الإنسان بين التأريخ والتاريخ*

 

حوار مع ندرة اليازجي

 

"التاريخ الإنساني هو السيرورة المتطورة والمتسامية التي يحققها الإنسان، والإنسانية جمعاء، بدءًا من ألف الوجود إلى يائه، وذلك لكي يتآلف ما هو زمني مع ما هو أبدي، ما هو مادي مع ما هو روحي، ما هو أرضي مع ما هو سماوي... تلك هي الإرادة الإلهية." [ندره اليازجي]

من هذا القول للمفكر الأستاذ ندره اليازجي انطلقنا في الحديث، وبدأته بالسؤال:

س 1: لقد جرت عادتي مع مَن أحادثهم ألا أضع للحديث بداية مديح لتعريف الشخصية لأنني أفترض، بل أعتقد، أن مَن أحادثهم لصالح النشرة أغنياء عن ذلك، فأترك لهم أن يتفضلوا بتعريف أنفسهم بما يرغبون. ليتكم تقدِّمون لنا الأستاذ والأديب والمفكر ندره اليازجي، من هو؟

ندره اليازجي: ولدت في بلدة مرمريتا (سورية) سنة 1932. حصلت على شهادة Sophomore Arts من Aleppo College سنة 1950. تابعت دراستي الجامعية ونلت شهادة الماجستير في العلوم السياسية والاقتصادية. وفي أثناء دراستي الجامعية انصرفت، على نحو اهتمام كبير، إلى البحوث الخاصة بالفلسفة الأخلاقية، ساعيًا إلى وضع قاعدة إنسانية أو صياغة مبدأ أخلاقي لهذه العلوم.

قادتني دراستي للفلسفة الأخلاقية إلى دراسة الفلسفة على نحوٍ عام. وأدخلتني هذه الدراسة المعمَّقة للفلسفة إلى نطاق علم النفس. وفي هذه الدراسة، تجاوزت علم نفس السلوك إلى علم نفس الأعماق. وقادتني هذه الدراسة إلى ولوج محراب الأديان ومبادئ الحكمة، وذلك لأسباب ثلاثة:

أولاً: لأنني كنت منذ صغري أسعى جاهدًا إلى تحقيق روحانية سامية وتقوى عميقة.

ثانيًا: لأنني أردت أن أدخل إلى أعماق التجربة الروحية التي أحقق فيها المقدَّس في داخلي وخارجي.

ثالثًا: لأنني أردت أن أتعرف إلى الجوانب الروحية والإنسانية في هذه الأديان، بحيث تساعدني على مقاربتها في أعماقي، وعلى محبة جميع الناس.

والحق أن دراسة الأديان، في مضامينها، قادتني إلى التعمق في البحوث والدراسات الجارية حول الأسطورة؛ هذا، لأن القصص والروايات التي تتحدث، على سبيل المثال، عن الطوفان أو قصة الخلق وغيرها جعلتني أبحث عن مثيلات أو متوازيات لها في الأساطير.

وإذ كنت أسعى إلى معرفة الحقيقة، وأبحث عن سرِّ الوجود والسرِّ الأزلي في الكون والطبيعة والإنسان، علمت أن دراستي وبحثي وشمولية عقلي قد تكتمل بدراسة الفلسفة العلمية، الفيزياء والبيولوجيا منها على نحو خاص، وكل ما يمتُّ بصلة إلى علم التطور وعلم الفلك.

لم تكن رحلتي العقلية والنفسية والعلمية والروحية الطويلة إلا تعبيرًا عن حادثة أساسية في حياتي. ففي الخامسة عشر من عمري، انتقلت شقيقتي التي كنت أحبُّها كثيرًا من هذا العالم. وبانتقالها، أو تحوُّلها، بدأت مرحلة جديدة في حياتي هي مرحلة الشك المعرفي والبحث عن حقيقة إله المحبة. كنت قد عاهدت الله، أي الإله الشخصي الذي عبدته واعتقدت بأنه يستجيب لِمَن يحبُّه من عابديه المؤمنين، أن يُبقي على حياة شقيقتي لقاء تكريس حياتي له. ولقد ساعدتني تجربة الشك المعرفي على معرفة الألوهة الحقيقية، وعلى الثبات في الإيمان القوي والعميق الذي لا يعتريه الشك بمعنى الرفض أو الإنكار.

تعمَّقت في دراسة الفلسفات باحثًا عن الحقيقة. وجدت نفسي تائهًا في صحراء تعدُّد المدارس الفلسفية، الأمر الذي دعاني للعودة إلى الاستغراق في كياني. تعمَّقت في دراسة علم النفس ساعيًا إلى فهم حقيقة نفسي، وهادفًا إلى بلوغ التوازن والتكامل في داخلي. تعمَّقت في دراسة الأديان لأجد الحكمة المنطوية فيها، وأعي سرَّ الحقيقة السامية الإلهية. وفي هذه الدراسة، تجاوزت حدود الشريعة الوضعية المكتوبة لأبلغ مستوى الناموس الإلهي الذي نُحِتَ في قلبي وعقلي وروحي. تعمَّقت في دراسة الأساطير لأفهم حقيقة العقل السابق للعقل الفلسفي، ولأعلم إن كانت الأساطير مجرَّد خرافات نسجها العقل البدائي أم أنها تنطوي في لاوعي جمعي Collective Unconscious يحدِّثنا عن الأنماط الأولية البدئية Archetypes للوجود الإنساني، وتهيِّئ السبيل لمغامرة العقل. ولقد وجدت أنها تطرح على بساط البحث المقولات العقلية والروحية، على نحوٍ غير مباشر وعلى صعيد مختلف.

تعمَّقت أيضًا في دراسة العلوم عامة، والفيزياء خاصة، لأفهم حقيقة القوانين، الطبيعية منها والكونية، التي أوجدها الله، وأدرك حقيقة السرِّ الكامن في جوهر الوجود. شئت أن أوحِّد هذه القوانين، كما يحدِّثنا بعض العلماء، في قانون واحد، أبدعه الله، ليكون شاملاً لكلِّية القوانين ومالئًا العالم. أردت، بدراستي لفلسفة العلوم، أن أصعد مراتب سلسلة الوجود الكبرى، وأسمو من المادة إلى الروح؛ أردت، كما يقول تيار دُه شاردن، أن أُرَوْحِنَ المادة. أردت أن أعرف السرَّ الكوني والإلهي في الوجود، أردت أن أعرف كيف يتحقق هذا السرُّ في الإنسان إثر تجربة داخلية عميقة. أردت أن أشاهد ببصيرتي وأعاين بعقلي الفوقي وروحي التائقة إلى مصدرها الحقيقة السامية الإلهية في الإنسان والطبيعة والوجود في وحدة كلِّية شاملة تتكامل في جوهرها، وتتألق في تنوُّعات الحقائق والقوانين والمعادلات والتعارضات الثنائية في هذا الوسط الشمولي-الكلي والموحَّد. اتسعت معرفتي على نحوٍ أفقي في الطبيعة والكون وعلى نحوٍ عمودي في كياني... هكذا، ثبَّتُّ إيماني في الألوهة.

س 2: معرفتي بالأستاذ ندره اليازجي، من خلال ما قرأت له، أنه ذلك المفكر الجاد والملتزم وغير المنضوي. ومن هنا، تعدَّدت المواضيع التي يفكر فيها ويكتب عنها. فمادمنا قد قرأنا مقالتكم "الإنسان والتاريخ"، اسمحوا أن نستزيدكم من هذا الموضوع. وبداية أسأل: ما معنى التاريخ؟ أو ما هو التاريخ؟ وهل التاريخ واحد أو أن فيه جدلية أيضًا؟

ن. ي.: تعدَّدت المواضيع في مؤلَّفاتي لأنني أتيقن، على نحو إيمان، من وجود حقيقة واحدة كلِّية الانبثاث والوجود في التنوع: الواحد من خلال التنوع، والتنوع في الواحد. ولما كان السؤال يتصل بمفهوم التاريخ، ويمثل السبيل إلى معالجة هذا التنوع، فإنني أجيب بما يلي:

تشير دراسة التاريخ إلى وجود مفاهيم عديدة. وعلى هذا الأساس، يمكنني أن أتحدث عن وجود "تواريخ" نتيجة لوجود المفاهيم العديدة. هنالك ما يدعى بتاريخ الفكر، وتاريخ الفن، وتاريخ الموسيقى، وتاريخ الفكر الفلسفي أو الفكر الاقتصادي أو السياسي أو الاجتماعي، وتاريخ البشرية جمعاء، إلخ. وقد عمدت إلى تقسيم هذه المفاهيم التاريخية، على نحوٍ مبسَّط، إلى قسمين:

-       أولاً: التأريخ العلني chronology، أو الخاص، الذي يروي الأحداث التي دوَّنها أناس "تأريخيون" وتتصل برغبات السلطة القائمة، أو بالأوضاع الخاصة بفئة معينة، وجُعِلتْ "حقائق" تدرَّس على نحو "عقل مكوَّن" أو عقل مبرمَج لا يُسمَح بالخروج عن قواعده. وقد أدَّى هذا النوع من "التأريخ" إلى "نوع" من تزييف الأوضاع والحقائق، أو تحريفها، أو صياغتها على نحوٍ معيَّن، بحيث تصبح قواعد ثابتة لـ"العقل المكوَّن" الذي يُحتجَز في إشراطات "الفردية التجمعية" المحكمة. لقد أصبح هذا "التأريخ" حجابًا يحول دون رؤية الحقائق الإنسانية الأخرى.

-       ثانيًا: التاريخ غير العلني الذي يتحدث عن "الحقائق" بذاتها، ويكشف النقاب عمَّا استتر من خفايا الأحداث الواقعية. والحق أن هذا النوع من التاريخ يتحدث عن "التاريخ" history بوصفه أحداثًا أو تجارب قابلة للتحليل والفهم وهادفة إلى تحسين الأوضاع البشرية ومعرفة الحقائق، والاستفادة من مضامينها الـمُختبَرة. وهكذا، يصبح هذا النوع من التاريخ أطروحة عقلية تهدف إلى إعادة النظر في الأحداث الماضية، والتعرف إلى الأخطاء المرتكَبة وتجاوُزها، والسعي إلى تحقيق مجتمع أو مجتمعات متنوعة تستند إلى حقيقة هي تحسين الوضع البشري. وفي هذا المنظور، يصبح هذا النوع تاريخًا إنسانيًّا تستفيد منه المجتمعات البشرية كافة. وعلى سبيل المثال، أجد في كتاب أرنولد توينبي دراسة التاريخ دراسة حضارية أو دراسة للحضارات على نحوٍ يكون فيه للعقل دور فاعل في الخبرة البشرية. وتؤدي هذه الدراسة إلى معرفة الحقائق على نحوٍ يتجاوز الروايات والأقاصيص. والحق أن البلدان أو الأمم التي تهتم بـ"تأريخها الخاص" قد أهملت هذا النوع من التاريخ لأنها لا تجد فيه ما يوافق تطلُّعاتها أو أطماعها أو مفاهيمها القومية أو العقائدية المغلقة. فإذا ما دعا التاريخ الإنساني إلى مبدأ تفاعل الحضارات والثقافات في تنوُّعها، دعا التأريخ العلني أو الخاص إلى صراع الحضارات. لقد أغفل التأريخ العلني الحقائق التي يُبنى عليها صرحُ الحضارة الإنسانية، فأبرز وقائعه الذاتية الخاصة. وعلى سبيل المثال، يغفل التأريخ الفرنسي عن ذكر ما يُحتمَل أن يكون قد وعاه نابليون خلال السنوات الست التي قضاها في منفاه... فلعلَّه أعاد النظر في سلوكياته وتصرفاته السابقة، الأمر الذي يساعد البشرية جمعاء على فهم جديد ووعي أعظم. وفي التأريخ الخاص المخصَّص لدراسة الأهرام والعهود الفرعونية، نجد أن الحقائق العظمى ظلت منطوية في سرَّانية التاريخ الإنساني... الأمثلة عديدة... والحقيقة تتضاءل وتبهت، والمآسي تزداد...

يتمثل التاريخ الإنساني في "نهر الإنسانية" – الحضارة الإنسانية – الذي تصبُّ فيه الروافد العديدة والمتنوعة التي تشكَّلت والتي هي الحضارات المتنوعة التي تتفاعل في المحيط الإنساني الذي هو الروح الفاعلة في التاريخ. وفي هذا النهر، الذي هو نهر الإنسانية جمعاء، والروح الجامع لتنوُّعات الحقيقة، تلتقي الحضارات وتتفاعل العقول البشرية، بحيث تزداد الطاقة الروحية الفاعلة باتجاه المحبة، والوعي، والحرية، والتكامل ضمن حقيقة إنسانية-روحية واحدة. في هذا "النهر الإنساني"، وفي هذا التاريخ الإنساني الذي يشمل العام والخاص، أعاين الغاية التي أرادها الله من التاريخ ليكون المسيرة المثابِرة، والتطور الصاعد، والجهد الدؤوب لتحقيق الغايات العظمى من الوجود الإنساني. في هذا التاريخ يلتقي الله مع العالم، وفيه أشاهد ملكوت الروح الإلهية يطبَّق في ملكوت الروح الإنسانية، وفيه يعانق الله العالم.

في ما يتعلَّق بالجدلية، أجد نفسي مسوقًا بالروح، فأقول: لم تعد الجدلية مفهومًا يحافظ على مفهومه السابق. وهذا يعني أن الجدلية لم تعد أداة، أو قضية صراع ونزاع وتناقُض، ولم يعد التأليف نتاجًا لصراع التناقضات. على غير ذلك، أصبحت الجدلية مفهومًا يتحقق فيه التكامل بين قطبين متعارضين أو متقابلين، ليسا نقيضين أو متناقضين. وفي هذا المنظور، تصبح الجدلية، على المستوى الطبيعي والإنساني، حوارًا يدعو إلى تكامل الأقطاب المتقابلة في عالم الثنائية والتعددية. وهكذا، لا تشير جدلية الرجل والمرأة إلى صراع كائنين متناقضين، بل إلى تكامل تتوازن فيه حقيقة إنسانية واحدة تتميَّز بقطبين متقابلين يسعيان إلى تحقيق الوحدة الأصلية البدئية أو تكامل الثنائية في الوحدة. وبالمثل، تلتقي التنوعات الحضارية في حوار جدلي لكي تتكامل في إنسانية واحدة تتجلَّى فيها الإرادة الإلهية السامية بوضوح.

س 3: هل التاريخ بحدِّ ذاته أزلي؟ فإنْ لم يكن كذلك، كيف يكون حال الله قبل الخلق؟ هل هو سكون مطلق بلا تاريخ في سرمديَّته؟

ن. ي.: أسمح لنفسي أن أبدأ جوابي على النحو التالي: الله حضور تام، لا ماضي له ولا مستقبل؛ هذا، لأن الأزلية أو السرمدية الإلهية لا تبدأ ولا تنتهي. ولما كان الله لامحدودًا، لاموصوفًا، لانهائيًّا وأزليًّا، فإنه يخرج عن نظام الزمان والمكان. والحق أن الله لا يتطور في الزمان لأنه يفقد أزليته وسرمديَّته في مثل هذا التطور. وهكذا، يكون الله حاضرًا قبل الفيض وبعده.

يمكنني الآن أن أضيف قائلاً: بدأ الفيض بعد أن وضع الله نواميسه وقوانينه. والحق أن الوجود الأرضي يتمثل بجسر يتصل، في بدايته، بالأبدية أو اللانهاية، ويتصل، في نهايته، بالأبدية أو اللانهاية. إنه وجود يُستمدُّ من حقيقة سامية أبدية، ويتوق، في النهاية، للعودة إلى الحقيقة التي انفصل عنها لحظة الفيض. وهكذا، يمكنني أن أتحدث عن وجود الألف، أي البداية، ووجود الياء، أي النهاية... لقد بدأ الزمان والمكان لحظة بدء الفيض. ولما كان الوجود الأرضي متصلاً، في بدايته ونهايته، باللانهاية أو الأبدية، فإن الألف والياء مضمونان في هذه الأبدية اللازمانية واللامكانية.

لما كنت تحدثت عن مفهومين للتاريخ:

-       عَلَني يذكر الأحداث الخاصة أو المروية على نحوٍ محرَّف أو تعصبي،

-       وإنساني حقيقي، يحلِّل الأحداث لكي يبلغ مستوى من الوعي يساعد الإنسان على معاينة الحقيقة الجوهرية،

فإنني أجرؤ على القول: إن التاريخ الإنساني، الذي يهدف إلى تحقيق المبادئ الإنسانية المتمثلة بالعدالة والمساواة والحرية والوعي والمحبة، يشير إلى وجود إرادة ضمنية فاعلة في ضمائر الناس، وفي عقولهم ونفوسهم وأرواحهم، تسعى إلى تحقيق الأزلي في المحدود، والأبدي في المؤقت. وفي هذه الحالة نعاين ألق النور الإلهي في التاريخ الإنساني-الروحي.

س 4: قلتم في مقالكم "الإنسان والتاريخ" استنتاجًا بأن "الإنسان يصنع التاريخ من خلال وعيه الذي يُنفِذه من خلال إرادة...". فكيف يصنع إنسانٌ ما هو مقحَمٌ فيه أصلاً؟ وما دور الله برأيكم في صنع أو حكم التاريخ؟ وما دور التاريخ نفسه في حكم التاريخ؟

ن. ي.: ثمة تطابق بين عبارة "التأريخ يعيد (أو يكرر) ذاته" وعبارة "الخطأ يعيد (أو يكرر) ذاته". وإذا ما سألت نفسي: متى يتكرَّر الخطأ؟ أجيب: عندما يُحجِم الإنسان عن الاتعاظ بنتائج الخطأ الذي ارتكبه، ويتقاعس عن معرفة السبب أو الأسباب التي دعته إلى اقتراف الخطأ أو الخطيئة. فلكي ينبثق فيه ومنه إنسانٌ جديد، يجب عليه أن يعيد النظر في كلِّ لحظة من لحظات حياته، ليُحدِث تعديلاً دائمًا في نفسه، ويعي ذاته لكي يتحرر من القيود والإشراطات التي احتجزته في زنزانة الأنا المنفعلة بظلامها. وإذا ما تساءلتُ كيف يعيد التاريخ ذاته، وكيف تتكرر الأخطاء الماضية وتظهر من جديد على مسرح الأحداث؟ أجيب: عندما ترتكس عقول الناس إلى الماضي لتحيا في الماضي، وترفض الانطلاق إلى المستقبل، وتأبى أن تتأمل أخطاء الماضي بوعي يحميها من السقوط في المآسي التي عانى منها المجتمع. ويؤسفني أن أقول: إن التأريخ الذي يكرِّر ذاته هو التأريخ الماضي ذاته الذي ارتُكِبتْ فيه الأخطاء. وبالمثل، يؤسفني أن أقول: إن كل مرحلة تاريخية تحاول أو تعمل جاهدة لمحو آثار المرحلة السابقة دون وعي منها بأنها تكرِّر مأساة الماضي أو تعيدها. فبقدر ما تعتقد أنها تجاوزت أخطاء الماضي، تدرك أنها لا تزال أسيرة الأخطاء ذاتها.

في هذا المنظور، أسمح لنفسي أن أقول: يصنع الإنسان التاريخ الإنساني الذي يمتلئ بالوعي والحرية والعدالة والمحبة والعلم في شتى فروع المعرفة عندما يهيِّئ نفسه بـ"عقل مكوِّن" ومنفتح قادر على إعادة النظر في أكثر الثوابت العقائدية الماضية، وذلك لكي يطوِّرها ويسمو بها إلى المزيد من المعرفة والوعي. أما الإرادة، في هذا السياق، فهي القوة أو "السلطة التنفيذية" الناتجة عن الوعي الفاعل في العقل المنفتح والمكوِّن، على نحوٍ دائم، والهادف إلى ما هو أسمى وأرقى وأعظم. وهكذا، يتجه التاريخ الإنساني إلى تحقيق الغايات العظمى المتمثِّلة بالمبادئ الروحية، المتمثِّلة، بدورها، بفروع المعرفة والعلم والفضيلة، والداعية إلى تطبيق فردوس السماء في فردوس الأرض. على هذا الأساس، لا يكون الإنسان مُقحَمًا في أيِّ شيء؛ هذا، لأنه هو التاريخ. إنه نتاج تطوُّر طويل الأمد، ومثال للطبيعة والكون، والثمرة التي أبدعتْها الإرادة الإلهية، والتمثيل الكامل لما هو أعلى وأدنى، وفيه تكتمل الحياة الأرضية. في هذا المنظور، يكون هو التاريخ... وبقولي هذا أعني أن التاريخ الإنساني هو التاريخ الذي يريده الله، أي هو المرحلة الزمنية الفاصلة، أي الجسر الممتد، بين لانهايتين وأزليتين. في هذا التاريخ الإنساني، تتداخل الأبدية مع الزمان، ويتَّحد الإنسان مع الله.

س 5: كثيرًا ما نرى المؤرخين يسيِّسون التاريخ، أو بالأحرى، يتلاعبون به وبقيمه لصالح العزَّة القومية والكبرياء الوطنية. فهل يجوز للمؤرخ أن يحمل أو يتبنَّى هوية محددة؟ وكيف يتحقق التناغم في شخص المؤرخ بين حقِّ الهوية وحقِّ التاريخ مجردًا؟

ن. ي.: ثمة فرق بين كلمة "التأريخ" وكلمة "التاريخ". في التأريخ، يكون "التأريخي" مجرد شخص يسجل انفعالاته ورغباته على صعيد معيَّن أو أصعدة معيَّنة، أو يسجل رغبات سلطة شاءت أن تجعل من ذاتها المحور الذي تدور حولها الأحداث... إنه تأريخ مركزية الأنا الفردية أو التجمُّعية.

أما في التاريخ، فيشاهد المؤرخ، الذي يُحتمَل أن يكون عالم الفيزياء، أو عالم البيولوجيا، أو عالم الفلك، أو الفيلسوف، أو الحكيم، أو اللاهوتي، أو الفنان، أو عالم الاجتماع، إلخ – يشاهد الأحداث، يدرسها، يفهمها، يعيها، ثم ينتقل إلى مستوى أعلى في سلَّم الحقيقة والروح والحياة.

في هذا السياق، أقتبس من الحكمة الصينية المبدأ التالي:

-       الإنسان العادي يهتم بالأشخاص.

-       الإنسان العاقل يحلِّل الأحداث.

-       الإنسان الواعي يسعى إلى تحقيق المبادئ.

في "التأريخ"، نجد الإنسان العادي الذي يهتم بالأشخاص، بحيث إن الجماعة تتقلص أو تُختزَل لصالح الفرد الحاكم أو إلى أيِّ فرد في شتى المجالات. وفي "التاريخ"، نجد الإنسان العاقل، العارف، الذي يحلِّل الأحداث لكي ينتقل إلى مرحلة أسمى من الوعي يطبِّق فيها المبادئ العقلية، والكونية، والاجتماعية، والإلهية؛ وعندئذٍ، يدرك الغاية من وجوده. ويؤسفني أن أقول إن "التأريخ" هو العقيدة المهيمنة على عقول الناس المكوَّنة، الأمر الذي يجعلها منفعلة في تمجيد "الفرد" أو "العقيدة" أو "العرق" أو "العنصر" إلخ... وهكذا، نرى أن "التأريخ" يذكر القادة ويُغفِل الأفراد أو الشعوب. أما التاريخ، وهو تاريخ الحياة الطبيعية والكونية والإنسانية، فإنه يتحدث عن مسيرة البشرية، عن تطوُّرها وسموِّها إلى مستويات أسمى وأجل. لذا، لا يحمل التاريخ الإنساني هوية تميِّزه... إنه كيان الإنسانية وروحها.

س 6: كم يوجد من السرِّ في التاريخ؟ وكم يوجد فيه من الحق والصدق؟

ن. ي.: أبدأ حديثي بإلقاء الضوء على كلمة "السر": ليس السرُّ مجرد حديث لم أسمعه، أو حادثة لم أسمع بها، أو معاهدة بقيت طي الكتمان لفترة زمنية معينة. السرُّ هو العمق، وكلَّما تعمَّقت وجدت عمقًا أعظم. على هذا الأساس، تكون الحياة سرًّا؛ ويكون الوجود سرًّا؛ ويكون الإنسان سرًّا؛ وتكون الخلِّية أو الذرَّة سرًّا؛ ويكون الله السرَّ الأعظم الذي تكمن فيه جميع الأسرار. إذن، فالسرُّ هو ما لا أنتهي من دراسته... إنه الأبدية أو الأزلية في تجلِّيها واستمرارية صعودها.

وفي هذا المنظور، أسمح لنفسي أن أقول: ليس ثمة سرٌّ في "التأريخ" أي في التاريخ الخاص؛ لذا، يكاد يخلو من الصدق والحقيقة. فقد أغفل "التأريخ" المبادئ الإنسانية والروحية، وتجنَّب العمل في وفاق مع مضامينها التي تشمل مفاهيم الخير، والوعي، والمحبة، والسلام.

س 7: ما أثر روحانية الشعوب في كتابة التاريخ؟

ن. ي.: تكمن الإجابة عن هذا السؤال في ما احتوته الإجابة السابقة. فقد أغفل "التأريخيون" المبادئ، وأغفلوا الروح الفاعلة في جوهر الوجود، الطبيعي والإنساني، وتغاضوا عن القيمة الأساسية والجوهرية التي تُمِدُّ الإنسان بالمعنى. ومع ذلك، لم يغفل "التأريخيون" تدوين العقائد التي أدَّت إلى الصراع والاقتتال والحروب. وهكذا، تم احتجاز "التأريخ" في قوقعة يصعب الخروج منها. ولما كان "التأريخيون" يسعون إلى تدوين العقائد، فإنهم يغفلون، أو يُسقِطون، المبادئ الإنسانية والروحية التي تتميز بها الشعوب الأخرى. وعندئذٍ، يتغلب التعصب العقائدي والعرقي، وتموت الحقيقة على يد مَن يعتقدون بأنهم يمتلكون الحقيقة المطلقة.

س 8: لماذا ترى المؤرِّخين يتجنبون الأثر الروحي للتاريخ، مقتصرين في تعاملهم معه على الناحية المادية؟

ن. ي.: تكمن الإجابة عن هذا السؤال في الإجابة السابقة. وكما ذكرت، فقد ارتبطتْ مصلحة الأفراد بتعظيم أو مساندة "التأريخ" و"التأريخيين"، وذلك لأن الروحانية الماثلة في التاريخ الإنساني تدعوهم إلى أن يكونوا أناسيين وأبناء للمعرفة والحقيقة، دعاةً إلى الوعي والمحبة والسلام. أما مصالحهم فإنها تتنكر لهذه الدعوة؛ وبالمثل، يتجه ضيق أفقهم الفكري إلى التعصب القومي أو المذهبي. وعلى الرغم من هذا، فقد عمدوا إلى زجِّ الروحانية الزائفة في سلوكهم وتصرفاتهم، وكثيرًا ما ادَّعوا بأنهم "حماة الإيمان"، "المدافعون عن المقدسات"؛ وهم، في ادِّعائهم هذا، غير صادقين. لقد سيطر "تأريخ" الأنانية، فألحق بذاته كل مصلحة مادية، وزيَّف المبادئ الروحية وجعل منها "عقائد" تخدم مصلحتهم وتُلحِق الأذى بهم وبالآخرين.

س 9: لو كان لندره اليازجي أن يختار من التاريخ شخصًا يقابله، فمَن يختار ولماذا؟

ن. ي.: منذ حداثتي، جعلت من كريستوس، أي المسيح، القطب الذي أتجه إليه. فقد آمنت به بعد دراسة معرفية اختبرتها وتأمُّل عميق في سرَّانية الوجود الإنساني. لذا، كان كريستوس، أي المسيح، الألف والياء من حياتي. ولكونه آدم الثاني، فقد علَّمني أن أكون آدم الأول ما قبل السقوط – وأعني أن أكون الكائن الإلهي المحقَّق في الإنسان. لقد علَّمني، في تجسُّده وفي إنسانيته، كيف أتألَّه. هكذا، يحتل كريستوس الذروة العليا من حياتي الروحية والاجتماعية والاقتصادية والمعرفية. وفي المرتبة الثانية، يبرز جميع الحكماء الذين تجرَّدوا من العقائدية الضيقة، وجعلوا من الوعي والمحبة والمعرفة والسلام الداخلي والخارجي السُّبُل التي تؤدي إلى تأسيس ملكوت السماء في ملكوت الأرض.

س 10: نترك ما مضى من التاريخ ونسأل ندره اليازجي: ماذا يودُّ أن يفرض على مستقبل التاريخ، لو كان له أن يفعل ذلك؟

ن. ي.: في فصل من فصول كتابي دراسات في المثالية الإنسانية، تحدثت عن الإيجاب والسلب. لقد نفيتُ وجود السلب بوصفه جوهرًا أو ماهية. لذا، كان الشرُّ سلبًا للخير، أي انعدامًا له؛ وكان الجهل سلبًا للمعرفة والوعي أو نفيًا لهما؛ وكان الظلام سلبًا للنور؛ إلخ. والحق أنه لا يوجد ظلام في النور، ولا يوجد شرٌّ في الخير، ولا يوجد جهل في المعرفة، إلخ. ويؤسفني أن أقول بأن غالبية الناس يعيشون في نطاق السلب، لأنهم لا يعون الإيجاب أو لا يحيون في نطاق الإيجاب. ومن جانبي، لا أستطيع أن أقوم بأي فعل يُذكَر في مجال التاريخ الإنساني إلا بالواجب الذي يدعوني للدعوة إلى الإيجاب الذي يخلو من السلب. لقد انتهت تجربة المسيح ثلاثية البُعد، إلى نهاية السلب، أي إبليس. وفي حقل التطبيق أقول: لو كنت مهيَّأً لتحقيق تاريخ مستقبلي يأخذ بيد الإنسان إلى ما هو أسمى وأعظم، لتبنَّيتُ مقولتين هامتين، أو مبدأين هامين، جعلتهما مبدأين أو مقولتين أساسيتين في حياتي هما:

- أولاً: قول المسيح: "من أراد أن يكون فيكم عظيمًا فليكن لكم خادمًا."

- ثانيًا: دعوة سقراط وأفلاطون إلى تحقيق المجتمع الفاضل الذي يرأسه فيلسوف-حكيم-خادم.

س 11: لو كان لندره اليازجي – متَّعه الله بالصحة وطول العمر على الأرض – أن يقضي الأبدية مع زمرة من أهل التاريخ، فأيَّهم يختار ولماذا؟

ن. ي.: تحدثت في الإجابات السابقة عن "التأريخ الخاص" و"التاريخ الإنساني"؛ تحدثت عن "تأريخ" العقائد و"تاريخ" المبادئ؛ تحدثت عن الإيجاب والسلب. ولـمَّا كنت أَبَيْتُ، بل رفضت الانتماء إلى أي فئة أو مذهب أو عقيدة، خشية أن يبعدني هذا الانتماء أو يقصيني عن حقيقة روحانيتي، فقد سعيت دائمًا أن أكون مع الجميع، محبًّا لهم، فأضمَّهم إلى كياني دون أن أكون تابعًا أو خاضعًا لمؤسَّسة تفرض عليَّ أو تطلب مني العداء أو التصلب ضد أبناء طائفة أو مذهب أو عقيدة أخرى، أو التعصب الذي يجعلني ممثلاً لإبليس، أي السلب. وهكذا أقول: أحبُّ أن أقضي حياتي الأرضية وحياتي الأبدية مع الصالحين والأبرار من كل فئة أو ملَّة، وأدعو الألوهة المتسامية والماثلة في أعماقي أن تسامح الآخرين وتساعدهم على معرفة الحقيقة. أقول هذا وأنا على علم وإيمان بأن الاعتقاد بامتلاك الفئة – أي فئة – للحقيقة المطلقة ضلال مبين. وهكذا، أنتمي إلى الحقيقة والحرية التي دعا إليهما كريستوس-المسيح: "تعرفون الحق والحق يحرركم"، وإلى الكمال الذي يدعو إليه: "فكونوا أنتم كاملين كما أن أباكم الذي في السماء كامل"... ثمة مَن يدعوني إلى محبَّته في أنحاء العالم كلِّها، في الطوائف والفئات والشعوب كافة... إني أنتمي إلى الإنسانية التي أضحِّي من أجلها، كما ضحى المسيح، وكما أحبَّها الله.

*** *** ***

من كتاب حديقة الحكمة


 

horizontal rule

* نص حوار مع الأستاذ ندره اليازجي صدر على حلقتين في مجلة النشرة.

 

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني