قراءة في

فقه التسامح في الفكر العربي الإسلامي

الاستناد إلى الجوهر الديني والدفاع بالحجَّة والشواهد

 

أديب صعب

 

كتاب فقه التسامح في الفكر العربي الإسلامي للمفكر العراقي د. عبد الحسين شعبان من الكتب الجيدة التي تصدر في أوانها. ففي زمن بدا لكثير من الغربيين أن الإسلام دين ينفي التسامح ويعزِّز بعض ما يسمَّى إرهابًا، يفضح المؤلِّف هذا الخطأ القائم على الجهل والتعصب والتحيز، محتكِمًا إلى القرآن والسنَّة وسِيَر الخلفاء وحوادث التاريخ والفكر الإسلامي.

بدءًا بالقرآن الكريم، يشير المؤلِّف إلى أن الإسلام، وإنْ لم يستخدم عبارة "التسامح"، يتحدث عن حرية التدين في نحو مئة آية، مؤكدًا أن "التسامح يشكِّل الأساس في الإسلام" (ص 87). ثم تأتي المواثيق والأحلاف الإسلامية، ومنها دستور المدينة الذي وضعه النبي في مجتمع تعددي مكوَّن من يهود ونصارى ومسلمين ووثنيين، وأراده عقدًا اجتماعيًّا ينظِّم العلاقة بين القبائل على أساس وحدة سكان المدينة، والمساواة بينهم في الحقوق والكرامة الإنسانية، والعمل على رفع الظلم، والاحتكام إلى الشورى. وجاء صلح الحديبية عهدًا من النبي إزاء نصارى نجران، يستند إلى مبادئ التسامح ويكفل الاعتراف بالآخر. وتشهد العهدة العمرية التي أبرمها الخليفة عمر بن الخطاب مع البطريرك الأورشليمي صفرونيوس على التسامح إزاء الأديان الأخرى.

لكن تبقى العقيدة شيئًا، والممارسات التاريخية التي قد تنحرف عن هذه العقيدة شيئًا آخر. و"رغم أن الأديان جميعها تعلن تمسكها بالتسامح، فإن الحروب والإبادات استمرت عبر التاريخ حتى باسم الدين أحيانًا" (ص 87). ثم إن هناك بين المسلمين اليوم، في رأي الكاتب، مَن يأخذ "آيات السيف" (أي تلك التي تجعل من القتال واجبًا دينيًّا) على حرفيَّتها وفي معزل عن الإطار التاريخي الذي ظهرت فيه. لذا فهو يشدِّد على قراءة النصِّ المُنزَل باعتماد "الظرف التاريخي والحالات المحددة وأسباب النزول" (ص 153). ولأن مَن يسمِّيهم "المتطرفين" لم يفعلوا هذا، بل رفضوا "كل تسامح على النطاق الديني أو الفكري أو الثقافي أو الاجتماعي الداخلي أو الدولي بحجة امتلاك الحقيقة والأفضليات" (ص 130)، فهم شذُّوا عن روح الإسلام ولم يستلهموا الأفكار البنَّاءة المتسامحة، لا من القرآن ولا من سيرة الرسول ولا من التاريخ الإسلامي ولا من مفكرين محدثين، أمثال عبد الرحمن الكواكبي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده. وكان أن استغل الغرب – خاصة الولايات المتحدة – هذا الانحراف تبريرًا لغزو أفغانستان واحتلال العراق والربط خطأً بين الإسلام والإرهاب.

وفي حين يعمد الغرب إلى استلهام مفكِّريه، منذ عصر النهضة والعصور الحديثة، في تشديدهم على قيم الحرية والعدالة والمساواة واحترام كرامة الإنسان، مستمِدًّا قوانينَه المدنية من مفاهيمهم الفلسفية والأخلاقية، فإن "الخطاب الإسلامي، أو الإسلاموي، السائد"، على ما يرى المؤلِّف، "يقف عائقًا أمام مبادئ التسامح والحداثة" (ص 85)، غافلاً عن كون "التشدد والغلوِّ والتطرف" مفاهيم مناقِضة للإسلام، الذي يقوم على "الوسطية والاعتدال والتسامح" (ص 137). ويعني غياب التسامح "انتشار ظاهرة التعصب والعنف وسيادة عقلية التحريم والتجريم [...]، سواء على الصعيد الفكري أو السياسي أو الاجتماعي أو الثقافي أو ما يتعلق بنمط الحياة" (ص 58).

ونظرًا إلى أن الوضع "في العالم العربي والإسلامي من أكثر الأوضاع قسوة على الصعيد العالمي إزاء قضايا التسامح واحترام حقوق الإنسان" (ص 161)، فقد فرَّ ملايين المسلمين إلى الغرب حيث ينعمون بالحرية. ويخلص المؤلِّف إلى أن "التحدِّي الأساسي الذي يواجه العالم العربي يتعلق بقدرتنا على اللحاق بالركب الحضاري"، وأن هذا يحصل "عبر التطور والوسطية والاعتدال والبحث عن المشترك الإنساني والاعتراف بالآخر والتسامح في التعامل معه" (ص 162).

الطريق إلى التسامح

أخيرًا، يقترح المؤلِّف حلولاً للخروج من الجهل والتعصب والقمع إلى المعرفة والتسامح والحرية، ويختصر هذه الحلول في بضع خطوات عملية، منها الاعتراف بنسبية المعرفة وعدم امتلاك الحقيقة، والإيمان بالحقوق والحرية والكرامة للكل، والإقرار بحق الاختلاف، وتبنِّي الفكر النقدي، واعتماد مناهج تعليمية كفيلة بتحقيق هذه الخطوات (ص 165-168). فالمطلوب تعليم نقدي خلاَّق، ذو "علاقة بالعصر والعلوم"، بعيدًا عن "التلقين وحفظ التنزيل الحكيم عن ظهر قلب والاهتمام ببعض الشكليات" (ص 21-22).[1] ولئن كان شيءٌ من إصلاح التربية شرطًا لإصلاح الدولة، فإن صلاح التربية لا يكتمل إلا بصلاح الدولة:

إن نشر ثقافة التسامح وتعزيزها يحتاجان إلى الانفتاح وإلى بيئة مناسبة تتَّسم بفضاء الحرية وحقِّ التعبير وحقِّ الاختلاف، دون خوف من العقاب؛ كما يحتاجان إلى مجتمع مدني يكون شريكًا فاعلاً مع الدولة التي لا بدَّ لها أن تعمل وفقًا لسيادة القانون وبالمساواة بين المواطنين، من دون تمييز بسبب الجنس أو الدين أو القومية أو الخلفية الاجتماعية أو الاتجاه السياسي أو أيِّ سبب آخر. (ص 37)

غنيٌّ عن القول إن التسامح الذي يدعو إليه المؤلِّف انطلاقًا من صحيح الإسلام عقيدة وتاريخًا يتلاقى مع النظام السياسي "العَلْماني". والحق أن الدولة التي تنتهج مبادئ الحرية والعدالة والمساواة واحترام كرامة الإنسان هي "الدولة الدينية الفعلية"، كما سمَّيناها، تمييزًا لها عن "الدولة الدينية الاسمية"، تلك التي تستغل تفسيرها الخاطئ للدين من أجل إنقاذ شكليات وقشور بعيدة كلَّ البعد عن جوهر الدين وروحه.[2] ويختتم المؤلِّف كتابه بخير ما يمكن أن يكون الختام، وهو قول الإمام علي بن أبي طالب: "فلا تستوحشوا طريق الحقِّ لقلَّة سالكيه" (ص 168).

ملاحظات نقديَّة

في كلِّ ما سبق دليل واضح على أهمية كتاب د. عبد الحسين شعبان في طرحه فكرته الجوهرية، وهي التسامح، ودفاعه عنها بالحجة المنطقية والشواهد التاريخية والاجتماعية، وفي ربطه هذه الفكرة بجوهر الدين وقوله إن نبذ التسامح باسم الدين يشكل انحرافًا عن جوهره. إلا أن لديَّ عددًا من الملاحظات النقدية التي لا تلغي هذه الأهمية:

أولاً: إن الكتاب، على غنى معلوماته، يبقى حشدًا من المعلومات أكثر منه عملاً تأليفيًّا صارمًا. فهو يسوق مفاهيم كثيرة لمفكِّرين عرب وغربيين من غير أن يراعي تسلسلها الزمني. وهناك تداخُل تكراري للأفكار العربية والغربية تداخُلاً لا يلبِّي دائمًا العناوين الفرعية للفصول. وأحيانًا لا يعطينا العنوان ما يعد به إلاَّ هامشيًّا. ومن هذه العناوين "دستور المدينة"، الذي يطالع القارئ ست صفحات (ص 94-100) قبل بدء الكلام عنه. والواقع أننا لا نعرف عنه الكثير من متن الكتاب، إلى أن نجده أخيرًا في أحد الملاحق (ص 180-184).

ثانيًا: إن كتابًا من هذا النوع الذي يطرح فكرة أساسية ويدافع عنها يجب أن يبدأ بمقدمة أو فصل يحدِّد هذه الفكرة تحديدًا وافيًا من مختلف جوانبها. لكننا لا نجد فصلاً في الكتاب يحاول تحديد مفهوم التسامح. فما هو محتوى التسامح الذي يريده الكاتب ويجده في الأفكار التنويرية الغربية والعربية، وقبل ذلك في الإسلام وسواه من الأديان؟ أيكون هذا المفهوم قائمًا على أن ديني وحده هو الدين الصحيح أو الأصح وأن تساهُله مع الآخرين هو من قبيل "العفو عند المقدرة"، أم يكون قائمًا على أن الأديان كلَّها ترمي إلى هدف واحد، وما أبلُغه عبر ديني يستطيع الآخر بلوغه عبر دينه هو؟[3] ولو وضعنا هذه الملاحظة جنبًا إلى جنب مع ملاحظتنا السابقة، لرأينا ضرورة إعادة تبويب هذا الكتاب، المهم جدًّا من حيث هو بحث وتنقيب، بدءًا من تحديد مفهوم التسامح.

ثالثًا: يذكر الكاتب أن في القرآن الكريم نحوًا من مئة آية تشير إلى التسامح؛ إلا أن استشهاده يقتصر على آيات قليلة جدًّا. طبعًا، ليس المطلوب إيراد الآيات المئة كلِّها؛ لكن الآيات المذكورة في الكتاب غير كافية. وإذا كان التسامح الإسلامي قائمًا على مفهوم الفطرة البشرية ووحدة الأديان، كما يظهر من الإشارات القرآنية المتكررة إلى آيات الله المحفورة في النفس البشرية وفي العالم الخارجي، فلا عجب أن يكون القرآن كلُّه، لا مئة آية فحسب، رسالة في التسامح. وهذا أيضًا يؤكد ضرورة البدء بتحديد المفاهيم.

رابعًا: إن استشهاد الكاتب الكثيف بالمفكرين الغربيين والعرب الذين تناولوا فكرة التسامح تكتنفه تساؤلاتٌ منهجية عدة، منها أنه لم يحصل باعتبار السياق الزمني، ولا بالتوقف عند العلامات الكبيرة الفارقة، ولا بإيراد الأفكار الجوهرية دائمًا، ولا بالعودة إلى المصادر الأصلية.

فهو يبدأ بذكر كانط (ص 38)، ثم يقفز قفزة خلفية إلى ديكارت، قبل أن ينتقل إلى فولتير، متجاوزًا جون لوك، وهو ليس سابق فولتير بستَّة عقود كاملة فحسب، بل مؤلِّف العمل الأول المهم حول مفهوم التسامح، هذا العمل الذي لا يجد القارئ تحليلاً ولا ذكرًا له في الكتاب، مع أن اسم الكاتب ذُكِرَ متأخرًا (ص 64). ثم لا يلبث الكاتب أن يعود، ضمن فقرة وردت متأخرة جدًّا تحت عنوان "في معنى التسامح" (ص 62-73)، إلى حشر ابن سينا مع صدام حسين وديكارت وحسين مروة!

كتابات سابقة

كان يجب تحرِّي فكرة التسامح في الفلسفة الغربية بدءًا من أفلاطون، مرورًا بالرواقيين والقرون الوسطى، وصولاً إلى عصر النهضة ثم عصر التنوير الذي تجاوز الحروب الأهلية في أوروبا، وباعتماد المصادر الأصلية أو ما يعادلها (أي الترجمات الموثوقة، وهي ضئيلة جدًّا في العربية)، بدلاً من الطريقة التجميعية. ومن الأمثلة على هذه الطريقة أن الفقرة التي تتناول التسامح في المسيحية (ص 75-84) تعتمد على مقابلة مع المطران جورج خضر ورسالة منه في هذا الصدد؛ وهذا غير جائز في بحث علمي، ولا يجوز إلا في كتاب محرَّر أو في كتاب عن فكر المطران خضر نفسه.

وتجدر الإشارة إلى أن عددًا من المؤلِّفين العرب سبقوا د. شعبان إلى معالجة هذا الموضوع باستفاضة، وأحدثتْ كتبُهم ضجة عظيمة لدى صدورها. لكن المؤلِّف يكتفي بذكر أسماء بعضهم من دون عرض كتاباتهم وأفكارهم. ولعل أبرز هؤلاء علي عبد الرازق الذي لم يتوقف الكاتب أبدًا عند كتابه المثير للجدال الإسلام وأصول الحكم، ومحمد أركون الذي يكتفي بإيراد اسمه ضمن سبحة من الأسماء، فلا يشير أبدًا إلى أيٍّ من كتاباته، وكلها يركِّز على تسامح الإسلام ونظرته السمحاء إلى الإنسان.

وهو يغفل آخرين لا يجوز البتة إغفالهم. ولعل أبرز هؤلاء محمد سعيد العشماوي في كتابه الإسلام السياسي، الصادر في العام 1987 (لعله الأهم والأجرأ في موضوعه بعد كتاب عبد الرازق). ويكتفي المؤلِّف بذكر مفكرين إيرانيين بعد الثورة الخمينية يمثِّلون، في رأيه، الخطَّ المنغلق، من غير أن يأتي على ذكر ممثِّلي الخط المنفتح، ومن أبرزهم محمد مجتهد شبستري ومصطفى ملكيان ومجتبى المحمودي ومحمد رضا كاشفي، وفي كتاباتهم المتنوِّرة رسمٌ لمعالم الفقه الإسلامي المعاصر وتعزيز لآراء الكاتب حول مفهوم التسامح.

لكنْ، كما قلت، يبقى كتاب عبد الحسين شعبان فقه التسامح في الفكر العربي الإسلامي عملاً توثيقيًّا لبعض هذا الفكر ومصادره القرآنية، ضروريًّا جدًّا في هذا الظرف الراهن العصيب.

*** *** ***


 

horizontal rule

[1] قارن مع: أديب صعب، الدين والمجتمع، دار النهار، 1983.

[2] انظر: أديب صعب، وحدة في التنوع، دار النهار، 2003، ص 41-54.

[3] انظر: أديب صعب، وحدة في التنوع، ص 27-39.

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود