لوسيان فرويد:
فنان الجسد الإنساني الغامض
سارة عابدين
يقول
ديفيد لوبرتون في كتابه أنثربولوجيا الجسد والحداثة: "بدون جسد
الإنسان ووجهه لن يكون الإنسان على ما هو عليه، وستكون حياته اختزالاً
مستمرًا للعالم في جسده، عبر الرمز الذي يجسده" لذا وجود الإنسان في
الأساس وجود جسدي، وليس هناك أكثر غموضًا من الجسد الإنساني الذي يمثل
الموضوع الأكثر أهمية للفنان الإنكليزي لوسيان فرويد (1922 - 2011).
فرويد الذي قال "لقد رسمت الناس في كثير من الأحيان لأنني أريد أن
أعرفهم" لم يرسم أبدًا من الصور الفوتغرافية، وكان يعتبر الفوتوغرافيا
أكثر تسطيحًا وتجريدًا مما يحتمل، بحيث لا يمكن أن تنقل عمق الوجود
الإنساني الذي يبحث عنه، لذا هو لا يتنازل عن وجود الموديل أمامه حتى
أثناء رسم الخلفية، لأنه يرى أن كل شخص يفرض وجوده المتفرد على المحيط
والمكان بحيث لا يمكنه فصل الخلفية أو أي موجودات باللوحة على الفيغر
الأساسي بداخل اللوحة؛ لذا يمكن اعتبار فرويد فنانًا متطلبًا ومُرهقًا
للموديل الجالس أمامه، لكن هذه العلاقة الممتدة بينه وبين نماذجه والتي
كانت تستمر لأوقات طويلة، تظهر بقوة في لوحاته وفي تواجد الموديل ووضعه
داخل اللوحة.
يعتبر فرويد مشاهدة لوحة حدثًا إيجابيًا يتطلب مجهودًا من الرائي،
ويؤكد دائمًا على العدوانية البصرية في لوحاته، التي تفرض وجودها على
المشاهد، والتغافل عن أي تفصيلة باللوحة، يجعل عملية المشاهدة تنهار
بشكل كلي، حتى أنه كان يعتبر المشاهدة الأصيلة للوحات عملية متنامية،
تحتاج إلى التعلُم المستمر، ويقول إنه لم يتوقف أبدًا عن التعلم.
الرسم كسيرة ذاتية
بحتة
يمكن اعتبار فرويد من أهم فناني الجسد المعاصرين، وينظر إلى الجسد
كمأزق للوجود الإنساني، ويحاول من خلال عملية الرسم التخلي عن الأحكام
المسبقة للنموذج الجمالي المتعارف عليه، والبحث عن رؤيته الخاصة الأكثر
توحشًا وعدائية وقوة، وانتهاكًا للواقع.
يجلس فرويد ليحدق في الموديل أمامه لفترات طويلة، خشية أن يفقد أي جزء
من وجود الشخص الجالس أمامه، وكان باستمرار يتعلم طرق الرؤية، ولم يضع
في اللوحة شيئًا لم يره في الواقع، ومع ذلك لم يحاول فرويد أبدًا خلق
نسخة من الشخص، لكن يحاول نقله كوجود مادي وعاطفي، ليلتقط شيئًا
جديدًا، لم يعرفه أحد من قبل، يكتشفه من خلال علاقته بنماذجه، الذين
يقوم بينهم ما يشبه المقايضة، فهو يسمح لهم بالتواجد في الاستوديو
الخاص به بطرق مختلفة، وهم يسمحون له بعمل لوحة تستند إلى هذا التواجد،
وليس فقط التواجد المستقل للشخص، لكن تفاعله مع الموجودات وكيف يرتبط
حجمه وسلوكه بالغرفة المحيطة به، بحيث لا تصبح العلاقة بين فرويد
ونماذجه سلبية، وهو الأمر الذي كان يرفضه تمامًا، حتى يكون التواجد
حيًا وحرًا بداخل اللوحات، كان يترك لهم حرية الحركة حتى يجلسوا أو
يستلقوا بطريقتهم الخاصة، ليبدأ فرويد في اقتناص المشهد وليس تمثيله أو
تأليفه.
يختار فرويد صفات بعينها ويبدأ في التركيز عليها، وكأنه يضع النموذج
تحت المجهر، ليكتشف الهالة الخفية الخاصة بكل شخص، وهي ليست هالة
بالمعنى الديني أو الباطني على الإطلاق، لكنه حضور خاص لكل شخص يمكن
التقاطه باللون، تمامًا مثل اللحم والعظام والجلد المترهل، وكأنه عن
طريق الرسم يبحث في تاريخ الشخص ككل، وتاريخ ذلك الذراع، أو تلك الساق،
ذلك الجسد بشكل عام، الأماكن التي مر بها، الحوادث التي تعرض لها، في
محاولة منه لتحديد سبب اختلاف كل شخص عن الآخر، ومن خلال تلك
الاستعادات، يستعيد ذاكرته وتاريخه الشخصي.
محاولة فهم الشخص الجالس أمامه تستدعي بالضرورة محاولة فهم لذاته،
يستغرق الأمر وقتًا طويلاً، لكن في النهاية يمكن اعتبار أن كل بورتريه
يرسمه هو بورتريه له شخصيًا، حتى لو كان مجرد مقعد أو سرير مهمل. كان
فرويد شديد الحساسية لكل جلسة من جلسات نماذجه وتأثيرهم عليه، وبالرغم
من الحضور الخاص جسديًا وعاطفيًا لكل نموذج، إلا أنهم في النهاية
يمثلون انعكاسًا لشخصية فرويد والشيء الخاص الذي اكتشفه أثناء الرسم،
بحيث يتلاشى الخط الفاصل بين فرويد ونماذجه. إنه إغواء تسجيل اللحظات
وتوثيق الحياة عن طريق الفن.
الجسد: اللغز
الإنساني الكبير
في منتصف وأواخر الستينيات انتقل فرويد من رسم الرؤوس إلى رسم الأجساد
كاملة، وخاصة العارية منها، وأصبح أسلوبه أكثر تحررًا، وبدأ في استخدام
الفرش الخشنة. يقول عن هذا الوقت "عندما بدأت في الرسم واقفًا، لم أجلس
مطلقًا من جديد". ويبدو أن وقوفه جعله أكثر سطوة وسيطرة على المشهد
أمامه، فأصبح أكثر قربًا من العظام واللحم البشري، وأكثر قدرة على
التقاط العلامات والندوب والآثار على الأجساد الإنسانية، بالإضافة إلى
اهتمامه بإبراز الملمس عن طريق الألوان الأكثر سمكًا وكثافة التي تبرز
ألوان اللحم البشري بدرجاته المختلفة المتغيرة باستمرار، بينما تكون
ألوان المناطق الأخرى في اللوحة داكنة وأكثر صمتًا وانعزالاً.
في هذه المرحلة أصبح اختياره للنماذج أكثر قربًا للواقعية الفظة، وكأنه
يستخدم الجسد الإنساني كاستعارة تشكيلية لما يحدث في العالم من حوله،
عن طريق الإيقاع الداخلي للشخصية، والحركة والتوتر وتموضع الكتلة
البشرية وتعبيرات الوجه القاسية المتوحشة الخشنة، والمبالغة الشديدة في
الإضاءات. إذ يعد الجسد الإنساني هو الهاجس الأعظم لدى فرويد، واللحم
البشري في لوحاته صادم متوحش، لا يحمل أي تأويلات إيروتيكية أو جنسية،
بل على العكس، يشعر المتفرج بأن نماذجه معزولة عن العالم، غارقة في
ذاتها كأنها في جلسات تعذيب للنفس بمشفى للأمراض العقلية، أو بأحد
المعتقلات.
الفن كتعبير عن
عصره
لا يمكننا فصل لوحات فرويد عن زمنها وعن الحدث الأهم في ذلك الوقت
(الحرب العالمية الثانية)، حين كان يتجه العالم للتجريد، ويبتعد عن
التشخيص، اختار فرويد خلق واقع جديد، غريبًا عن المشهد الفني وقتها،
تتوارى فيه الشخصيات بفرديتها وتظهر كأنها من عائلة واحدة، يهيمن عليها
الموت والنوم، والخبل. شخصيات بعيدة تمامًا عن كل المعايير الجمالية
المتعارف عليها، بل قام بترسيخ جماليات جديدة للقُبح، وللجسد الإنساني
بكامل وجوده، بلحمه وشحومه وترهله، وليس ذلك الجسد الجميل المتناسق
المتفق على جماله. وهو يبدو اختيارًا ملائمًا تمامًا لذلك العصر
وأحداثه المروعة، لأن الفنان قادر من خلال شعوره أو لا شعوره على أن
يعطي شكلاً لطبيعة عصره، وغالبًا ما يميز العصر الحديث العلاقة المعقدة
بينه وبين الفن الممثل له. كما قال الفنان الألماني "فرانز مارك":
"الفنانون العظام لا يبحثون عن الأشكال التي يرسمون بها خبايا الماضي،
بل يسعون إلى الوصول إلى أعمق أغوار عصرهم جاذبية وقوة، من خلال رؤيتهم
الداخلية للإنسان وخلفيته الروحية للعالم والحياة"، وهو ما نراه بدقة
في أعمال فرويد الفنية، حيث كان مهتمًا بالوجود، ليس فقط الوجود
البشري، ولكن: وهج المصباح، ساق الكلب وفراءه، السجاد البالي، السرير
القديم، الملاءات القذرة، أي العالم المحيط به، الذي عبر عنه بلغة
بصرية ذات بناء موحش ومرعب. وبالرغم من استمرار تأكيده على عدم وجود
علاقة بين نظريات جده لوسيان فرويد، وبين لوحاته، لكن نظريات فرويد
المرعبة والصادمة عن النفس البشرية تبدو متواجدة بقوة داخل شخوصه
ولوحاته، أكثر مما يحب أن يعترف.
مدرسة لندن
كان لوسيان فرويد جزءًا من مجموعة من فناني التصوير عرفوا لاحقًا
(بمدرسة لندن) وهم مجموعة من الفنانين الذين يعملون بشكل فردي، لكن على
نفس نمط التجسيد، في وقت ازدهار الرسم التجريدي، وكانت تلك المجموعة
تضم كلا من فرانسيس بيكون، وفرانك أويرباخ، مايكل أندرواس، روبرت
ماكبريد، ليون كوسوف، ر.ك كيتاج، وديفيد هوكني. وهي مجموعة ركزت كامل
طاقتها على دراسة لوحة ما بعد الحرب. ومصطلح مدرسة لندن، صاغه ر.ك
كيتاج في المعرض الذي جمعهم معا عام 1976 بعنوان "طين الإنسان". واصل
هؤلاء الرسامون التركيز على التجسيد ودراسة البشر في مواجهة موجات
الطليعية (avant-garde) والفن المفاهيمي
المتنامية في ذلك الوقت. وبالرغم من اختلاف أساليبهم بشكل كبير، لكنهم
اجتمعوا تحت مظلة هذا العنوان.
تتراوح الصلة بين اندفاع الجسد في ما يقدمه بيكون وأندرواس، إلى ضربات
فرشاة لوسيان فرويد القوية، وثقل خطوط أويرباخ، وشبه التجريدية في
لوحات ديفيد هوكني، ليصبح الرابط بين فناني مدرسة لندن هو أقل شكل من
أشكال التعبير المشترك في المدارس الفنية، حتى أن كل فنان منهم، يمكن
أن يمثل مدرسة فنية مستقلة في حد ذاته.
ضفة ثالثة، أغسطس 2018
*** *** ***