قراءة واستشراف

 

عباس عبود

 

إذا ما قرأنا تاريخ الإنسان، واستقرأنا واقعه الحالي، وتأملنا هذه التجربة الإنسانية في شمولية قراءة تركيبية، ورَبَطنا تطور هذه الحركة، في بُعدها العام، مع التطور المعتاد في مراحل نضج الإنسان كفرد، لوجدنا أن الإنسان يمر الآن بطور "المراهقة" المبني على التشتت، بعد أن كان في عصر فجر الحضارات في طور "الطفولة" المبني على مبدأ ردة الفعل في مجمل فعاليات الإنسان.

إنه الآن يبحث عن ذاته، عن "ذات" هي بمثابة هوية للبشر أجمعين وعامل مشترك يمثل نقطة التقاء عامة بينهم. إنه يبحث عن رصيد نظري حقيقي يكون بمثابة دستور ينظِّم ويقَوْنِن ويُشَرْعِنُ علاقاتِه وفعالياتِه مع الذات والآخر وسائر مفردات الواقع. إن من أهم عناوين المراهقة هو الشعور بالضياع والتمرد والبحث عن الذات – والإنسان كذلك الآن. فكل هذا الرصيد الهائل من الإيديولوجيات والتنظيرات والتجارب لا يبدو مقنعًا ككل. وحتى العلمانية الحديثة والليبرالية ومرجعية القانون المطلقة لا يمكن لنا اعتبارها نظرية متكاملة، لأن القانون "شُرطي" في الشارع في النهاية؛ أما الذات، فبقيت تبحث عن سلطة داخلية مقنعة تملأ فراغات النفس والروح. لذلك نجد الإنسان الآن فارغًا من الداخل أكثر من أيِّ وقت مضى، بعد أن كان الانتماء إلى الدين والعرق والقوم، والتعصب له، يملأ هذا الفراغ.

إن مرحلة الفوضوية في الذات، والبحث عن المرجعية الروحية، والتمرد والتخبط في مجمل موارد السلوك، هو أمر حتمي في هذا الظرف، نتيجة لاضمحلال القناعات السابقة في دواخل الإنسان، وعدم وجود إيديولوجيا شاملة ينتمي لها الإنسان وتصمد أمام سلطة وجرأة العقلانية الحدِّية المتنامية في اطِّراد في حضورها في واقع الإنسان. إن هذا الاضمحلال، تقابله ولادةٌ حتمية لمرحلة جديدة هي بمثابة مرحلة "البلوغ" للإنسان. وهذه المرحلة، يعاد فيها تأسيسُ البناء الروحي للإنسان بعد غزو العقلانية الحديث له، ويعاد فيها صبُّ قالب جديد قياسي للذات. في هذه الولادة، يتماهى الكل بالكل، وينصهر الأفراد والجماعات والثقافات في بوتقة واحدة، وتتغربل المفاهيم، فيترسخ الأصلح للكل بعد هذه الغربلة.

هذه الولادة، بدأت ملامحُها تتوضح مع بداية التقارب الواسع بين المجتمعات والثقافات عبر مجمل وسائل الاتصال الحديثة، وبروز العولمة بأبعادها العامة، الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها. وإن أهم عناوين هذه الثقافة الوليدة هو البحث عن نقاط التوحيد، وتجميد نقاط الاختلاف، والنظر في إيجابية إلى نقاط التلون واعتبارها حالة ثراء، بعد أن كانت منطلَقًا للعداء والاحتراب.

إن الإنسان، عبر رحلته الطويلة في البحث عن الذات، فشل في أن يجدها في ذاته المفردة، وفشل في أن يجدها في حضرة الآلهة، وفشل في أن يجدها في جماعة محددة. ولكنْ، في النهاية، هو في طريقه إلى أن يجدها في ذات المجتمع البشري ككل، على اختلاف الأعراق والأفكار والألوان والثقافات والتاريخ. أي أن نهاية رحلة البحث هذه لا يمكن إلا أن تستقر فيها ذاتُ الفرد في ذات الإنسان ككل. عندئذٍ فقط يتحرر الإنسان من رقِّ الذات، ويتحرك في اتساق مع الآخر؛ وعندئذٍ يمنح الضمير صكَّ الغفران للإنسان.

لن يكون التغيير أبيض، بل مؤلمٌ كالعادة، ولكن بدرجة أقل، ولن يحدث فجأة، ولن تكون خطوطُه واضحة الحدِّية، لكنه سيحدث. وإذا تأملنا حركة التاريخ سنزداد يقينًا من أنه سيحدث.

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود