|
اسمي الماءُ انعتاق!
عندما يكون الشعرُ مشروعَ بحث، يصرِّح محمد الحداد في ديوانهِ الأول اسمي (الصادر عن دار قرطاس، الكويت)، بأن هذا "فعلٌ يتطلَّب وعيًا بالعناصر والأبعاد"، فنعرف إذ ذاك كيف ينبغي لنا أن نقرأ شعره: نقرأه رمزًا ينفتح على ممكناته، شيفرات موزعة في مفاصل النص، متمثلة بالعناصر الخمسة، وبالأبعاد الثلاثة للمكان، بالإضافة إلى الزمن، بصفته بُعدًا رابعًا – البُعد الأكثر حيوية وحضورًا في القصيدة. وعبر إلمامٍ بطبيعة تحرك هذه المنظومة، نعرفُ كيف يسيلُ شعرُه، وفي أيِّ اتجاه. هل قلت "يسيل"؟!
وإننا، إذ نجد العناصر الخمسة حاضرة في طول النص، نراقب تحولاتِها واندماجَها وانقلابَها إلى أضدادها، ممتثلةً بذلك لدينامية الحبِّ المقدسة، والانقلاب الضدِّي الهيراقليطي، المتجذِّر في وعي الشاعر، فنتلقى عِبْرها أطوارَ القصيدة، وكيف تتيبس تارة، وتنفرطُ تارة، وتتسامى تارة. إلا أن الملاحَظ أن "الماء"، في شكلٍ خاص، كان محطَّ نداء، ومحطَّ احتفاء؛ كان، في بساطة، خيطًا هزيلاً يشبكُ أجزاء النصِّ بعضها مع بعض. وخطر لي أن أتساءل: لماذا الماء؟ سأتكئ في تحليل "الماء" في النصِّ، في شكل رئيسيٍّ، على الفلسفات الشرقية، لأنني وجدتُها ملائمة كآليةٍ لفهم النصِّ وتفكيكه – وإنْ كنتُ لا أحصره في هذا الإطار؛ إذ من المحتمل أن يقرِّر شخصٌ آخر تحليلَ النصِّ وتفكيكَه برؤية مغايرة – وهذا مشروعٌ وجدير. ولكنْ ينبغي، قبل البدء بقراءة القصيدة، أن نعترف لها ببعض الخصائص: أولاً: هذا نص لم يُكتَب على عتمةٍ وشك، بل على بيِّنةٍ وضوء. وربما لا يُعتبَر من قبيل التمادي أن نقول بأن هذا النص لم يُكتَب ليتساءل، إلا في إطار هامشيٍّ، بمعنى أن هذه قصيدة تبني بقدرِ ما تهدم! وهذا جديد ومغاير عن الموجة السائدة التي تحصر الشعر في السؤال، لأن الشاعر، عِبْر القصيدة، يقرِّر وظيفةً أخرى: أن يكون الشعر آلية إدراك، قد تجيء فعَّالة في مَواطن معيَّنة، من دون تسمية حلول، ولا رَصْفِ شوارع، ولا مُصادرة فكر! ثانيًا: إن نصًّا يحمل اسم "اسمي" لا بدَّ أنه بابٌ يُفتَحُ على سيرة الشاعر الوجودية والفكرية، لأن الأسماء استخراجٌ للشيء من الهيولى، من العدم، وزجُّه في الوجود. وهذه إضاءة يطلقها الشاعر – من خلال العنوان – على مسيرة فكرية وإنسانية تتجلَّى شعريًّا. إن العنوان هنا تصنيفٌ للمغامرة الشعرية "اسمي" على أنها فعلُ ظهور، خاصةً إذا وَضَعْنا نصب أعيننا حقيقة كونه الإصدار الأول للشاعر. ثالثًا: هذا النص يبرِّر شكله بنفسه، بحسب تعاقُب دورة العناصر وتعامُد الأبعاد. فلقصيدة النثر التي يكتبها الشاعر ما يفسِّر شكلها وينفي شكلانيَّته. فهذا أحد النصوص العصيَّة على أن تُقرأ بنصف عين، ليس لأنها غامضة ومستعصية، بل لأنها تطالب المتلقِّي بقدرٍ من التفاعل قد يستكثره بعضهم أو يرفضه – تفاعُلٍ مع العنوان، مع الشكل، مع الآلية، ومع الروح. إن هذا نص حي! الماء ذروة الأنثوية في الفلسفة الصينية الطاوية، ينقسم كلُّ شيء إلى طاقتين متكاملتين: الـيَنْغْ (الذكورة/الإيجاب) والـيِنْ (الأنوثة/السلب)؛ وعن هاتين الطاقتين يتولَّد "العشرة آلاف شيء" المذكورة في كتاب الـتاو ته كنغ: إذ ثمة حركة متواصلة بينهما، بحيث يتمِّم كلٌّ منهما الآخر ويتحوَّل، عندما يبلغ كلٌّ منهما أوْجَهُ، إلى الضد. وسنحاولُ، من بداية كهذه، أن نقرأ النصَّ في ضوء الإيحاءات التي يُسقِطها الشاعر على عنصر "الماء" تحديدًا، لأن النص ابتدأ واختُتم به، ولأن تتبُّعه يكشف – كما سنثبتُ – مَحاور جوهرية وخصبة، ويلامس مناطق مفرطة الحساسية في واقعنا المعيش. يعتقد الصينيون بأنه كما أن كلَّ شيء تجلَّى في اليِنْ واليَنْغْ، كذلك كلٌّ من المظهرين ينقسم من جديد ليتمخض عن العناصر الخمسة: يولِّد اليَنْغْ في تصاعده طبيعةَ الريح وعنصرَ الخشب؛ وعند بلوغه الذروة يولِّد طبيعةَ الحرارة وعنصرَ النار. ونصل الآن إلى المرحلة التي ينقلب فيها اليَنْغْ إلى يِنْ: هنا تتولد طبيعةُ الرطوبة وعنصرُ الأرض؛ وعند تصاعد اليِنْ، تتولد طبيعةُ الجفاف وعنصرُ المعدن. ثم يبلغ اليِنْ ذروته، فتتولد طبيعةُ البرودة وعنصرُ الماء. إذًا، عنصر الماء يتولد عندما يبلغُ اليِنْ (الأنوثة/السلب) ذروتَه. وهذا يفسر عثورنا على بذور تشكِّل أساس الأنثوية وما بعد الحداثة في النص: فالماءُ أوجُ الأنثوية، والشواش، والخصب، وفي أحيانٍ "الموت"، بصفته أداة تحلُّل. إذًا، ينطلق الشاعرُ في النصِّ متبنيًا، منذ البدء، قيمًا حاولَ – وأزعم أنه نجح – في تكريسها، قيمًا تشكِّل جوهر الأنثوية: على شاكلة رفض المصادرة، ونبذ الأحادية، والدعوة إلى التعددية، والاحتفاء بالاحتمالات. وفي قوله "الفطرة والحدسُ وقودي"، نتذكر نظرية كارل غ. يونغ في الأنماط الپسيكولوجية الأربعة: الحدس في مقابل الإحساس، والشعور في مقابل التفكير، ونبدأ بمراجعة التقابل بين كلِّ قوتين وتكاملهما: فالحدسُ والشعور، بالدرجة الأولى، يُعتبَران وسيلتَي إدراك أنثويتين، تخوِّلان الإنسانَ التغلغلَ إلى بواطن الأمور واستشراف كُنْهها: نتفاعل ونحلِّل ونتبع الوقائع والحدس والغريزة في سبيل اقتحام البواطن، دونما اكتفاء بمعطيات ومسمَّيات الغير... وهما نقضٌ لأنماط التفكير السائدة التي تفصلُ بين الذات والموضوع، حيثُ: ... تنصهر الجسور إيمانًا قبل المسافات التي بدورها ما تلبثُ أن تختفي... فالشاعر يعالجُ المسافة الفاصلة بين الذات والآخر: بين أن تكون الذات موضوعًا، فتتشيَّأ وتتشوَّه، وبين أن يكون الآخر موضوعًا للذات، فينمسخ ويُسلَب. إنه مشروع انسكابٍ وتلقٍّ، إنه تكريسٌ للترابُطية. إن ما يرسمه محمد الحداد هنا هو "معادلة غير خطِّية"، بمعنى أنها لا تفضي إلى جواب واحد، أحاديٍّ بالضرورة، بقدر ما هو سعيٌ إلى "وجهات مختلفة" ورفضٌ للإلغاء: أمضي في تداخُل المنابت والوجهات المختلفة الباحثة بسذاجة عن أفق في موطئ قدم الباحثة عن النور في غابة الإلغاء كم سماء الله جميلةٌ الليلة... وأخيرًا، فإني لم أتجاوز عتبة "التفكيك" هنا في إثبات المنحى الأنثوي في النص؛ وسنرى أن هذا التفكيك هو بداية الدائرة: سنعود! الماءُ بصفته زمنًا يعتقد الصينيون بأن الرغبة الأساسية للماء هي الحقيقة، وسعيَه هو الاستمرار. ولهذا السبب نجد في النص ربطًا مُحْكمًا بين الماء والزمن، بصفته رمزًا إلى الديمومة. يحضر الماء في نصِّ اسمي أكثر من مرة، بشكلٍ يشي بسرَّانية الترادُف بين المناطق التي يفضي إليها؛ ويتجلَّى حضورُه – كما أسلفت – تجليًّا رئيسيًّا في صورة الماء/الزمن، لا بما يشي بحالةِ قلقٍ وتساؤل، بل حالة تجلٍّ ورؤيا. فالشاعر يقبل بترادفٍ كهذا على أنه شأنٌ مسلَّمٌ به: الزمن هذا الماء الدائم، به يُعرَف التغير في الأشياء الأمل الذي لا يُحتضَر ولأن الماء رمزٌ إلى التحول، إلى التحلُّل، إلى الاستمرار، فإن الشاعر يرمز به إلى خصائص الزمن بصفته "الأمل الذي لا يُحتضَر"، لفرطِ ما هو ماء – والماء حياة. وهذه الرؤية جزء حيوي من الثقافة العربية والدينية التي تشكِّل وعي الشاعر: فبالماء جُعِلَ "كل شيء حي"؛ والحياة أمل، – أملٌ في المستقبل، كمشروع ما فتئ يتخلَّق، – وكلُّ قطرة من الزمن هي حِراكٌ إلى مزيد من الكمال ومزيد من التحقق: الزمن هذا الماء الدائم، به يُعرَف التغير في الأشياء الأمل الذي لا يُحتضَر بصيصٌ من الوضوح عما ستؤول إليه الوجوه الحجرية واضحة الملامح حين يعانقها الطوفان، وربما من هنا تأخذ صفة المغامرة عندنا جدارتها حين يسود القادمُ من ضباب الغد التخوم... الشاعر، إذن، يستبشر بالزمن، ويحتفي به. فالكمال لمَّا يتحقق، ولكنه في طور التخلُّق، مع كلِّ لحظة، وهو يقع تمامًا في "ضباب الغد" الملتبس. الماء بصفته شعرًا والزمن أيضًا طوفانٌ: إذ الطوفانُ رمزٌ مثيولوجي وديني إلى تطهير الأرض من التابوهات والظلامية، متمثلةً في عبادة الأصنام؛ وهو، في عرف محمد الحداد، مستمر الحدوث، حتى عِبْرَهُ هو: وتتحد غيوم اللغة ذات السطوة والحضور وتمطرُ كثيرًا... وكأن الطوفان المقدَّس الذي سيغسلُ دعارة العالم ولاعقلانيَّته هو اللغة، وهو الشعر. وهذا تكريس مبطَّن لما ينبغي عليه أن يكون الشاعر في عرف محمد الحداد: محرِّرًا للعالم، ومطهِّرًا له. وهو يقرِّر أن حاجة العالم إلى الشعر جوهرية، وحقيقية؛ ووظيفة الشعر تنويرية، إنْ لم نقل "تطهيرية"، بازدواجية نشاطه الموزَّع ما بين البناء والهدم، على حدٍّ سواء، ما بين الإحياء والقتل، ما بين الماء والماء: وتتحد غيوم اللغة ذات السطوة والحضور وتمطرُ كثيرًا... لأن اللغة، كالماء، تحلِّلنا، وتعيد ضخَّ/خلق علاقاتنا بنا وبالعالم. ولكنها ليست أية "لغة"! فهي ليست لغة معلَّبة، مقولبة، صدئة، لأن الشاعر يضيفُ مخصِّصًا: "ذات السطوة والحضور"، كالشِّعر، على الأقصى، ويؤكد بذلك دور الشعر في هدم علاقاتٍ جائرة، وبناء علاقاتٍ تبدو أكثر عدالة: العدل كثيرٌ من العدل هذا هو موقفي... الشاعر يدركُ أننا في اللغة نُبنى: فالكلمات تُصاغ؛ وفي صيرورة الصوغ ننوجد، نتكون، وننفتح في الممكن، وتتكشف علاقتنا بالعالم، وبأنفسنا. فالشاعر يتكلم لكي يتعلم، ويكتب لكي يكتشف، ويعرفُ بأن اللغة آلية إدراك، وفيه – وهو سليلُ آدم – "علمُ الأسماء كلها". واللغة – شعرًا – خلاص، وانعتاق، وتحلُّل مستمر من تابوهات تراود هامش القصيدة – يواجهها محمد الحداد عبر لسان الأنثى المخاطَبة، المحتفى بها على طول النص، لأنها نطفة بدءٍ لاحتمالاتٍ أُخَر، وحلولٍ أُخَر، وأسئلة أخرى؛ بل بصفتها – في ذاتها – رمزًا إلى نقض الذكورية/المصادرة. فالشاعر، عِبْر خطابه إلى الأنثى، وتداخُل خطاباتها فيه، يفسحُ مكانًا لأجوبةٍ جديدة لم نسمعها، ويكسر هامشيَّتها القديمة وحضورَها المشوَّه؛ كما يغايرُ نصُّه أغلب القصائد في اعتبار الأنثى موضوعًا للشعر، – موضوعًا جسدانيًّا بالدرجة الأولى، – لأنها تجيءُ في النصِّ بصفتها فكرة، بل فِكر، بل قيمة! وهذا تكريمٌ وعدل، وكسرٌ للنظرة الأرسطية التي تعدُّ المرأة "ذكرًا شائهًا". فالأنثى هنا ملاذ، وأكثر. إنها احتمالٌ آخر، ومَن يدري؟ – ربما حل! – خاصة في الاقتباسات التي تخلَّلت السياق على لسانها، بلغةٍ بسيطة، ولكنها، أيضًا وأيضًا، موغلةٌ في البصيرة: كما قلتِ لي دائمًا: متعة ذاتية علينا فيها أن لا نرى أن طريقتنا ليست الوحيدة. هدفنا هو الحقيقة، وإنْ كانت فيما يقوله الغير. وأيضًا: عندما نقمع آراء الغير فنحن لا نقمع إلا أنفسنا، ونجهض أسئلةً قد تنير المستقبل. الشاعر هنا "ينصتُ": ينصتُ إلى الأنثى، ويعترفُ بأحقِّيتها في التمثُّل والحضور، – شيء يتجاوز استخدامها في الشعر كموضوع، بل كروح، – حتى إننا لا نعرفُ كيف نصنِّف الأنثى، محطَّ حفاوته: فهي قد تكون صديقة، أو حتى أختًا، أو حبيبة، أو أي شيء آخر؛ ولكنها غير مصنَّفة، وغير مسمَّاة، ليظلَّ شأنٌ "هامشي" كهذا في غيبة الهيولى، وتحضرُ هي فقط بصفتها أنثى، فكرة، محرِّضة على "أسئلة قد تنير المستقبل"، لأن الأسئلة حِراك، والأسئلة سائلة، والماءُ تحلُّل، والتحلُّل تحرُّر – وهذا جوهر الشعر، ومحور النص. فالتابو الذي سيبدِّده الماء/الزمن والماء/الشعر هو الأحادية بصفتها "وهمًا"، والوهمُ بصفته "شللاً"، والشلل بصفته عبء باهظ تكاليفه من علاقة مهمة كالمكان، وسائلة كالزمن لا شيء أعمق أو أنبل في رأس المتوهِّم من الثبات... فالتحوُّل/الماء، عِبْر الشعر/الماء، هو الحقيقة الوحيدة، وهو المقدَّس، حيثُ: لا القدسيُّ يرضى الثبات ولا النار تُحبَس في الحديد... الماء انعتاق نجدُ أن علاقة الشاعر بالزمن علاقةٌ تنقضُ، في لبِّ جذورها، الرؤيةَ السلفية السائدة، أو ربما المتسيِّدة: الكمال والفضيلة قد بلغا أوجهما في الزمن السالف؛ ومزيدٌ من التحرك في الزمن يعني مزيدًا من النأي عن النموذج المتقن في تمامه، عن الرؤية التي تتبنَّى فكرة أن العالم كلما تقدَّم الزمن صار أسوأ وأكثر دعارة. فالزمن، عند الشاعر، بقدر ما يسيل، يصبحُ العالم أكثر فضيلة وأقل ظلمًا. إنه وسيلة تطهير ووضوء: ما لبثتُ أغتسل بالزمن من أدران جهلي حتى انجرف مني الطين... لأن الشاعر، بالشعر، يعيش حالة تسامي: فالطينُ – مجملاً – رمزٌ يفتحُ على الجانب الحيوانيِّ فينا، الجانب الأرضي، المدنَّس، ربما الإيروسي، حسب الرؤية الأرسطية. والشاعر، بالماء/الحياة، بالزمن/الماء، بالماء/الشعر، يتحرَّر من الطين فيه: فهو في النهاية "محو"؛ والمحو فناء، واتحادٌ مع المطلق، ووجودٌ في الموجود، وكشف: تضيق عباراتي وأُقذَف في الوجود... والمعنى، في قلبِ الغبطة الصوفية، يتسع، و"العبارة تضيق"، على حدِّ تعبير النفَّري. والشاعر، في شكلٍ أو في آخر، يترجم وَجْدَه، ويخلق وجودَهُ في المحو: شيئًا خارج الطين، متحرِّرًا من زمكانيَّته، منعتقًا في النور. ما الطين إلا زمانٌ ومكان... فالطين اعترافٌ بالحدود، بالنواميس الزمكانية. ولكنَّ التسلُّل خارجًا، والانقذافُ في المحو، في الفناء، بصفته وجودًا، يحيل الزمان إلى أزل، فيتحقَّق الوجود، ويتقوَّض القلق. الماءُ يستعصي... وتتسرَّبُ إلى النص – في غمرة السكرة العرفانية – رؤى مقذوفة في قلب الشاعر، إذ يتحوَّل الماء إلى ثلج، ويبدو النص متيبسًا في مفاصله، وظامئًا: ... خذوا من ماء المحاجر شيئًا... وليكن سقيا أو جمالاً أو حزنًا عميقًا أو ريَّ جذر أخضر. فـ"الثلج الثلج، سميكٌ سميك"، والماء عصيٌّ، وهذا موسمُ الشهادة، لأننا في الماء الدائم فيضنا ومسيرنا والمكان الرحب في قلب الوليد. ويتساءل الشاعر: "مَن يفتح قنوات الماء إلى الأعلى"، وكأنه يريدُ أن يُقحِم الماءَ في عروق الشرائع المقدسة، على أمل أن تلين، أن يضخَّ الماء في السماء، أن تتحول نواميس العالم إلى شكل أكثر عدالة؛ إذ "لا أحد لهتاف المظلومين" – والعدلُ هو موقفه. أخيرًا... تظلُّ علاقة الشاعر بالماء رمزًا خصبًا إلى علاقته المتغيرة، المتحوِّلة، المقدَّسة، الحرة، مع الآخر – الآخر–الأنثى، ربما، الآخر–العالم. ويضعُ نقطتَه الأخيرة على الماء، ليسترسل الشعرُ في انسكابه، وينشدُ في السطر الأخير: على صفحةِ الماء أراك... لأن الآخر، بكلِّ تجلِّياته واختلافه، سببٌ كافٍ لكي نُستشهَد من أجله! 19 نيسان 2005 *** *** *** |
|
|