فلسفة الأنوار بين كانط وفوكو

دعوة إلى الاستخدام الجريء للفكر

 

سليمان بختي

 

تعالج نصوص ما هي الأنوار* مشكلة الأنوار وفقما تطرَّق إليها روَّاد التنوير النقدي في العصر الحديث. ويحوي المشتمل نصًّا لكانط، في ترجمة ليوسف الصديق وجميل قاسم؛ تليه قراءة ميشال فوكو النقدية لنصِّ كانط نفسه، في ترجمة لشربل داغر. وقدَّم جميل قاسم للكتاب حول موضوع الأنوار وإطاره التاريخي والفكري وبداية السؤال الذي يطرحه كانط: "ما هي الأنوار؟" ويجد جوابه في خروج الإنسان من القصور وحالة العجز عن استخدام الفكر. إنه دعوة لاستخدام الفكر في جرأة وشجاعة واستقلالية. "لتكن لديك شجاعة استخدام فكرك بنفسك: ذلك هو شعار عصر التنوير." (ص30) ولكن بين المرء وتلك الضفة مسافة. فما هي الشروط المطلوبة بالنسبة إلى التنوير؟

 

يذهب كانط إلى أن لا شيء مطلوبًا حقًّا سوى الحرية، وفي معناها الأكثر براءة، "أي تلك التي تُقبِل على استخدام علني للعقل في كلِّ الميادين." ورغم ذلك، يقيم كانط التمييز بين استخدام عام للعقل واستخدام خاص. أما العام فهو ما يقوم به المرء حين يكون عالِمًا، وفي اتجاه الجمهور الذي يقرأ؛ في حين يتركز الخاص في ممارسته والعمل به من موقع مدني. وبين العام والخاص تقع علاقة المجتمع بالسلطة. ويراها كانط قائمة على التعاقد، وحجر الزاوية في ما يمكن تقريره لمصلحة شعب ما يتجسَّد في شكل قانون وفي صيغة سؤال: "هل يقبل هذا الشعب أن يهب نفسه قانونًا كهذا القانون؟" إنه يترك مجالاً للنقض والنقد وصوغ الملاحظات حول العيوب، فسحًا للتغيير من دون ذكره. وعلى المستوى الذاتي، نجد كانط يساير السلطة والملك فريديريك، فيدعوه "المستنير"، ويصوغ شعاره "تفكَّروا ولكن أطيعوا".

ويسأل كانط، بعد ذلك كلِّه: "هل نعيش الآن قرنًا مستنيرًا؟" والجواب مشروط بعناصر كثيرة – ولو أننا نسير نحو التنوير – تحمل الناس إلى ممارسة تفكيرهم الخاص في الأمور الدينية في إحكام وقدرة ومن دون نجدة الآخرين. وفي السطر الأخير ترتبط قضية الأنوار لدى كانط حكمًا بالعقل والحرية. وعبر نزوع بذرة الميل إلى الفكر الحر يؤثر هذا النزوع على أصول الحكم الذي سيرى من مصلحته أن يعامل الإنسان لا كالآلة، بل في تقدير واستحقاق وكرامة.

وإذا كان ما سبق هو جواب كانط في 1784 عن سؤال "ما هي الأنوار؟"، فما هو تعليق مفكر وفيلسوف حديث من وزن ميشال فوكو على ذلك؟

يرى فوكو أن التفكير يأخذ ثلاثة أشكال رئيسية في تبيُّن حاضره ودراسته: 1) في تمثيل الحاضر بوصفه جزءًا من عصر ما في العالم؛ 2) في مساءلة الحاضر لتبيان العلامات في نوع من تأويلية تاريخية؛ 3) وفي دراسة الحاضر كنقطة انتقال صوب فجر عالم جديد.

ويسأل فوكو كانط في قضية الاختلاف وفي المخرج الذي يميِّز الأنوار، وفي الشرطين اللذين وضعهما كانط للتمييز بين ما يعود إلى الطاقة وما يعود إلى العقل في "خاصة" و"عامة".

ويصل فوكو في تعليقه إلى قضية الحداثة ويسأل: هل هي تتمة للأنوار أم تطور لها؟ ومستندًا إلى نص كانط يتصور الحداثة موقفًا أكثر منها مرحلة تاريخية. ومميِّزًا موقف الحداثة يحيلنا فوكو على حداثة بودلير باعتبارها وعيًا يقطع الزمن، وقطيعةً مع التقليد، وبأنها "سعي إلى جعل الحاضر بطوليًّا". ويصف فوكو "الحداثة البودليرية" بأنها "تمرين يواجه فيه الاعتناء بالواقع ممارسةً حرة تحترم الواقع بقدر ما تغتصبه" (ص 62). أو لعلها تُخضِع الإنسان الحديث لمهمة بلورة ذاته. ويرى فوكو أن الأمر يستدعي سلسلة من التحقيقات التاريخية الدقيقة الموجَّهة صوب "الحدود الحالية للضروري"، وبالتالي وضع ذواتنا على محكِّ الواقع والأحداث لالتقاط نقاط التغيير وأشكاله.

ولكن فوكو، بعد التماسه آفاق التغيير، يعود ليؤطِّر العمل النقدي بكونه يشترط، ربما، الإيمان بالأنوار، ولكنه يستدعي العمل إلى ما أسماه "شكل تلهُّفنا إلى الحرية" (ص 71).

إننا حيال نصَّين لمفكرين كبيرين نستشف فيهما جليًّا الموقف الفلسفي المحكم. يربط كانط نصَّه في إحكام من الداخل والخارج ويميل إلى العقل (العقلانية) والحرية، وفي إرادة سلطة بلاط الملك فريدريك "المستنير"؛ في حين يتوقف فوكو عند المعرفة والاختلاف والتغيير والحداثة.

وبين كانط وفوكو، نحن أمام متعة الفكر الفلسفي المقارن، إن جاز التعبير. وفي زمنين ونصَّين ومرحلتين، نشهد كم تقترب الأفكار والمعاني والمفاهيم، وكم تتطور وتتفاعل وتتجاذب لتصبَّ في المبدأ الإنساني الشامل وأبعاده، وفي الإضافات الفكرية، وفي الرحلة من العقل والحرية إلى إرادة المعرفة، في سياق تنويري بليغ.

نشير أخيرًا إلى أن مقدمة قاسم تؤكد على الأنوار والنهضة والإصلاح الديني كمقومات ثلاثة للحداثة. وقد حاولت المقدمة مقاربة ذلك من زاوية واقعنا العربي. وفكرة الكتاب أصيلة وعميقة ولم تتعدَّ صفحاته الـ74 من القطع الصغير.

على أن ثمة ملاحظتين في الشكل: 1) ضرورة وضع تاريخ صدور الكتاب والنصوص المستلة لكانط وفوكو وذكر مصادرها والسياق الذي وردت فيه؛ 2) كان مستحسنًا إرفاق الكتاب بنبذتين مختصرتين عن كانط وفوكو وبثبت بأهم مؤلفاتهما.

*** *** ***

عن النهار، الثلثاء 26 تشرين الثاني 2002


* صدر في منشورات "دار الأنوار"، 2002.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود