اعترافات في الثمانين
حين أيقن هنري ميللر أنه صار مجنونًا!

 

زينب عساف

 

"عندما ينتصب واقفًا، كنت أجده أقصر بقليل مما هو عليه العملاق ميللر في خيالي" – هكذا يتحدَّث الكاتب والناشر الفرنسي كريستيان دو بارتيا عن لقائه مع الكاتب الأمريكي الشهير هنري ميللر في دارته في Big Sur على شاطئ كاليفورنيا. فيما بعد سيصف دو بارتيا، في مؤلَّفه الحواري الطويل اعترافات في الثمانين، ميللر العجوز كالآتي: "إنه شبيه جنگيز خان وقد تحوَّل إلى بوذا"!

الكتاب الصادر بالعربية لدى دار "التوباد" التونسية، بترجمة خالد النجار، لا يقل أهمية عن كتب ميللر الأخرى، مثل مدار الجدي ومدار السرطان وعملاق ماروسي وغيرها، مادمنا حيال شخص استمر يصوِّر نفسه طوال حياته ويدوِّن autoportrait هو سيرة كلِّ إنسان: سيرة الإله والشيطان في آنٍ واحد!

الممتع في هذا الحوار ذاك النوع من الاختراق النفسي المتبادل بين المتحاورَين: دو بارتيا شخص ذهني بالكامل، يذهب إلى "عملاقه" مسلَّحًا باستفزازيته وبإتقانه اقتفاء الأثر، ويبدو لنا، في أحيان كثيرة، أكثر "ميللرية" من ميللر نفسه، فيجعل الأخير يتساءل مرات: "هل أنا قلت ذلك حقًّا؟!"

لكن ميللر، في النهاية، كان سعيدًا به، أو بالهالة "النبوية" التي أضفاها عليه، ولاسيما حين سأله عن "الرسالة الميللرية" أو "فتَّاحة العلب الكونية". في الواقع، أتقن دو بارتيا إيجاد المخارج له، أعاد صوغ أفكاره بـ"أناقة" فرنسية، فلم يكن من "كاتب الطبقة المتوسطة" إلا التواطؤ، مادام ذلك في مصلحته هنا. هكذا، استهلَّ دو بارتيا الحوار باعتباره "لحظة إلهية"، وأنهاه ميللر بإطلاق صفة "المأخوذ بالإله" على نفسه بدلاً من "الرسول" أو "الساحر". والمأخوذ بالإله هو "ذاك الذي يعرف أن يضحك وأن يُضحِك الإله نفسه"، يشرح دو بارتيا. ويردف ميللر:

إنه إنسان حر، يستفيد من حريته ليفعل ما هو جيد، وينشر الفرح من حوله. وهو إنسان بلا خطيئة، بلا أحزان، يدفع إلى الضحك، بحيث إنه أداة بين يدي الإله.

يتقاذف الاثنان الكرة على ثلاث مجموعات من الأسئلة والأجوبة: طفولة هنري ميللر التي تحدَّث عنها كثيرًا وبما لا يكفي – طفولة الفيلسوف، لا الكاتب، التي تعني طفولة جميع أطفال العالم أو بدايات البشر كلها؛ تليها رحلةٌ عبر كتبه ووقائع حياته بحسب تسلسلها الزمني؛ وأخيرًا "الرسالة الميللرية": الرسالة الطبيعية أو "رسالة الإنسانية التي تسير على درب انهيارها"، على حدِّ قول ميللر.

الجزء الأول من الحوار يحمل عنوان "نظرة على الطفولة"، فيقدِّم موجزًا لمرحلة طبعت حياة ميللر إلى الأبد. فهو عاش السعادة حتى سن التاسعة قبل أن يقع في النقيض. عمليًّا، لم يكتفِ ميللر بتسعة أشهر، بل مدَّد حياته "الرحمية" إلى سن التاسعة. عرف ميللر، بمعنى ما، طفولةً "أپولونية" (نسبةً إلى الإله الإغريقي أپولون، إله الجمال والنور والفنون)، سرعان ما تحولت إلى "ديونيسية" (نسبةً إلى ديونيسوس، إله الكرمة والخمر، وبهذه المثابة، حارس القوى الحسِّية لدى البشر). والعودة إليها هنا تشبه العودة إلى شارع قريب من البيت الأبوي يحمل اسم "الرحم" بدلاً من العودة إلى الرحم نفسها: إنها عودة صورية واسمية فحسب. على أية حال، الرحم، أو المكان الأول، يلائم تفكير ميللر المتبطِّل. هو ذا يقول:

يحلو لي دائمًا أن أتصور نفسي وقد عدت إلى الرحم، حيث أدخِّن السيجار. هناك لدينا صور لپيكاسو على الجدران. إن المشهد في الداخل عجائبي، إنه الفردوس: فأنت محاط بالعناية الكاملة، لا مسؤوليات لك، وليس لديك ما تفعله.

الرحم ليست الثيمة الوحيدة في محور الطفولة؛ إذ ثمة أيضًا "المرأة التي تصوغ الكائن" أو الأم. وعلاقة ميللر بوالدته وبالنساء الثلاث الأوائل اللواتي عرفهنَّ في حياته (الأم والأخت والخالة) كانت كارثية: أم لا يحبها، وأخت بلهاء، وخالة مختبلة. هذا ما سينعكس على علاقاته المقبلة، فيختار العيش مع نساء مختلفات، سيِّدات مجتمع غالبًا، قبل أن يتزوج امرأة بولونية تشبه أمَّه، باستثناء أنها أكثر ثقافة منها. وكما كره أمه، السيئة في منحه حريته الكاملة في يفاعه، سيعود ليدافع راشدًا – بكلِّ قواه – عن تلك الحرية.

لقاء الكاتب مع الموت كان في أثناء طفولته أيضًا. لكنه لم يكن لقاءً حزينًا، بل هزلي، لأن موت جدِّه كان موتًا على الطريقة الألمانية: يدفن الأقارب الميت، ثم يجتمعون في حانة للترويح عن أنفسهم! وإذا كان العالم بأسره – بكلِّ جنونه وانحلاله وأمراضه – اجتمع في عائلة ميللر، فقد شكَّل الشارع أرضه الخصبة التي استقى منها شخصياته وحوادث كتبه: كان الشارع، بمعنى ما، "رحمه" الحقيقية!

هنري ميللر (1891-1980)

في الجزء الثاني، يطلق دو بارتيا تسمية roman autobiographique على أعمال ميللر، رواية السيرة أو الترجمة الذاتية، المقابلة لرواية مسرح عالم البشر الدوستويڤسكية. ومن المعروف أن ميللر بدأ بالكتابة في سن الثالثة والثلاثين، أو سن صلب المسيح. وعلى ذلك يعلِّق: "نحن نكتشف أنفسنا حقيقةً حيث نُصلب." "إنجيل" هذا الصلب سيكون مدار السرطان، الذي كتبه ميللر في العام 1932 وكان "أول عَدْوٍ له نحو المطلق"، بل "تهجُّؤه الإلهي الأول"، الذي سيكتمل مع ظهور توأمه مدار الجدي أو "ناطحة السحاب المضادة لأمريكا". علاقة ميللر بالكتب مرتبطة بعلاقته بالأماكن: باريس، التي استمرَّ في تخيُّلها، رافضًا صورتها الواقعية، حتى بعد عيشه فيها؛ اليونان، حيث وجد صفاءه الروحي بسبب اختلاط الآلهة مع البشر بدلاً من تعاليها عليهم؛ ثم الولايات المتحدة، "أرض الميعاد" المكروهة التي عاد إليها مجبَرًا.

أما الجزء الثالث فمخصَّص لـ"الرسالة الميللرية"، المرتبطة بعبارات مثل: "المفارقة الحيَّة" le paradoxe vivant، "افتحوا بواباتِ العالم كلَّها"، و"المستحيل ممكن". هذه "الرسالة" التي يركِّز دو بارتيا على شموليتها، يعود ميللر إلى التشديد على خصوصيتها: لكلِّ منا درب خلاصه الخاص، ليس ثمة مخلِّص للبشرية، إذًا كل منا مخلص نفسه. وهو بذلك يتنصل من مسؤولية كهنوتية أدبية حاول دو بارتيا توريطه فيها، معتبرًا أن الحكمة الحقيقية تعني العودة إلى الطفولة، ومشددًا على كون فلسفته مرحة، أي متسامحة، لأن جوهر الفلسفة هو الجنون المحض: أن نرى العدم أو نفكِّر داخله يعني أن نمزق الحجاب الأخير الذي هو أنفسنا. ويبدو ميللر مؤمنًا بفكرة التقمص، مقسِّمًا الكون إلى عوالم ثلاثة: عالم الرحم، وعالم الحياة [الدنيا]، وعالم ما بعد الموت، البرزخ، أو درڤهم durvham، بحسب المصطلح الهندي، حيث يعيد الأموات حساباتهم استعدادًا لحياة أخرى.

نكتشف الكثير عن ميللر في هذا الكتاب، عن ذلك الشيطان داخل الجنة! نكتشف تحديدًا كابوسه الخاص: ذات يوم، في أثناء حلاقة ذقنه، يُفاجَأ بأن الوجه الذي تعكسه المرآة ليس وجهه! وحينذاك فقط يوقن أنه أصبح مجنونًا. هل يحتاج واحد من أكثر كتَّاب الجنس البشري جاذبيةً إلى "كابوس" كهذا للإعلان رسميًّا عن جنونه؟!

*** *** ***

عن النهار، السبت 11 تشرين الثاني 2006

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود