|
التراث العربي
بين الفلسفة
والأدب
هناك
انفصام كامل في التراث العربي بين الحداثة
والأدب الإيديولوجيا
حلَّتْ محلَّ الفلسفة في الأدب، ورضي الأدباء
بذلك أعرف، من
تجربتي، أن الشعب في وادٍ والأديب في وادٍ آخر رؤى
الكتَّاب مبعثرة بتبعثر الاتجاهات الفكرية
والقطرية حوار
مع أنطون مقدسي*
س.
أستاذ أنطون... أنت مفكر ذو جذر فلسفي؛
دَرَسْتَ الفلسفة ودَرَّسْتَها، وكتبت في
بعض جوانبها. حول الفلسفة وموضوعاتها أودُّ
أن أطرح أمامك رأيًا يقول إن كتابات هذه
الأيام – أعني منذ ما بعد الحرب العالمية
الثانية وحتى الآن – بعيدة عن الفلسفة، خالية
من التوجُّهات الفلسفية، أو تُعنى بما هو
يومي ووقتي. هنا أرجو أن تقدِّم تعليقًا حول
ما أطرحه. ج.
ثمة انفصال كامل، في التراث العربي كلِّه،
بين الفلسفة والأدب. فالشعر العربي بقي
جاهليًّا، حتى بدوي الجبل ومحمد مهدي
الجواهري؛ مثلُه الأعلى، حتى عند المتنبي،
شعر ما قبل الإسلام. وإذا كانت بعض القضايا
الفلسفية قد طُرِحَتْ في القرن الرابع مع
المتنبي والمعري وغيرهما فوجود هذه القضايا
لا يُدخِل الفلسفة على الشعر. والسبب في ذلك
هو أن الفلسفة شكَّلت لذاتها لغة غريبة عن
الأدب، أوجدتْها – كلَّها تقريبًا – من
العدم، وبدأت تتكون؛ وما كادت تحاول التفتيش
عن طريقها حتى وُئِدَتْ. والذي وَأَدَها هو
الغزالي في كتابه المعروف تهافت الفلاسفة.
ولقد كانت محاولة ابن رشد وبعض الأندلسيين،
من أمثال ابن باجة وابن طفيل، محاولات يائسة. ولكن
الفلسفة اختبأت في علم الكلام وفي الفقه.
فالذي يقرأ النصوص الكلامية والفلسفية
المتأخرة – ومنها ما هو جيد، وله قيمة فكرية
كبيرة – يلاحظ، دون أدنى شك، أن المقولات
مستمدة من أرسطو، وقد أصبحت من بنية اللغة
العربية. إلا أن هذا حصل في زمن متأخر، أي في
مرحلة الانحسار. عندها تبعثر الأدب العربي،
وكأنه تحول إلى شظايا منثورة هنا وهناك. وعكف
المتأخرون على جمع هذا التراث الكبير، عسى أن
يجد يومًا مَن يهتم به ويواصله. وما يزال حتى
الآن ينتظر! أما
المحاولات الفلسفية الحديثة، التي تكونت منذ
أواخر القرن التاسع عشر إلى أيامنا، فإنْ هي
إلا اقتباس وتلخيص لما جاء في بعض الكتب
المدرسية الغربية أو الشرقية؛ فهو خلو من أية
فائدة. وسوف يمضي زمن طويل قبل أن تتأقلم
الفلسفة، وتصبح بُعدًا من أبعاد تراثنا
العربي. إن
الأدب فكر؛ والفكر يجب أن يستند على رؤية وعلى
مفاهيم فكرية محددة. وهنا ألاحظ أن
الإيديولوجيا حلَّت محلَّ الفلسفة، ورضي
الأدباء بها، وكأنهم وجدوا ضالتهم المنشودة،
ووقعوا على رؤية كونية شاملة. في حين أن
المفاهيم الإيديولوجية المتداوَلة هزيلة،
ركيكة، قصيرة المدى، محدودة الأفق، ينفخها
الأديب بانفعالات تضخِّمها، كما ينفخ
الأطفال بالوناتهم! صحيح أن إيديولوجيَّتنا،
على الغالب، تقدمية، إلا أن التقدم بحاجة إلى
أناس من مقياسه! س.
أيضًا، هناك رأي آخر يقول إن الأدب العربي خال
من الرؤيا (الرؤيا إلى الشمول الكوني والشرط
الإنساني). فهل في هذا الرأي شيء من الحق؟ ج.
لا يمكن لأديب أو لكاتب أو لسياسي أو لأيِّ
إنسان عادي أن يتكلَّم دون أن تكون له رؤيةٌ
ما يصدر عنها كلامُه. ففي الأدب العربي الحديث
رؤية، والأصح رؤى متعددة، من الممكن أن
تُدرَس عند كلِّ كاتب أو شاعر بمفرده. فعندما
نتكلَّم على عالم فايز خضور، مثلاً، أو جورج
سالم، أقصد رؤية أيٍّ منهما، أو غيرهما، وما
تشمل من شخوص وأشياء، صور ومجازات، إلخ. ورؤى
الأدباء عندنا، على العموم، حديثة، فيها
الكثير من محاولات التجديد. لكن ما يبدو لي هو
ما يلي: إن ثمة انفصالاً كبيرًا بين رؤية
الأديب التقدمي الشعبي ورؤية الشعب الذي
يتحدث عنه وإليه. فالشعب – كما أعرفه،
بالتجربة المستمرة سنوات، ومنذ طفولتي – في
وادٍ، والأديب والسياسي في وادٍ آخر. فالأديب
يأخذ اعتياديًّا بعض الأفكار التقدمية،
يلملمها من هنا وهناك أو تأتيه بحكم تأثير
البيئة الأدبية التي يعيش فيها، ويفترض أنها
أفكار الشعب. وهذا بدهي في نظره، مادام الشعب
"تقدميًّا"، تعريفًا أو في جوهره؛ وهو
تقدمي. إذن فالمعادلة كاملة! ويا
ليت أن الأدباء والسياسيين ينسون، أو
يعلِّقون، أفكارهم المسبقة ليعيشوا مع الشعب
فترة من الزمن؛ إذ لكانوا بذلك يُغْنُون
أفكارهم ورؤاهم وأدبهم. إن الشعب العربي، في
وعيه ولاوعيه، معقَّد التركيب، يخفي أفكاره
وإرادته وراء حجب كثيفة، تمنعه هو ذاته من أن
يراها! إنه ما يزال يأخذ بـ"التقية"
اليوم، كما في أيام المعري وقبله. إذ لا يمكن
بعصا سحرية أن تزيح عن كاهله قرونًا من
الاضطهاد والظلم والكبت. فهو حذر، يقول لك،
عندما تتقدم إليه بوصفك كاتبًا له مقالات في
الصحف، أو بوصفك سياسيًّا قد تكون لك في يوم
من الأيام مكانتُك – يقول ما تريد أنت أن
تسمعه. أما حقيقته فيجبرها، في تلك اللحظة
بالذات، على أن تنزل إلى أعماق اللاوعي وتغيب
فيه. من
ناحية ثانية فإن الرؤى لدى الكتَّاب العرب
مبعثرة بتبعثر الاتجاهات الفكرية والقطرية
والطبقية، بتبعثر التجزئة والتباعد؛ وقد
تكون متناقضة. على أية حال، هي هزيلة؛ وسبب
هزالها هو أن الأديب ما يزال، حتى اليوم، يرى
أن الأدب صورة وإيقاع، إحساس ومجاز؛ أما
الفكر فللدراسات. والدراسات تقليد ومحاكاة؛
وهو مبدع – ويريد أن يكون مبدعًا. والإبداع
صور وأخيلة وكنايات وما شاكل. ومن ناحية ثالثة فإن الانفصام بين الأدب والفلسفة، الطويل والمستمر، هو الذي جعل الأدب هزيلاً؛ لا لأن على الأديب أن يكون فيلسوفًا – كلا، فهذا أيضًا خطأ. أنا أعذر الأديب لأني أعرف وضعه الصعب؛ فليس هو الذي أقام القطيعة بين الفلسفة والأدب. أما الذي لا أعذره فهو الثقافة الضحلة، حتى في الأدب. صحيح أن الأديب، على الغالب، موظف، عليه أن يعمل بجدٍّ منقطع النظير كي يكسب أسباب حياته؛ ولكني ألاحظ، من جهة أخرى، أن الذي يتصدى للأمور الكبيرة عليه أن يضحِّي لكي يكون بمقياسها. ومن المؤسف أن التربية المدرسية، حتى في أعلى درجاتها الجامعية، هزلت إلى حدِّ التكرار الممل والإسفاف المخجل. لقد أفقدْنا الطالب – وما نزال نُفقِدُه أكثر فأكثر – حسَّ المبادرة والفكر الشخصي. ولا أدري لماذا سرنا على هذا المنزلق المُهلِك. الأسباب كثيرة طبعًا. ولكن المربِّي يتصدى، هو أيضًا، لشؤون كبيرة قد تكون أخطر شأنًا من الأدب؛ وعليه، بدوره، أن يضحي كي يكون بمقياسها ومن مستواها. س.
التراث العربي حافظة فكرية علمية، غنية
بمنجزات عصر مضى؛ ونحن اليوم في عصر مضطرب،
سريع الخطوات والقفزات، ومطالَبون باستلهام
التراث والاستيحاء منه، وتوظيف مقولاته
المضيئة في قوالب فنية جديدة. من خلال اطلاعك
وتجربتك الفكرية، كيف ترى إلى تقديم هذا
التراث في عصرنا الراهن؟ وماذا نقدم أولاً،
ثم ثانيًا، وهكذا؟ ج.
من المؤسف، هنا أيضًا، أنَّا جمَّدنا التراث،
بمعنى ما، حنَّطناه، ثم قدَّسناه ونثرنا حوله
الرياحين، وعلَّقناه! وكأنَّا نريد أن ننساه
إلى الأبد؛ في حين أنه جزء لا يتجزأ من
وجودنا، بغثِّه وثمينه. فقولي "أنا عربي"
معناه أني أحمل في بنيتي النفسية والاجتماعية
والعضوية تراث خمسة عشر قرنًا من الإنتاج
المستمر. فكما يتفاهم الإنسان مع جسمه،
مثلاً، ليُعنى بنظافته وصحته، ويتفاهم مع
إرادته ليوجِّهها، علينا أن نتفاهم مع البعد
الماضي الذي هو شخصيتنا الحضارية. س.
ومن وجهة نظرك، ماذا نقدِّم من تراثنا،
أولاً، ثم ثانيًا؟ ج.
عندما كنا صغارًا في المدرسة الابتدائية،
ولنصف قرن مضى أو أقل، كانت الكتب المدرسية
التي نقرأ، وفيها نتعلم اللغة، تحتوي على
نصوص كثيرة للجاحظ وابن المقفع وبقية أكابر
الأدباء؛ كما أننا كنا نحفظ غيبًا قصائد
مختارة من الشعر العربي، القديم والحديث.
وتلك كانت خير مقدمة لفهم الدخول في التراث
عندما يصل الطالب إلى المدرسة الإعدادية. في
كل مدارس العالم، تبدأ الأمور على هذا الشكل:
تقديم مختارات في المدرسة الابتدائية، ثم تلي
ذلك الدراسة المنهجية للأدب، اعتبارًا من
الصف السابع. والمنهج هو الذي تقرِّره ممارسة
الأساتذة والطلاب. فهل هذا ممكن اليوم؟ هل
يمكننا أن نستخدم، مثلاً، كتبَ ما قبل الحرب
التي كانت غنية بمختاراتها لطلاب الابتدائي
اليوم؟ كلا. فقد كدَّسْنا الطلاب بعضهم فوق
بعضهم الآخر بحجة الاستيعاب، بحيث صار الطالب
يصل إلى الإعدادي وهو يخطئ في القراءة
العادية، وفي القواعد الأبسط في الإعراب
والإملاء. وقد رأيت بأمِّ عيني تلامذةً في
الصف الخامس الابتدائي (أي ممَّن بلغوا
الثانية عشرة من عمرهم!) يخطئ أحدهم في كتابة
اسمه. فإذن، الداء يجب أن يُجتَث من الأساس. لاحِظْ،
من جهة أخرى، أنَّا استعضنا عن هذه المختارات
القديمة، التي يراها الكثيرون بالية،
بمختارات غالبًا ما يكتبها – يبتدعها –
مؤلِّف الكتاب، هو وزملاؤه، إرضاءً
للسياسيين. فهم يحشونها بالمفردات التقدمية
والرؤى المتفائلة التي لا تمت إلى الواقع
بصلة، بحيث إن الطالب يقرأ ويحفظ غيبًا ولا
يفهم... والأجدى له أن لا يفهم! س.
التفاهم هنا، بأيِّ معنى؟ ج.
أقصد بـ"التفاهم" إقامة حوار حقيقي، فيه
سؤال وجواب، فيه نقد. فالتراث كله ليس في
مستوى واحد. هذا الحوار لم يبدأ بعد، فيما
يبدو لي؛ وسوف يمضي زمان طويل قبل أن يبدأ! لقد
ارتُكِبَتْ في التراث خطيئات جسيمة، منها،
على سبيل المثال، معاني المفردات. فالمعاجم
الكبيرة التي نفاخر بها، مثل لسان العرب
أو قاموس الفيروزآبادي، مؤلفات جليلة،
جديرة بكلِّ تقدير. ولكني أتساءل: علام نقتصر
من معاني الكلمة الواحدة على ما قالته العرب
في القرنين أو القرون الثلاثة الأولى، على
أبعد تقدير، في حين أن هذه المفردات تطورت
وزادت غنى على غنى. فلو تقيَّد ابن خلدون،
مثلاً، بما يشبه أحكام لسان العرب، لما
كتب المقدمة التي جدَّدت معاني العديد من
مفرداتنا الاجتماعية والفكرية. وكذلك
التوحيدي والهمذاني وغيرهما من أكابر الأدب
العربي. ولو راجعنا، مثلاً، تعريفات
الجرجاني لوجدنا من الدلالات ما لا نجده
أبدًا في لسان العرب والقاموس المحيط وغيرهما.
قد يقال: لكن معجم الجرجاني فلسفي؟! إلا
أن هذا القول وحده يدل على أن أمرًا غريزيًّا
يقيم فاصلاً لا يُتجاوز بين الفكر والأدب –
وتلك خطيئتنا الكبرى! وكيف
تريد من طالب لمَّا يتعلم القراءة أن يفهم
معاني كلمات مجردة مثل: إنسانية، طبقة، أمة،
شعب، إلخ – هذه المجردات ردَّدناها إلى حدٍّ
صرنا معه نعتقد أنها واضحة بذاتها؛ في حين
أنها نتيجة عمل عقلي طويل صاغها مع مرور
الزمن؟ وإذا قُدِّمتْ للولد فيجب أن تُقدَّم
في حكاية بسيطة من واقعه، خالية من أية مفاهيم
أو كلمات فضفاضة. أذكر
أن طلاب الثانوي كانوا يكتبون موضوعات جيدة
عن الجاهلية، أو عن غيرها من عصور الأدب
العربي، من غير أي إرباك أو تعثر. فعلام وصل
وضع التعليم عندنا على ما هو عليه الآن، بحيث
صارت دراسة التراث مشكلة؟ السبب بسيط في
منطوقه، صعب ومعقَّد عندما يُطلب منا إصلاحُه.
وخلاصته أن مستوانا الفكري والأدبي أدنى
بكثير من مستوى التراث، وأقصد بـ"نا"
كلَّنا – أدباء وكتَّابًا، سياسيين، مفكرين،
إلخ. س.
هذا الحديث يقودنا إلى قضية الحداثة. فكيف
تنظر إلى خطوطها الرئيسة؟ كيف تتلمُّسها من
خلال الشكل والمضمون للنص الأدبي؟ ج.
الكلام على الحداثة طويل جدًا، كَثُرَ في
الدراسات والكتب والندوات إلى حدِّ الإملال.
بيد أن لي ملاحظتين أساسيتين: الأولى:
إن الحداثة ليست ظاهرة أدبية وحسب. فالأدب
بُعدٌ من أبعاد الوجود الإنساني والاجتماعي
كلِّه؛ ولا يمكن أن نفهم "الأدب" إلا على
ضوء هذا الكل. وهذا الكل هو مرحلة جديدة من
مراحل التاريخ، بداياتها الأولى (في الرسم
والتصوير والشعر على الخصوص) ترتقي إلى أواخر
القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين (بودلير،
رامبو، بيكاسو، براك، إلخ). ويمكنني أن أضيف
الموسيقى أيضًا. إلا أنها لم تستقر، وتبدأ
بخطى ثابتة مرحلةً جديدة، إلا بعيد الخمسينات
من هذا القرن مع الثورة العلمية التقنية التي
تجمعت حولها، اليوم ولإشعار آخر، أبعادُ
المرحلة، السياسية منها والاقتصادية،
الثقافية والاجتماعية. فهذه المرحلة هي التي
يجب أن تُدرَس أولاً كإطار عام للحداثة
الشعرية. الثانية:
إن المذهل في الحداثة العربية، الذي يدعو إلى
التأمل، هو أنها بدأت في أواسط الخمسينات مع
مجلة شعر، وكأنها وُجِدَتْ دفعة واحدة
ولها الكثير من الأصالة. ثم استمرت في تقديم
الإنتاج الشعري – الشعري وحسب – حتى
السبعينات، وربما بعد ذلك بقليل، ثم أخذت
بالتقهقر. فجيل الرواد الأول تكوَّن بعده
جيلٌ أضعف قليلاً؛ والجيل الثالث ظهرت منه
بعضُ إرهاصاتٍ هنا وهناك، ولكنها توارت بسرعة.
فأنا أعرف عددًا من الشعراء كانوا واعدين
وتواروا – لا أدري لماذا! [هنا
طلبت منه أن يحدد بعض الأسماء، فرفض! – ح. ح.] هاتان
الظاهرتان – وكلٌّ منهما ظاهرة كبرى متعددة
الأبعاد – بحاجة إلى دراسة متأنية لا يتسع
لها حديث سريع مثل حديثنا. إنما أقول، بكلمة
مختصرة، إن الذي يميِّز الحداثة في
كلِّياتها، أكانت عربية أو أوروبية، هو أنها
نقلت الأدب، وتنقله أكثر فأكثر، إلى مرحلة
الكتابة، حيث البصر يحلُّ محلَّ النطق والسمع.
والشعر العربي يُنشَد، أي يُقرأ منغَّمًا،
بشكل أو بآخر. ولهذا فكلُّ المحاولات التي
سمعتُها من شعراء الحداثة لإلقاء شعرهم كانت،
إلى حدٍّ كبير، مخفقة لأنهم استخدموا الإلقاء
القديم لكتابة جديدة، في حدِّها الأقصى غير
صوتية (وربما أطلقتُ عليها تعبير "كتابة
خرساء"). إن
الحداثة الشعرية تبحث اليوم عن طريقة جديدة
للإلقاء، ربما أنها لم تعثر عليها. وبتعبير
آخر فإن الشاعر القديم كان ينتقل من الصوت إلى
الكتابة. أما الآن فعليه أن ينتقل من الكتابة
إلى الصوت؛ وهذا الانتقال هو العسير، لأن
موسيقى الشعر في الإلقاء. وهذه النقطة مجمَع
مشكلات يجب أن تدرس كلاً على حدة. س.
وماذا تقول عن الحداثة في النثر؟ ج.
النثر العربي تجدَّد كثيرًا مع القصة
والرواية، ولكنه بقي في حدود الكلاسيكية
الأوروبية، كما تكوَّنتْ في القرن التاسع
عشر، يحاكيها، بتوفيق قليل أو كثير، حسب
المؤلف. والأجدى له أن يبقى الآن عند هذه
الحدود. وربما
أن الحداثة العربية أخذت تتعثر. وسوف تتعثر
كثيرًا، على ما يبدو لي، بشكل يجعل الفراغ
الشعري عندنا كبيرًا، لأن المجتمع العربي
الذي ظننَّا في الخمسينات أنه يتحدث بسرعة،
أخذ الآن يتأرجح بين القديم الأقدم والحديث
الأحدث، مع ميل كبير إلى القديم. ولا أدري حتى
متى ستبقى موجة القديم الأقدم مسيطرة، كما هي
الآن، على العقول. والذي يزيد القديم بؤسًا
على بؤس هو أنه رجوع إلى التراث بدون تراث! حاوره:
حسن حميد
***
*** *** *
نُشِرَ هذا الحوار الهام مع الأستاذ أنطون
مقدسي (بلا عنوان محدد) في العدد 72 من صحيفة الأسبوع
الأدبي، بتاريخ 2 تموز 1987. وقد زوَّدَنا
بنسخة منه صديقنا جبران سعد من أرشيفه
الشخصي. (المحرر).
|
|
|