الصديق الإسرائيلي
أمنون كابيليوك (1930-2009)

 

إنياسيو رامونه

 

كان شرف الصحافة الاسرائيلية. صاحب شجاعةٍ خارقة كما يدلّ عليه كلّ مقالٍ من مقالاته التي كتبها لـلوموند ديبلوماتيك منذ العام 1969. كان يوجّه الاتهام بلا تردّد إلى سلطات بلاده، خصوصًا إلى العسكريين الذين كان يفضح تجاوزاتهم بالكشف عن براهينٍ قاطعة[1]. برهن أيضًا، بما قدّمه من مثال، أنّه في بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية يمكن لبعض المساحات النقدية أن تكون شاجبة للسلطة.

كان آمنون كابيليوك صحافيًا أصيلاً يندر وجوده اليوم، مسكونًا بمهنته، متسائلاً على الدوام، مسجّلاً كل تفصيل، فاحصًا، ساحرًا، كاشفًا للمستور، أي بالمختصر منقّبًا لا يملّ. كان مقتنعًا بأن الوظيفة - الاجتماعية، المدنية، الديموقراطية - للصحافيّ تقوم دائمًا على إبراز الحقيقة للناس، من خلال كشف النقاب عن المعلومات المخفيّة. وهذه الحقيقة غالبًا ما تسترها السلطات أو تتجاهلها أو تشوّهها.

كان أيضًا رجلاً واسع الثقافة، هاوي مجموعات، محبّ للموسيقى وشغوف بالرسم، لا يتردّد في الذهاب إلى أقاصي الأرض سعيًا وراء متحف رسومٍ مجهول وتأمل لوحةٍ بذاتها. هكذا تروي أولغا، زوجته عالمة اللغات ذائعة الصيت، كيف اكتشف آمنون العاصمة الفرنسية في مطلع الستينات: كان يختار كل يوم دائرة، ويعبر شوارعها مكتشفًا غرائبها وزائرًا متاحفها. بنفس المنهج، من الدائرة الأولى إلى العشرين...

ولد آمنون في القدس عام 1930، في عائلةٍ يهودية صهيونية علمانية وتقدميّة قادمة من أوكرانيا. وعلى جواز سفره الأول كان مدوّنًا إلى جانب "مكان الولادة" كلمة "فلسطين"، التي سلّمتها عصبة الأمم عام 1922 إلى الانتداب البريطاني. ما يعني أن آمنون عرف الكثير من مآسي المنطقة خلال أعوامه التسعة والسبعين.

ترعرع في مدينةٍ حيث كان للعرب الفلسطينيين وجودٌ كبير، وتعلّم اللغة العربية بتشجيعٍ من والده المستعرب الكبير مناحيم كابيليوك. كان يعشق تلك اللغة، يتذوّقها، يمتدِح موسيقاها وغناها ودقّتها. كان يقرأها ويكتبها ويتكلّمها، كما يؤكّد فخورًا.. "بدون لهجة". وهذا ما ساعده، وكذلك بفضل جواز سفره الفرنسي أيضًا، على إنجاز تحقيقاتٍ لصالح أهمّ يوميّة إسرائيلية، يديعوت احرونوت، في جميع البلدان العربية تقريبًا، وهذا ما لم يقُم به أيّ صحافيّ إسرائيليّ آخر.

هذه الحميمية مع اللغة العربية جعلته متعاطفًا مع المأساة الفلسطينية. فمع استنكاره اللجؤ إلى الارهاب، كان مدافعًا لا يتعب عن حقوق هذا الشعب. والتقى مبكّرًا بقيادات منظمة التحرير الفلسطينية ليقيم علاقات وثيقة معهم وخصوصًا مع الزعيم التاريخي ياسر عرفات الذي قابله، مخاطرًا بحياته، عام 1982، في بيروت المطوّقة والمعرّضة للقصف من الجيش الإسرائيلي، وقد كتب عن أبو عمّار سيرة حياةٍ استثنائية في أهميتها[2].

كان يحبّ "الختيار". وهذا جليّ. إذ يكفي رؤيتهما سويًا. وقبل وقتٍ قصير على وفاة القائد الفلسطيني، عام 2004، أصرّ آمنون على تعريفه بي. وصلنا في السابعة صباحًا إلى مبنى "المقاطعة" في رام الله بالضفة الغربية، حيث كان الرئيس الفلسطيني في "الإقامة الجبرية" منذ ثلاثة أعوام، بقرارٍ من رئيس الوزراء الاسرائيلي آنذاك، آرييل شارون. طلبوا منّا الانتظار في صالونٍ صغير قبيح الزينة، حيث كان ينتظر بعض رفاق النضال القدامى. أساطيرٌ حيّة بالنسبة للشبيبة الفلسطينية، كان هؤلاء الرواد قد شاركوا في جميع الحروب: 1948، 1967، 1970، 1973، 1982... وخسروها جميعها. لكنّهم هنا الآن، عادوا أخيرًا إلى أرضهم في فلسطين، وجميعهم استقبلوا آمنون، الصديق الإسرائيلي بالعناق الصادق والحار.

دخل علينا عرفات بعد قليل؛ كان مرهقًا وكالمذهول. وكأنّه لم يذق النوم منذ الأزل. فقد كان مصابًا بمرضٍ يسبّب له رجفة دائمة في شفته السفلى؛ ما يعطي انطباعًا متعبًا بأنّه يتمتم دون انقطاع. وبحسب آمنون، قد جاء ذلك نتيجة تسميم جرّبه به آرييل شارون.

متجاوزًا البروتوكول، توجه عرفات مباشرة نحو آمنون وعانقه باحترامٍ ومودّة. انعزلا في زاوية من القاعة وانطلقا في محادثةٍ طويلة بالعربية. كان كابيليوك يتكلّم ويفسّر. كان عرفات يصغي ويسأل. سألت أمنون عند خروجنا: "عمّا كنتما تتحادثان طوال هذا الوقت؟ كأنّك كنت تقدّم له عرضًا حول التطور الجيوسياسي العالمي". فأجابني ضاحكًا: "أبدًا! كان يريد أن يعرف إذا كان فريق سخنين لكرة القدم قادر على إحراز كأس اسرائيل!"[3].

هكذا كان آمنون كابيليوك، مثقّفًا يساريًا منفتحًا على كافة الطروحات، محبًّا وحارًّا، يفيض ظرفًا، ولا يتعَب من سرد قصصٍ ينهلها من تجاربه التي لا تحصى كمسافرٍ يحب بلاده، إسرائيل؛ لكنّه منتقد قاسٍ لكافة انحرافاتها اليمينية المتطرّفة. تخسر لوموند ديبلوماتيك معه صحافيًا لا يعوّض، وصديقًا كبيرًا. نتعاطف ونتضامن مع زوجته أولغا وابنتَيه وحفيداته، دون أن ننسى الأمين بونشو.

*** *** ***

الليموند ديبلوماتيك


 

horizontal rule

[1] Sabra et Chatila, enquête sur un massacre, Seuil, Paris, 1982 ; Hébron, Cronique d’un massacre annoncé, Arléa, Paris, 1994 ; et Rabin, un assassinat politique, Le Monde éditions, Paris,1996.

[2] Arafat l’irréductible, Fayard, Paris, 2004.

[3] فاز نادي "هابوئيل بني سخنين"، من مدينة سخنين العربية في الجليل، في الواقع بكأس اسرائيل لكرة القدم في أيار/مايو 2004. وكانت المرّة الأولى التي يحصل فيها نادي مدينة عربية - ولاعبيه من اليهود والمسيحيين والمسلمين - على هذه الكأس.

 

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود