محاولات في فهم الشعر

 

بيان صفدي

 

سأحاول في هذه الصفحة أن ألقي الضوء على مجمل المفاصل التي تضيء المسألة الشعرية وتساعد على فهم الشعر عبر التموُّجات التي شهدتْها مسيرتُه.

علينا أن نتذكر أن الدوافع الأولى للشعر ارتبطتْ بالسحر والدين والعمل، وظلَّت للكلمة في القصيدة ظلالٌ تنبعث من حاجة إلى التعالي والبوح والاندماج مع الوجود. والنماذج التي وصلتْنا تبيِّن أن القصائد الأولى كانت ذات أبعاد أسطورية وحسِّية تشدِّد على الإيقاع، مما يقرِّب تلك القصائد من الطقوس والتراتيل البدائية.

ومهما اختلفت التعريفات التي تسمِّي الشعر فإن العنصر الخيالي أساس فيها. فالقصيدة، في الأساس، بناء حلمي يقوم على تكوين عوالم مدهشة باللغة. فهل نستطيع أن نحدِّد النقطة التي تتحول فيها اللغة إلى شعر أو نثر؟ يا له من سؤال أخذ الكثير الكثير من الجهد! باستطاعتنا، على كلِّ حال، أن نفرِّق بين الشعر وبين النثر من خلال ثلاثة عناصر كبرى:

1. الشعر تغيير لغوي: وأعني بذلك أن وظيفة اللغة في النثر إبلاغية وإفهامية ومنطقية وتواصلية للتعبير عن الحاجات في إطارها التبادلي. أما في الشعر فيطرأ على اللغة تغيير جوهري في الوظيفة، فتغدو بناءً مقصودًا لذاته، فتكفُّ عن كونها أداةً لتصبح غاية؛ أي أنها ليست مجرد وسيلة خطاب، بل تحولت إلى صانعة تخييل وتعجيب ضمن آلية لا يحدِّدها سياقٌ منطقي. ولا أعني أن اللغة تكفُّ عندئذٍ عن أن تكون مفهومة، بل أعني أنها تصبح هي ذاتها التكوين الذي نحكم من خلاله على المادة الشعرية.

إنني لا أحتاج إلى ضرب مثال من النثر. ولكن تعالوا إلى أمثلة شعرية لنتأمل ما الذي حلَّ باللغة. يقول الشريف الرضي:

خلا منك طرفي وامتلأ منك خاطري

كأنك من عيني نُقِلت إلى قلبي

ويقول نزار قباني:

ماذا سأقرأ من شعري ومن أدبي

حوافرُ الخيلِ داستْ عندنا الأدبا

وحاصرتْنا وآذتْنا فلا قلمٌ

قالَ الحقيقةَ إلا اغتيلَ أو صُلِبا

ثم انتبهوا معي جيدًا إلى هذا المقطع لأدونيس:

قبل أن يأتيَ النهارُ أجيءُ

قبل أن يتساءلَ عن شمسِه أضيءُ

وتجيءُ الأشجارُ راكضةً خلفي

وتمشي في ظلِّيَ الأكمامُ

ثم تبني في وجهيَ الأوهامُ

جزرًا وقلاعًا من الصَّمتِ

يجهلُ أبوابَها الكلامُ

ويضيءُ الليلُ الصديقُ وتنسى

نفسَها في فراشيَ الأيامُ

ثم إذ تسقطِ الينابيعُ في صدري

وترخي أوزارَها وتنامُ

أوقظُ الماءَ والمرايا وأجلو

مثلها صفحةَ الرؤى وأنامُ

إننا هنا أمام لغة غادرتْ دلالاتِها المعتادة، وأخذت تلعب لعبة غير مألوفة. إنها لعبة الخلق! بهذه اللعبة تحاول اللغة أن تنقل الإيحاء أو الفكرة، لكن في معرض نستطيع فيه أن نتمتع بتأمل بنائه. اللغةُ في هذه الشواهد تركتْ دلالاتِها المألوفة جانبًا ودخلت في عملية تركيب تخصُّ الشاعر. لذا فالمبدع هنا يكوِّن جملاً تخصُّه، ويبني مشهدًا يرسم تفاصيلَه وحدوده. انظروا إلى تنوع البناء اللغوي فيما أوردتُه من شواهد، حيث تشفُّ التراكيب في بيت الشريف الرضي، وتتضح وتغلب عليها القسوة والشراسة في بيتي نزار قباني. أما عند أدونيس فتتحول الأبيات كلُّها إلى حلم متداخل؛ والأمر يعود إلى أن في أبياته طابعًا صوفيًّا تأمليًّا تنقطع فيه أية صلة منطقية بين الأجزاء المكوِّنة.

ربما قال أحد: أليس في النثر لغة تختلط بالشعر؟ لا أحد ينكر ذلك. ليس هناك سور صيني بين النثر والشعر؛ ولكن المسألة تتعلق بدرجة أو كمية التغيير التي تتعرض لها اللغة. لذا فإن في الشعر دائمًا كمًّا طاغيًا من الانزياحات التي تطال الحروفَ والمفرداتِ والجُّمَلَ، تجعله مختلفًا نوعيًّا عن النثر. وهذا الأمر من المباحث الأولى التي قامت عليها مدارس نقدية حديثة، راحت تبحث فيما يسمى بـ"الشعرية". وهناك مفارقة طريفة في هذا الخصوص، حيث تصبح الكلمة أكثر تأثيرًا عندما تنتهكُ النظامَ المألوفَ والواقعي لوظيفتها الأصلية.

إن قولنا "القمع اضطهد المبدعين" يختلف في قوته وتأثيره عن قولنا إن "حوافر الخيل داست الأدب". وقولُ العاشق الذي غابت حبيبتُه إنه لم يعد يراها ولكنه لن ينساها بعيدٌ بعدًا هائلاً عن القول إنها "انتقلت من عينه إلى قلبه"، كما مرَّ معنا. هنا تقوم اللغة بـ"أسْطَرَة" المشاعر والأشياء، حيث تخلق عالمًا آخر يبنيه المبدعون في موازاة العالم الذي نحسُّ به ونحياه. بهذا المعنى يجب أن نتفهم التعبيرات الحديثة التي تقول بتكسير اللغة واختراق نظامها. لهذا قال الفارابي:

إن المعرفة الحقة هي غاية الفلسفة وليست غاية الشعر، ووسيلتُها الأقاويل البرهانية التي هي أشد أقسام المنطق شرفًا وأحقها بالرياسة، وليست الأقاويل الشعرية.

وكم كان ابن سينا دقيقًا عندما تحدث عن وظيفة "التفهيم" في النثر و"التعجيب" في الشعر.

لكنْ أودُّ أن أنبِّه إلى أن التغيير اللغوي في الشعر لا يتعلق بالمجاز وحده، ولكنه يتناول الوظيفة الكلِّية التي نلمسها في نصٍّ كامل؛ وهو ما قد يشبه مجاز الفكرة، حيث نكون أحيانًا أمام لغة شديدة البساطة وسهلة التوصيف، لكنها تؤدي أخيرًا إلى انعطاف مفاجئ في الدلالة. فلنستمع إلى قصيدة "حكمة" للشاعر شيركوه بيكَس:

ثمة أشياءٌ كثيرة

ينخرُها الصدأُ

ويلفُّها النسيان

ثم تموت

مثل التاج

والصولجان

والعرش

وثمة في الدنيا

أشياءٌ أخرى كثيرة

لا تهترئ

ولا يدركُها النسيان

ولا تموت أبدًا

كقبعة

وعصا

وحذاء

شارلي شابلن

2. الإيقاع: مسألة الموسيقى من أكثر المسائل إثارة للخلاف الآن. فمن المسلَّم به أن الشعر في العالم عَرَفَ الإيقاع كواحدات موسيقية متناظرة ضمن نظام محسوب ومقيَّد. صحيح أن الناس رأوا في الكثير من النماذج التي خَلَتْ من الوزن ظلالاً شعرية، إلا أن الموسيقى المنضبطة ظلت مظهرًا أساسًا للتمييز بين الشعر والنثر، حتى في تراثنا. فإننا نقرأ قول الفارابي:

القول، إن كان مؤلفًا مما يحاكي الشيء ولم يكن موزونًا بإيقاع، فليس يُعَدُّ شعرًا ولكن يقال هو قول شعري.

ونجد عندنا أن شعرنا قد عرف القصيدة العمودية التي تعتمد على التناظر والتقفية الموحدة والمتنوعة والإرسال (من غير قافية)، حتى ولدت قصيدة التفعيلة الحرة بتنوعاتها، إلى أن طُرِحَت مسألة قصيدة النثر.

ويطمح معظم من يكتبون قصيدة النثر إلى خلق إيقاع حرٍّ ينبع من بناء الجملة ومن تكوينات الأسطر والحيل البلاغية المتنوعة. ولو أخذنا بتقسيم أحد كبار النقاد في العالم فإنه يقسم الشعر والنثر إلى أربعة أقسام: فهناك قصيدة نثرية، ونثر منظوم، وشعر كامل، ونثر كامل. فالقصيدة النثرية تبقى بعيدة عن الضبط الصوتي، وليس في بنيتها تركيز على الإيقاع؛ أي أنها منصبَّة باتجاه الإيحاء الشعري بصورة شبه كاملة. لكن لا ننكر أن هذا الشكل الجديد قد زاد من البلبلة التي أصابت جمهور الشعر، حيث كادت الفواصل تمَّحى بين الشعر والنثر، وغدا الاستسهال طابعًا عامًا في الكتابة. ولا أعني هنا أن الوزن مقدس، أو أنه ليس هناك أطنان من المنظوم أسوأ من النثر العادي، ولكني أسلِّم بلا شك أن الوزن قيدٌ جميل من القيود التي تزين القصيدة؛ كما إنني أؤمن أن الحرية في الفن هي دائمًا رقصٌ في القيود الكثيرة.

3. الحالة: إن لكلِّ نص اتجاهًا أوليًّا نحو هدفه. ففي النثر فكرة واضحة ومتسلسلة ومتعاقبة وحرة تمامًا، لأنها أساسًا لا تندفع نحو تهويم ما. إنها لا تنطلق من حالة بناء وجداني؛ لذلك فالرقابة والسيطرة العقلية والتنظيم مرافقة لها. أما في الشعر فنحن أمام حالة مستقلة تمامًا. فحتى عندما نقرأ الشعر نضع أنفسنا ضمن الحالة الشعرية، نبطئ ونتوحد ونتأمل وننتظر الدخول في سماوات اللغة الشعرية. والشاعر، عندما يكتب، يكون في الحالة الشعرية التي لا يمكن توقيتها أو تصنيعها، حيث لا تولد القصيدة إلا عندما تسيطر على الشاعر حالةٌ كاملة، نفسية وعضوية، تدفعه إلى التعامل مع اللغة كأنها تمائم تقال في كهف أو معبد.

في النثر ننطلق مسرعين: تتكامل الفكرة، نتتبعها غير آبهين بالأدوات، إلا من حيث أداؤها للمعنى. في الشعر نتباطأ ونتوقف وسط اندهاش من البناء اللغوي نفسه وما يحويه من طاقة تخييل وتجسيد وتجريد معًا.

هناك كلام رديء يُحسَبُ على الشعر لا يستطيع أن يحقق هذا الشرط، لأن القصيدة لا يمكن لها أن تولد خارج هذا الشرط الأولي، وأعني الحالة الشعرية. هذه الحالة نراها في الحياة: أناس متوجهون إلى أعمالهم، أناس يتناولون طعامهم، جيران يتبادلون الشتائم، رجل يركب دراجة، إلخ – هذه من نثر الحياة. كفٌّ تلوح من بعيد، وردة خارجة من صخرة، مقعد في حديقة تعلوه أوراق صفراء، دموع أمٍّ قرب ابنها المسجَّى – هذا من شعر الحياة.

لهذا كثيرًا ما يجري الحديث عن الإلهام والوحي وشياطين الشعر، لأن القصيدة كانت دائمًا وليدة حالة خارج مألوف النفس البشرية، وضمن الانبثاقات الخاصة لهذه النفس. ليس غريبًا بعد هذا أن يقرِن القرآنُ الكريم بين الشعر والأوهام والجنون والغواية في أحيان كثيرة:

بل قالوا أضغاثُ أحلام، بل افتراهُ، بل هو شاعرٌ (الأنبياء 5)

ويقولون أئنا لَتاركُو آلهتِنا لشاعرٍ مجنون (الصافات 36)

والشعراءُ يتَّبعهُمُ الغاوونَ (الشعراء 224)

الشعر والحب والموت

المتأمل لتاريخ الشعر في العالم يرى أن هناك هيمنةً للحب والموت. ولعل هذا الاقتران الخالد قد تجلَّى تجليًّا عظيمًا في ملحمة جلجامش التي عرفها تاريخنا القديم. إن رعشة الإنسان أمام مباهج الجسد لا تعادلها إلا رعشة مقابلة أمام الموت. فامتلاء حياتنا بهذين القطبين يدفعان عربة الشعر باستمرار على طريق البشر. ولو تأملنا أكثر القصائد الخالدة لدى الشعوب لرأيناها تصور الحبَّ كرمز للحياة وفجيعة المصير البشري فوق هذه الأرض لأن الموت في الختام هو الحقُّ الدائم الذي يلتهم طاقة الحياة. ألم يقل عظيمُنا المتنبي منذ ألف عام:

انعمْ ولُذْ فللأمورِ أواخرٌ

أبدًا‌ إذا كانتْ لهنَّ أوائلُ

ما دمتَ من أربِ الحسانِ فإنما

روقَ الشبابِ عليك ظلٌّ زائلُ

للَّهوِ آونةٌ تمرُّ كأنها

قُبَلٌ يزودها حبيبٌ راحلُ

جمحَ الزمانُ فما لذيذٌ خالصٌ

مما يشوبُ ولا سرورٌ كاملُ

وقد يكون مناسبًا هنا أن ألمِّح إلى تجربة شعرية حاولتْ أن تواجه الموت من خلال محاولة قهره شعريًّا. وإذا كنا نرى أن ذلك تعبير عن أزمة تعكس رهبة المصير فإنه، في الوقت ذاته، حلٌّ شعري باهر. ففي جدارية محمود درويش، حيث حاول الشاعر أن يترك وصية شعرية تنحاز إلى الحياة، يقول في مقطع يلخِّص فكرتَها:

أنت مسؤولٌ عن الطينيِّ في البشريِّ

لا عن فعلِه أو قولِه.

هزمتْكَ يا موتُ الفنونُ جميعُها

هزمتْكَ يا موتُ الأغاني في بلاد الرافدين

مسلةُ المصريِّ، مقبرةُ الفراعنة،

النقوشُ على حجارةِ معبدٍ

هزمتْكَ وانتصرتْ،

وأفلتَ من كمائنكَ الخلودُ

فاصنعْ بنا، واصنعْ بنفسكَ ما تريدُ

الشعر والسياسة والسلطة

لم يتوقف الشعر يومًا عن تناول الشأن السياسيِّ ملخَّصًا في قطبي الحرية والعدالة. وما هو جدير بالإشارة هنا أن الشعر لا يمكن أن يبتعد عن السياسة بهذا المعنى، بل قد يؤدي وظيفة سياسية احتجاجية أو تحريضية. ولكن الشعر عانى على الدوام من الاستخدام أو الاستتباع في علاقته بالسلطة؛ وبهذا يدخل في باب التكسُّب الذي جرَّ على الشعر والشعراء الكثيرَ من الاحتقار وهبوط الأداء. بهذا المعنى تنقل السياسةُ الشعرَ من قمته إلى الحضيض. جاء في كتاب الزينة للهمداني قوله:

كانت الشعراء عند العرب في الجاهلية بمنزلة الأنبياء في الأمم، حتى خالطَهم أهلُ الحضر فاكتسبوا بالشعر، فنزلوا عن رتبتهم. ثم جاء الإسلام ونزل القرآن بتهجين الشعر وتكذيبه، فنزلوا رتبة أخرى. ثم استعملوا الملق والتضرع، فقلوا واستهان بهم الناس.

ومن المؤسف أن استتباع الشاعر في عصرنا الحديث قد جرى تحت يافطات الحرية والثورية. ووصل الأمر إلى أن كثيرين دفعوا حياتهم، قتلاً أو سجنًا أو تضييقًا، من أجل أن يدخل شعرُهم في الدعاية الرسمية للدولة. إن قيمة الشعر – إخلاصَه للسياسة الحقيقية – لا يمكن أن تكون في تمثيله لهذا الحزب أو ذاك، وإنما في انحيازه الدائم إلى نبض الحياة اليومية للبشر العاديين، وفي دفاعه عن الحرية والعدالة للجميع، وفي مجابهته للقتل والقمع والتعذيب والتجويع والتجهيل. وفي أدبنا عرفنا صورًا كاريكاتيرية لعلاقة الشعر بالسياسة.

لقد احتج ذات يوم الناقد محمود أمين العالم على الحزن في شعر صلاح عبد الصبور، واستهجن أن يُكتَبَ هذا الشعر في زمن السدِّ العالي! وكثيرون أدانوا شعر محمد الماغوط لأنه مفرط في حزنه وغضبه على الجميع. فإذا كان مطلوبًا من الشعر أن يمنح أملاً عميقًا بالحياة فإن عليه، في الوقت نفسه، أن يجسِّد آلام الناس، وأن يظل شاهدًا أمينًا على الحياة.

وأريد أن أنبِّه إلى أن تيارًا واسعًا في شعرنا الحديث أراد أن يلغي أو يقزِّم علاقة الشعر بالسياسة، أي بالقضايا الكبرى لإنساننا، وأن يثير الشكوك في كلِّ شعر يتخذ من تلك القضايا منطلقًا له؛ فسادت لغة اتهامية تخلط بين السياسة كحياة في الشعر وبينها كوسيلة استجداء وتقرب من الحاكم وآلته الدعائية. وفي الوقت الذي علينا أن نؤمن بحرية الشاعر المطلقة في أن يكتب ما ينبع من وجدانه فإن التنظير لإبعاد الشعر عن الهمِّ السياسي يكشف عن جهل بتاريخ الشعر، حينًا، وعن غرض سياسيٍّ مفضوح، حينًا آخر.

الغموض والوضوح

يقرِّر النقاد أن الشعر، عبر تاريخه، يميل إلى الغموض. ففي نشأته الأولى كان محدودًا في الصورة، وعلاقات الكلمات قائمة على حدٍّ من المقاربة. ونعرف في شعرنا القديم أن الصور الشعرية ظلت محدودة ومحصورة كثيرًا في إطار التشبيه الحسِّي. لكن اللغة الشعرية، بعد ثورة العصر الحديث بمنجزاته، أخذت تنعكس على فهم اللغة الشعرية وحدود المجاز. صحيح أن هناك شعرًا غامضًا قديمًا، ولكنه نادر؛ وغموضُه ينبع من التركيب اللغوي واستخدام الغريب. لكن المشكلة مع الشعر الحديث نبعت من اختلاف وظيفة الشعر، أولاً، ومن الرؤية الحديثة للغة. الشاعر الحديث لم يعد لسان حال قومه وأغراضهم المعروفة، من تمجيد لأيامهم وأنسابهم وهجو لأعدائهم ووصف لما يحيط به. فقد صار الشاعر مثقفًا، يعبِّر عن رؤيا شاملة للحياة؛ فتكثَّفتْ عنده المعاني والرموز والدلالات، وصار الشعر الحديث فنًّا يحتاج إلى خبرة ثقافية واسعة. كما شاعت في الشعر أجواء صوفية، بما فيها من شطحات ورؤى وتهويمات بعيدة، قليلاً أو كثيرًا، عن إدراك القارئ العادي. كذلك صارت لغة الشعر أبعد في علاقاتها، وراح المجاز يوغِل، حتى انبهمت الدلالة؛ وقد لا يرشح شيء من المعنى أحيانًا.

لكن الشعرية لا تتحدد بالغموض. فهناك شعر واضح جدًا، وشعراء قادرون على تحقيق معادلة صعبة جدًّا، تجمع بين الوضوح الشديد والفنية العالية. والوضوح في الشعر له أساليب عديدة: فهناك وضوح ينبع من قرب العلاقة بين المشبَّه والمشبَّه به، أو المجاز الذي يوحي بمعناه على الفور؛ وهناك وضوح خادع يخفي وراءه عمقًا وكثافة. وهذا ما نجده فيما يسمى بالقصيدة اليومية، وهي التي تنطلق من البسيط من المشاعر والأشياء. وهناك شعراء برعوا في هذه الطريقة. إن طبيعة العلائق اللغوية تسمح للفكرة الشعرية أن تصل بسهولة أو تتعقد. فعندما يقول الشاعر عادل محمود:

تدلِّي... هكذا

أمام قلبي

كالصفصاف على الينابيع

نستطيع أن ندرك أن امرأةً جميلة، كأنها شجرة تتدلِّى، وكلمة "الينابيع" تختزن الثريَّ من دلالات الريِّ والجمال والعذوبة؛ وبالتالي، ليس من حاجز بيننا وبين هذا التشبيه. كذلك نحن نفهم قول محمد الماغوط:

أنا راحلٌ وقلبي راجعٌ مع دخانِ القطار

فلن يكون صعبًا أن ندرك التشبث الحنون بالمكان، من خلال قلب لا يغادر؛ فسرعان ما يعود مع تحرك القطار، وحده – وهو رمز الحب الكثيف.

بيد أن الأمر لا يسير هكذا دائمًا. فقد تتلبَّد الصور الشعرية والكلمات بضباب لغة لا تشفُّ بيسر. لنقرأ محمود درويش:

في المساءِ الأخيرِ على هذه الأرض نقطعُ أيامَنا

عن شجيراتِنا، ونعدُّ الضلوعَ التي سوف نحملُها معنا

والضلوعَ التي سوف نتركُها ههنا في المساءِ الأخير

لا نودعُ شيئًا، ولا نجدُ الوقتَ كي ننتهي...

كلُّ شيء يظلُّ على حالِه، فالمكانُ يبدِّل أحلامَنا

ويبدِّل زوَّارَه. فجأة لم نعدْ قادرين على السخرية

فالمكان مُعَدٌّ لكي يسضيفَ الهباء.

فالغموض هنا ينبع من تشتت الدلالة، لأن الجُّمَل مبنية على البعثرة المقصودة. فليس هنا تكامل في المشهد، بل أجزاء شعرية تتلاصق بطريقة اعتباطية إلى حدٍّ كبير. وهذا ملمح مهم من ملامح الغموض في الشعر الحديث. والأمر كثيرًا ما يصل إلى أفق مسدود من هذيان لغوي تام نجده عند توفيق صايغ وشوقي أبي شقرا وبول شاؤول وعبد القادر الجنابي، تمثيلاً لا حصرًا. في هذا الشعر تتفكك اللغة والصورة والروابط، وتتحول اللغة إلى عماء تام. إننا نكاد لا نحسن حتى قراءة قصيدة يرد فيها لعلي سفر ما نصُّه:

مثل اعتقادِ دقائقَ نافقه

قطرٌ يشاءُ الأعلى

تبرئةَ الوقتِ إلى أسفلٍ متاح

هكذا...

أو حين يواشجُ كربٌ مختالٌ بخصيتِه

معاقرةَ المدنِ وصناعةَ النسلِ

دون معانيها الملحَّةِ

دون السماء

التكثيف والامتداد

في الشعر تواجهُنا قصيدتان مختلفتا الأسلوب، واحدة ترتكز جماليتُها على التكثيف، وأخرى تعتمد التفصيل والإشباع في حوارها ومشاهدها وتتبُّعها لتفاصيل الفكرة الشعرية. ففي التكثيف نكون أمام قصيدة وامضة، تبعد عن مركزها كلُّ الهالات التي قد تولدها اللغة الشعرية، ويغدو همُّ الشاعر منصبًّا على ضغط الحالة الشعرية إلى أقصى حالات الاقتصاد اللغوي. يقول فؤاد كحل:

كلُّنا ضيوفٌ

لا أحد سيبقى

هذا ما قالَه أبي قبل أن يرحل

كلُّنا ضيوف

الحياةُ وحدَها صاحبةُ هذا المنزل

هذا التكثيف المبني بعناية يعمل على صقل اللغة وتركيز الضوء على بؤرة المعنى الوحيدة القائمة على تأليه الحياة، وتنصيبها على عرش الزمن، من خلال جمل بساطتُها خادعة، لأنها تخفي في ثناياها فكرةً عميقة وشاملة. وللشاعر حسين بن حمزة جهدٌ جميل في كتابة القصيدة الكثيفة التي تميل إلى أن تنحت كلَّ كلمة فيها:

أنحني على القصيدة

أدبِّرُ للورقِ

جرائمَ المخيلة

ويقول:

ما أريده...

أن تخرجي من حياتي

وأنا لا أصنعُ شيئًا

سوى أن أستمعَ إلى الموسيقى

ترافقُ وقعَ ياسمينك

على الدرج.

ويقول:

حياتي الآن

مثلُ حقلٍ مكشوفٍ

لظهيرتِكِ الحارة

وقصائد محمود عبد الواحد مثال آخر على الشعر الكثيف الذي لا يميل إلى الاستطالات الفنية من أي نوع؛ ففي شعره دائمًا تأمل مشبع بالتأمل والحلمية الثرَّة وشفافية العلاقات في اللغة والتكوين العام للقصيدة. ها هو ذا يكتب في قصيدة "خزانة الملابس":

محشوةٌ مثل روحي

بأرديةٍ فارغة

ملفوفةٌ مثل روحي

بأقمطةٍ من غبار

تئنِّين من أذرعٍ لا أكفَّ لها

وسراويلَ لا سيقانَ فيها

من صِدارٍ بلا صُدور

وياقاتٍ بلا أعناق

ومثل روحي تنتظرين من يفتحُكِ

ويملأ بلهيبِ قلبِه

خواءَ ثيابِك

أما في البنية الممتدة، أو العنقودية، أو التركيبية، أو الدرامية، فتنحو القصيدة منحى ذا أفق مفتوح وله مستويات متعددة. فلو أخذنا قصيدة "الحوار الأخير في باريس" لمحمود درويش – وهي مهداة لعزِّ الدين القلق – فإننا سنكون أمام مستويات متعددة في الأداء الشعري، بدايةً قصصية سردية، كأنها مشهد من فيلم سينمائي:

على بابِ غرفتِه قال لي:

إنهم يقتلون بلا سببٍ

هل تحبُّ النبيذَ الفرنسي

والمرأةَ الشاردة؟

تطلَّعَ خلفَ الجهاتِ، وحاولَ أن

يفتحَ البابَ، لكنَّه خافَ أن يخرجوا من خزانتِه

فرجعنا إلى المصعد...

الساعة الواحدة...

وتنثال التداعيات في القصيدة، يتخلَّلها الحوارُ، وتسرع الجُّمَل حينًا، وتتباطأ وتمتد حينًا آخر، وتعتمد اللغة على المباشرة مرة، وعلى التخييل مرة ثانية. وفي لحظة الختام تتوتر اللغة، وتتعاضد الصور والتشبيهات، وتتسارع المشاهد، فنقرأ:

على بابِ مكتبِه شجرُ الكستناء

ومقهى صغيرٌ

وقوسُ حمام

يرى طالبًا عربيًّا فيرمي عليه السلام

يردُّ بطيئًا

ويشربُ قهوتَه

يصعدُ السلَّم الحجري

سريعًا كعادتِه مثل طيرٍ يبلِّله البرقُ.

يدخلُ غرفتَه. يتأمل أوراقَه والخريطةَ

والشهداءَ الكثيرين فوق الجدار

ويقرأ برقيةً من دمشق "تعال مع الصيف يا ابني"

وبرقية من بقية بيروت "شدِّد عليك الحراسة"

لم يتساءلْ لماذا يريدون أن يقتلوه

ولم يتذكرْ بلادًا تنامُ على صرَّةِ الله مثل المسدَّسِ

لكنهم أخبروه

أن صاحبَه الطالبَ العربيَّ يريدُ مقابلةً عاجلة

فألقى عليه تحيتَه الشاردة

وردَّ بأقصرَ منها... وبالطلقة القاتلة

وعادَ إلى شجرِ الكستناءِ

ليشربَ قهوتَه الباردة.

إن القصيدة الممتدة لا تحتمل أن تسير على وتيرة واحدة. إن التنوع فيها حلٌّ طبيعي لطولها، حيث تتخلَّلها استراحاتٌ وتوترات تمنح القصيدة الحيوية والنمو. ويستطيع الشاعر أن يجرب عدة أدوات فنية دفعة واحدة لتساعد في تقديم قصيدة طويلة وغنية بمكوِّناتها اللغوية والصوتية.

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود