مدخل لفهم إنجيل مريم المجدلية

مقدمة كتاب إنجيل مريم

 

جان إيڤ لولو

 

كثيرة هي الأناجيل، المعتمدة من قبل المؤرخين، والتي درست بدايات المسيحية. وأهم تلك الأناجيل وأشهرها قطعًا هي أناجيل متّى ومرقص ولوقا ويوحنا لأنها الوحيدة المعتمدة من قبل معظم الكنائس، لنقلِ أصداء، وتفسير أحداث وتعاليم، أتت من الجليل واليهودية قبل ما يقارب العشرين قرنًا.

لكن إلى جانب أناجيل متّى ومرقص ولوقا ويوحنا، التي تدعى بالقانونية، أصبح بوسعنا اليوم التمعن في الأناجيل "المنحولة" لبطرس وبارتالوميوس، وخاصةً، في إنجيل توما الذي بُشّر به في الهند، توما الذي يقال أن مثواه الأخير ما زال موجودًا هناك في مدينة مدراس. وقد أضحى ثابتًا اليوم أن بعض فقرات هذا الإنجيل قد استخدمت لاحقًا من أجل صياغة الأناجيل القانونية[1].

وأيضًا إلى جانب هذه الأناجيل، التي أضحت معروفة جدًا، هناك إنجيل يبدو وكأنه لم يحز على الاهتمام الكافي من قبل الاختصاصيين، فهو ما زال غير معروف من قبل أوساط واسعة، إنه الإنجيل الذي ينسب إلى مريم المجدلية التي كانت أول من شاهد المشيح بعيد قيامته أي قطعًا قبل بولس الرسول الذي يعتبر المؤسس الفعلي للمسيحية، والذي شاهده على مشارف دمشق.

لأنه معروف، واستنادًا إلى النصوص التي كتبها الرسل، أن الناصري لم يؤسس أي دين خلال حياته الأرضية القصيرة كما ولم ينشئ أية مؤسسة أرضية، إنما كان فقط "المبشّر" و"الشاهد" الذي ذهب البعض بعدئذٍ إلى اعتباره "التجسد" الممكن للروح في قلب زمكاننا، والتجلي اللامتناهي للألوهة في قلب نهائياتنا ...

وإنجيل مريم، الذي نتناوله ههنا، هو النص الأول لما عرف بمخطوط برلين[2] والذي جلبه من القاهرة البروفيسور ك. راينهاردت وتم حفظه، منذ العام 1896، في قسم المصريات العائد لمتاحف برلين الوطنية، أما مصدره فقد يكون بلدة أشمين المصرية أو ضواحيها، فقد جاء من هناك وتمت إعادة نسخه حسب ك. شميدت في أوائل القرن الخامس للميلاد، كما قام و. س. تيل، الذي تابع أعمال شميدت، بتوصيف أولي لهذا المخطوط، وهو توصيف صححه واستكمله من بعده هـ. مـ. شينكه.

وفق كتابة من خطَّ هذا النص في ذلك الزمان هناك ما بين الـ 21 إلى 23 سطرًا في كل صفحة، وكل سطر يتضمن ما بين الـ 22 أو 23 كلمة، كما أنه تنقص هذا المخطوط عدة صفحات هي الصفحات من 1 إلى 6، ومن 11 إلى 14، مما زاد من مصاعب ترجمته وشرحه.

أمّا فيما يتعلق بتاريخ النص الأصلي فإنه من الملفت للانتباه بهذا الخصوص وجود مخطوط يتضمن مقاطع من إنجيل مريم كتبت باللغة اليونانية، وقد تمت مطابقتها مع الأصل القبطي من قبل البروفيسور كارل شميدت، وهو المخطوط الذي عرف بمخطوط رايلاندز، ويعود تاريخه إلى القرن الثالث للميلاد. ما يعني أنه تمت كتابة إنجيل المجدلية، للمرة الأولى، قبل ذلك بفترة، في حوالي القرن الثاني للميلاد، أي حوالي العام 150 ميلادية حسب و. س. تيل مما جعله، إلى جانب باقي الأناجيل، أحد النصوص الأولى والمؤسسة للمسيحية.

لكن، إن كانت تلك هي الحال، فما هي يا ترى أسباب ذلك الانزعاج وتلك التحفظات التي ما زلنا نشعر بها إلى اليوم حين نقرأ هذا الإنجيل؟ وهي أسباب ما زالت إلى يومنا هذا نفس تلك المنبثقة من نصّه، تلك التحفظات التي أبداها كلٌّ من بطرس وأندراوس بعيد استماعهما إلى ما نقلته مريم المجدلية على لسان المعلم حيث جاء:

9 عندئذٍ تكلم أندراوس وتوجه إلى إخوته:
10 "حدثوني، ما رأيكم بما قالته لنا؟
11 أنا من جهتي، لا أصدق
12 أن المعلم تحدث هكذا؛
13 هكذا أفكار تخالف التي عرفناها."
14 وأضاف بطرس:
15 "هل يعقل أن يكون المعلم قد تحدث
16 هكذا، مع امرأة،
17 عن أسرار، نحن نجهلها؟
18 هل يتوجب علينا تغيير عاداتنا؛
19 والاستماع إلى هذه المرأة؟
20 هل انتقاها حقًا وفضلها علينا؟[3]"

ونقول هنا بهذا الخصوص أن ما يجعل من الصعب تقبّل هذا الإنجيل هو بالضبط ما يعطيه أهميته، لأنه إنجيل، إن لم نقل أنه كتب من قبل امرأة، فقد كان مستوحاًً من امرأة كانت تدعى مريم المجدلية؛ وهذه لم تكن فقط تلك "الخاطئة" التي خلّصها المعلم وتحدثت عنها الأناجيل القانونية، ولا تلك التي تحدثت عنها بعض المنقولات الحديثة التي خلطت بين خطاياها المفترضة وبين ما اعتبرته اضطرابًا لقواها الحيّة والجنسية؛ إنما أيضًا وخاصةً هي تلك التي كانت الرفيقة المميزة ليشوع، تلك التي تتلمذت على يده ونقلت أكثر تعاليمه سرّانيةً.

فصعوبة تقبّل إنجيل مريم مرده طبيعة ما تضمنه هذا الإنجيل من تعاليم منسوبة إلى يشوع، ومن تلك الأنتروبولوجيا والميتافيزياء التي تفترضها: لأنها ليست تلك المكونات ولا تلك الأنتروبولوجيا الثنائية والميتافيزئية لذلك الكائن والتي اعتدنا فهمها، إنما هي أنتروبولوجيا وميتافيزياء تصوّرٍ ما زالت أكثر النفوس تحررًا في أيامنا في بدايات طريقها إلى اكتشافه.

مريم المجدلية

هكذا إذًا، وإلى جانب أناجيل كتبت من قبل (و/أو نسبت إلى) ذكور، هناك إنجيل نسب إلى امرأة. وهذه المرأة التي تدعى مريم المجدلية، وكما جاء في باقي الأناجيل، كانت أول من ظهر له يشوع القائم من بين الأموات[4]. لذلك، نادرة هي المخطوطات المسيحية من القرون الأولى التي لم تتعرض بشكل أو بآخر لتلك الشخصية التي عظِّمت أحيانًا و/أو قلل من شأنها أحيانًا أخرى.

وأيضًا، للمزيد من التوضيح، نشير إلى أنه، إلى جانب إنجيلنا هذا، يحتوي مخطوط برلين على مخطوطين آخرين يحملان اسم مريم المجدلية. الأول يدعى تساؤلات مريم الذي نوه إليه إيبيفانيوس[5]، والثاني عنوانه ولادة مريم الذي أورد إيبيفانيوس[6] مقطعًا منه في كتابه. ونتوقف هنا قليلاً لأن أول هذين المخطوطين، أي تساؤلات مريم، والذي يظهر الأهمية الكاملة للمجدلية؛ قد استخدم بعدئذٍ كنموذج من قبل كاتب لاحق، وضع انطلاقًا منه تساؤلات أخرى نسبت إلى المجدلية، وهذه التساؤلات كانت ذات منحى مثنوي وصوفي واضح، مما أدى إلى التقليل من دور هذه الأخيرة. وفي الوقت الذي لم تعرف تساؤلات مريم إلاّ عن طريق إيبيفانيويس، فإن الكتاب اللاحق، ذو المنحى المثنوي والصوفي، قد طوِّر وجمع في مخطوط ضخم توجد نسخة منه في المكتبة البريطانية، ألا وهو الملحق 5114، المعروف، منذ القرن السابع عشر، تحت عنوان الـ Pistis-Sophia.

وحسب ميشيل تارديو، الذي نشر مخطوط برلين بالفرنسية، فإن ما سعى إليه مؤلف (أو مؤلفو) إنجيل مريم إنما كان تحديدُ موقفٍ من تلك المرأة التي ورد ذكرها في الأناجيل القانونية. فالكل يعترف بأنها كانت إحدى النساء اللواتي تبعن يشوع خلال كامل مساره، والكل يعترف بأنها شهدت موته على الصليب، وأنها، حسب إنجيل مرقص، كانت أول من شاهده بعيد قيامته[7]. مما أعطاها المرتبة الأولى بين النساء اللواتي تبعن المخلِّص. لكن، من جهة أخرى، فإن ما تورده أناجيل مرقص ولوقا حولها هو أن يشوع كان قد سبق وطرد منها سبع شياطين مما جعلها تلك الشخصية الإشكالية التي، إن كانت خاطئة في البداية، فقد أضحت بعدئذٍ رفيقة المعلم وأول من شاهده بعيد قيامته. لكنها كانت أيضاً، وكما هو واضح من الإنجيل الذي يحمل اسمها، تلك التي ساررها يشوع بأقوال وتعاليم لم يسارر بها الآخرين، مما جعل البعض يعتقد بأنها كانت زوجته.

لكن هذا ليس بالمؤكد وإنما المؤكد الذي لا يقبل النقاش، وكما جاء في الإنجيل القانوني ليوحنا، هو "أن المعلم قد أحبها"[8]، كما أحب مارثا أختها وأليعازر شقيقها، وكما أحب أيضًا كل من تبعه من نساء ورجال، ومن بينهم، يهوذا.

لأن يشوع لم يحب يوحنا أو بطرس "أكثر" مما أحبَّ يهوذا، إنما أحبهما بشكل مختلف. فقد كان حبه الكوني الذي لا يقاس يشمل الجميع. لكنه أيضًا، أحب كل منهم بشكل خاص. وعن هذا الجانب الخاص لحبه لمريم أكّد الإنجيل المنحول لفيليبوس بوضوح قد يوحي بأنها كانت زوجته حيث جاء:

لقد أحبّ المعلّم مريم أكثر من كل رسله. وغالبًا ما كان يقبِّلها من فمها. وقد شاهد باقي الرسل حبّه لمريم، وقالوا له: لماذا تحبّها أكثر منّا؟ فأجابهم المخلِّص قائلاً: لماذا يا ترى، لا أحبكم بمقدار ما أحبها؟[9]

وهذه الأسطر قد تصدم للوهلة الأولى أولئك الذين لم يطلعوا بشكلٍ كافٍ على كل النصوص المؤسِسة للمسيحية. لكننا نعود ونكرر، مرةً أخرى بهذا الخصوص، أن ما نبتغيه ليس الدخول في جدل عقيم حول ما إذا كان يشوع متزوجًا أم لا، فالبعض الذي يؤكد بأن هذا كان إلزاميًا إنما يستند إلى منطق يقول بأن يشوع كان رابيًا (أي كاهنًا) يبشر في الكنس وفي دور العبادة، وأنه، وفق العرف اليهودي، لم يكن بوسعه أن يكون عازبًا. بينما يؤكد البعض الآخر الذي يرفض هذه المقولة على عمق علاقته بابن عمته يوحنا "المعمدان" الذي كان يسينيًا، واليسينيون، وفق مخطوطات البحر الميت[10]، كانوا يرفضون "النساء والخطأة والمقعدين". لكن ما بوسعنا أن نؤكده، إن تقيدنا فقط بالأناجيل القانونية، هو أن المعلم كان يحب "النساء والخطأة والمقعدين"، وهذا ما عرّضه لانتقادات الفريسيين والصدّوقيين والغيارى واتباع جميع تلك النحل التي كانت منتشرة في زمانه.

ثم أن التساؤل لا يجب أن يكون هل كان يشوع متزوجًا أم لا (وكما نفهم ذلك اليوم) فهذا أمر لا يعنينا، إنما الذي يهمنا هو هل كان يشوع الإنسان بشرًا حقًا مع كل ما تفترضه هذه الإنسانية الأرضية من معنى؟ أي، وبدقة أكبر، هل كان يشوع إنسانًا بوسعه أن يعيش حياةًً جنسيةً طبيعيةً، وأن تكون له خصوصيته فيما يتعلق بعلاقته مع امرأة أحبها وفضلها على سواها؟

لأننا إن افترضنا أن يشوع، الذي هو المشيح، لا يتحمّل أية مسؤلية جنسية، فإن هذا يعني إدانة تلك المسؤولية التي لن ينالها الخلاص. وهذا ينفي كونه مخلِّصًا بكامل ما لهذه الكلمة من معنى. فمن هذا المنطلق، يمكن أن تتحول دعوته من دعوة إلى الحياة إلى دعوة للموت، لأن الحياة الجنسية المدانة يمكن أن تصبح خطرًا، ويمكن أن تحولنا بالتالي إلى مرضى. والعضو الذي تولد منه الحياة، والمتعلق مباشرة بخلقنا "على شاكلة الألوهة" يمكن أن يصبح، نتيجة لهذا المنطق المشوه، أداةً للموت.

وهذا هو، كأناجيل يوحنا وفيليبوس، أول ما يذكِّرنا به إنجيل مريم. هذا الواقع الذي يقول بأنه كانت ليشوع خصوصيته البشرية مع امرأة محددة، وهذه الخصوصية لم تكن جسديةً فقط إنما كانت أيضًا عاطفيةً وفكريةً وروحيةً. لأنه إن كان الخلاص هو الرجاء فإن الذي يجب أن يشمله هذا الخلاص، عن طريق الوعي والحب بكامل أبعادهما، هو الكائن الإنساني بكليته. لهذا فإن إنجيل مريم، حين يذكرنا بذلك البعد الواقعي وربما الجنسي لإنسانية يشوع، فإنه لا ينتقص شيئًا من واقعية بعده الروحي والإلهي.

ونتفكر بأن هذا البعد الإنساني هو تحديدًا ما ذكّرتنا به الأناجيل القانونية لمرقص ومتى ولوقا حين حدثتنا عن دموع المخلص وشكوكه حين كان يواجه الموت على الصليب: "ربي، ربّي، لماذا شبقتني؟"، "ربي ابعد عنّي هذا الكأس[11]"؛ إنه تذكير بإنسانية يشوع، لأنه من خلال هذه الإنسانية تجلّت الألوهة.

وأيضًا، فإن ما يدعونا إليه إنجيل مريم، مثله مثل باقي الأناجيل، هو أن نتحرر من تلك الثنائيات التي تشيطننا وتمزقنا. لأن القضية ليست البتة في إنكار الجسد أو المادة، إنما من خلال عدم التماهي بهما ورفض تملكهما لنا، تصعيدهما والارتقاء بهما. تمامًا كما فعلت مريم المجدلية التي سارت على خطى حبيبها فعلّمتنا عن طريق الخيال الخلاّق كيف ندخل الحب إلى حيث لا يكون، إلى تلك الأماكن التي تمنعنا عنه، و/أو تعيقه عنّا، رغباتنا وعقولنا.

فكما في قانا الجليل، إن أردنا تجسيد عرسها، يجب أن نتخيل كيف بوسعنا تحويل الجهالة المتبادلة، عن طريق فهم الكلمة غير المتوقعة، إلى محبةٍ تتجاوز شغف البدايات. حبٌّ يحوِّل الماء العادي لأيامنا العادية إلى خمر يسكرنا.

ليفهم من بوسعه ذلك

كلا، لم تكن مريم المجدلية مجرد امرأة، إنما كانت امرأةً تلقت المساررة ووصلت إلى المعرفة. من هذا المنطلق لم يكن غريبًا في زمن يشوع – وإلى يومنا هذا - أن ينظر إليها كخاطئة، فهي لم تتقيد بقوانين مجتمعٍ كانت المعرفة فيه شأنًا ذكوريًا لا علاقة له بالمرأة. فالمرأة في تلك الأيام، لم يكن من حقها دراسة خفايا التوراة والتساؤل حول معاني حروفها.

إذًا، كان من الطبيعي أن يكون خطابها مزعجًا بالنسبة لباقي الرسل: من تراها تحسب نفسها هذه المرأة؟ ألم يكفها أن المعلِّم أحبها، فأرادت تملّك تعاليمه والإيحاء بأنه ساررها. حين تراها تستعمل نفس الكلمات التي كان يتفوه بها أمام النفوس "غير المهيئة" و"العقول المحدودة"، ما جعلها تتخيل واقعًا لم تستوعب مضمونه. "فليفهم من بوسعه ذلك"؟

فليستمع من لديه أذنان

لأن الأهم من كلماتها المثيرة، التي ذكّرت الرسل بمحدودية إدراكهم، كانت شهادة إنجيلها بمنظومة معرفية أخرى تختلف عن تلك التي بوسع نفوسهم الذكورية إدراكها.

لأنها شهادة تمت من خلال رؤى معرفية نبوية الطابع. معرفةٌ ليست محصورةً بالنساء قطعًا وإن كانت تحمل ذلك البعد الأنثوي الملائكي أو "المشرقي" للمعرفة الإنسانية.

ونراها بهذا الخصوص تتسأل:

بماذا رأيته يا ترى؟ وأية أعين مكنتني من التمعن بذلك الذي قام من بين الأموات؟

ويأتيها جواب المعلم محددًا وواضحًا بأنه لا يمكن رؤية من قام من بين الأموات بأعين الجسد ولا بأعين النفس (وفق المعنى الدارج لتلك العبارة)، لأن هذه الرؤية ليست هلوسة ولا تخيل ناجم عن تحريض ذهني أو عقلي؛ إنما هي، حسب إنجيل مريم، تلك التي تمت عن طريق الذكاء. وهذا غالبًا ما ينساه العارفون، لأن الذكاء هو أدق ما في أرواحنا، ونحن نعبر عنه اليوم فنقول بأنه "ملاك الروح" الذي يمكننا من التواصل مع العالم الوسيط، ذلك العالم الذي ليس ملموسًا ولا مفهومًا، ذلك "المتخيَل" الذي عبر عنه بدقة هنري كوربان[12].

فمن خلاله بوسعنا أن نقول أن إنجيل مريم لا يضعنا أمام معضلة فكر ومدى، كما عبّر عنهما ديكارت، ولا أمام بنيان كوزمولوجي أو معرفي يحدّهما العالم العقلي للفهم المجرّد. فما بين هذين الإثنين هناك عالم وسيط هو عالم الصورة أو التمثُّل، عالم يضاهي وجوديًا بواقعيته عالم الأحاسيس والفكر؛ عالم يتطلب مقدرة تلمس خاصة ومعرفة ذات قيمة نبوية تضاهي بواقعيتها تلك التي تتلمسها الحواس ويتقبلها المنطق. إنها القدرة على الخيال التي لا يجب الخلط بينه وبين التخيل أو الوهم.

لذلك كان إرنست رينان مخطئًا دون شك حين قال بأن كل المسيحية ولدت من خيال امرأة، لأن المعنى الذي أعطاه رينان للخيال هو معناً إنتقاصياً يعيدنا إلى ذلك البعد الذي يشترطه فكره. فرينان كان يجهل، في الواقع، تلك الفئات المنبثقة من الخيال الخلاّق والتي صيغت بها النصوص القديمة والكتب المقدسة، لأنه لو كان الإله حيًّا لطلب التواصل حتمًا. من هنا تأتي الحاجة إلى وسيط بين الألوهة وبين البشر، بين المرئي واللامرئي، بين عالم الأجسام المادية وعالم الأرواح غير الملموسة. وفي هذا العالم الوسيط، الذي هو وليد الخيال والواقع معًا، كان لقاء المجدلية بذلك الّذي قام من بين الأموات. فلأجلها، كما للأنبياء القدامى، أحيا الله تلك الرؤى التخيلية الضرورية التي أتاحت لها التواصل معه. من هذا المنظور، بوسعنا أن نقول بأن المسيحية ولدت فعلاً من خيال امرأة حيث جاء:

12 "سيدي، أنا أراك اليوم
13 بهذا التجلي."
14 فأجاب:
15 " أيتها المباركة، يا من لا تضطربين لرؤيتي[13]."

وهذا يخرجنا من قلب ميتافيزيائية موضوع يواجه ميتافيزيائية ملموس. (حيث لا يوجد ملموس بلا موضوع يتفهمه ويتمثله، كما لا يوجد ملموس إلاّ ويعكس في الواقع موضوع بيئة تتمثله كشيء خارجي أو كشيء آخر). وترانا من هذا المنظور نواجه ميتافيزيائية انفتاح هو، في الحقيقة، مكان تلاق، و/أو تعارض، بين الموضوع وبين الملموس، إن أخذناهما كل على حدا. لأنه من هذا المنظور لا يعود الواقع موضوعيًا أو متخيلاً إنما يصبح "ثالثًا مشمولاً" يستوعبهما ويوحدهما.

ونجدنا أمام حقل لم يتطرق له الفلاسفة المعاصرون الذين ما زالوا يتأرجحون بين ميتافيزيائيات الكائن (هيدغر) وميتافيزئيات الغيرية (ليفيناس). لذلك ستكون إحدى مهام القرن القادم، حتمًا، التمعن في ذلك الفكر المنفتح أو الوسيط. عندها لن نبحث بما لم نتفكر به عند اليونان أو عند الساميين، وإنما سنبحث في تلك "الشميلة المشرقية" المرفوضة من كلا الجانبين. تلك التي شقّت طريقها عبر النصوص الأولى للمسيحية. ما يحقق تجدّد الفكر، عند مناهل كتابات العهد الجديد، من خلال إعادة الاعتبار إلى الخيال الخلاّق،

لأن ما ندعوه بالخيال الخلاّق ليس استعارةً ولا تخيلاً، إنما هو حقيقةٌ بكل ما للكلمة من معنى: لأن الخيال يَخلُق، وخليقته كونية بحد ذاتها. وكل واقع متخيل لأنه بوسعنا تخيله كواقع. والحديث عن عالم متخيل، لا يتعدى التأمل في ما ورائية الكائن حيث الموضوع والشيء يلدا معًا نتيجة الفعل الخلاّق لخيال متصاعد.[14]

لذلك، عوضًا من التحدث عن "العقل الخلاّق" دعونا من الآن فصاعدًا نتحدث عن "الخيال الخلاّق". حيث يتوجب على من يريد فهم طبيعة وأحداث هذا العالم أن يتعلم كيف يحلم قبل أن يتعلم كيف يفكر. لأن لغة الكتب المقدسة هي لغة صور ورموز مردُّها عالم الأحلام وليست المفاهيم العلمية. ويضيف كريستيان جامبة في كتابه منطق الشرقيين يقول:

الواقع هو الطبيعة التي تنظمها القوانين: هذا ما يقوله الخطاب العلمي، وهو صنيعة ما يفترضه من خيال. لهذا نحن نفهم جيدًا أنه من نفس المنظور يجب علينا مقاربة عالم الخيال. لأنها طريقة تسعى إلى إيجاد صلة، إلى إعطاء معنى للتفسير. لكن هذه الطريقة لا تستند إلى نفس مرتكزات الطريقة العلمية. حيث إن لم يدّعي أحدً بأن الكلّ قد قيل، لكنه من الواضح في المقابل أن الواحد قد عبّر عن نفسه مشترطًا بأنه ليس الكلّ. لأنه يستحيل للواحد أن يقال. ولأن ما يتجلى هو عجز الواقع على تلبية رغبة الواحد. وعالم الخيال هو عالم لا يعبّر عن الكلّ إنما عن تلك الرغبة. أي أنه، إن أردنا التعبير بشكل أدق، الإطار حيث الذي تتحول فيه الرغبة إلى خيال[15].

ونضيف أيضًا إلى ما سبق "التحول" و"القيامة".

لأن هذا التحقق هو تجسد الرغبة التي أرادت مريم المجدلية مشاركتنا إياها. وهذا الخيال الخلاّق هو بالتحديد ما سعى إنجيلها إلى إيقاظه فينا. وهذا كان من الطبيعي أن يقابل بتحفظات واعتراضات من تستند فلسفتهم إلى الحواس والمنطق فقط كبطرس وأندراوس.

والنتائج الأخلاقية لتلك الممارسة التي تستند إلى الرغبة والخيال واضحة وستصدم آخرين من أتباع يشوع: "لا توجد خطيئة" إنما نحن الذين بخيالنا المريض لا نكف عن اختراع القوانين التي ترسّخها. ما يعني بأن ما يجب علينا معالجته هو خيالنا، لأننا مسؤولين عن هذا العالم حيث نحيا، فنحن الذين نخلقه، وافتقادنا إلى "الخيال الخلاّق" هو ما يجعل عالمنا "عالمًا للموت" ويحصرنا وسط تلك الحدود التي تتوقف عندها القلوب والعقول.

ونلاحظ بأن هذا الخيال الخلاق، الذي عبّرت عنه مريم المجدلية في إنجيلها، هو المكان الذي يلتقي فيه الألوهي المتسامي بالمادي المحسوس، فالخيال هو التفاعل الإيجابي بين المرئي وغير المرئي، بين الروحي والمادي.

ومحرك هذا الخيال لا يمكن أن يكون، بالنسبة إلى مريم، إلاّ الرغبة وإلاّ الحبّ، فهي أحبت شخصًا عرفته في العالم الملموس، ورأت فيه تجلّياً للمحبوب الإلهي. لذلك نراها من خلال خيالها، تروحن هذا الكائن من خلال رفعه من شكله الملموس لتجعل منه صورةً لا تقبل التشويه.

لذلك، كباقي التلاميذ الذين ظهر لهم، تتفتح عيناها لترى واقعه الفعلي، ذلك النموذج البدئي الذي يخبرها ويملأ خيالها بوجود لا يعود بوسعها إضاعته أو تجنيه، فتخلق صورة ذلك المحبّ الحقيقي الذي سيرافقها دائمًا وينير طريقها باستمرار. وهذا (المحب الحقيقي) ليس وهمًا، ولا تصعيدًا، ولا تعويضًا وفق التفسير النفسي للكلمة؛ إنما هو استيقاظ يرى العالم الوسيط. إنها تجربة ومعرفة يقدم المشيح فيها نفسه كـ"أنموذج وشميلة" تحاول الروح التواصل معها:

لأن المعشوق الإلهي روح بلا جسد
والمعشوق المادي جسد بلا روح.
أما المعشوق الروحي فهو روح وجسد[16].

جان إيف لولو

ترجمه بتصرف: أكرم أنطاكي

* * *

 

إقرأ إنجيل مريم المجدلية


 

horizontal rule

[1]  راجع إنجيل توما، معابر، باب المنقولات الروحية، الإصدار الرابع.

[2] Papyrus Berolinensis 8502 was acquired by a German scholar, Dr. Carl Reinhardt, in Cairo in 1896 (the codex is variably referenced in scholarly writings as the "Berlin Gnostic Codex", the "Akhmim Codex", PB 8502, and BG 8502).   It contains Coptic editions of three very important Gnostic texts:  the Apocryphon of John, the Sophia of Jesus Christ, and the Gospel of Mary.  Despite the importance of the find, several misfortunes (including two world wars) delayed its publication until 1955. By then the Nag Hammadi collection had also been recovered, and two of the texts in the PB 8502 codex -- the Apocryphon of John, and the Sophia of Jesus Christ -- were also found included there.  The PB 8502 versions of these two texts were used to augment translations of the Apocryphon of John and the Sophia of Jesus Christ as they now appear in the Nag Hammadi Library.

Importantly, the codex preserves the most complete surviving copy of the Gospel of Mary (as the text is named in the manuscript, though it is clear this named Mary is the person we call Mary of Magdala). Two other small fragments of the Gospel of Mary from separate Greek editions were later also unearthed in archaelogical excavations at Oxyrhynchus in Northern Egypt.  (Fragments of the Gospel of Thomas were also found at this ancient library site, see the Gospel of Thomas page for more information about Oxyrhyncus.) Unfortunately, the extant manuscript of the Gospel of Mary is missing pages 1 to 6 and pages 11 to 14 -- pages that included sections of the text up to chapter 4, and portions of chapter 5 to 8.

The complete extant text of the Gospel of Mary is presented below.  For those interested in a print edition of the text, we highly recommend Karen King's new translation and commentary (listed in box on right).  An introductory lecture on the The Gospel of Mary Magdalen is also available in our The Gnosis Archive Web Lectures collection.

[3]  إنجيل مريم المجدلية، الأسطر من 9 إلى 20، ص 17.

[4]  إنجيل يوحنا،  20 – 18.

[5] Voir Panarion, XXVI, 8, 1 et 2, traduction francaise dans Tel quel, 88, p. 70-71, avec commentaires p 85-86.

[6] Panarion XXVI, 12, 1-4, traduction, ibid, p. 75, avec commentarie p.88.

[7]  إنجيل مرقص،  16 – 9.

[8]  إنجيل يوحنا، 11 – 5 .

[9]  إنجيل فيليبوس، 63 ، 36 – 64، 5.

[10]  وهي مخطوطات وجدت في قمران ولا يجب خلطها مع مخطوطات نجع حماده.

[11]  متى: 26، 39؛ مرقص: 14، 32-42؛ لوقا 22، 40-46.

[12]  راجع كتاب هنري كوربان أجساد روحية وأرض سماوية.

[13]  إنجيل مريم، الصفحة العاشرة.

[14]  منطق الشرقيين، كريستيان جامبة.

[15]  نفس المرجع، ص 45.

[16]  محي الدين بن عربي.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود