الحق العالمي في التفلسف

 

د. زهير الخويلدي*

 

توطئة:

نشهد اليوم تراجعًا للدور الذي كانت تلعبه الفلسفة في الحياة العامة عندما وصفت بأم العلوم واستمدت قيمتها من ذاتها، وذلك نتيجة التحولات الاجتماعية الكبيرة وانحلال عصور الحكايات الكبرى ونهاية إيديولوجيات الجنات الموعودة وبداية عصر العولمة الاختراقية الافتراضية وما انعكس عنها من تصاعد لأسهم التقنية والعلم في مقابل التشكيك في قيمة التأمل النظري والتفكير المجرد وممارسة حرية النقد، وقد أدى ذلك إلى تقلص حضور الفلسفة على مستوى الشكل والمضمون وفي إطار الواقع والآفاق في المؤسسة التربوية الرسمية على مستوى التدريس وفي نطاق البحث.

وقد أدت هذه الأزمة إلى ردود فعل دفاعية محافظة وإلى التلويح بإمكانية الاستنجاد بالمنظمات الثقافية والتربوية العالمية والربط بين تعليم الفلسفة والدربة الشخصية على التفلسف من ناحية، والحقوق التي ينبغي أن يتمتع بها الإنسان في كل مكان وزمان دون أي تمييز من ناحية ثانية.

لكن الأسئلة التي تطرح نفسها هنا هي: ما علاقة الحق بالفلسفة؟ كيف نمر من الحق إلى الفلسفة؟ من له الحق في الفلسفة اليوم في مجتمعنا؟ هل ثمة من هو محروم منها؟ ألا تشهد المرحلة أزمة في تعليم الفلسفة ونسيانًا لها؟ ماهي الفلسفة التي يملك الجميع الحق في ممارستها وتعلمها؟

ماهي الشروط التي ينبغي أن تتوفر لكي تنتشر بشكل عالمي؟ ماهي المؤسسة التي تسهر على هذا النشر؟ هل هي مؤسسة خاصة أم حكومية؟ كيف تشجع هذه المؤسسات على تعليم الفلسفة والبحث والنشر والمطالعة والنقاش بالنسبة للكتب والمؤلفات الفلسفية؟ كيف تكون المؤسسة الفلسفية ممكنة؟

من يتحكم في هذه المؤسسة؟ وبماذا تهتم؟ ومن يحدد لها معاييرها في التقويم؟ ما علاقة هذه المؤسسة الفلسفية بالحقل التاريخي والاجتماعي أو السياسي؟ ألا نشهد علاقة توظيف واستغلال بين المؤسسة الفلسفية وهياكل الدولة؟ من يخاف من الفلسفة اليوم؟ من له المشروعية لكي يضع حدودًا أمام حق الإنسان في الفلسفة؟ وهل يجوز له من وجهة نظر حقوقية أن يفعل ذلك؟ ألا ينبغي أن نذهب وفق خط مستقيم باتجاه الفلسفة Aller droit à la philosophie[1]؟ هل الفلاسفة هم الأكثر والأجدر في التمتع بالحق العالمي في التفلسف أم ينبغي أن يكون هذا الحق مضمونًا لجميع الناس دون تفرقة أو تمييز؟ ما هي اللغة الملائمة لممارسة هذا الحق؟ هل هي اللغة الكونية والأكثر انتشارًا وتداولاً أم هي اللغة الخصوصية التي تلائم ثقافة الإنسان وتراثه؟ كيف ينظر الشعب إلى الفلسفة؟ ألا ينبغي أن ننتقل من الفلسفة الأكاديمية المختصة إلى الفلسفة الشعبية العفوية ضمانًا لانتشارها واستقرارها؟ لكن ما العمل لكي نتفادى سقوط التفكير الفلسفي الراقي في النزعة الشعوبية المبتذلة؟

يعبر موريس مارلوبنتي عن هذه الحيرة والانزعاج من تقلص مكانة وغموض مصير الفلسفة في المستقبل كما يلي:

ثمة ما يدعو إلى التخوف من أن ينكر زماننا هو أيضًا الفيلسوف وأن لا تكون الفلسفة مرة أخرى سوى دخانًا في هذا الزمان[2].

أما جاك دريدا فقد تفطن في وقت لاحق إلى هذه الأزمة حينما حدَّد سبع تناقضات ومفارقات بشأن تدريس الفلسفة:

1.    "لا توجد أبدًا بربرية غير فلسفية". فنحن نحتج ضد أي إخضاع للفلسفة لغايات خارجية من جهة ولكننا من جهة أخرى نتخلى دون أي عذر عن حقنا في النقد والتقويم ونعزف عن الفلسفة بما هي "علم الغايات الجوهرية للعقل البشري".

2.    نحن نستهجن ونشجب كل منع للفلسفة من طرف المؤسسة الرسمية من جهة ولكننا من جهة أخرى نتحدث عن الهوية الفلسفية ونتعامل مع الفلسفة بمنطق المؤسسة ونلجأ إلى المنع والاستهجان بالنسبة للمعارف الأخرى ونسقط في وهم المركزية الفلسفية Philo-centrisme.

3.    نطالب دائمًا أن تدرج الفلسفة في السياسة التربوية ومراحل التعليم من جهة ولكننا نحس أنها أرقى من جميع المواد وتتعالى على المدرسة والتلقين وكل النزاعات السكولاستيكية فهي حرية الفكر والقدرة على النقد الذاتي والإبداع الشخصي والصيرورة الدائمة.

4.    نرى أنه من المعقول أن توجد مؤسسات وهياكل تنظم البحث الفلسفي وتؤطر عملية تدريسه من ناحية ولكن من ناحية أخرى نسلم بأن الفلسفة لا تخضع في النهاية إلا للحقيقة وقوة السؤال أو التفكير وبالتالي ينبغي أن تظل حرة في كل زمان ومكان.

5.    نحن نعتقد أن منطق التربية يفترض من جهة حضور الأستاذ كمصدر رسمي لهذا النمط من المعرفة غير قابل للتعلم inenseignable ولكن من جهة أخرى نرى أن منطق الفلسفة يقتضي الخروج عن الأستاذ إلى البحث الحر وذلك لكون المجموعة الفلسفية تحكمها بنية ديمقراطية.

6.    يتطلب تعليم الفلسفة من جهة توفير مدة كبيرة من الزمن حتى يسهل تقبل الأفكار المجردة واستيعابها، لكن المنهج الفلسفي يحتوي من جهة أخرى على إيمان بالاقتصاد في التفكير واستثمار الزمن من خلال الإيمان بالحدس واللحظة والإلهام كسبل معرفية ممكنة.

7.    يقتضي نجاح تعليم الفلسفة تضامن الطلاب والأساتذة والمشرفين من جهة واستيفاء شروط الفلسفة ولكن ينبغي أن ننظر إلى الأستاذ على أنه مجرد وسيط لا ملقن والمشرفين على أنهم مجرد موجهين لا مسيطرين والطلاب على أنهم من يتعلمون لأنفسهم وبأنفسهم[3].

فكيف ساهمت هذه التناقضات في تردي وضع الفلسفة؟

ما نراهن عليه من خلال هذا المبحث وما نأمل في توفره في الفضاء العمومي هو الكف عن توظيف الفلسفة بطريقة براغماتية فوقية من طرف مراكز القوى المتصارعة من النخب المثقفة والمتأدلجة والعمل بجد على تحقيق مصالحة بين الفكر الحر والإنسان أينما كان وحسن الاعتناء بشجرة الحكمة التي غرسها الأجداد حتى نكون خير خلف لأحسن سلف.

1.    محنة الفلسفة[4]:

ما هو جدير بالملاحظة ويلفت الانتباه أن فلسفة هذا العصر في طريق مسدود، وأن تدريسها ونشرها وسط الفضاء العمومي يعرف أزمة حقيقية، وأن الفيلسوف يعيش علاقات عسيرة وشائكة مع "آلهة المدينة والمطلق المحنط ومع غيره من الناس"، فهو محاصر من قبل العلماء ورجال الدين والسياسة والمال ومطالب بأن يخضع لسلطات ثلاثة: سلطة الرأي العام والسلطة السياسية والسلطة الدينية، وآية ذلك أن الفيلسوف عندنا يجهل ما يحيط به من مكائد ولا يدري ما هو على مقربة منه من انشغالات ومؤامرات، يلقى بنفسه في العموميات ويسكن الأنساق المجردة ويوهم نفسه بالارتقاء نحو الأعلى والغوص في الأعماق بينما هو عاجز عن منازلة البسائط، ويسقط في الحفر والآبار ويثير سخرية أولئك الذين تلقوا تربية مختلفة عنه، وإنه سيصاب بالحزن والتأفف والجنون وستقتله الحيرة والانزعاج وسيأخذه الدوار والفراغ وذلك لقلة مهارته وانعدام خبرته بالحياة.

لقد تحول الفيلسوف إلى "كلب حراسة" يحرص أكثر من غيره على إعادة إنتاج النظام السائد، وأصبح موظفًا في خدمة الدولة والمجتمع، وحتى الحرية التي تترك له في التفكير والتصرف هي حرية مجردة تكون دائمًا بمقابل. كما أن فلسفته المودعة في الكتب توارت نحو الحياة المهذبة للمرجعيات الكبرى، وأسقطت من حسابها نقد الواقع وتمثل ما هو أفضل، بل إنها أعرضت عن هموم الناس ومشاغلهم، وعوض أن تعارض المألوف وتداهم العادات تحولت هي نفسها إلى عادة ومألوف.

إن القول الفلسفي الرسمي، كما يدرس في المعاهد وتكرسه الجامعة، يندرج ضمن سياسة معرفية وضعية لا تلغي سلطة المعرفة الفلسفية والنظرية إلا لتحل مكانها سلطة المعرفة التطبيقية (الطب، الهندسة، الرياضيات، الفيزياء، الخ..) التي تبرز في حيز الحداثة كمشروع هيمنة ثقافية للعلم والتقنية على المعارف الأخرى والخبرات الإنسانية (الفن، الدين، الفلسفة). إن هذا النموذج من البرامج المطروح للتدريس في المؤسسة التربوية الرسمية (المعهد والجامعة) يؤدي بالطالب بوصفه محب الحكمة إلى الخروج من الفلسفة إلى العلوم وهو خروج يجعل مهمة تعليم الفلسفة مهمة صعبة خاصة تلك التي تسعى إلى إعادة طرح مسائل ميتافيزيقية وإيتيقية وسياسية نقدية.

لــذا يقول هوسرل: "إن الوضعية قد قطعت رأس الفلسفة" واتجهت نحو العلوم والتقنيات بوصفها إيديولوجيا العصر بعد أن مر الفكر البشري وفق قانون الحالات الثلاث بالحالة اللاهوتية ثم الحالة الميتافيزيقية إلى أن وصل الآن إلى الحالة الوضعية. وقد وصف أوغست كونت الحالة الوضعية بهذه الكيفية: "بعد أن يكون العقل البشري قد اعترف باستحالة الحصول على مفاهيم مطلقة فإنه يتخلى عن البحث عن أصل وتميز الكون وعن معرفة الأسباب الحقيقية التي تقف وراء الظواهر ويكتفي بالسعي إلى اكتشاف القوانين الأصلية التي تحكم الظواهر، أي علاقاتها الثابتة وذلك باستعمال التفكير والملاحظة معًا"[5]. من هنا أعلنت الوضعية موت الفلسفة في معناها العريق ونادت باستبدالها بفلسفة جديدة تكون في خدمة العلوم وتركز على نظرية المعرفة والطرق المنهجية والمنطق وتقتصر مهمتها على تحليل لغة وقضايا العلوم قصد توضيحها وتطبيقها في عالم التجربة.

ما نلاحظه هذه الأيام هو ثورة الجهل على العلم وهجمة الباطل على الحق وسيطرة الحقيقة الموضوعية الباردة على المعنى والذات وتفوق منطق النجاعة والمصلحة على القيم والغايات الإنسانية وعودة اللامعقول وانفلات المكبوت من عقاله وتحول الفلسفة إلى مجال واسع للتزييف والتبرير. وسبب ذلك هو تكاثر منتحلي الفلسفة من المتطفلين الذي يعجزون عن تأييد الفكر النقدي والدفاع عن حب الحكمة ويهوون تاركين المعرفة ناقصة مهجورة ويختارون حياة لا تتفق مع المكانة التي تليق بهم.

لقد اقترن بالفلسفة غير أهلها فظهرت سفسطات خالية من كل أثر للنظرة المتبصرة الثاقبة، والغريب أن هؤلاء السفسطائيين يزعمون أن الفلسفة يجب أن تكون عملاً ثانويًا لا أكثر لتحقيق متعة روحية، وأن رسالتها مؤذية وضارة لكونها تفسد الشبيبة وتنشر الإلحاد وروح العصيان والتمرد مما يعطل القانون ويطعن في قدسية الدين. وقد زاد هؤلاء النوابت في الحواجز والأسيجة التي تمنع التفلسف وتباهوا بالأسماء الضخمة وألقاب الشرف الفارغة وأداروا ظهورهم عن الفكر المستنير وهجروا أحرف التجديد وأروقته. ومع ذلك فهم معذورون فقد فسدت طبائعهم من البلادة والصلف وشوهت نفوسهم ووهنت من شدة الاستعباد الذي يأسر حياتهم، كما أن أجسادهم ترهلت من شدة طمعهم ولكدحهم الشاق من أجل الثروة والجاه والشهرة.

تبدو الفلسفة ههنا يائسة من نفسها فوق مسطح بائس في زمن رديء مع أناس غير مكترثين، ويبدو كل من يؤمن بالحاضر ومستمسك باللحظة عازفًا عن القراءة والتأليف ينصح الفيلسوف من حيث هو فيلسوف أن يلغي نفسه. فإذا كانت فلسفة الأجداد هي الأكثر عينية والأشد عمقًا فإن فلسفة هذا الزمان هي الأقل تشكلاً والأكثر فقرًا والأعظم تجريدًا؛ فهي فقيرة إلى أقصى حد، تتضمن أفكارًا ساذجة وتصورات بسيطة لا تسد الرمق ولا تشفي الغليل.

وقد احتج البعض ضد الفلسفة بقولهم إن الفلسفات المتعددة تناقض بعضها بعضًا وأنه ليس ثمة فلسفة صحيحة من هذه الفلسفات، وإذا وجدت واحدة منها صحيحة فإننا لا نستطيع أن نميزها عن بقية المذاهب الفلسفية، وبالتالي وقع استعمال هذا التعدد والتناقض بين الفلسفات في تلويث سمعة الفلسفة.

ومما يعقد الوضعية أن المرء يذهب إلى القول بأن هناك فلسفات متعددة ومع ذلك فإنه يزعم أنه لا توجد سوى فلسفة واحدة هي التي تكشف لنا عن الحقيقة وكأن الفلسفة تنشد الإقناع الشخصي للمرء، وكأن العقل لا ينتج سوى آراء والحقيقة لا يمكن أن تعرف، وبالتالي فإن مرض الروح الفلسفية اليوم هو انتشار الريبية الاسمية والنسبية على صعيد المعرفة واعتماد اللاأدرية والذاتوية على صعيد الوجود وتبني العدمية والتقويضية على صعيد القيم. وقد تجلت محنة الفلسفة في مجال تعليمها وتجديد البحث في مناهجها وغاياتها، وقد حصر هؤلاء المسيئين إلى الفلسفة درس الفلسفة في فترات أعمالهم اليومية وأشغالهم البيئية وأوقاتهم الخاصة ولاذوا باللغة الصعبة والمفاهيم النقية والمصطلحات الدقيقة وحكموا عليها بمعيار العولمة وما إذا كانت صالحة للعصر أم أن زمنها قد ولى وأدبر وتحولت إلى بضاعة كاسدة وأقوال جوفاء. ألم يؤكد أفلاطون في الماضي الإغريقي المجيد أن "العقول الكبيرة إذا بنيت بثقافة رديئة تفسد فسادًا كبيرًا، وإن أفراد هذه الطبقة هم من يسبب أعظم ضرر للفرد والدولة معًا" فهم متلاعبون بالعقول ومستخفون بالأنفس مستهزئون بالملة ومقدساتها.

غير أن المسائل التي تطلب حلاً هي تجاوز هذه المحنة ووضع حد لهذه الأزمة وتمكين الفلسفة من أن ترتد إلى اسمها حتى تبتعد عن هذا الصخب وتتحكم في كل النزوات الغريبة عنها

فإن لم يكن الفيلسوف هو حكيم نفسه كيف ينصب نفسه حكيمًا على الآخرين... فليس الفيلسوف استثناء في هذا العصر ولكن الاستثناء هو في صعوبة الاعتراف به من قبل الآخرين دون أن يمنحهم إمكانية ذلك[6].

فما هو الذنب الذي اقترفه فيلسوف هذا الزمان؟ كيف نفسر احتماء الفلاسفة بالكهف الأفلاطوني وتبنيهم خيار الصمت عند كل محنة؟ أليس الحوار والتعقل واللاعنف والتآنس هي أسلحة الفلسفة للدفاع على نفسها ضد من يهاجمها من المعاندين والمعترضين؟ أليست الفلسفة بما هي حب الحكمة منزهة عن كل خطأ؟

2.    براءة الفلسفة:

إن الفلسفة لخطيرة حين لا تكون مالكة لجميع حقوقها وهذه الشرعية لا تمنحها إياها إلا عافية الشعب[7].

هل الفلسفة تحطمت في الإيديولوجيات والوهم وطمست معالمها من الإفراط في استعمالها أم أنها ما زالت غضة طرية لم تتحقق في الواقع؟

يبدو أن صداقة الفيلسوف مع العالم لم تنعقد ولم تنفرط بل تتحطم ساعة أن تولد لأن علاقته مع البقية هي علاقة سرية منحرفة يشوبها التوتر والاضطراب ولا تعرف الاستقرار والسكينة، إنها ليست علاقة تقابل من المشاهد والمشهد ولا بين العين والعالم، فهو يؤمن بأن الإصلاح الروحي يمر عبر إصلاح نمط التفلسف ويرى أن من نتاجه إصلاح الأوضاع في الدولة كما أن حياته تظل مشدودة إلى نهايتها إلى سؤال لا يجيب عليه بشكل حاسم.

إن اللوم لا يقع على الفلسفة بل على ساسة هذا الزمان لأن أوصاف الحقيقية معرضة للفساد بتأثير قوى مضادة من ضعاف الطلاب عديمي الكفاءة والذين ملأوا الدنيا بترهاتهم وقلاقلهم ولم يقعدوها. لاشك أن الفلسفة الصحيحة، إن كانت هناك فلسفة صحيحة، بريئة الساحة من كل التهم التي وجهت إليها، وهي لا تحتاج إلى من يدافع عنها بل تدافع هي من جهة صدقيتها على نفسها، ولا شك أيضًا أن الفيلسوف الحق لا يفتقر إلى الآليات التي يذب بها على عقيدة التفلسف ويدحض كل الشبه المضللة والبدع المبطلة التي ألصقها بعض الحاقدين بالفلسفة، ولا يكون ذلك ممكنًا إلا بدراسة العوامل المضرة والأمراض الفتاكة التي أفسدت الخلق الفلسفي ووترت الأوضاع وقلبت الموازين. إن أهم هذه العوامل المضرة هي تصرفات بعض المنتسبين إلى الفلسفة من الدجالين الذين يسيئون إلى بعضهم البعض ويعملون على نشر الإشاعات وبث الفتن والاغتياب ويظهرون بمظهر غير لائق وسط الحياة الاجتماعية، وذلك لعزوفهم عن التدخل في الشأن العام وإفراطهم في تجريح الشأن الخاص وهتك الأعراض. ولذلك يبدو من الضروري التمييز بين الفلسفة البتراء الباطلة والفلسفة بالحقيقة التي يصغي إليها الناس وينتفعوا بها، ولا بد كذلك من التفريق بين الفيلسوف الزور والبهرج الذي يفتقر إلى الموهبة الطبيعية وتنقصه الفضيلة الخلقية والفيلسوف الحق الكامل على الإطلاق.

هذا الفيلسوف العضوي المخلص للفلسفة ينبغي

أن يكون جيد الفهم والتصور للشيء والشيء الذاتي، ثم أن يكون حفوظًا وصبورًا على الكدِّ الذي يناله بالتعلم، وأن يكون بالطبع محبًا للصدق وأهله والعدل وأهله، غير جموح ولا لجوج فيما يهواه، وأن يكون غير شره على المأكول والمشروب، تهون عليه بالطبع الشهوات والدرهم والدينار وما جانس ذلك. وأن يكون كبير النفس عما يشين عند الناس، وأن يكون ورعًا سهل الانقياد للخير والعدل عسر الانقياد للشر والجور، وأن يكون قوي العزيمة على الشيء الصواب، ثم بعد ذلك أن يكون قد ربي على نواميس وعلى عادات تشاكل ما فطر عليه، وأن يكون صحيح الاعتقاد لآراء الملة التي نشأ عليها متمسكًا بالأفعال الفاضلة التي في ملته غير مخل بكلها أو بمعظمها. وأن يكون (مع ذلك) متمسكًا بالفضائل التي هي في المشهور جميلة. فإن الحدث إذا كان هكذا ثم شرع في أن يتعلم الفلسفة فتعلمها أمكن أن لا يصير فيلسوفًا زورًا ولا بهرجًا ولا باطلاً[8].

من الضروري إذن التمييز بين الدجالين والفلاسفة الحقيقيين الذين ليس لهم شغل آخر غير الذات البشرية: ماذا يمكن أن يكون الإنسان؟ ما الذي تقتضيه طبيعته كإنسان؟ وماذا يميزها عن طبيعة الكائنات الأخرى؟

إن جميع الأمور الدنيوية والدينية هي نتائج العلوم الفلسفية، لذلك لابد من إرجاع جميع شؤون الإنسان في الدنيا والماوراء إلى الفلسفة، فهي تنتهي إلى علم الحق والعمل بالعدل، ومن المعلوم أن الفلسفة حب الحكمة والحكمة لها أصول موضوعة قواعد مقررة، وأهم هذه القواعد هي:

-       علم كل ما هو حق وعمل كل ما هو نافع (مثلما يرى الحسن ابن الهيثم).

-       التحلي بالعزيمة والإرادة والاحتفاظ بالطاقة والمجهود الموصل إلى الحكمة.

-       التبسيط ومخاطبة الناس على قدر عقولهم ومواءمة درجة فهمهم.

-       التدرج في التعليم والتأني في الحكم وعدم الاستعجال في تصريف الأمور.

-       اتباع منهج يتضمن أصول وقواعد ويضبط مطالب ومقاصد.

-       التحلي بالتأمل والاستفهام وتربية النفس على الفضائل وضبطها عن فعل الشنائع.

لا مبرر إذن من أن يعمل بعض الساسة على مهاجمة الفلاسفة وأذية الفلسفة، ولا مبرر أن يغفر لهم الفيلسوف خطيئتهم طالما أن أسلوبه في المقاومة والتمرد هو عين أسلوبه في الطاعة والاحترام، وطالما أن لقاءه مع العالم والحق والآخر يتم ضمن إطار من اللياقة الأكاديمية والكرامة الإنسانية خاليًا من كل تعصب ورعونة وعنف، بل إن الفلسفة لا ترضى أن تكون ضد غاياتها التي وجدت من أجلها ولا تمنح نفسها للآخرين بسهولة. يقول ماركس في هذا السياق:

إذا كنا نريد أن نتخلى عن الأوهام المتعلقة بوضعنا فذلك يعني أن نتخلى عن وضع يكون في حاجة إلى أوهام[9].

خليق بالفيلسوف التام إذن أن يجيب على الإشكاليات التالية: ما علاقة الدولة بالفلسفة؟ كيف تتفلسف الدولة دون أن تجلب على نفسها دمارًا شاملاً؟ ألا يجب على الدولة أن تجرب درس الفلسفة على غير النمط المعروف؟ ألا ينبغي أن تعمل الدولة على تنظيم دروس الفلسفة وأن تسهر على طلبها بالطرق الملائمة والمناهج الشرعية، وألا يجب أن تعمد على حذف بعض المسائل المزعجة والمشكلات العويصة وتطرح مشاكل الإنسان البيئية والحياتية على صعيد البحث والنقاش؟ أليس من واجب المؤسسة الرسمية أن تعرض للتعليم الفلسفة التي ينتظر الشعب قدومها حتى ينهض، تلك الفلسفة التي تمكنه من المقاومة والصمود أمام هذه العولمة المتسلطة وتلك التي تتصالح مع تراثه وتضفي المشروعية على تمسكه بهويته القصصية وتشبثه بأصوله؟ أليس من مشمولات الدولة أن تخفف حدة التوتر بين الفيلسوف والعامي؟

3.    زمانية الفلسفة:

إذا ما كان المرء فتى فليس له أن يرجئ التفلسف وإذا كان شيخًا فعليه ألا يمل التفلسف[10].

إذا كان أبيقور أكد على علاقة التواشج بين حياة الإنسان وخوضه لتجربة التفلسف وذلك مهما كانت المحن والضغوطات والمشاغل، وبالتالي لا توجد زمانية خاصة للفلسفة، فإن أفلاطون جعل المراهقة السن الملائم لحب الحكمة، يقول:

أنا أحب الفلسفة لدى المراهق وأرى الأمر يليق به ويدل في نظري على رجل حر أما أن يهمل الفلسفة فإني أراه ذا نفس خسيسة... وإذا ما شاهدت شيخًا بلغ من الكبر عتيًا وهو يتعاطى الفلسفة ولا يرعوى عن هذه الدراسة فإن يا سقراط أرى له أن يجلد بالسياط...[11]

يترتب عن مثل هذه الأقوال أن تعلم الفلسفة وطلب العلم ينبغي أن يكون في سن مبكرة، ويجب أن يكون ذلك بالمحاكاة والاحتذاء والتشبه والتمثيل على قدر الطاقة البشرية، ولابد أن يتكثف تدريسها في مرحلة المراهقة والشباب وأن ترتبط الحيرة بالدهشة والريبة بالقدرة على التساؤل والاستشكال، وحتى في سن متأخرة ينبغي ألا يفوت المرء الفرصة على نفسه في مجال الاستطلاع والتفتيش لأنه متمرس بالحياة ويحوز على الحنكة وقوة الشكيمة والمهارة مما يجعله أكثر نفعا وإفادة فقد علمته التجارب وثقفته السنون[12].

الفلسفة ههنا هي فن في الحياة والتفكير معًا، تعالج الروح والجسد في الآن نفسه، والفيلسوف هو طبيب للروح يخلصنا من أمراض النفس المعاصرة والتي تتمثل في رغباتها اللامحدودة وصعوبة تحققها وعسر تحملها من طرف الجسد خاصة وأن

هذا الجسد الذي أفرط في البدانة قد بقيت فيه الروح على حالها فغدت من الضآلة بحيث لا تستطيع أن تملأه وأصبحت من الضعف بحيث لا تملك أن توجهه[13].

لقد أجمع جل الفلاسفة أن قضية الفلسفة هي قضية الإنسان، وأن غايتها هي خدمة البشرية بحيث لا يمكن أن نتصور حياة لأمة لا ينتشر فيها روح التفلسف، أو إنسان لا يساهم في بعث وانبثاق حكمة فلسفية ما ونحت تجربة تفلسف على نحو من الأنحاء. فالتفلسف هو الجهد الذي يبذله كل إنسان عندما يحيا ويعمل وهو أن يحول الحدث إلى فكرة ويترجم التجارب الوجودية إلى مفاهيم صورية وذلك بأن يعود إلى التمثلات العفوية ويكتشف معانيها الحقيقية. وقد أكد غرامشي على تضمن الثقافة الشعبية على فلسفة عفوية وأكد أن "كل إنسان فيلسوف" وأن الفيلسوف هو إنسان كسائر الناس يقاسمهم عناؤهم ويشاركهم همومهم بقوله:

يجب البرهان قبل كل شيء على أن كل البشر فلاسفة وذلك بالتعريف بحدود الفلسفة العفوية وخصائصها المعروفة لدى الناس جميعًا[14].

إن ما ليس منه بد وما لا يحتاج أمره إلى إثبات هو أن الإنسان لا بد أن يتفلسف العمر كله طالما أن التفكير هو أخص خصائصه وطالما أنه لا سن للتفلسف، والتفلسف يدل من ناحية على السؤال عما إذا كان من واجب الإنسان أن يتفلسف كما يدل من ناحية أخرى على أن نهب أنفسنا للفلسفة.

1. فالفتى يتفلسف ليطمئن إزاء المستقبل وليحصل على الأسباب المؤدية إلى السعادة. كما أن خواطر الطفل وأحلام يقظته تتضمن مشاريع فلسفية بأسرها (مثلما يرى كارل ياسبرس في مدخل إلى الفلسفة).

2. المراهق يتفلسف ليشهد على ما في نفسه من قلق فاعل وحيرة مقضة وليعبر عن نضجه الرجولي وتسلحه بإرادة الحياة ونبض الديمومة في بحثه عن الحقيقة.

3. الشيخ يتفلسف ليستعيد شبابه وعافيته التي فقدها بعد أن تعب الجسد وليجتهد في تنقية الروح وتزكيتها من أجل استعادة ساعة الطمأنينة وحالة الخلاص.

هذا ما يعبر عنه دولوز وغتاري بقولهما:

لعلنا لن نتمكن من طرح السؤال: ما هي الفلسفة إلا آجلاً حينما تقبل الشيخوخة وساعة الحديث بطريقة ملموسة... خلال منتصف الليل، عندما لم يعد لدينا ثمة موضوع يستدعي السؤال[15].

- فالفتى يتفلسف بين الفجر والصبح مع ميلاد يوم جديد.

- الشاب يتفلسف عند الظهر في قلب الظهيرة العظمى.

- الشيخ يتفلسف عند المساء أو عند حلول الظلمة وبلوغ منتصف الليل.

أما التفلسف في حد ذاته فهو العزم على الوجود بغير تحفظ، وفعل لا يرتضي لنفسه امتلاك حق الإقامة ضمن المعرفة المطلقة، فهو الوضعية السحرية لطرد القلق الذي تثيره فينا فكرة الموت وهو كذلك خروج من حالة القصور والوصاية المضروبة على الإنسان من قبل السلطة والآخر واعتراف بالذات وبلوغها مرحلة النضج. إن التفلسف هو أخذ الشيء عنوة والكتاب بالقوة والإقبال على الحياة بغير تردد وهو فن إدراك المعنى من خلال أسلوب وصياغته ضمن مفاهيم وتصورات.

دون تفلسف يظل المرء قاصرًا وتبقى حياته رهينة المحبسين لأنه من السهل أن يبقى المرء قاصرًا وأن ينصب البعض أنفسهم أوصياء عليه وأن يتخذ لنفسه أصنامًا يعبدها من دون المطلق المتعالي، ومن السهل جدًا أن يأخذ الأوصياء على عاتقهم مهمة تربية القصر وأن يدفعوا بقطيع المخلوقات الوديعة إلى حظيرة الحياة البهيمية، ولكن من الصعب على هؤلاء الصفوة المختارة أن ينتزعوا منهم جبنهم وحماقاتهم ليخرجوهم من سلسلة العادات المستديمة وأنظمة المعرفة المألوفة والمكررة، كما أنه من الصعب جدًا على هؤلاء القصر أن يغامروا بحياتهم وأن يتجشموا عناء التفكير ويشرعوا في تحرير أنفسهم بقتل الكسل والجبن واستعادة نور العقل الطبيعي المكتنز في فطرتهم.

إن السؤال الذي يراود كل فيلسوف والذي جوابه متيسر للجميع هو: كيف يمكن الحصول على فلسفة لا يمكن معارضتها بفلسفة أخرى؟

إن أكبر الترهات هي ما قاله البعض من أن "ليس ثمة من فلسفة إلا فلسفة اليوم تلك التي يمكنني أن أفكر فيها وأن أعيشها"، على العكس من ذلك إن الفلسفة هي حالة شبه إلهية لا يبالي فيها الإنسان بأنه في حضرة الفراغ والعدم بل إنه لا يبحث مطلقًا عن الامتلاء لا في الحاضر ولا في الماضي ولا في المستقبل. إن الفلسفة ليست عقيدة ولا مذهب من الحقائق الحاصلة بل هي روح بحث حر تنتقل من شك إلى آخر ومن معرفة إلى لا معرفة، تحب الحكمة دون أن تصل إليها، تذهب في معارضتها للواقع وفي تمردها على الآلهة المزيفة التي نصبتها الحشود على الأرض أيما ذهاب ولكنها تسكن حياة البشر وتظل في صميم التاريخ، تتعقل تجارب الإنسان وتضم في حركة واحدة علاقات الذات والحق والآخر والزمان ولا تتجاوز العالم إلا لكي تعاود الدخول إليه. لهذا ضمت الفلسفة الأصيلة ثلاثة أبعاد: فهم الماضي ونقد الحاضر وصنع المستقبل. فهي لا تدعي امتلاك الماضي ولا السيطرة على المستقبل أو القدرة على برمجته بل تحس بافتقادها للحاضر وتسعى لأن يشمل ميدانها الخاص كل شيء وألا تسقط من حسابها ما يمكن أن تلتقطه فلسفة أخرى وتجعله نقطة انطلاقتها وأصل بدايتها.

أليس كل فيلسوف يعتبر عمله أبسط الملامح من أثر يظل من شأن المستقبل؟ أليست كل فلسفة تلتفت إلى الوراء لتحول الماضي إلى ركام من أخطاء هي فلسفة مريضة ومرفوضة؟ ماذا ينبغي أن يتوفر من شروط ووضعيات حتى ينعطف الفكر نحو الفلسفة الحقيقية؟ ألا ينبغي أن نولي وجهنا شطر تجربة التفلسف ونعتني بأسسه ودلالاته وأبعاده وغاياته؟ أليس من الأجدى أن نقتفي آثار الفيلسوف ونرصد تحركاته ونسجل مواقفه حتى نكون في الطريق المؤدي إلى جوهر التفلسف؟

4.    إيتيقا الفيلسوف:

"الفيلسوف إذن هو هذا الذي يتواجد مع الموجود في الوجود..."[16]

"أستطيع أن أتصور إنسانًا بلا أيدٍ ولا أرجل ولا رأس ولكنني لا أستطيع أن أتصور الإنسان ولا فكر له (لا فلسفة له)... الفقرة 339

"في الفكر عظمة الإنسان... الفقرة 346

"ما الإنسان إلا قصبة مفكرة لا حاجة أن يتجند الكون برمته لسحقه...

"إنا قدرنا كله في الفكر فلنعمل إذن على حسن التفكير. الفقرة 347."[17]

صحيح أن الفلسفة لم يعد لها قوة الاستيفاء النظري التي كانت لها في الماضي، وأنها لم تعد قادرة على فعل كل شيء، وأن عهدها المجيد الذي كانت تجيب فيه على كل المعضلات قد ولى وأدبر، ومع ذلك فإنها لم تتبخر نهائيا ولم تعد بمثابة النقيصة ضمن منطق التاريخ بل مازالت موجودة بقوة وغير مفصولة عن ظروفها التاريخية وعصرها فهي علم جبر التاريخ تجعل من الزمن التاريخي المجال الذي تتربى فيه على إدراك العالم بوفرة. إننا لا نزيل الفلسفة من التاريخ بل نعمل على تحقيقها في الواقع ولا تتحقق إلا إذا استصلحت الأرض واستنفذت الآلهة والقوانين دون أن تنصب نفسها دار فتوى في المهام الميتافيزيقية للعلي القدير.

وإذا كان قدر الإنسان أن يقف وسط العالم دون وصاية ودون رقابة وأن يغير باستمرار الثوب الذي يظهر به والعقل الذي يفكر به والبيت الذي يسكنه فإنه مدين في ذلك لوعيه الفلسفي ولغته الفلسفية. إن الفلسفة وحدها هي التي تجعله ينتقل من لحظة الانفعال والانطباع والتأثر إلى لحظة التأثير والتعبير والتوهج. والغريب أن الفيلسوف الحق معترف بجهله ومتمرد على دينه ودولته ولكن تمرده ليس مكروهًا بل ضروريًا لممارسة التفلسف ولإصلاح دينه وتصحيح أوضاع دولته، وجهله ليس متأبدًا بل تشبهًا بكل من لم يكتب ولم يدرس من الأنبياء (محمد صلى الله عليه وسلم كأسوة حسنة أو سقراط هذا الذي لم يكتب والذي نحت بشكل نهائي رسالة الفلسفة وجعلها هي عين رسالة الإنسان في هذا الكون الأصم).

يقول أفلاطون في الرسالة السابعة 326أ/326ب:

إن حالة الدول الحاضرة كلها سيئة وأنها تحكم حكمًا يدعو للرثاء وأن دساتيرها المريضة لا يمكن أن يشفيها إلا إصلاح يتم بمعجزة يؤيدها حسن الحظ. وهكذا وجدتني مدفوعًا إلى الاعتراف بقيمة الفلسفة الحقة والتأكد من أنها هي وحدها التي تمكن الإنسان من معرفة العدل والصواب الذي تصلح به الدولة والحياة الخاصة، وأن الجنس البشري لن يتخلص من البؤس حتى يصل الفلاسفة الحقيقيون الأصلاء إلى السلطة أو يصبح حكام المدن فلاسفة أصلاء[18].

فإذا كان من الضروري تصور وجود فلسفة للإنسان وكان الفيلسوف قدرًا محتومًا فإنه يجوز لنا أن نستفسر عن خصاله وصفاته ما هي.

من الإجابة عن ذلك نقول إن الفلاسفة الحقيقيون هم محبو الحكمة من أرباب البصيرة يتمتعون بحقوق الحكم على الأشياء وإمكانية الارتقاء من العالم المنظور إلى العالم غير المنظور ويصلحون أن يكونوا حكام الدولة المثلى كما بين أفلاطون بقوله: "إذا شاءت الدولة إحراز الفلاح فلتسلم مقاليد أحكامها للفلاسفة"[19] وعلة ذلك أن هؤلاء الفلاسفة هم الأقدر على رعاية قوانين الدولة وعاداتها.

من هذا المنظور يتمتع الراسخون بالعلم بالأوصاف والخصال التالية:

-       هم هائمون بكل أنواع المعرفة وشغوفون بحقيقة الوجود الخالد.

-       يقترن عندهم الصدق بالحكمة والعدالة بالعفة كعنوان للسجية الفلسفية.

-       يبحثون عن الجمال الجوهري ويؤثرون الخير الأمثل والقيمة المطلقة.

-       يتمتعون بالشجاعة وعزة النفس وسرعة الخاطر والذاكرة الحافظة.

-       يلازمون ما هو إلهي ومطلق ويتمثلون ما يحترمون به طبيعتهم الإنسانية.

-       يخوضون التجارب والمحن ويمرنون أنفسهم على نوائب الدهر والعذابات.

-       يثابرون على سماع المحاورات الحرة الراقية ويحوزون على ذاكرة قانونية موسيقية فائقة.

-       يتمسكون بالمبدأ ويبقون عند نفس الموقف مهما كان الثمن.

إن أعسر الأمور هو أن يصبح المرء فيلسوفًا بعد أن لم يكن أو على الأقل أن يبدأ في التفلسف في وقت مبكر من حياته أو بشكل مباغت لأن المرء يكون فيلسوفًا لا في حياته بل بعد وفاته عندما يرده الخلف إلى مجرد آثار وبصمات Traces. إن الفيلسوف هو من كان شاهدًا على الحياة كما يعيشها دون تزييف أو تصنع، وهو كذلك من كان شهيدًا على ما في نفسه من فوضى ومن يشعر بعظمة هؤلاء الفلاسفة الكبار الذين يرثهم، أولئك الذين لا يرضون بالتشريفات الرسمية ولا يحبذون الجلوس على الكراسي الفخمة، إن حالة الترحال التي يكون عليها الفيلسوف لا تعني أنه تائه في الوجود بل تدل على تلبيته الفورية للنداء ومغادرته لنفسه من أجل تشريف الإنسانية التي ضيعها السواد الأعظم.

إن أشد الفلاسفة تصميمًا هو الذي يسعى إلى التأسيس بالهدم والتذكر بالنسيان والاحتفاظ بالإلغاء، وهو كذلك الذي يبحث عن الحق مهما كان الثمن حتى بالتضحية بالنفس وكسر العلاقات مع العالم. وإذا كان الفيلسوف يظن حقًا أن له مذهبًا وعقيدة وأنه يمسك بغايات الوجود وأدوات خلاص الإنسان في هذه الحياة فإنه يحق لنا أن ننتظر منه أن يذهب إلى أبعد مما يراه وأن يعطى من التعاليم ما ليس به يقين. إذ لا قيمة للفلسفة من دون تضحية ومغامرة وشجاعة ولا أهمية للفيلسوف في المجتمع إلا باتخاذه موقفًا وتدخله في الشأن العام وعدم تفضيله لمنفعة الشأن الخاص وربطه بين القول والفعل وبين النظر والعمل وبقائه على نفس المسلك ووفائه لمبادئه وقيمه رغم المخاطر والمحن.

هذه هي صورة الفيلسوف كما رسمتها لنا ريشة مؤرخي الفلسفة والتقطتها عدسة ملكات الحكم النقدية (الذهن - الإرادة - الذوق) فكيف ستكون صورة الفلسفة من زاوية نظر الفلسفة الأولى؟ هل مازال للفلسفة من معنى وقيمة في عصر أثبت فيه العلم والتقنية نجاعتهما؟

5.    منزلة الفلسفة:

"يلزم أن نعتقد أنها هي وحدها تميزنا عن الأقوام المتوحشين والهمجيين. وأن حضارة الأمة وثقافتها إنما تقاس بمقدار شيوع التفلسف الصحيح فيها، ولذلك فإن أجل نعمة ينعم الله بها على بلد من البلاد هو أن يمنحه فلاسفة حقيقيين..."[20]

"إنكم لا تستطيعون مجاوزة الفلسفة ونسخها إلا بتحقيقها"[21]

لا توجد في الفلسفة حقائق من نفس نظام الحقائق الموجودة في العلوم رغم أن الحقيقة هي مقتضى الفلسفة ومقصدها، فالفلسفة بحث وليست تملكًا، فهي علم وحكمة في الآن نفسه وتظهر لنا اليوم بمظهر علم العلم ومعرفة أسس المعرفة لأنها تتعالى وتطرح مشاكل يجهلها العلم وتتجاوزه. في الواقع يوجد معنيان للفلسفة:

1.    معنى قديم: الفلسفة هي رؤية الناس والمجموعات البشرية للعالم وتصورهم للحياة وأفكارهم وآرائهم عن مكانة الإنسان في الكون والدور الذي يجب أن يضطلع به.

2.    معنى حديث: الفلسفة هي تفكير نقدي في مجموعة من المسائل ومن الأجوبة المقدمة بشأنها من خلال انعكاس الفكر على ذاته، وبعبارة أخرى هي تفكير نقدي في أسس المعرفة.

إن التفكير الفلسفي هو قبل كل شيء تساؤل حول الوضع الإنساني وحول المبادئ والقيم التي ينبغي أن ينتظم وفقها الفعل البشري. لقد سبق لديكارت أن بيَّن أن الفلسفة ليست التحوط في تدبير الأمور فحسب بل هي أيضًا Sophia بمعنى دراسة الحكمة و"معرفة كاملة بكل ما يستطيع الإنسان أن يعرفه إما لتدبير حياته أو لحفظ صحته أو لاستكشاف الفنون جميعًا...". وجدير بالملاحظة أن الحكمة هي الغذاء الصحيح للعقول تبحث في الغايات القصوى والعلل الأولى والمبادئ الواضحة والبديهية والمتميزة ينبغي أن تعم فائدتها الناس جميعًا. لذلك ربط ديكارت بين التفلسف والإبصار وبين معرفة الأشياء ورؤية الظواهر، وبيَّن أن الفلسفة هي أعظم خير يمكن أن يتشوق إليه، وآيته في ذلك أنها أشرف الغايات وأعظم الصناعات تستكمل بها الذات وجودها بعد تحقيقها جميع الملذات، لأن من وصل إلى تحقيق العافية وحصل على الثروة والجاه يظل أكثر الناس لهفة لإدراك ذلك النور الفطري الذي يساعد على معرفة الحقيقة عن طريق عللها الأولى وقد صرح في هذا الشأن: "ولأن يحيا المرء دون تفلسف هو حقًا كمن يظل مغمضًا عينيه..."[22].

يترتب عن هذا القول إن الفلسفة حاجة ضرورية في الحياة الإنسانية وإن غيابها يسبب الدمار والخراب وإهمالها يؤدي إلى التقهقر والتخلف الحضاري. لكن كيف تبدأ تجربة التفلسف على العكس من ذلك مع الانهيار والسقوط؟

تبدأ الفلسفة حين تصبح الحياة العامة غير مقنعة وعندما يبدأ العالم الواقعي في السقوط والتفكك ويتكون شرخ وقطيعة بين عالم السماء الفكري وعالم الأرض المادي وحين لا يعود المواطن يقوم بأية مساهمة في إدارة الدولة ولم يعد يرضيه عالم المادة فيهرب إلى عالم الروح. هكذا لا تشرع الفلسفة في اتخاذ صورة التفكير المستقل إلا في فترة متأخرة عندما لم تعد روح الشعب تجد إشباعها في التجليات الأخرى كالدين والفن والسياسة والأخلاق، إذ يقول هيجل:

يبدو أن الفلسفة تظل متأخرة، فهي بوصفها فكرة العالم لا تظهر إلا حين يكتمل الواقع الفعلي وتنتهي عملية تطوره... إن بومة منيرفا لا تبدأ في الطيران إلا بعد أن يرخي الليل سدوله...[23]

ويقصد بهذا النص أن الفلسفة هي إشباع الحاجة المشبعة وأن التفكير الفلسفي هو تفكير ثان مضاد للتفكير الأول وهو تفكير العامة. إن التفلسف لا ينطلق مما يقوله الناس أو مما يتخيلونه أو يتمثلونه، ولا مما يكونون عليه في كلام الآخرين وفكرهم وخيالهم وتمثلاتهم، بل ينطلق من الناس بما هم لحم ودم ومن حياتهم الواقعية ووجودهم الفعلي وفعاليتهم الحقيقية ونشاطهم المادي، وعوض أن تصعد الفلسفة من الأرض إلى السماء لا بد أن تنزل من السماء إلى الأرض (كما يرى ماركس).

إن ما تجلبه الفلسفة معها هو تحقيق المصالحة بين المرء وذاته والعالم والآخر وإصلاح الفساد الناشئ في المجتمع عن طريق الفكر وتغيير آليات الإنتاج المادي في الواقع. إن الفلسفة عند هيجل نشاط حرٌّ وضرب من الرفاهية دون أن يعني ذلك إمكانية الاستغناء عنها فهي أعظم الأشياء ضرورة تتحدد مع روح العصر الذي تظهر فيه لتكون الازدهار الأسمى للروح بحيث "ليس ثمة فلسفة تجاوزت زمانها فكل منها قد أدرك روح عصرها في الفكر"[24]. إنها الفكر الذي يفهم نفسه فهمًا شاملاً وهي كذلك الروح المفكرة في تاريخ العالم.

والحق أن أرسطو كان سباقًا في ذلك فهو قد نصص على أن الفلسفة حاجة كمالية وترف معرفي، وبرهن على ذلك بأنها نشاط حر غير نفعي وضرب من الرفاهية والاستمتاع بالنسبة لكل إنسان يخرج من حياته الطبيعية وينقطع عن مواقف المصالح المادية ويرضى تفاهات الحياة الحسية. ألم يصرح معلم العرب الأول في كتاب مفقود: "إن من يريد أن يكون سعيدًا فلابد له أن يتفلسف"[25]؛ ألم يقل: "الناس بدؤوا في التفلسف عندما توفرت لديهم مطالب الحياة المادية"، ويضيف: "حينما تشبع الحاجات الملحة ينتقل الإنسان إلى طلب الأمور الرفيعة"[26]. وبالتالي فإن الفلسفة من الأمور الرفيعة ولا يجوز تركها أو نسيانها ولا محاصرتها أو منع تدريسها وينبغي ألا ننسى أنها "معرفة في خدمة خير الإنسان" كما يقول نيتشه، وهي كذلك فن في الحياة، والفيلسوف هو طبيب حضارة يعالج سقم الشعوب، ولكن أين نقع على مثال لشعب مريض استطاعت الفلسفة أن ترد له عافيته المفقودة؟

ألم يكن الإغريق هو هذا الشعب الذي استرد عافيته عن طريق الفلسفة في الأمس وربما يحمل العرب مشعلهم في الغد ويضعون المعرفة في خدمة الحياة؟ ألم يقل نيتشه بشأنهم:

إنهم عرفوا أن يلتقطوا الرمح من حيث تركه شعب آخر لكي يلقوا به إلى أبعد. إنهم جديرون بالإعجاب من حيث فنهم في التعلم بشكل مفيد وعلينا أن نحذو حذوهم في التعلم من جيراننا واضعين المعرفة المكتسبة كدعامة في خدمة الحياة وليس في خدمة المعرفة الموسوعية التي ننطلق منها دائمًا لكي نتعالى على الجار...[27]

إن ينبوع الفلسفة إذا تفجر وسط شعب معين فإنه يعيد اللحمة إلى أفراده ويشد بعضهم إلى بعض، ويلعب الفكر المرح الصافي دور الحماية والخلاص لأنه يشحذ العزائم ويحفز الهمم. لكن ينبغي أن نتفلسف من أجل الحضارة والحياة وأن نحلم بجمهورية العباقرة وأن نعرف كيف نميز بين فلسفة مدرسية وفلسفة كونية كما فعل كانط: فالفلسفة بالمعنى المدرسي هي نسق من المعارف العقلية قائمة على التصورات وترمي إلى الحذق، تكتفي بتحصيل رصيد من الحقائق وتعمل على تنظيمها والربط بينها من خلال فكرة الكل؛ أما الفلسفة بالمعنى الكوني فهي علم بالغايات الأخيرة للعقل البشري ترمي إلى النفع وتشمل العلم الذي له علاقة مع كل معرفة وكل استخدام للعقل بالغاية القصوى له. إن الفلسفة تشمل كل شيء، والعلم الأوحد الذي لا يستمد قيمته إلا من ذاته، لا يمكن تعلمها إلا بتعلم التفلسف، إذ يقول كانط:

الفلسفة هي العلم الوحيد الذي نحصل بواسطته على ذلك الرضا الباطن لأنها تزود العلوم بالنظام والترتيب...[28]

ولن يقدر أحد على التفلسف إلا إذا قام بترويض عقله واستخدامه بنفسه وشحذ قريحته واستحوذ على البراعة في استخدام كل الوسائل لبلوغ كل الغايات من خلال الاعتناء بالمنهج لا بالمذهب. إن الفيلسوف الحق عند كانط هو عدو فيلودوكس (صاحب الظن) والمزيولوجي (كاره العلم)، وهو ليس فنان العقل الذي يطلب المعرفة النظرية وحسب بل هو مشرع العقل، الفيلسوف العملي الذي يعلم الحكمة بالفكر والأمثولة ويتدرب على استخدام عقله لا بشكل تقليدي آلي بل بطريقة شخصية حرة. لكن هل يحق لمن يحسن استخدام عقله أن يمنع غيره من استخدامه ويحرمه من حقه في ممارسة التفلسف؟ فهل التفلسف حق أم واجب على الانسان أن ينهض به؟

6.    التفلسف بين الواجب والحق[29]:

أين يكون طرح سؤال الحق في الفلسفة ممكنًا؟ أين يطرح هذا السؤال؟ من هو القادر على طرحه؟ ولمن يوجهه؟

إن مشكل هذا سؤال الحق في الفلسفة هو مشكل طارحه والمكان الذي يطرح فيه ومن الذي ينبغي أن يكون له الشرعية لطرحه والجمهور الذي يتوجه إليهم هذا الطرح. فهل يطرح داخل المؤسسات التابعة للدولة: الجامعة مثلاً أم داخل الجمعيات غير الحكومية وداخل فضاءات المنظمات التابعة للأمم المتحدة والتي تعني بالثقافة مثل اليونسكو؟

إن الحديث عن الحق في الفلسفة من وجهة نظر كوسموبولتية يدفع المرء إلى أن يأخذ بعين الاعتبار نمطين من العلاقة:

1.    العلاقة بين المؤسسات الجامعية ومراكز البحث والجمعيات العالمية للثقافة والتربية والعلوم الحكومية منها وغير الحكومية.

2.    العلاقة بين المناهج المتعددة التي تنتسب إلى الفلسفة والفنون والعلوم الإنسانية والصناعة التقنية.

إن قسم الفلسفة من المنظمة العالمية للتربية والعلوم اليونسكو هو حسب جاك دريدا المكان الشرعي والمناسب لإعلان الحق العالمي في التفلسف، وإن الوقت لمناسب لمثل هذا الإعلان، وهذه المنظمة العالمية قد طرحت السؤال وينبغي أن تتحمل مسؤولية الإجابة عليه وتطبيقه على أرض الواقع[30].

لقد سبق لكانط أن أعلن في كتيبه: فكرة التاريخ الكلي من وجهة نظر كوسموبوليتية (1784)عن ضرورة قيام مؤسسات وهيئات عالمية تدافع على فكرة الحق العالمي، وأوصى بضرورة أن تحترم كل الدول مثل هذا الإعلان العالمي إذا كانت منضوية تحت لواء الأمم المتحدة. وقياسًا على ذلك أكد دريدا على إلزامية احترام كل دول العالم لحق الإنسان في التفلسف، ورأى أنه من المفروض أن ترعى جميع المؤسسات الحكومية هذا الحق في الفلسفة من وجهة نظر كوسموبوليتية، وأن تعمل على تفصيله على صعيد الواقع بإزالتها كل العراقيل والمعاندات والمعارضات التي تحول دون تبلور وتطور التفكير الفلسفي من قبل الأحكام المسبقة الثقافية والدينية أو من خلال القرارات السياسية والتوجهات الاقتصادية. إن الحديث عن الحق العالمي في التفلسف ليس شأنًا يخص أوروبا بوصفها القارة القديمة ولا تحديًا حملته إلينا التيارات الباردة القادمة من العالم الأنجلوساكسوني، بل يخص أيضًا بلدان العالم النامية وكل الدول التي عرفت في تاريخها وحضاراتها التي مرت بها فلسفات أم لم تعرف بما فيها الشعوب العربية الإسلامية.

اللافت للنظر أن التفلسف عندنا بما هو نظر واعتبار هو واجب شرعًا وليس مجرد أمر مباح وجائز. فقد طرح ابن رشد في كتابه المثير للجدل فصل المقال الإشكالية التالية: هل النظر في الفلسفة وعلوم المنطق مباح بالشرع أم محظور أم مأمور به إما على جهة الندب وإما على جهة الوجوب؟ ومن أجل ذلك حدد فيلسوف قرطبة أطروحته وفق ما يلي:

إن كان فعل التفلسف ليس شيئًا أكثر من النظر في الموجودات واعتبارها من جهة دلالتها على الصانع... وكان الشرع قد ندب على اعتبار الموجودات وحثَّ على ذلك فبين أن ما يدل عليه هذا الاسم إما واجب بالشرع وإما مندوب إليه.

وقد انتهى به الأمر إلى الإقرار بأنه يجب بالشرع النظر في الفلسفة وفي كتب القدماء الخاصة بها لأن:

الحكمة هي صاحبة الشريعة والأخت الرضيعة... وهما المصطحبتان بالطبع المتحابتان بالجوهر والغريزة.

ونتبين من هذا النص أن الفلسفة على رأس المأمورات وواجبة شرعًا لقول حكيم الفردوس المفقود:

وإذا تقرر أن الشرع قد أوجب النظر بالعقل في الموجودات واعتبارها... فواجب أن نجعل نظرنا في الموجودات بالقياس العقلي. وبين أن هذا النحو من النظر الذي دعا إليه الشرع وحث عليه هو أتم أنواع النظر بأنواع القياس وهو المسمى برهانًا.

وقد اتضح بالتالي أن التفلسف واجب وفريضة على كل إنسان أن يؤديها وأن أفضل أنواع التفلسف هو البرهان[31].

يعبر الكندي عن الرأي نفسه بقوله:

ينبغي لنا أن لا نستحي من استحسان الحق. واقتناء الحق من أين أتى وإن أتى من الأجناس القاصية عنا والأمم المباينة لنا، فإنه لاشيء أولى بطالب الحق من الحق... فواجب إذن التمسك بهذه القنية النفيسة عند ذوي الحق وأن نسعى في طلبها بغاية جهدنا... وذلك أنه باضطرار يجب على ألسنة المضادين لها اقتناؤها. وذلك أنهم لا يخلون من أن يقولوا إن اقتناءها يجب أو لا يجب. فإن قالوا إنه يجب وجب طلبها عليهم. وإن قالوا إنها لا تجب وجب عليهم أن يحضروا علة ذلك وأن يعطوا على ذلك برهانا. واعطاء العلة والبرهان من قنية علم الأشياء بحقائقها. فواجب إذن طلب هذه القنية بألسنتهم والتمسك بها اضطرارًا عليهم[32].

يجب علينا إذن أن نصبح فلاسفة وأن نسعى إلى تحصيل هذه المعرفة وتطبيقها بطريقة ملائمة إذا أردنا أن نشكل حياتنا الخاصة والعامة بطريقة نافعة، ذلك أن الفلسفة وحدها تنطوي على الحكم الصحيح والتبصر المعصوم من الخطأ والتعقل الحكيم الذي يملك القدرة على تحديد ما ينبغي أن نفعله وما لا يصح فعله. أما عند دريدا فالفلسفة حق إنساني ينبغي أن نضمه إلى لائحة الحقوق التي نص عليها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يوم 10 ديسمبر 1948:

المادة 18: لكل شخص الحق في حرية التعبير والضمير والدين ويشمل هذا الحق حرية تغيير الديانة أو العقيدة وحرية الإعراب عنهما بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر ومراعاتها سواء كان ذلك سرًّا أو مع الجماعة.

المادة 19: لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير ويشمل هذا الحق حريته اعتناق الآراء دون أي تدخل واستقاء الأنباء والأحلام وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت دون تقيد بالحدود الجغرافية.

المادة 26: لكل شخص الحق في التعلم وأن يكون التعليم مجانًا إلزاميًا ويجب أن يكون القبول في التعليم على قدم المساواة التامة للجميع وعلى أساس الكفاءة.

المادة 27 : 1- لكل فرد الحق في أن يشترك اشتراكًا حرًّا في حياة المجتمع الثقافي وفي الاستمتاع بالفنون والمساهمة في التقدم العلمي والاستفادة من نتائجه. 2- لكل فرد الحق في حماية المصالح الأدبية والمادية المرتبطة بإنتاجه العلمي أو الأدبي أو الفني[33].

على المنوال نفسه يترتب عن هذه المبادئ ما يلي:

لكل شخص الحق في حرية التفكير الفلسفي وتعلمه ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون تدخل لأي سلطة خارجية والمساهمة في تقدم الفلسفة وإذاعتها بأي وسيلة كانت مع حماية المصالح الأدبية والأدبية المرتبطة بالإنتاج الفلسفي للأفراد.

أن أدافع عن حقي في التفلسف يعني: "أن أجهر وأجاهر بالحق في التفكير بحق الفلسفة كرديف لحقي كإنسان بالحب ذلك يعني ألا يفكر أحد نيابة عني مثلما لا يقدر أحد أن يحب بديلاً عن حبي"[34].

أما جاك دريدا بوصفه فيلسوف الاختلاف ومؤسس لأحد أهم جمعية فلسفية في العالم تعنى بتدريس الفلسفة فإنه يؤكد على حق الإنسان أينما كان في التفلسف[35].

إن البحث الفلسفي العقلاني النقدي الحر والتعليم والتكوين على صعيد الفلسفة وتأليف الكتب الفلسفية ونشرها، مهما كان متداولاً على أرض الواقع، لا يشينه أن تكفله الدساتير وتنص عليه القوانين ولا يضره أن توجد أقسام فلسفة في كل الجامعات وأن تدرس الفلسفة بالنسبة لجميع الأعمار والمستويات والشعب والاختصاصات، ولا يتقاعس عن نشر الثقافة الفلسفية والتحلي بالخلق الفلسفي عبر كل الجمعيات والهيئات، ولذلك ينصح أن يلعب الإعلام دورًا بارزًا في ذلك وأن يعتمد سياسة تربوية شاملة ومتكاملة للإنسان، كما أن تطور العلوم والتقنيات ليس حجة مضادة للفلسفة بل على العكس يوفر وسائل تواصل كوني ويعبد أمام الفلسفة الطريق الملكي حتى تفرض حقها في الانتشار العالمي على مستوى ممارستها وتدريسها، كما أن استقلالية الفلسفة عن الأنماط الثقافية ورؤى العالم مثل الدين والعلم والثقة هو أمر جوهري وشرط ضروري لصيانة واحترام وفرض الحق في الفلسفة بشكل كوسموبوليتي.

إن ما هو مطلوب من الفلاسفة هو تفكيك وهم التمركز حول الذات Ego-centrisme والكف عن اعتبار الفلسفة ملكة العلوم والتعامل معها كحقل معرفي مليء بالألغام ينبغي أن نحذر عند استعماله ولحظة الالتجاء إليه والاحتماء به حتى لا تتحول إلى عقيدة محنطة أو ايديولوجيا تسلطية. ضمن هذا الإطار يقترح دريدا وصيتين:

1.    ينبغي أن يأخذ أي شخص يسعى إلى احترام وتأييد ونشر الحق في الفلسفة بشكل عالمي بعين الاعتبار ما هو كائن، وأن يراعي الخصوصيات الثقافية ويقدر التراث الفكري القائم، وألا يختزله إلى مجرد نتاجات ماضية مليئة بالأخطاء، وينبغي أن يتوقف عن المناداة بضرورة إحداث قطيعة معه ويعزف عن المناداة بحتمية التخلص منه.

2.    إن احترام وانتشار حق الكل إناثًا وذكورًا في الفلسفة يفترض أيضًا امتلاك وإتقان لغات أساسية وأصلية مثل الإغريقية واللاتينية والألمانية والعربية، ورغم أن الفلسفة تطلب منا التحرر من ظواهر الدغمائية والسلطة التي تفرضها علينا اللغة الأم إلا أنه من الضروري أن يحصل المتفلسف على قدر مقبول من المهارة في التعامل مع اللغات العالمية. يقول دريدا في المرجع نفسه: "إن الفلسفة ينبغي أن تطبق وفق مسالك داخل لغات لها علاقة قرابة مع جذورها"[36].

من هذا المنطلق يدافع دومونيك لوكور عن حاجتنا الأكيدة للفلسفة والفيلسوف في هذا العصر ويرى أن الجميع من الاختصاصات الأخرى أطباء ومحامين ومهندسين في حاجة أكيدة الى الفلسفة في حياتهم المهنية وكذلك في حياتهم اليومية[37].

خاتمة:

إن هذا الـ-مـا-يكاد- هو الفلسفة كلها فالفلسفة مثلها مثل الموسيقى موجود بالكاد، يمكن الاستغناء عنها بسهولة فائقة، ومن دونها شيء ما ينقص... العيش من دون الـ-مـا-لا-أعرف-مـا-هو كما يمكن العيش من دون فلسفة ولا موسيقى ولا فرح ولا حب ولكن ليس حقًا بصورة حسنة[38].

يجدر بنا في نهاية المطاف أن نعترف بأن الفلسفة موجودة بالكاد وتعيش دائمًا وضعية قصوية ومهددة على الدوام بإمكانية الزوال في ماهيتها، ولكن حقيق علينا أن نقر أيضًا أن الحياة بالنسبة للإنسان دون فلسفة هو أمر لا يستقيم، ووضعية عرجاء تفتقر إلى المنبع الذي يمدها بالمعنى والوهج الروحي. إن الدرس العظيم الذي يمكن استخلاصه من محنة سقراط منذ الإغريق وابن رشد منذ العرب ومن أزمة تعليم الفلسفة لدينا هذه الأيام يتمثل في أن الدفاع عن الحق في الفلسفة هو دفاع عن حقوق الإنسان الأساسية وعن إلزامية استعمال الفرد لعقله بطريقة شخصية حرة هادفة، علمًا أن الأفكار الفلسفية تحمل على أجنحة الحمام وتجتاز كل الأسوار وتحطم كل القيود لتتغلغل في الجماهير وتكون "أداة جماعية للانعتاق". إن ما ينبغي الاحتراس منه أنه إذا لم تنظر المؤسسة إلى الفلسفة بعيون الاحترام والتبجيل، وإن لم تعمل الجهات الرسمية على صيانة الحق العالمي في التفلسف فإنه ستتلقفها شرائح المهمشين العاطلين وسيجعلونها سلاحهم من أجل الثورة وتجد فيها حركية المجتمع تعبيرًا عنها وليأتين زمن جميل يرد فيها الناس الاعتبار للعقل وللفلسفة دون أي تحفظات وأي اختزالات.

صحيح أن الفلسفة بألف لام التعريف لا وجود لها في الواقع مثلما يرى سارتر وأن ما هو موجود هو مجرد فلسفات تظل ناجعة طالما يبقى البراكسيس الذي أنشأها لأول مرة حيًّا ولكن صحيح أيضًا أن "فلسفة ما هي قبل كل شيء طريقة معينة تمكن الطبقة الصاعدة من الوعي بذاتها"[39]، وأنه لا يوجد في عصر واحد سوى فلسفة واحدة حية تكون في عنفوانها لها حركة وذات تأثير على المستقبل، أما بقية الآراء الفلسفية فهي أشياء جامدة وإيديولوجيات مفلسة، وفلسفة هذا الزمن المعولم هي الذرائعية النفعية المقيتة ورديفتها الوضعية المنطقية وما رافقها من فكر تحليلي شكلاني يجعل النجاح معيار الحقيقة ويعطي قيمة للنجاعة على حساب القيم وتقتصر مهمته على التوضيح المنطقي للأفكار وعلى تحليل لغة العلم قصد تطهيرها من ما بقي فيها من ترسبات المطلق والماوراء. وإذا أردنا أن نبني فلسفة بديلة للأممية الجديدة فلابد أن تكون فلسفة الإنسان أينما كان وتكون مهمتها متمترسة بفهم الماضي ونقد الحاضر وصنع المستقبل. ألم يكن المبدأ عند غرامشي هو:

كل البشر فلاسفة (...) الفيلسوف الاختصاصي هو أقرب إلى سائر الناس من الاختصاصيين الآخرين (...) لأننا نستطيع أن نتخيل عالمًا مختصًا في الحشرات من دون أن يكون جميع البشر علماء حشرات (...) ولكننا لا نستطيع أن نتصور إنسانًا لا يكون فيلسوفًا ولا يفكر لأن التفكير هو بالضبط خاصة الإنسان من حيث هو إنسان[40].

بيد أن الإنسان يحتاج إلى تعلم العديد من المهارات والصنائع الضرورية للمحافظة على حياته وتنميتها نحو الأفضل، وأهم هذه المهارات والصنائع هي التفلسف، وميزة الفيلسوف هي أنه ينجح في التسرب إلى ما ليس بفلسفة ويجعلها في خدمة الحياة اليومية للإنسان، وأنه ينظر إلى التجارب المبتذلة والاستدلالات الخاطئة والنظريات التافهة على أنها تخفي معان نفيسة وحقائق راقية ومستترة.

الفيلسوف الحق لا يحكم إلا بعد التحري ولا يضع قدمه إلا بعد التثبت من رسوخ الأرض التي يقف عليها ولا يتوانى في تدبير الطرق التي تسهل عليه حفظ صحته وكسب الفضائل طالما أن "غرضه في علمه هو إصابة الحق وفي عمله العمل بالحق" (كما بيَّن الكندي في رسالته عن الفلسفة الأولى).

الفلسفة اليوم نظرية نقدية للواقع قصد تفكيك كل أشكال الاغتراب، وفن من أجل فهم الماضي قصد تحقيق المصالحة معه وتملكه واستعادته على نحو آخر وذلك للتحرر من عقده وانحرافاته، وهي كذلك استراتيجية لصنع المستقبل قصد السيطرة عليه وتوجيهه نحو غايات الوجود الأصيلة[41].

لنر من ينهض بمهمة التفكير من حيث هي أخص ما يخص الكائن الإنساني ويبدع فلسفة للمقاومة توفر لنا الأسلحة النظرية التي تحررنا وتشفينا من الاغتراب والضياع في الوجود وتعيدنا إلى العالم في علاقة مباشرة بما يحدث، ولنر من يقدر على إصلاح نمط التفلسف الوحيد الذي بحوزتنا حتى يكف عن أن يكون مجرد تبرير ما هو سائد وتأويل ما هو كائن، ومن يتجشم عناء تهذيب الطريقة التي كانت الأمة قد أبدعتها في مستوى علمها الخاص بنفسها وأسلوبها الخاص في تعليم نفسها، ومن يضطلع أيضًا بمسؤولية إبداع برنامج متكامل يكون صالحًا للتدريس ويشجع على التفلسف[42].

فلنكف عن التذمر والشكوى ولنقتل اليأس والتشاؤم ولنصغ إلى ما قاله هيجل عن الآتي البعيد:

إننا على أبواب عصر مهم، عصر من التخمر، عندما يتقدم الفكر قفزة فإنه يتعالى على شكله السابق ويتخذ شكلاً جديدًا. إن مجمل التطورات والتصورات والمفاهيم السابقة التي تربط عالمنا تنحل وتتلاشى وكأنها لوحة في حلم... هناك مرحلة ذهنية جديدة تتهيأ فعلى الفلسفة بشكل خاص أن تستقبل ظهورها وتتعرف إليها...[43]

*** *** ***

المراجع العربية:

-       أبو نصر الفارابي، تحصيل السعادة، دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر، بيروت، ط1، 1995.

-       ابن رشد، فصل المقال، سيراس للنشر، تونس، 1994.

-       أرسطو، دعوة للفلسفة، قدمه عبد الغفار مكاوي، دار التنوير، بيروت.

-       ديكارت، مبادئ الفلسفة، ترجمة عثمان أمين، دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة، 1974.

-       عبد الغفار مكاوي، المنقذ قراءة لقلب أفلاطون، دار شرقيات، ط2، القاهرة، 2003.

-       فلاديمير يانكليفتش، فلسفة أولى، ترجمة سعاد حرب، مجلد ط 1، بيروت، 2004.

-       كانط، المنطق، ترجمة علي حرب، مجلة الفكر العربي، عدد 48، 8 أكتوبر 1978.

-       الكندي، رسالة في الفلسفة الأولى، الرسائل، تحقيق محمد عبد الهادي أبو ريدة، دار الفكر العربي، القاهرة، 1950.

-       هيجل، تاريخ الفلسفة، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، المجلد الثالث، مكتبة مدبولي، القاهرة.

-       هنري برجسن، منبعا الأخلاق والدين، الهيئة المصرية العامة للتأليف والكتاب، 1945.

-       جاك تاكسي، غرامشي، دراسة ومختارات، ترجمة ميخائيل إبراهيم مخول، دمشق، 1972.

-       جيل دولوز/فليكس غتاري، ما هي الفلسفة، مركز الإنماء القومي، ط 1، 1997، بيروت.

-       مطاع صفدي، مقال الحق بالتفلسف الحق بالحب، مجلة الفكر العربي المعاصر، عدد 110/111.

المراجع الأجنبية:

-      Auguste Comte: Cours de philosophie positive. Cérès Editions Tunisie 1994.

-      Dominique Lecourt A Quoi sert donc la Philosophie? Ed Delta 1996 PUF 1993.

-      Epicure lettres –Trad Jean Salem Ed Nathan 1982.

-      J. Derrida le droit à la philosophie du point de vue cosmopolitique, Ed. Unesco 1997.

-      J. Derrida. du droit à la philosophie P.37 Paris Ed galilée 1990.

-      Jean-Luc Nancy, L'oubli de la philosophie, Ed, Galilée 1986, Paris.

-      J. P. Sartre: Question de méthode Ed. Gallimard, 1960.

-      Hans-Georg. Gadamer herméneutique et philosophie préface de Jean Greisch Ed Beauchesne 1999.

-      M. Heidegger. Qu’est ce que la philosophie ? in Questions II Gallimard 1968.

-      Marx. K. Critique de l’état hégélien, (Manuscrits de 1843) Trad Papaioannou Ed 10/18 Paris 1976.

-      Marx.K. Critique du droit politique de Hegel .Trad A. Baraquin. Edition. Sociales Paris 1975.

-      M. Merleau ponty, Eloge de la philosophie Idées Gallimard, Paris 1965.

-      Pascal pensée Section VI Ed Bordas Paris 1966.

-      W.F.Hegel. Principes de la philosophie du droit, trad. A. Kaan, Paris. 1966.Gallimard.

***

مؤسسة ابن رشد للفكر الحر Copyright © 1999 - 2016


 

horizontal rule

* أستاذ باحث بالجامعة التونسية ومدرس مبرز بالمعاهد الثانوية.

[1] L'idée (…) d'un droit à la philosophie doit être posée dans sa dimension cosmopolitique, donc inter-nationale ou inter-étatique" J. Derrida le droit à la philosophie du point de vue cosmopolitique, Ed. Unesco 1997, p.19.

[2] M. Merleau ponty, Eloge de la philosophie Idées Gallimard, Paris 1965.

[3] Jacques Derrida : Du droit à la philosophie p517-521.

[4] Il y a, c'est certain, une situation de lutte aujourd'hui dans la pensée, et ceux qui ont pris les armes pour fomenter l'oubli de la philosophie en savent quelque chose. Mais ce n'est pas une querelle d'individus ou de cercle (pas plus, d'ailleurs, que ce n'est simplement un combat des anciens et des modernes), c'est un affrontement, dans lequel la vérité est en jeu…" Jean-Luc Nancy, L'oubli de la philosophie, Ed, Galilée 1986, Paris P.10.

[5] Auguste Comte : Cours de philosophie positive. Cérès Editions Tunisie 1994p16-17-18.

[6] مطاع صفدي، الحق بالتفلسف الحق بالحب، مقال، مجلة الفكر العربي المعاصر، عدد 110/111، ص 25-27.

[7] ف. نيتشه، الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي، ترجمة سهيل القش، ط 3، مجلد 2005، ص 39.

[8] أبو نصر الفارابي، تحصيل السعادة، تحقيق علي أبو ملحم، دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر، بيروت، ط 1، 1995، ص 95-96.

[9] Marx. K. Critique de l’état hégélien, (Manuscrits de 1843) Trad Papaioannou Ed 10/18 Paris 1976.

[10] Epicure lettres – lettre à Ménécée Trad Jean Salem Ed Nathan 1982 p76.

[11] أفلاطون، الغورجياس، ط 485C-4 84.

[12] Celui qui dit qui que l’heure de philosopher n’est pas encore arrivée ou est passée pour lui, ressemble à un homme qui dirait que l’heure d’être heureux n’est pas encore venue pour lui ou qu’elle n’est plus. Le jeune homme et le vieillard doivent donc philosopher l’un et l’autre, celui-ci pour rajeunir au contract du bien, en se remémorant les jours agréables du passé ; celui-là afin d’être, quoique jeune, tranquille comme un ancien en face de l’avenir » Epicure lettres p76.

[13] هنري برجسن، منبعا الأخلاق والدين، فصل 4، ترجمة سامي الدروبي وعبد الله عبد الدائم، الهيئة المصرية العامة للتأليف والكتاب، 1945.

[14] جاك تاكسي، غرامشي دراسة ومختارات، ترجمة ميخائيل إبراهيم مخول، دمشق، 1972.

[15] جيل دولوز/فليكس غتاري، ما هي الفلسفة، مركز الإنماء القومي، ط 1، 1997، بيروت، ص 27.

[16] M. Heidegger. Qu’est- ce que la philosophie ? in Questions II Gallimard 1968.

[17] Pascal pensée Section VI Ed Bordas 1966 p119.

[18] عبد الغفار مكاوي، المنقذ قراءة لقلب أفلاطون، ص84/85، دار شرقيات، ط2، القاهرة، 2003.

[19] أفلاطون، الجمهورية، ترجمة حنا خباز، دار القلم، بيروت، ص 6.

[20] ديكارت، مبادئ الفلسفة، ترجمة عثمان أمين، دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة، 1974، ص 30.

[21] Marx.K. Contribution à la critique de la philosophie du droit de Hegel. In Critique du droit politique de Hegel .Trad A. Baraquin. Editions.Sociales Paris 1975 p203.

[22] ديكارت، مبادئ الفلسفة، مرجع سابق، ص 34.

[23] W.F.Hegel Principes de la philosophie du droit, trad. A. Kaan, Paris. 1966. Gallimard.

[24] هيجل، تاريخ الفلسفة، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، المجلد الثالث، مكتبة مدبولي، القاهرة، ص 235.

[25] أرسطو، دعوة للفلسفة، قدمه عبد الغفار مكاوي، دار التنوير، بيروت، ص 39.

[26] أرسطو، الميتافيزيقا، 982 ب.

[27] فريديريك نيتشه، الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي، ص 40.

[28] كانط، المنطق، ترجمة علي حرب، مجلة الفكر العربي، عدد 48، 8 أكتوبر 1978.

[29] Il nous faut réfléchir à ce que peuvent être les conditions concrètes du respect et de l'extension du droit à la philosophie"Derrida : le droit à la vie du point de vue cosmopolitique P.33.

[30] Ce que je dis ici de la philosophie peut se dire aussi bien,et pour les mêmes raisons,du droit et de la démocratie" Derrida : le droit à la vie du point de vue cosmopolitique P.33.

[31] ابن رشد، فصل المقال، سيراس للنشر، تونس، 1994، ص 19-20.

[32] الكندي، رسالة في الفلسفة الأولى، الرسائل، تحقيق محمد عبد الهادي أبو ريدة، دار الفكر العربي، القاهرة، 1950، ص 103-105.

[33] وثيقة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

[34] مطاع صفدي، الفكر العربي المعاصر، عدد 110/111، ص 24.

[35] La philosophie est la chose du monde la mieux partageable. Personne ne peut en interdire l'accès… Pour philosopher, on n'a essentiellement besoin d'aucun appareil d'écriture ou d'enseignement, les murs d'école sont aussi extérieur à l'acte de philosopher que l'édition, la presse, les médias. Aucun interdit, aucune limitation ne peut toucher la philosophie elle-même,aucune censure, aucune marginalisation. Des agressions peuvent certes atteindre les phénomènes publics de la philosophie, les publications, les appareils d'école (…), mais non l'intérêt pour la philosophie…. Cette philosophie ne redouterait aucune attaque, elle n'a pas besoin d'être justifiée ou défendue, en tous cas par autre chose qu'elle-même. C'est à elle qu'il revient en propre de dire ce qui lui est propre, et donc d'assurer sa propre défense et sa propre justification" Derrida du droit à la philosophie P.43 Paris Ed galilée 1990.

[36] J. Derrida. du droit à la philosophie P.37 Paris Ed galilée 1990.

[37] Jamais peut-etre la philosophie n’a,depuis un demi-siècle, suscité autant d’intérêt qu’aujourd’hui ; on voit médecins et juristes, par exemple, se tourner vers elle pour tenter vers d’élucider les questions de déontologie, d’ethique et de politique que le « génie génétique » a mises à l’ordre du jour;…la qualité de”Philosophe” parait à ce point estimable que bien des écrivains et des journalistes voient devoir à l’occasion s’en décorer pour livrer aux medias leurs pensées sur le monde.» Dominique Lecourt A Quoi Sert donc la Philosophie? Ed Delta 1996 PUF 1993 p11.

[38] فلاديمير يانكليفتش، فلسفة أولى، ترجمة سعاد حرب، مجلد ط 1، بيروت، 2004، ص 283.

[39] J. P. Sartre: Question de méthode Ed. Gallimard, 1960 P.7-10.

[40] جاك تكسيه، غرامشي، دراسة ومختارات، ترجمة ميخائيل إبراهيم مخول، دمشق، 1972، ص 45.

[41] le jargon qui exerce une fonction d’exclusion, en ce qu’il présente un langage et un monde expressif déjà préformés et auxquels on se tient, me parait être actuellement un danger pour la philosophie, tout autant que l’invasion des nomenclatures techniques est un danger pour le parler des hommes entre eux. Qu’il s’agisse de formes remontant à l’idéalisme spéculatif et romantique…ou bien du jargon de la phénoménologie qui cherchait à organiser son système conceptuel avec les moyens du néo-kantisme, ou encore du jargon de la théorie positiviste ou de celui du marxisme, ou enfin du jargon de l’authenticité ou de l’inauthenticité (Heidegger), on perd toujours le contact immédiat avec la réalité. On peut donc affirmer que la tache générale de la pensée philosophique est aujourd’hui de résister à ces aliénations, de les refondre au creuset d’un authentique effort de pensée. Ainsi, me semble-t-il, l’aliénation réciproque, qui a eu lieu entre la méthode des sciences et les anticipations de notre expérience du monde, pourrait se clarifier et se purifier ». Hans-Georg Gadamer herméneutique et philosophie préface de Jean Greisch Ed Beauchesne 1999 p11.

[42] Au lieu de se cramponner à la défense-de-la-philosophie, pour savoir dans les deux cas, avec le même pathos, les mêmes intérêts, ne faut-il pas travailler à imposer, de façon audacieuse et offensive, de nouveaux programmes, de nouveaux contenus, de nouvelles pratiques?" Jacques Derrida : Du droit à la philosophie p236.

[43] هيجل، محاضرات في تاريخ الفلسفة ألقاها في فيينا في 11 أكتوبر 1806.

 

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني