|
عن الخراف والبشر! تقدُّم البشرية يقوم على التعليم والعلم والثقافة وليس على الاستنساخ
في شباط 2003 قرر العلماءُ إنهاءَ حياة دوللي، النعجة الأشهر في العالم، التي كانت أول حيوان ثديي يجري استنساخُه من خلية مكتملة النمو. وجاء موت دوللي قبيل الإعلان عن ولادة طفل مستنسَخ – ولو أن ذلك التطور لا يزال يكتنفه الغموض. موت دوللي لم يُثِرْ الضجةَ التي أثارتْها ولادتُها، كما أن العلماء لم يحددوا سبب الموت تحديدًا دقيقًا. مع ذلك، فإن موتها يطرح سؤالاً عن الآثار البعيدة المدى لعملية الاستنساخ على المخلوق المستنسَخ ويقدِّم للبشرية فرصةَ للتمعن في هذا الموضوع.
النعجة دوللي القاعدة المرعبة في أبحاث الطب تتلخص في حظر تجريب عمليات أو إجراءات على البشر قبل الاستيقان من سلامتها وفاعليتها من خلال تجريبها على الحيوان أولاً. لكن ماذا لو قرر بعضهم التغاضي عن هذه القاعدة في ما يخص عمليات استنساخ البشر؟ إن ذلك يواجهنا فورًا بتحديات رئيسية على الأصعدة الأخلاقية والثقافية والسياسية. وستواصل منظمةُ اليونسكو، التي أتشرف بمنصب مديرها العام، القيام بدور فاعل في النقاشات والمبادرات الدائرة على الموضوع، من خلال "اللجنة الدولية لأخلاقيات البيولوجيا" التي نشهد الذكرى الثانية عشرة على إنشائها. مما لا شك فيه أن قضية الاستنساخ بالغة التعقيد. وعلينا، بدايةً، الحرص، في ما يخص أخلاقيات علم البيولوجيا، – والاستنساخ تحديدًا، – على إبعاد الخرافات والمخاوف المتوهَّمة عن مجرى النقاش. الاستنساخ البشري يشير في وقتنا الراهن إلى واحد من إجراءين تقنيين لكلٍّ منهما غايته وطبيعته: فهناك الاستنساخ العلاجي الذي لا يهدف في النهاية إلى ولادة شخص مستنسَخ، بل الحصول على خلايا جذعية stem cells من جنين مخلوق عن طريق زرع نواة خلوية. والمتفق عليه أن استعمال الخلايا الجذعية يمكن أن يُحدِث ثورةً في طبِّ استصلاح الأنسجة والأعضاء. لِمَ التردد إذن؟ المسألة هنا هي الوضع الأخلاقي والقانوني للجنين، وهي تثير جملةً متضاربة من الآمال والتحفظات. فهل هناك خطر تحويل هذا النوع من الأجنة مستقبلاً إلى مجرد "دكاكين" لبيع الأعضاء البشرية؟ وهل من المشروع خلق الأجنة ثم وقف نموها الطبيعي؟ ومن سيقدم البويضات المطلوبة لهذه العمليات؟ ألن يقود هذا إلى شكل جديد من أشكال "تسليع" جسم المرأة؟ – خصوصًا النساء الفقيرات. إنها أسئلة لا جواب عنها إلا عند إقامة إطار قانوني صارم لأبحاث الأجنة البشرية، ولا توصُّل إلى ذلك الإطار إلا من خلال المزيد من النقاش. من جهة أخرى، يهدف الاستنساخ التكاثري إلى توليد طفل يكون نسخةً عن إنسان آخر. لكن استنساخ إنسان يختلف عن استنساخ الكائنات الأخرى، وهناك ما يدل على ذلك في آليات التوالد الجنسي الطبيعي. التوأمان، مثلاً، شخصيتان متميزتان على الرغم من أن التشابه بينهما أكبر مما بين شخصين تربط بينهما علاقة استنساخ. وإن أولئك الذين يرون في استنساخ أنفسهم أو أي شخص آخر أملاً في تحقيق أساطير عهيدة عن الخلود أو البعث إنما يعتمدون على مفاهيم مغلوطة وخطيرة عن علم الوراثة. فماذا يتبقى لنا إذا طرحنا جانبًا شمولية الجينوم البشري ووحدته لصالح "جينومات" مختلفة لنوعيات أو أعراق مختلفة من البشر؟ المؤكد أن إنسانًا مستنسَخًا لن يكون إنسانًا ممسوخًا، لكنه، في الوقت نفسه، قد يرفض الغاية التي أدت إلى ولادته. ولهذا علينا دراسة الموضوع من المرحلة التي تسبق العملية نفسها، أي الفحص عن دوافع مشاريع كهذه وعن المسلَّمات التي تقوم عليها في ما يخص الإنسانية والمجتمع عمومًا. إن هذا النوع من التدخل في الطبيعة لا يرى في الإنسان المستنسَخ سوى حامل جينة معينة، ثم يتم اختياره بسبب صفاته المحددة. وليس من الصعب تصور النتائج الكارثية على الصعيدين النفسي والاجتماعي لهذا النوع من مشاريع "تحسين النسل" eugenics! الطبيعة تعطي كلَّ شخص هويتَه الجينية الفريدة، التي تأتي نتيجة تفاعل حيٍّ بين عاملَي الحتمية والمصادفة. وإذا تخلينا عن ذلك الثراء في التنوع قد نصل في النهاية إلى تقسيم جينيٍّ مصطنع للبشرية بين ذوي الجينات الطبيعية، من جهة، وبين المستنسَخين، من جهة ثانية. لكن ألا تعاني البشرية ما يكفي من الانقسام والتمييز؟ إن فكرة الاستنساخ البشري، في أفضل الحالات، تقوم على الكثير من الوهم ومن سوء الفهم، وفي أسوئها، على الرغبة في استعمال علم الجينات لمآرب – من بينها الاقتصادي والإيديولوجي والعملي – لا بدَّ من أن تثير الشكوك. ومن هنا فإن فكرة حظر الاستنساخ البشري مبرَّرة على الأصعدة كلِّها، الطبي منها كما والقانوني والأخلاقي. وقد جاء هذا الحظر الذي لا تراجُع عنه أولاً على شكل توصية بعنوان "الشرعة العامة للجينة البشرية وحقوق الإنسان" أقرَّتْها اليونسكو في العام 1997 ثم أقرتْها الجمعية العامة للأمم المتحدة في السنة التالية. إذا نظرنا إلى القضايا التي تنطوي عليها أخلاقيات البيولوجيا نجدنا في إزاء أسئلة تطال عمق الأسُس الثقافية والفلسفية والروحية لمختلف المجتمعات. ويشكل التوفيق بين احترام هذا التنوع الثقافي وبين الحاجة الواقعية إلى التقدم العلمي شرطًا أوليًّا للبحث المشترك في حقل أخلاقيات البيولوجيا. وهذه هي الروحية التي نعمل بها حاليًّا على "إعلان عالمي حول المعلومات الجينية"، لأن إساءة استعمال هذه المعلومات قد تؤدي إلى بروز أشكال جديدة من التمييز، بل إلى انتهاكات مخيفة لحقوق الإنسان حتى. كما تواجه اليونسكو تحديًا إضافيًّا، يتمثل في مطالبتها بالعمل منبرًا لحوار بين مختلف الثقافات والمنظورات والمعتقدات الدينية، توصلاً إلى إطار أخلاقي عالمي يحدد الممارساتِ المقبولةَ في مجالات الاستنساخ وعلوم الجينات. من المرفوض تمامًا استيلاد إنسان "حسب المواصفات"، حتى لو كان ذلك توخيًا لتركيبة جينية "مثالية". وقد أدركت اليونسكو مبكرًا أهمية هذه القضية التي تتجاوز إطار الدول وحقوق التخصص، وتتطلب مشاركةً فاعلة من العلماء والساسة والاقتصاديين. واليونسكو هي أول هيئة دولية تقترح برنامجًا موحدًا متماسكًا للتعامل مع هذه القضايا، وهي تضع البعد الأخلاقي المتضمن في حقول العلوم والتكنولوجيا على صدر قائمة الأولويات. وتواصِل اليونسكو مهمتها الإشرافية والاستباقية هذه من خلال سبل وفعاليات عديدة، من بينها دورة "محادثات القرن الواحد والعشرين" التي نظَّمها جيروم بُندي في باريس في العاشر من أيلول 2004. والسؤال الضروري والملح الذي تناولتْه: "هل يجب حظر الاستنساخ البشري؟" مهمتي كانت إدارة النقاش، الذي شاركتْ فيه شخصياتٌ مثل الوزير الفرنسي الدكتور جان فرانسوا ماتييْ والعالمان خوسيه ماريا كانتو ووليام هارلبت والشخصية القانونية الدولية ميراي ديلماس مارتي. وكانت هذه، في مجال إمكانات الاستنساخ البشري، المناسبة الأولى التي أتاحت للبعد الأخلاقي استباق مسار التقدم التكنولوجي وقيادته – إذا توفرت الإرادة لذلك. الإنسان ليس مجرد حيوان ثديي. فمن المسموح استيلاد الحيوان عن طريق الاستنساخ. أما الإنسان فإن تقدُّمه يأتي عن طريق التعليم والعلم والثقافة، وليس بالاستنساخ. *** *** *** · المدير العام لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونسكو). |
|
|