الرهينة الكونية

 

عقل العويط

 

أبحث عنكَ في الواقع وفي الوهم، في مصانع القنابل الذرية وفي أوجاع البيئة والطبيعة المهيضة الجناح، في الحروب وفي السلم الكاذب، في أذهان الجهلة وفي عقول المخترعين، في المدن وفي الأرياف، وفي الأبراج الشاهقة وبين الركام. أبحث عنكَ في الشمال وفي الجنوب، في الشرق وفي الغرب. في الولايات المتحدة وفي أفغانستان، وفي إسرائيل وفي الدول العربية. أبحث عنكَ في الغنى وفي الفقر، في الضعف وفي القوة، في العدالة وفي الظلم، وفي بيارق الديموقراطيات وعلى أسنَّة الديكتاتوريات. أبحث عنكَ في الظاهر وفي الخفيِّ، في المعلَن وفي المضمَر، في الكاذب وفي الصادق، وفي الموت وفي الحياة.

وبالأمس، بحثتُ عنكَ في الهجوم الوحشي على بُرجَي "مركز التجارة العالمي" وفي شعارات الانتقام للظلم المستشري في كلِّ مكان. وها أنا ذا أبحث عنكَ اليوم في هذا الردِّ الكوني على ذاك الهجوم السوريالي، وفي المصالح التي تُملي إراداتِها على الدول، وفي التألب الدولي الكاذب دفاعًا عن الديموقراطية الجريح، مثلما أبحث عنكَ في الإيمان وفي الإلحاد، وفي النورانيات والظلاميات والأصوليات، على اختلاف أنواعها وأشكالها. وأبحث عنكَ في الإرهاب الجهنمي، المتعدِّد الاسم والمتعدد الهوية والمتعدد الجنس والمتعدد المعنى والمتعدد الشكل، من أقاصي الأرض إلى أقاصيها الأخرى.

وأبحث عنكَ، في هذه الجهة، لدى الذين يرفعون شعارات الحرية والديموقراطية والعدالة والمساواة، مثلما أبحث عنكَ لدى الذين يقفون في الجهة المقابلة ويرفعون الشعاراتِ نفسَها. وأبحث عنكَ لدى الأنظمة جميعها، في الولايات المتحدة وروسيا وآسيا وأوروبا وأوقيانيا وأفريقيا وأوستراليا وفي مجاهل إسرائيل وفي ظلمات الدول العربية. وأبحث عنكَ، أيضًا وأيضًا، في سوريا وفي لبنان، وخصوصًا لدى الأحزاب الحاكمة والأحزاب المنتظَرة أن تحكم، وفي السجون كما في الساحات والأماكن العامة.

لقد بحثتُ وسأظل أبحث عنكَ حتى الأنفاس الأخيرة، حتى إذا عثرتُ عليكَ صرختُ بأعالي صوتي وقلبي، ودعوتُ الذين ينادون بكَ وينوبون عنكَ ويقتلونكَ في كلِّ مكان وزمان، ليروا ماذا تفعل أيديهم بكَ. لقد بحثتُ عنكَ، أيها الإنسان، في كلِّ مكان تقريبًا، ولم أجدكَ!

فأين أنتَ أيها الإنسان في كلِّ ما يجري؟ أين أنتَ، يا من ترفع المدنياتُ الحديثة والقبائل الألفية شعارَكَ في كلِّ مكان، زاعمةً أنها تريد خيركَ وسلامكَ وازدهاركَ؟ أين أنتَ أيها الإنسان الذي تُقرَع من أجلكَ طبول الحرب في الديموقراطيات الكاذبة، وتُعلَن الجهادات في سبيلكَ ولرفع الظلم اللاحق بكَ؟ أين أنتَ أيها الإنسان الذي تُدَكُّ الأبراج من أجلكَ، ويُستنفَر العالم بأسره لرفع الإرهاب الذي يلاحقكَ ويقضُّ مضاجعكَ؟ أين أنتَ، يا من تُسحَق سحقًا في العالم أجمع، وتموت مدنيةً وغنىً وبحبوحةً وازدهارًا، وتموت جوعًا وفقرًا ومرضًا وظلمًا وتعاسةً وقهرًا واستبدادًا ويأسًا و... أملاً؟

أين أنتَ أيتها الرهينة الكونية التي يغسل جميعُ أهل الكون أيديهم تبرئةً لأنفسهم من دمائكَ النازفة في كلِّ أرض؟ أينَ أنتَ في كلِّ ما يجري، أيتها الكذبة الواهمة، أيها السراب الأكثف من رياء الحقيقة؟! فمادمتَ هدفَ البشرية جمعاء، ومبتغاها وأملها ورجاءها، ومادمتَ غايةَ الغايات، تُرى لماذا لا أراكَ إلا قتيلاً، وفي كلِّ مكان؟ فها أنا أراكَ حقًّا في كلِّ مكان وفي كلِّ شيء، إلاَّ حيث تكون مصالح الأنظمة والدول والحكومات وهذه القطعان البشرية الذاهبة بلا تردد إلى حتفها الأبدي؟

قلْ لي: ألم يحن الأوان لكي تخرج من صمتكَ فتنفجر وتضع حدًّا لكلِّ ما يجري باسمكَ؟ قلْ لي أيضًا: مادام هذا التكاذُب متحكِّمًا برقبة هذه الحياة، فلماذا، لماذا، أيها الإنسان، تُتعب نفسكَ وتُتعبنا بالانتظار، ومعنا هذه الأجيال المقبلة التي تحلم بالمستقبل؟ قلْ لي أخيرًا: لماذا لا تخرج من موتكَ لتلعن هذه البشرية بأسرها وتمحو شرَّها وفسادها وتزهق باطلها وروحها عن بكرة أبيها، فتصير الأرض قفرًا بلقعًا؟

لا أكتب دعوةً إلى التيئيس، بل تذكيرًا بقول بول فاليري: "ضعف القوة أنها لا تؤمن إلا بالقوة"؛ وتذكيرًا أيضًا بقول ألبير كامو: "عندما نصبح جميعنا مذنبين، آنذاك تتحقق الديموقراطية"، التي – والكلام الآن لأندرِه مالرو – "رأيتُها تتدخل ضدَّ كلِّ شيء تقريبًا، باستثناء تدخلها ضدَّ الفاشيات"!

فإذا كنتُ أبحث عنكَ أيها الإنسان، فلأجل كلمة حقٍّ ينبغي لها أن تكون الآن عاليةً، أكثر من أيِّ وقت مضى. وأعتقد أن كثرًا مثلي في الأرض يؤمنون بها ولا يقولونها...

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود