الكتابة
پَريهَان قُمُق
(ابنة
ربَّة عمون)
كلما
أمسكت صحيفة ورقية بشكل عابر
سرعان ما أستعيد ذاكرة التصفح مع انبعاث رائحة الورق الممتزج بقهوة
الصباح، والتنقل بين صفحاتها، وقد غدا اليوم ممتزجًا بتكنولوجيا
المعلومات في مفارقة غرائبية: "الراهن" الممتزج بعصرين مختلفين تمامًا
وغير مسبوق بشريًا.. حيث كان الانتقال من عصر إلى آخر يتم تدريجيًا عبر
قرون، بينما اليوم، وعلى امتداد الكرة الأرضية، نعيش الانزياحات بقوة
وعبر تفاصيلها وهزاتها الشديدة الوطأة على كل الصعد. ومع نَقْرِ حروف
الحاسوب أو لمس الألواح الذكية التي تعج بحياتنا، إلا أننا بعد مازلنا
أبناء الورق برائحته الزكية التي تثير الشجن، وسط ترقب إبحار العقل
البشري المذهل في عصر المعلوماتية حيث لا ندري إلى أين سيأخذنا
المستقبل القريب جدًا بين رمشة عين وأخرى.
ظلت المعرفة الإنسانية على الدوام الهاجس البشري في نهم الكشف عبر
مسيرتها للأنسنة العقلية منذ الحفر على الحجارة، والكتابة الطينية بغية
استنطاقها بحروف رمزية تبهرنا اليوم بما تشي به من معارف وثقافة ومشاعر
مدهشة لحضاراتٍ سادت ثم بادت.
كما تدهشنا تطورات "الكتابة" من ورق البردي بريشة طائر، إلى حبر
الشرايين، إلى لوحة مضيئة إنما بمحمولات معرفية تظل منابع للوعي
الإنساني بتتابع الكشف عن الحقيقة الوجودية. فيُطل الهاجس، لماذا
الكتابة اليوم، وعلى أي إيقاع يكمن فعل "الكتابة"، وما مداه أيًّا كان
حقله في زمن غدا أكثر تعقيدًا والتباسًا وتوحشًا؟
ولماذا نكتب طالما أننا لا نقرأ رغم الافتراض بأننا أمة "اقرأ"، وفي
السؤال استدعاء إشكالي لحال القراءة العربية المتهافتة.
العلاقة الجدلية وعدم الوثوقية ما بين الكتابة والقراءة في ظل مشكلات
الكتابة ذاتها، وتحديات جسام تواجه النتاج الورقي، وازدياد معدلات
الأمية الأبجدية بحكم تفاقم الأزمات والحروب، وظهور القراءات السريعة
بحكم سطوة الصورة التي كرَّسها عصر متسارع، وهيمنة قيم مستجدة كالتسويق
عبر سطوة الإعلان إلى ما هنالك من تحديات تواجه تفاعلية "الكتابة"، مما
يظهر عدم قيمة التلقي كفعل مجتمعي حتى بين أوساط المثقفين أنفسهم أو
المحسوبين على الفعل الثقافي.
ولكن... هل حقًا التساؤل الاستفهامي في ظل واقع قرائي ضعيف، مشروع
إذًا؟
في السياق ذاته أتساءل هل كان في زمن من حفروا تراتيلهم وأسرارهم
المعرفية برسومات رمزية دقيقة على الجُدر والمنحوتات والأواباد، من
يقرأ؟!
إذًا، الكتابة تسير في أنساق الاشتغال المعرفي، وبالتالي لا يجوز
التوقف أمام تشاؤمية ضعف وتحديات القراءة، بل العكس تمامًا، يجب أن
نصرخ لماذا إسهامنا المعرفي والإبداعي ضئيل إلى هذا الحد في السياق
الثقافي العالمي.
لماذا نكتب! هو السؤال الذي يرتد إلينا كي نستوضح ماهيته، وبخاصة تأكيد
أن ثمة رمقًا فينا، فالأمة التي يتوقف تعبيرها عن ذاتها، وبما تعبره من
منحيات حادَّة، حتمًا ستُمحى من المستقبل.
قطعًا ليس من السهل سبر أغوار الطاقة الكامنة في "الكلمة"، حيث يكمن
فيها الصراع وعلة العبقرية. فالكتابة ليست حلاً للأزمات، بل التعبير
عنها بما يلامس المتلقي من جوانيته، وما يعيشه من توتر كبير كي يواجهه
بمحمولات معرفية استنتاجية ونقدية، سواء أكان يسطرها حجرًا أو ورقة أو
لوحة مضيئة.
لم يتغير الأثر القيمي للكلمة عبر الأزمنة، إنما تغير انتقالها من
النخبوي إلى العامة بما حققته الثورة المعلوماتية من ديمقراطية التعبير
عبر انتشار مذهل للمنصات الإلكترونية التي أتاحت بشكلٍ غير مسبوق لشعوب
العالم، ودونما استثناء، التعبير عن ذواتهم، أيًّا كانت جنسياتهم
وأعراقهم وإثنياتهم ودياناتهم وطوائفهم ولغاتهم ومستوى ثقافتهم، وحتى
أعمارهم، لما للكتابة من جاذبية وبوصفها نظام عيش يومي يرهق مادة العمر
الخضراء، فتصفر، ومن ثم تعاود دونما ملل في دورة الحياة الطبيعية في
احتمال تبعات الضغوطات وأبعاد البوح دونما توقف لانتزاع الضرورات في
المعنى القابل لإحداث أثر احتدام الصراعات والعداءات الشرسة حينًا، وفي
حين آخر التعاطف الجمعي، وقد باتت في عرف علم النفس الفرويدي ويونغ،
وحتى الروحانيات، أنها وسيلة العلاج النفسي الفردي والجمعي وسط تزايد
الضغوط النفسية على سكان الأرض.
الكلمة ليست وعاء المعنى كما يقول أرسطو بل تتغلغل عمق الفكر، ومن
الممكن أن تدمر أو أن تصير بلورية بين أبناء البشر في لملمة فتافيت
التواصل ومواجهة خرابات ازدادت توحشًا.
وبذا يكون صاحب فعل "الكتابة" المعني بالحمل الأثقل في زمننا، ومن
تتأجج وتتفاعل فيه المعارف الموغلة بالقدم، والحديثة، والمحتملة
والمجهولة، مما تزيد لديه من جرعات الضغط والتوتر، وحتى الحزن العميق
بالمسؤولية الجسيمة بغية الوصول إلى الآخرين الذين انغمسوا هم أيضًا في
فعل "الكتابة" على طريقتهم الخاصة الآنية والعابرة ربما، إنما القابلة
للهدم كما أيضًا المهيأة للبناء.
يقول الشاعر أبو تمام:
مطر يذوب الصحو منه وخلفه صحو يكاد من النضارة يمطر
لذلك غير مسموح لصاحب فعل "الكتابة الصحو" السقوط في العدمية بتشاؤمية
المشهد العالمي والإقليمي، والسير فوق أرض رخوة أيًّا كان نوع الكتابة
في حقول السياسة، الاقتصاد، الفكر، الثقافة، والعلوم الإنسانية وحتى
الترجمات العلمية، التورط بما هو عابر وآني. إنما هو مُطالب بعدم
استرضاء الأبجدية مهما كانت الضغوطات والتعقيدات بل تأسيس حياة قوية
تنسحب على الهوية والثقافة والتاريخ والحضارة والمستقبل.
و"الكلمة"، بمحمولاتها المعرفية، مسألة مفتوحة لأعماق النفس المرتبكة
بيوميات قاسية، ذلك أنها تمتلك قوة فتح مسارات دُرَب العقل لأبعاد
جديدة للوعي، فهي متحرِّكة ومُحرِّكة في آن معًا. المهم أنها بغريزة
النحلة تبحث عن ذرات الرحيق كي تخلق وعيًا جمعيًا.
الكتابة قاطرة ضوئية قد عبرت عدة أشكال بعمر البشرية، واليوم إذ تتعدى
الزمكان إلى ما هو مُستجد وقد يربو العشرين بعدًا فيزيائيًا ويزيد، تظل
درب الاستنارة للتتفتح - كما زهرة الرمان - عن كنوز جوانية لكشف مسارات
الوعي الداخلي فرديًا وجميعًا، متحرِّكة ومحرِّكة في آن معًا.
*** *** ***