يمكن بلوغ صلاح الكثيرين من البشر، وتطبيق الحق، من دون تضحية
وإيثار. والتضحية والإيثار فقط في متناول الإنسان المتدين، الذي لا
يعيش لأجل جسده فقط بل وروحه أيضًا.
وبالتالي، فما أدعوكم إليه، أدعوكم إلى التخلُّص من الشرِّ الذي بموجبه
نُهلك نفوسنا، ونفوس أقاربنا وأبنائنا. ولا يمكن بلوغ ذلك عن طريق
الأفكار والحسابات، وإنما فقط بالجهاد الروحي، وبالتضحية التي تمنح
الخير للبشر، وخاصةً لمن يُظهرها.
البشر، المستسلمون لأكثر متطلبات الاسترقاق دناءةً بالنسبة للإنسان
الذي يمارس الشرور المماثلة للتي نريد التخلُّص منها، يريدون أن يكونوا
بشرًا، وأن تكون حياتهم رشيدة وصالحة. من الممكن تفهُّم أنَّ الإنسان،
دون أن يُدرك كذبة الاسترقاق الذاتي الممارَس عليه، يساهم فيه، أو دون
أن يفهم أنَّ سبب اضطهاده هو العنف تبعًا للشعور الغريزي الحيواني،
فيقابل العنف بالعنف؛ لكن من غير المفهوم وغير المبرر عندما الإنسان
المدرك للكذب الذي يبلبله، ولكل الشرِّ الذي يعانيه، وليس لوحده فقط بل
وإخوانه كذلك، من جرَّاء الكذب، يشارك بنفسه فيه، فيجلد نفسه وإخوانه،
وينتزع من نفسه ثمار كدحه، ويشارك، فعليًا أو بموافقة صامتة، في كلِّ
شرور الإدارات والمحاكم والقوات المسلَّحة، التي يؤمَر بالمشاركة فيها،
أو يمارس العنف رغم إدراكه أنَّ المصائب كلها تكمن في العنف.
أجل، أجل. مخيفة هي، وتقريبًا غير مفهومة للإنسان العقلاني، خرافة
القربان، تناول الخبز والنبيذ على أنهما جسد ودم، أو الكفَّارة... الخ،
لكن الأكثر إثارةً للدهشة خرافة الخضوع لعنف الدولة، أو ممارسة العنف
للقضاء على العنف: أقصد الثوريين.
مخيفةٌ هي الحرمانات والآلام والمخاطر ولكن، بغضِّ النظر عن الثوريين
الذين يُخاطرون أكثر بما لا يُقاس من الذين يمتنعون عن المشاركة في
الحكومة، أليست هي المخاطرة نفسها، أو تقريبًا نفسها، التي تحيق بالناس
الحكوميين في الوقت الراهن؟ الثوريون والقنابل جعلوا الاحتمالات
متساوية، وقد نجحوا في ذلك، وهذه الاحتمالات تصبح متساوية أكثر فأكثر.
وبالتالي، فإذا كان الإنسان اليوم يُفضِّل الخضوع للسلطات، أي للناس
السيئين، على الخضوع لله ولضميره، فإنه يفعل ذلك بسبب حماقته، أو لأنه
يُفضِّل الباطل على الحق، والدناءة على النبل. وإذا كان هو ذاته يفضِّل
ممارسة العنف، كما يفعل الثوريون، ففقط لأنه يفضِّل الوحشية على
الإنسانية، والكراهية على المحبة، والكذب على الصدق.
هكذا هي الحال وفق الحسابات. لكن الإنسان يصبح إنسانًا بالتضحية فقط.
هناك مؤيدون لخرافة الدولة يُضحُّون بأنفسهم في سبيل خرافتهم؛ وهناك
ثوريون مثلهم كذلك، وهناك أمثال هؤلاء، ولا يمكن لهم ألاَّ يوجدوا، بين
البشر، لا أقول: المسيحيين، بل ببساطة أناس عقلاء وطيبون. لذا، كونوا
أنتم أولئك الناس، وستجدون الخير الحقيقي، وتمنحوه للبشر.
ترجمة: هڤال يوسف
*** *** ***