ثقافتنا تتسع للفساد...

والطائفية أصبحت إيديولوجيا في هذا الزمن

نفتقد ثقافة التواصل عندما نفتقد ثقافة التكيُّف والتغيير

 

هاني فحص

 

 العلم، كمعرفةٍ محايدة، يمكن أن يكون واصِلاً أو قاطعًا، بصرف النظر عن حقوله المتعددة. وهل الحروب إلا ثمرة من ثمرات المنجزات العلمية المختلفة؟ هذا في حين أن السلام لا يمكن إلا أن يقوم على العلم، على التبادلية أو التداولية المعرفية – إذا ما كانت الحروب تقوم على الحصرية العلمية. وحين تتحول المعرفة العلمية إلى ثقافة فإنها لا تجد كمالها وحيويتها إلا في التثاقف، أي التداول والتبادل والتعارف، أي إضافة الآخر إلى الذات وإضافة الذات إلى الآخر، بعيدًا عن التبعية أو الاستتباع، وسبيلاً إلى الإبداع والحياة.

ومن هنا فالتواصل ثقافة، والثقافة تواصل. فكيف نحقق ثقافتنا في التواصل؟ أي كيف نكتشف أن "الآخر"، بوجوده المادي والفكري، ضرورة لنا، معرفيًّا وحياتيًّا؟ وكيف نحقق تواصلنا في الثقافة؟ أي كيف نكتشف أن معارفنا نسبية، مصرِّين على أن المعرفة هي وظيفتنا الإلهية والإنسانية، وأن نسبة الحق والحقيقة لدينا تزداد بالشراكة، أي بالتبادل مع الآخر، أيِّ آخر، في معارفه واستلاف ما يملك من حقائق بفوائد عالية ومركَّبة تضمن لنا وله المزيد من الثراء – مقابل فتح أرصدتنا لتسليفه مما نملك، بفوائد عالية ومركَّبة أيضًا؟

ذلكم هو السؤال المعرفي والعلائقي الدائم والخالد، الماضوي والراهن والاستقبالي، الذي يستدعي جوابًا متجددًا كلما تجددتْ أسبابُ القطيعة بيننا، وكلما كان العلم مهدَّدًا بخطر تحوُّله أو تحويله إلى احتكار للمعرفة والحياة، والمعرفة بالحياة، والحياة في المعرفة وبها، أي تجاهل الآخر وإلغائه بعد إقصائه، تحت ذريعة الدين أو العنصر أو الجغرافيا أو التاريخ أو أيِّ تفارق إثني طبيعي، من شأنه أن يشكِّل لدى المثقف الحقيقي مصدر ثراء، ولدى العصبيِّ أو العصابي مصدر خوف أو رُهاب.

إذن... فعندما يكون نظام القيم هو الداعي والحاضن والحامي للعيش المشترك، للتواصل، يكون نظام الأفكار والعلائق والمصالح محفوظًا ومعافى. ألا نلاحظ مدى الدمار والفقر الشامل الذي أصاب اجتماعنا اللبناني، بسبب الحرب، أي القطيعة وثقافتها القطعية القاطعة المقطوعة؟ ألا نخشى أن لا نقيم سلامنا الداخلي المنقِذ لنا من خلالنا، إذ نعدُّ تأسيس ثقافة التواصل، بما تشترط من حرية اختيار وحِراك وقول وفعل؟

اصطفاف

وهنا أدعو إلى الملاحظة إلى أننا، خلال الحرب وبعدها، أي خلال عقد ونيف من زمان السِّلم الذي مازال ملتبسًا بالحرب أو واعدًا بها، زِدْنا علمًا وعلماء في مختلف الحقول؛ ومع ذلك فإننا ما زلنا جاهزين، أو أشد جهوزًا للاصطفاف الديني أو الطائفي أو المذهبي أو الحزبي أو الفئوي أو الجِهَوِيِّ كلما تعارضتْ مصالحُ الأطراف المختلفة في طبقتنا السياسية، بصرف النظر عن الموالاة والمعارضة، علمًا بأن طبقتنا السياسية هي الأقل علمًا ومعرفة، ويزداد فقرُها العلمي يومًا بعد يوم، من دون أن يمنع ذلك أفرادًا ومجموعاتٍ من أجيالنا المتضرِّرة من الحرب، الذاهبة إلى السلم والنهوض والانسجام مع موجبات العصر وتحدِّياته، من أن تأخذ فرصتها بيدها في التواصل وتلطيف وتصحيح أفكارها عن ذاتها وجماعتها وعن الآخر وجماعته، من خلال الوُرَشِ الحوارية المتعددة والمتحركة التي تؤسِّس لتحويل العيش المشترك والتواصل إلى واقعة وطنية ومشهد وطني.

المؤسف أنه في لحظات التوتر يغيب السِّجال أو يغيَّب هذا الحراك، وكأن طبقتنا السياسية، وحتى إعلامنا، تقول لنا: افعلوا ما شئتم، اشتاقوا إلى بعضكم بعضًا ما أردتم، اعتدلوا واقبلوا الآخر المختلف ما وسعكم الاعتدال! فنحن ندخر لكم مقادير هائلة ومركزة من المواد المتفجرة، لعيشكم وحواركم، من أجل ترسيخ الفصال بينكم!

أنا هنا لا أمهِّد إلى انقلاب سياسي ليس شأني، بل أدعو إلى البحث الجادِّ عن وسيط بين مجتمعنا الأهلي الطبيعي والمجتمع الرسمي الذاهب بآلياته الداخلية السِّجالية إلى فكاك عن الطبيعة؛ وسيط يحوِّل التواصل إلى مشروع يحمله من هنا إلى هناك، أي يحوِّله إلى مؤسِّسة مرنة ذات أطياف متعددة وأشكال مختلفة ومتكاملة، تشكِّل مكانًا وطنيًّا لمراكمة الأفكار والقيم والعلائق الوطنية، من دون أن تكون، في كلِّ لحظة، مهددة بخسارة كل ما تبنيه وتجنيه من ثقافة وتواصل وعلاقات إنسانية وِفاقية. أي أننا بحاجة إلى مؤسَّسات مجتمع مدني، متطابق أو مقارب لشروطنا الاجتماعية، تحت سقف الدولة، بمعنى الحق والقانون. وهذا ما كان ينبغي أن ننجزه، من دون تسرع أو تسويف في الفرصة التي توفرت لنا باتفاق الطائف، ضمانًا لسِلمنا الأهلي الذي يقوم وحده مقام الواقي لنا من مخاطر الأزمات والصراعات المستشرية في العالم أجمع، والمحتدمة من حولنا، من دون أن ننسى أننا، بحربنا وسلمنا وفي ما اقترفناه من تحرير لأرضنا، وبتعدُّدنا المسكون بهاجس الوحدة، نشكِّل احتمال تحدٍّ تحقيقي للناشطين دوليًّا من أجل الاستحواذ والاستيلاء على الآخرين.

آلات غريبة

والمفارقة القاتلة هي أننا مازلنا مصرِّين على التعسف في فصل المضامين عن أشكالها، رغم وحدتها العضوية؛ لا من أجل توطين المضمون أو المضامين ذات الطابع الإنساني، من خلال مراعاة خصوصياتنا، ومن دون التشبث باستخدام هذه الخصوصيات للمسِّ بالجوهر العام للمضمون الحضاري أو الثقافي أو المدني لأيِّ منجز؛ لا من أجل إلباس المضمون الشكلَ الملائم لحالنا التي قد تحتمل هذا الشكل ولا تتحمل الآخر... بل من أجل إفراغ الأشكال من مضامينها، والتعامل معها فارغة أو مفرغة، كما هي، بصرف النظر عن منشئها ونشأتها أو غربتها وغرابتها وملاءمتها أو عدم ملاءمتها لشروط حياتنا ومتغيراتنا.

وهذا يصدُق على حالنا أو سلوكنا في العمران والاقتصاد والتربية والإدارة والدواء والاستشفاء والفن والأدب والنقد والسياسة واللباس والإعلام والرياضة والأحزاب والجمعيات والنقابات والأندية إلخ. ولعل أحد أسباب الاضطراب والخلل هو أننا لم نترك لمجتمعنا أو مجتمعاتنا الأهلية أن تتطور بآلياتها وقوانينها الداخلية، لتنتج مجتمعات مدنية طبيعية، أي وطنية – لا بالمعنى السياسي المبتذل والموروث من زمن الحرب، بل بمعنى الانسجام مع المكوِّنات الوطنية – وأدخلْنا في مسار تطورنا قوانين وآلياتٍ وتجارب غريبة عنه؛ وكأننا أردنا أن ننتج مجتمعنا أو مجتمعاتنا المدنية، الموازية للدولة، غير الناقضة لها، قبل أن ننتج دولتنا، وقبل أن نتأكد من أن مجتمعنا الأهلي يختلف، في تكوينه ودوره وموقعه في التمدن، عن المجتمعات الأخرى، الغربية خصوصًا، من دون إلحاح منِّي هنا على التسمُّر العصبي غير المنهجي للثنائية الحادة والقاطعة بين الشرق والغرب، ومن دون تصديق منِّي بإمكان المحاكاة التامة والمستحيلة بين المختلِفات.

وهكذا انتهينا إلى حالة من تهميش مجتمعنا الأهلي، من دون أن نقدِّم بديلاً مدنيًّا سائغًا ومنتجًا وفاعلاً. وكان المجتمع المدني ومازال يتحرك في عقلنا وعملنا وكأنه حزب آخر، غاية الأمر أن بعضنا يريدُه حزبًا ضد الدولة، والبعض الآخر يريده حزبًا للدولة: أي إلغاءه عمليًّا في الحالين! أليس ذلك هو ما أدخلَنا في الحرب، وأطال مدتها، وغلب الباطل على الحق في وقائعها والأفكار التي سوَّغتها، وحقق المستوى الأشد تدميرًا من آثارها؟ – وهو قطع وإعاقة التواصل بين الأطراف المكوِّنة لاجتماعنا الوطني، ما امتد إلى داخل كلِّ طرف على حدة.

وبدل أن تستمر جماعاتنا وطوائفنا، عبر مؤسَّساتها المدنية، في ترسيخ الدولة والاجتماع التعدُّدي على نصاب الوحدة التي لا تلغي ولا تختزل، أسهمتْ أحزابُنا وجمعياتنا وجامعاتنا ونقاباتنا وروابطنا وأنديتنا ومراكز أبحاثنا في تفكيك الاجتماع والدولة، وفي فكِّ الاجتماع عن الدولة والدولة عن الاجتماع؛ وذهب كلُّ من هذه المباني والعمارات المدنية إلى عصبيته وكهوفه، مستسلمًا لإغراءاتٍ وإملاءاتٍ كانت وظيفتُه أن يحدَّ منها. ولأن الخلل كان عميقًا فإن أُطُرَنا العلمانية كانت أشد التباسًا من أُطُرنا الدينية، وأبعد أثرًا في مجمل السلبيات التي أنتجت الحرب وما تزال جاهزة لإعادة إنتاجها.

ولعله مما يسترعي الانتباه أن المؤسَّسات الطائفية (الدينية) العليا كانت، على مدى الحرب، أشد حرصًا على توسيع المشتركات وحصر الخلافات وحلِّها بالتسوية، أي بتبادل التنازل سِلمًا، تجنبًا لاستحقاقات القتال الباهظة والعامة، ما عرَّضها لأن تدفع ثمن اعتراضها على الحرب ومفاعيلها والسعي لإيقافها.

القطيعة المتمادية

لا بدَّ من إعادة إنتاج مجتمع مدني لبناني معاصر، غير منقطع عن منابعه وأشكاله الأهلية، علاجًا للقطيعة المتمادية التي لم تزدْها وعودُ السِّلم الأهلي، منذ الطائف، إلا تماديًا وتبريرًا ممجوجًا يجعلنا معذورين إذا ما اعتبرنا أننا مازلنا على موعد مع الحرب، أو على سياق تحويل السِّلم إلى حرب باردة لا تقلُّ خسائرُها عن الحروب الساخنة، هذا إذا لم تصب فيها في النهاية، أي في الحرب الساخنة أو المحرقة التي تحرق الأخضر واليابس – إذا ما تبقى لنا أو فينا أخضر أو يابس!

بعد الطائف، وعلى أمل في إعادة إنتاج الدولة، بعدما استعدنا فكرتَها ودورَها الجامع وضرورتَها، شرعنا في إنتاج مؤسَّسات مجتمعنا المدني كفرصة تواصل أو تأهيل للتواصل. ولكن الدولة راهنت على معجزة السلام الإقليمي لتعيد بناء ذاتها بسهولة كسولة عطَّلتْ آلياتِ عملها الداخلي، ولم تتحقق التسوية. وعندما حاولتْ تشغيل آليات الداخل، بعد العطلة الطويلة، تبيَّن أنها قد صدئت، وتآكل الشحم الذي يمنع الاحتكاك بالتقادم والإهمال؛ فعادت الدولة إلى حالة من الشتات والسَّجال الداخلي المزاجي والعشوائي؛ ما انعكس سلبًا على مسيرة البناء المدني، وأغرى أطراف السلطة، أو نخبها المستحكمة، بسلوك كيدي، استكملتْه بجموح زبائني امتدَّ إلى السطو على الأندية والجمعيات والنقابات إلخ، لعلها تكمل بها نقصًا في مصداقية المؤسَّسات الرسمية التي حققت قانونيَّتها في كثير من الحالات، من دون بعضها – وإن كانت شرعيتُها المشروطة بالحرية مازالت موضع شك وريبة. وعندما وصلتْ المؤشرات إلى بنية الأحزاب كانت هذه قد فقدتْ كلَّ قدراتها على تجديد نفسها وتصحيح مساراتها، فتعلقتْ بأذيال الدولة، خفيفة، مستقيلة من التغيير أو الاعتراض؛ ومن ذهب منها إلى أذيال المعارضة كان ذلك في سلوكه مدخلاً آخر إلى الكون في ذيل الدولة! وامتد ذلك إلى أوساطنا الشعبية التي تكاد تبدو الآن وكأنها تستمتع باستقالتها من أنظمة قيمها، التي تُلزِمُها بحراك تغييري هو، في المألوف، مصدر الحيوية في كلٍّ اجتماع سياسي معاصر.

إذن نحن نفتقد ثقافة التواصل عندما نفتقد ثقافة التكيف والتكييف والتغيير. أليس من هنا امتدَّ الخلل إلى كلِّ مستويات حياتنا ونواظمنا الاجتماعية، حتى الأساسيِّ منها، أعني الأسرة مثلاً، التي، بسبب القطيعة المتمادية بين أركانها، أخذتْ علاماتُ تضامنها الداخلي تتراجع بشكل يهدد بمخاطر عظمى! ومن هنا أصبحت ثقافتُنا تتسع لثقافة الفساد، رغم كلِّ الكلام المجاني.

وما من زمن أصبحت فيه الطائفية إيديولوجيا عامة كزماننا هذا. إلى ذلك فإننا حوَّلنا مشروع اللامركزية الإدارية، الذي يتيح إنماءً متوازنًا وشاملاً، إلى مناخ لفصال جِهَويٍّ طائفي مركَّب، من شأنه أن يحوِّل المحافظات والأقضية والمدن والقرى والأحياء والحارات والزواريب إلى أوطان ناجزة وبديلة للوطن. كما صار المذهب، أو المذهب في المذهب، أو الطائفة، بديلاً من الدين والوطن، وحتى من الطائفة نفسها، بما هي مُتَّحدٌ اجتماعي، أي من الطائفة الكيان البديل الموازي للكيان.

*** *** ***

عن السفير، 9/8/2002

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود