بين دانتي والمعرِّي:

خرافة الصلة والاقتباس

 

الأب الأستاذ درة الحداد

 

إنها لسُنَّة غريبة عندنا، في الشرق، أننا نتمسَّك بالضلال حتى ليلابسنا ونلابسه، ولو بدا لنا بأقبح وجه يرتديه، بل ناقض ما نقول بتنزيله من ربِّ العالمين! أفلا نذكر تشبُّثهم بـ"إنجيل برنابا"، على كونه يدمِّر القرآن الكريم تدميرًا! ومن أظهر الضلالات الرائجة – ويُنزلونها بمنزلة الوحي، أو أكثر – ضلالةُ القول بصلة دانتي بالمعرِّي، واقتباسه في كوميدياه الإلهية من رسالة الغفران وغيرها من الآثار الإسلامية. وبرغم أن الأديبة المصرية بنت الشاطئ قد دحضت تلك الأسطورة دحضًا قاطعًا فلا تنفك الفكرة بضاعةً رائجةَ السوقِ عندهم، حتى بين المفكرين أنفسهم. وفي ما يأتي ننقل لقراء معابر مقدمة المرحوم الأستاذ الحداد التي صدَّر بها المرحوم الأديب الياس غالي، البحَّاثة الجَلود والمختص بالمادة، كتابه الضخم دانتي ما بين المعرِّي وفرجيل الذي قضى نهائيًّا، بسلاح العلم الماضي، على تلك الخرافة الفظة.

***

رسالة الغفران لأبي العلاء المعرِّي والكوميديا الإلهية لدانتي هما حديث الناس في كلِّ نادٍ. كلاهما ابتدع أسلوبًا في أمَّته، فكان مثال العبقرية. وما فطن أحد أن يجمع بينهما بصلة حتى قام المستشرق الإسباني ميغيل آسين بلاثيوس، فجعل رسالة الغفران، استنادًا إلى "المعراج النبوي"، مصدر إلهام الكوميديا الإلهية لدانتي. قال: "إن أصولاً إسلامية – من بينها الغفران – قد كوَّنتْ أسُسَ الكوميديا الإلهية، تلك القصيدة التي وَسَمَتْ كلَّ الثقافة الأوروبية المسيحية في العصور الوسطى." وتابعه على ذلك عدد من المستشرقين الذين يتودَّدون إلى المسلمين، مثل نلِّينو وتشيرُولِّي. وما كادت جماعة منِّا يعرفون هذا الرأي حتى أخذوا به، على علاَّته السقيمة، ليفاخروا به الناس، كما قال قديمًا أحدُنا:

ألهى بني تغلبٍ عن كلِّ مكرمة * قصيدةٌ قالها عمرو بنُ كلثوم!

وقد أحسنت د. بنت الشاطئ، السيدة عائشة عبد الرحمن، في تسفيه رأي بلاثيوس، والكشف عن غرضه:[1]

وأما الهدف فهو أن يُطالِب لوطنه إسبانيا بهذا الفخر، إذ يجعل إيطاليا مديونةً لها بأمجد أثرٍ أدبيٍّ في العصور الوسطى... وإذن فلإسبانيا أن تعطى الحقَّ في المطالبة لمفكِّريها المسلمين بنصيبٍ غير قليل من الشهرة العالمية الواسعة التي تمتَّع بها العمل الخالد لدانتي أليجييري.

واستدركت بنت الشاطئ فقالت:

ولعل هذا يدعونا إلى شيء من الحذر في وزن أدلَّته وتقويم عمله. فلا يستهوينا الزهو بما تدين لنا به أوروبا المسيحية، فنندفع وراء نظرية بلاثيوس مفتونين مسحورين.

وجاء الأستاذ الياس سعد غالي بكتابه دانتي ما بين المعرِّي وفرجيل بالقول الفصل في تهافت رأي بلاثيوس المُغرِض، وما تبعه من الهوس القومي فينا. لقد كان يكفينا تصريح دانتي عن مصدره القريب حين نادى فرجيل في ملحمته الرائعة:

أأنتَ فرجيل؟ أنت معلِّمي ومرشدي! أنت الذي اقتبستُ منه ذلك الأسلوب الذي رفعني بجماله وعذوبته إلى ذروة المجد!

ونعرف أن الفن الملحمي لم يزدهر بين العرب، لعدم إيمانهم، في الجاهلية، باليوم الآخر والجنَّة والنار، واستنكافهم، في الإسلام، عنه لشبهة "الشرك" عليه. فيكفي أن نعلم أن الغفران وصفه صاحبُه بأنه "رسالة" جمعت لفنون الترسُّل في زمانه: فليس هو بـ"ملحمة" يقتفي أثرَها أكبرُ شاعر ملحميٍّ عرفه التاريخ وجعل من الكوميديا الإلهية "دائرة معارف" دينية وأدبية.

"والمعراج النبوي" ليس بقصة ابتكر أسلوبَها الإسلامُ، بل ابتكر الأسلوبَ أهلُ الكتاب، من يهود ونصارى ومسيحيين، من سفر دانيال حتى رؤيا يوحنا. كذلك مشهور معراج بولس، رسول المسيحية، قال:[2]

أعرف رجلاً في المسيح اختُطِفَ إلى السماء الثالثة[3] منذ أربع عشرة سنة. أبجسده؟ لا أعلم. أم بغير جسده؟ لا أعلم. الله أعلم. وإنما أعلم أن هذا الرجل اختُطِفَ إلى الفردوس – أبجسده؟ لا أعلم. أم بغير جسده؟ لا أعلم. الله أعلم – وسمع كلماتٍ سريةً لا يحلُّ لإنسان أن يذكرها.

ذلك هو المعراج الحقيقي الوحيد الذي نعرفه. والقرآن لا يذكر لنبيِّه محمد سوى "إسراء" من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، في آية وحيدة، ويسميه "رؤيا" ليل.

فالعروج إلى العالم الآخر أسلوب قامت عليه الملاحم، من أوذيسة هوميروس إلى إنياذة فرجيل. وقامت النهضة الأوروبية بالرجوع إلى المصادر الكلاسيكية، كما فعل كبيرُ أعلامها دانتي، بشهادته عن نفسه التي لا تُرَدُّ. وكتاب الأستاذ غالي الذي نقدِّم له كفَّى ووفَّى بقيام الأدلة اللامعة.

لكن المصدر البعيد الذي اقتبس منه دانتي الأساطير اليونانية واللاتينية والصور المسيحية للعالم الآخر هو فنُّ "الرؤيا" و"المعراج" عند أهل الإنجيل، الذي ورثوه عن بني إسرائيل عند اختلاطهم بالثقافة السورية الهلينستية. وأقرب مثال بين أيدينا هو رؤيا يوحنا، خاتمة العهد الجديد، وتقليدها في رؤيا بطرس المنحولة، ورؤيا بولس المنحولة، ومعراج أشعيا المنحول.

ففي رؤيا يوحنا، بل "كشفُ يسوع المسيح لعبده يوحنا، بواسطة ملاك"[4] – تلك الملحمة الكونية التي تتضاءل أمامها الملحمات الأدبية، لو كانت ملحمة الفنِّ للفن – حافزٌ مباشر لعبقرية دانتي الذي استفزَّه إلى الكوميديا. وما نعتوها بـ"الإلهية" إلا إشارةً إلى مصادره. ورحلة يوحنا إلى العالم الآخر يقودها ملاكٌ لأنها "نبوَّة". أما رحلة دانتي فيقودها فرجيل لأنها "رواية" أدبية؛ ثم تتمِّها إلى السماء بياتريتشي لقداستها (وقد تسمَّتْ ابنتُه الراهبة بهذا الاسم).

ورؤيا يوحنا ملحمة كونية، مسرحُها صراعٌ كوني بين السماء والأرض والجحيم، في اضطهاد المسيحية العاجل وانتصارها الكوني الآجل. وأبطالُها الملائكة والشياطين مع زبانيتهم من البشر، يسود عليهم السيد المسيح، "الحمل–الأسد" الذي بيده كتابُ القضاء والقدر ينفِّذه في العالمين[5]؛ وفوق الجميع "القديم"، "القدير"، الذي هو "الألف والياء، الذي هو كائن وكان ويكون، المهيمن العزيز"[6]. ويبلغ الحوار فيها منزلةً كونية لا تبلغها ملحمةٌ غيرها. فإذا ما وُضِعَتْ مع الكوميديا الإلهية ورسالة الغفران بَانَ مصدر إلهام دانتي للعيان. وقد أشار الأستاذ غالي إلى بعض اقتباسات الكوميديا من رؤيا يوحنا ممَّا يكفي للدلالة دلالة واضحة على اعتماد دانتي عليها. وحَسْبُنا، تأييدًا لهذا الرأي، الإشارة إلى أن دانتي، بعد ما تكشَّفتْ له الحقائق عندما قاربت رحلتُه نهايتها، امتحنه كلٌّ من بطرس ويعقوب ويوحنا في أركان العقيدة المسيحية: الإيمان والرجاء والمحبة؛ وأن دانتي قد أجاب عن سؤال يوحنا له في جوهر حبِّ الأشياء الأبدية إجابةً تدلُّ، بأجلى بيان، على معرفة دانتي رؤيا يوحنا وتشبُّعه منها إذ قال:

أنت الذي أوحيتَه لي لما ابتدأت النبوَّة السامية تُعلن للأرض أسرارَ السماء أفضلَ إعلانٍ.

وحوار رسالة الغفران مع أهل النار حوارٌ أدبي لغوي، وليس كحوار الكوميديا الإلهية في فلسفة الدين والتاريخ. وقد سبقه إليه الحوارُ الذي نراه في رؤيا بولس المنحولة. كذلك منازل الصدِّيقين في الجنَّة، ومنازل الهالكين في الجحيم. وكما وضع صاحب الرؤيا كهنةً وأساقفةً في جحيمه، كذلك فعل دانتي ببعض رجال الدين من عصره. قال:[7]

ونظرت أيضًا إلى نهر النار، فرأيت رجلاً يمسك به ملائكة الجحيم، وبيدهم قضيبُ حديدٍ ذو ثلاثة رؤوس يغرزونه في بطنه. فسألت الملاك: من هذا الشيخ الذي يعذبونه هذا العذاب؟ أجابني الملاك: هو كاهن لم يوفِّ خدمتَه حقَّها. كان أكولاً، شرِّيبًا، زانيًا، وهو يقرِّب للربِّ على مذبحه المقدس.

وقال:[8]

ورأيت بعيدًا عنه شيخًا آخر يقوده على عجل أربعة ملائكة غلاظ. وأغرقوه في نهر النار حتى ركبتيه، وجعلوا يرمونه بالحجارة كإعصار، ويجرِّحون وجهه، ولا يسمحون له باستغاثة. فسألتُ الملاك عنه فقال لي: هذا أسقف أساء خدمته كما تقتضيه منزلته، فلم يقضِ بالحقِّ ولم يرحم الأرامل والأيتام. وهو ينال الآن ما استحقتْه أفعالُه.

وهكذا تضع الرؤيا جميع الهالكين في منازلهم، وتصف عذاباتهم المتنوِّعة؛ وتصف سعادة الخالصين في منازلهم الخالدة. وذلك ما تفعله رؤيا بطرس المنحولة، فتصف أهوال اليوم الآخر، ومنازل الهالكين، من زناة، ومضطهدين، وقتلة، ومرابين، وعبدة أوثان، وعاقيِّ الوالدين، وسحرة، مع أنواع عذاباتهم؛ ثم الفردوس وما فيه من سعادة وغبطة، ومنازل الخالصين بحسب رتبهم.

ولكن رينان جعل صلة بين كوميديا دانتي ومعراج أشعيا. وقد أيَّد الأستاذ غالي تلك الصلة أيضًا، بالإشارة، بوجه خاص، إلى ناحية هامة جدًّا وغير عادية، ألا وهي ازدياد جمال وجه بياتريتشي بازدياد نوره كلما انتقلا في صعودهما معًا من سماء إلى أخرى، تمامًا كما حصل لأشعيا في عروجه.

وأسلوب الدعوة "النصرانية" بالمعراج إلى أعلى عليين بقيادة ملاك، والاطِّلاع في السماء على اللوح المحفوظ، أو الألواح المغلقة، وتنزيل كتاب منها مع النبي إلى الأرض، هو أسلوب أشاعَه النصارى من بني إسرائيل في بلاد الشام، ونقلوه معهم إلى الجزيرة العربية ومكة في هجرتهم إليها، وذلك قبل البعثة المحمدية بمئة وخمسين سنة. فشاعت معهم أساليبُ الدعوة بمعراج، ولوحٍ محفوظ، وتنزيلٍ أو كتاب مُنزَل – وليس هنا مكان التفصيل في ذلك. وتكفي مطالعة كتبهم، مثل معراج أشعيا وكتاب الراعي لهرمس، فترى أن الأسلوب ميِّزة أهل الإنجيل، من مسيحيين و"نصارى"[9]؛ وقد سبق أبا العلاء بألف سنة.

فما كان دانتي بحاجة إلى أي اقتباس من المصادر الإسلامية؛ فمصادرُه كانت ماثلة لديه عند بني دينه: إنها "كتب الرؤيا" و"المعراج" في المسيحية و"النصرانية" قبل المعرِّي بألف سنة. وتحقيق الأسلوب الأدبي كان عند دانتي بمحاكاة هوميروس في الإلياذة والأوذيسة، وفرجيل، معلِّمه ومرشده، في الإنياذة، كما يشهد هو نفسه، وكما نتحقَّقه في الكتاب القيِّم، دانتي ما بين المعري وفرجيل، للأستاذ غالي، الذي يقضي نهائيًا على الخرافة المغرضة عند مُطلِقِها ومروِّجيها، خرافة صلة دانتي بالمعرِّي. ولقد جاء في الإنجيل الكريم: "تعرفون الحق، والحق يحرِّركم."

*** *** ***


[1] بنت الشاطئ، الغفران، تحقيق ودرس، ص 344.

[2] 2 كورنثوس 12: 1–6.

[3] كان المسيحيون من الهلينيين يقسمون العالم العلوي إلى ثلاث سماوات، بينما النصارى من بني إسرائيل إلى سبع سماوات. والسماء العليا تسمَّى عند الجميع الفردوس.

[4] رؤيا 1: 1.

[5] رؤيا 5: 1–10.

[6] رؤيا 1: 8.

[7] الفصل 34.

[8] الفصل 35.

[9] يرادفون بين المسيحية والنصرانية. ولكن قبل الإسلام، كما في القرآن (الصف 14)، اسم "النصارى" خاص ببني إسرائيل الذين آمنوا بالمسيح، "كلمة الله وروح منه"، لا إلهًا؛ بينما اسم "المسيحيين" خاص بالمؤمنين بالمسيح من جميع الأمم غير بني إسرائيل، ويُجمِع فرقُهم جميعًا على الإيمان بإلهية المسيح. فالفارق جوهري، قومي وديني.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود