سيمون ڤايل Simone WEIL
رغبة اللاعنف

 

جان-ماري مولِّر*

 

الحقيقة، بنظر سيمون ڤايل، لا يمكن لها أن تُحبَس ضمن منظومة فكرية مجرَّدة أشبه بالإيديولوجيا. فالحقيقة تتماهى جوهريًّا مع الخير. لا بل إن معرفة الحقيقة هي قبول الخير. هي ذي تكتب: "ما من شرٍّ أعظم من الإساءة إلى البشر؛ وما من خير أعظم من الإحسان إلى البشر"[1]. عبر هذه البديهية المزدوجة - وقد يغرينا أن نقول: عبر هذا التبسيط المزدوج -، تراها تبيِّن ازدواجية الطبيعة البشرية كلها. إنها تلمح تلميحًا صريحًا إلى أن النزعة الأولى في الإنسان هي الإساءة إلى البشر، لكنه لا يحقق إنسانيته إلا بالإحسان إليهم. والخير يعبَّر عنه أولاً بالعدل تجاه البشر:

العدل عبارة عن السهر على ألا يُساء إلى البشر. [...] وصون العدل، حماية البشر من كل شر، هي أولاً [التشديد من تدخل الكاتب] الحيلولة دون أن يُساء إليهم.[2]

وما يسيء إلى البشر هو دومًا عنف. لذا فإن سيمون ڤايل عبَّرت عن أشد الازدراء بالعنف الذي هو دومًا انتهاك لحرمة شخصية الإنسان. إحقاق العدل لإنسان هو أولاً معاملته بالاحترام الذي يليق به. وإذا كان مصابًا ببلوى فهو التعاطف معه، مشاطرته بلواه في محاولة للتخفيف منها. وكل مَن يولي انتباهه ومحبته للحقيقة

[...] يعترف في الوقت نفسه أنه ملزَم، في الحياة العامة والخاصة، بالفريضة الوحيدة والدائمة بأن يتدارك، على صعيد مسؤولياته وبحسب طاقته، جميع صنوف الحرمان النفسي والجسدي التي من شأنها أن تدمِّر الحياة الأرضية لكائن بشري، مهمن كان، أو تشوِّهها.[3]

طوال حياتها عزمت على البقاء مخلصة لروح العدل والتمرد لدى

[...] الذين لا يزالون مصرين، تجاه كل شيء وضد كل شيء، على احترام الكرامة الإنسانية في أنفسهم وعند سواهم.[4]

كل علاقة مع الآخرين، في سياق اقتصادي واجتماعي وسياسي بعينه، تندرج في ميزان للقوى. وطلب العدل هو البحث عن توازن بين القوى المتناوئة، بحيث تُحترم حقوقُ كل فرد. ووظيفة الصراع هي إيجاد ميزان للقوى جديد بهدف إقامة هذا التوازن. كتبت سيمون ڤايل: "لا يمكن للنظام الاجتماعي أن يكون إلا توازنًا في القوى"[5]. والعدالة الاجتماعية هي توازن القوى الذي يطبَّق في الاتجاه المعاكس. لذا فإن

[...] الميزان المتوازن، بوصفه صورة توازن القوى، كان منذ أقدم العصور، وخصوصًا في مصر، رمزًا إلى العدالة.[6]

الظلم ينجم، إذن، عن اختلال توازن القوى الذي من خلاله يقهر الأقوياء الضعفاء. ومنه فإن العمل في سبيل العدالة إنما هو إعادة توازن القوى إلى نصابه؛ وهذا غير ممكن إلا بتطبيق قوة تفرض حدًّا على القوة المسبِّبة لاختلال التوازن. بذا فإن "العمل الجميل"، بنظر سيمون ڤايل، هو

[...] العمل الذي ينهي، يعلِّق الحوار اللامعيَّن بين اختلالات التوازن التي تتجاوب، ويوطد التوازن الوحيد الذي يقابل وضعًا بعينه.[7]

والعمل اللاعنفي يود أن يكون هذا "العمل الجميل" الهادف إلى توطيد توازن القوى الكفيل بالعدل والسلام.

الحدّ من الرغبات

تتطلب الرغبة أكثر مما تطلب الحاجة، أكثر بكثير: "هناك دومًا في الرغبة شيء من اللامحدود"[8]، كما كتبت سيمون ڤايل. في شوط أول، يسعى الفرد إلى السلطة لكي لا يسيطر عليه الآخرون، لكنه، إذا لم يحترس، سرعان ما يتخطى الحد الذي اعتبارًا منه يسعى في السيطرة على الآخرين. ويطرأ العنف حين يرغب الإنسان في اللامحدود ويجد أن الآخرين يعاكسون رغبته. وتلحظ سيمون ڤايل:

من حقي أن أستملك الأشياء كلها، ويعيقني الآخرون عن ذلك. فعلي أن أحمل السلاح لإزاحة هذا العائق.[9]

يتجذر العنف في رغبة لامحدودة تصطدم بالحد الذي تشكِّله رغبة الآخرين. كذا فإن التنافس بين البشر لا يمكن التغلب عليه إلا اعتبارًا من اللحظة التي يحد كل واحد من رغباته. وتلحظ سيمون ڤايل:

الرغبات المحدودة متوافقة مع العالم؛ أما الرغبات التي تنطوي على اللانهائي فليست كذلك. بوسع الرغبة المحدودة أن تتراضى مع رغباتي الأخرى ومع رغبات البشر الآخرين المحدودة.[10]

العنف، بحسب سيمون ڤايل، "هو ما يجعل كل مَن يخضع له شيئًا". وهي تدقق: "وحين يمارَس حتى النهاية يجعل الإنسان شيئًا بالمعنى الأكثر حرفية، إذ إنه يجعله جثة". لكن العنف القاتل شكل معجَّل وفظ من أشكال العنف. هناك عنف آخر، أكثر تنوعًا بكثير من حيث الأساليب وإذهالاً من حيث النتائج: إنه العنف "الذي لا يقتل؛ أي الذي لا يقتل بعد". لكن هذا العنف

[...] سوف يقتل قطعًا، أو ربما سوف يقتل، أو لعله معلَّق فقط فوق الكائن بحيث إنه يمكن له أن يقتل في أية لحظة؛ وهو في كل الأحوال يحوِّل الإنسان إلى حجر. ومن القدرة على تحويل الإنسان إلى شيء بإماتته تنجم قدرة أخرى، خارقة على نحو آخر، هي القدرة على جعل الإنسان شيئًا مع إبقائه حيًّا.[11]

العنف يدمر إنسانية الذي يمارسه وإنسانية الذي يتكبده على حدٍّ سواء:

سيان أنْ تضرب أو أن تُضرَب - فهما وصمة واحدة. فبرودة الفولاذ قاتلة عند المقبض وعند النصل على حدٍّ سواء.[12]

بذا، سواء كان المرء يمارس العنف أو كان يكابده، فإن "التماس معه، في كل الأحوال، يحجِّر الإنسان، يحوِّله إلى شيء"[13]. وبطريقة أكثر جذرية، تؤكد سيمون ڤايل أيضًا: "أن تقتل هو دومًا أن تُقتَل"[14].

نحن نقتل، كما تؤكد سيمون ڤايل، "لأننا نظن أنفسنا في منجى من الموت الذي نكبِّده"[15]؛ نقتل "انتقامًا من كوننا مائتين"[16]. بذا فإن ما يبرر العنف بنظر الإنسان، في المحصلة، هو أنه يبدو له وكأنه الوسيلة الوحيدة للاحتماء من الموت. أفلا يجب على البشر، لأنهم جميعًا مائتون، أن يتعاملوا بالرحمة؟ لكن الواقع هو أن البشر، بالذات لأنهم مائتون، يتعاملون بالقسوة. الإنسان يقتل، لا لأنه لا يريد أن يُقتل فحسب، بل لأنه لا يريد أن يموت: إنه يقتل لينتصر على الموت.

الازدراء بالعنف

معرفة القوة، إذ يقر المرء بأنها تكاد أن تكون متسيِّدة سيادةً مطلقةً على هذا العالم، هو رفضها بقرف وازدراء.[17]

هذا الازدراء بالقوة

[...] هو الوجه الآخر للرحمة بكل ما هو عرضة لجروح القوة. وهذا الرفض للقوة يبلغ كماله في تصور المحبة.[18]

وهذا الرفض للعنف الذي يشق الطريق إلى الرحمة بجميع ضحاياه هو بالدقة أساس اللاعنف. واللاعنف يبدو لسيمون ڤايل كواحد من التعبيرات عن الكمال الإنجيلي. وقد كتبت في دفاترها:

الاجتهاد بأن نصير في حال تمكِّننا من أن نكون لاعنفيين. [...] الاجتهاد في إحلال اللاعنف الفعال في العالم أكثر فأكثر محل العنف.[19]

لقد كانت سيمون ڤايل كثيرًا ما تشيد بالتمييز الذي وضعه أفلاطون بين الضروري وبين الخير. وقد كتبت في ذلك: "هناك مسافة لانهائية بين ماهية الضروري وبين ماهية الخير"[20]. ففي جمهورية أفلاطون، يندد سقراط بالسفسطائي الذي يخدع الشعب حين

[...] يسمي الضروري عادلاً وجميلاً، لأنه لم يرَ وليس البتة قادرًا أن يبيِّن للآخرين إلى أي حدٍّ تختلف طبيعة الضروري، في الواقع، عن طبيعة الخير.[21]

حتى حين يبدو العنف ضروريًّا تظل فريضة اللاعنف قائمة؛ فضرورة العنف لا تلغي واجب اللاعنف.

مهابة الپروپاگاندة

يتكئ العنف، لكي يضمن سلطانه على الأذهان، على الپروپاگاندة. فلا مناص للعنف من أن يتزيَّا بالمهابة، وكما شددت سيمون ڤايل، "لا شيء أهم بنظر سياسة المهابة من الپروپاگاندة"[22]. لتبرير العنف لا يمكن، قطعًا، إلا إيراد أسباب كاذبة، ولكن، كما تدقق سيمون ڤايل،

[...] ذرائع ملطخة بالتناقض والكذب تتصف مع ذلك بما يكفي من قابلية التصديق حين تكون ذرائع الأقوى. [...] إنها تكفي عذرًا لمداهنات الجبناء ولصمت الأشقياء وخضوعهم، وهي تجيز للمنتصر أن يتناسى أنه يرتكب جرائم.[23]

هذه الذرائع الكاذبة مفيدة جدًّا للعنف لأنها تقمع الفكر الذي يود أن يصوغ اعتراض الضمير:

فنُّ حفظ المظاهر هذا يلغي أو يُضعف الزخم الذي قد يمنحه السخط ويتيح للمرء ألا يضعف أمام التردد.[24]

وظيفة الپروپاگاندة، إذن، هي أن تسوغ للذين يمارسون العنف عنفهم، وذلك لأن المرء

[...] يجب أن يكون مقتنعًا حقًّا بأنه محق دومًا، بأنه ليس صاحب حق الأقوى وحسب، بل صاحب الحق بإطلاق أيضًا، حتى حين لا يكون شيء من هذا صحيحًا.[25]

إن ماهية الپروپاگاندة نفسها هي الكذب الذي يعزو إلى العدو جميع المساوئ، جميع الإساءات، جميع الجرائم.

حتى الحب نفسه كثيرًا ما وقع في فخ الپروپاگاندة. كم من مرة قُرن فيها الحب بالعنف في التحمس نفسه لقضية "مقدسة" بالضرورة؟ كم من مرة بُشِّر فيها بالعنف باسم الحب؟ كتبت سيمون ڤايل:

الحب يشن الحرب مثلما يصنع السلام. الحب يذهب إلى الحرب بالطبيعة أكثر من السلام بدافع ذلك التعصب الذي يؤسس للطغيان. [...] السلام لن يتأسس على الحب، بل على الفكر.[26]

والپروپاگاندة تمجِّد الغاية المطلوبة وتبرر جميع الوسائل المستعمَلة لبلوغها. لكن من شأن وسائل العنف ألا تمسخ الغاية وحسب، بل أن تحل محلَّها. فالإنسان الذي يختار العنف يتخلى عن الغاية التي التمسها أصلاً ليمضي مشتبكًا في المعركة، فلا يعود يشغل باله بها بتاتًا لأن الوسيلة تستغرقه استغراقًا تامًّا. أجل، سوف يبقى يورد الغاية في الپروپاگاندة التي يروج لها، لكن ليس إلا لتبرير الوسيلة. بذا لا تعود الوسيلة في خدمة الغاية، بل الغاية هي التي توضع في خدمة الوسيلة. كتبت سيمون ڤايل:

إن هذا القلب للصلة بين الوسيلة والغاية، هذا الجنون الأساسي، هو الذي يعلل كل ما هو غير معقول ودموي طوال التاريخ برمته.[27]

العنف سبب أعمى للكوارث

تشدد سيمون ڤايل على أنه في الإلياذة

[...] يظهر المحاربون وكأنهم إما أشباه الحريق، أو الفيضان، أو العاصفة، أو الحيوانات المفترسة، أو أي سبب آخر من أسباب الكوارث.[28]

وبالفعل، فإن العنف سبب أعمى للكوارث. إنه يفعل كنكبة من نكبات الطبيعة. إن من طبيعة العنف نفسها أن يكون آلية عمياء تجر الإنسان في هروب إلى أمام نحو الرعب. يحسب البشر أنهم يسيطرون على العنف، لكن العنف في الحقيقة هو الذي يسيطر عليهم. إنه يُخضِعهم ويجعلهم مجرد أدوات لخدمته فقط. إنهم يتوهمون أنهم يستخدمونه، لكنهم يخدمونه وحسب. بين الإنسان وبين الفعلة العنيفة لا تبقى أية مسافة. غير أن اتخاذ مسافة وحده يتيح الوعي. في همجية العنف لا مجال للفكر؛ إذ إنه

[...] حيث لا مجال للفكر، لا مجال للعدل ولا للتبصر. لهذا فإن هؤلاء القوم المسلحون يتصرفون بقسوة وبجنون.[29]

وتلحظ سيمون ڤايل أيضًا أنه في حين أن المرء

[...] لا يريد أن يكبِّد العدو غير ضرر محدود، [...] فهو لا يستطيع ذلك، لأن استعمال السلاح ينطوي على اللامحدود.[30]

وحتى حين يبدو العنف المضاد وكأنه "أهون الشرور"، وفقًا لمعالم منظومة العنف، فهو في الحقيقة شر وأي شر. فالقتل ليس شرًّا أهون. الشر الذي يُنزله العنفُ بالإنسان ليس في الواقع أبدًا شرًّا أهون: إنه بالفعل "غير محدود". القتل شر غير محدود. فالبلاغة حول الشر الأهون وحول أخلاق المكروه ليس في الأعم الأغلب غير ستار إيديولوجي تبرَّر به تنازلاتٌ هي أبعد ما تكون عن الشرعية. إن الخطاب حول الشر الأهون يستر في الحاصل موقف خنوع وتسوية. إن ضرورة القتل مأساة لمن يجد نفسه خاضعًا لها، ومن الاستخفاف نعت مأساة بأهون الشرور.

كتبت سيمون ڤايل: "التماس مع القوة ممغنط. [...] على المرء أن يكابد القوة وهو يقظان، أن يتعاطاها يقظًا"[31]. لذا على المرء الذي يلجأ إلى العنف أن يبقى يقظًا حتى لا "يفقد صوابه"، أي حتى يبقى واعيًا للتناقض الذي يورط نفسه فيه، حتى لا "يفقد رشده"، أي حتى لا يرفض النظر إلى الشر الذي يقترفه مواجهةً، حتى يعرف السوء الذي يفعله، حتى يدري ما يفعل. وحده الشعور بهذا التناقض يتيح للإنسان ألا يريح ضميره، ألا يتواطأ مع منظومة العنف، ألا يرسخ في الشر، وأن يبقي الخير نصب عينيه: "التناقض هو ما ينتزع النفس، يجذبها إلى النور"[32]. شرعنة العنف المضاد، أي جعله حقًّا من حقوق الإنسان، إنما هي إرادة إلغاء التناقض الذي يمثِّله. وإذا كنا اليوم نشرعن العنف في سبيل القضية المحقة، كيف لنا أن نستطيع غدًا مخالفة الذين سيشرعنون العنف في سبيل القضية الجائرة؟ هل سيكفي أن نناقش القضية فحسب، ونكف عن مناقشة العنف؟ بالطبع لا.

لزوم جانب الاضطرار البحت

إن سيمون ڤايل، مع تأكيدها بأننا يجب أن نجتهد لكي لا نلجأ إلى العنف أبدًا، تعترف بأننا

[...] بما أننا كائنات من لحم ومأخوذون في الضرورة، قد يتفق لنا أن نكون مكرَهين تحت الاضطرار البحت على توصيل عنف الآلية التي نحن دولاب فيها.[33]

وهي تسلِّم على مضض بأنه "غالبًا ما يكون من الصعب والمؤلم والمكرب جدًّا أن نعيِّن إلى أي حدٍّ يصل الاضطرار البحت"، لكنها تزعم أنه

[...] من السهل اتخاذ قاعدة عدم الذهاب في استعمال الإكراه، لا حيال الآخر ولا حيال النفس، حتى ميليمترًا واحدًا أبعد من الاضطرار البحت.[34]

لكن لا مناص من الإقرار بأن الأمر، في الواقع، أبعد ما يكون عن السهولة. إذ إنه بالفعل من الصعب للغاية على الفرد أن يقدِّر ما هو وزن "الاضطرار البحت" الذي يثقل عليه، لأن العنف آلة من شأنها بالفعل أن تجره إلى أبعد مما هو اضطراري بحت بكثير.

فحتى نُقصي حدود الاضطرار البحت إلى أبعد ما يمكن، تعتقد سيمون ڤايل أنه ليس من الممكن للإنسان أن يقتل خصمه ما لم يقبل بأن الموت الذي يُنزله به يؤدي مباشرة إلى موته هو. وقد كتبت في ذلك:

في الحالة التي تكون فيها حياة فلان من الناس مرتبطة بحياة المرء إلى حدِّ أن ميتتيهما واقعتان في الوقت نفسه لا محالة، هل يريد له الموت مع ذلك؟ إذا كان الجسد والنفس برمتها تواقَين إلى الحياة وإذا كان بالمستطاع مع ذلك، من غير كذب، الإجابة بنعم، إذ ذاك فقط يحق للمرء أن يقتل خصمه، لا بغير ذلك.[35]

غير أن هذا لا يكفي بعد؛ إذ تضيف سيمون ڤايل: "لا بدَّ من الرغبة أيضًا في أن يحيا الآخر، على الرغم من أن الضرورة تعاكس ذلك"[36]. قطعًا لو أن بمستطاع كل أحد أن يطبق مبدأ العمل هذا لكان من شأنه أن يختصر عدد جرائم القتل في العالم قاطبة اختصارًا لا يُستهان به. لكننا يجب أن نقر بأن العمل بمثل هذا المبدأ عسير للغاية...

الحاسم في مقاربة سيمون ڤايل لضرورة القتل هو أنها تؤكد أنه يجدر، أمام هذه الضرورة، الحفاظ على رغبة اللاعنف سليمة: "لا بدَّ من الرغبة في أن يحيا الآخر". إذا قدَّر إنسان أنه واقع تحت اضطرار قتل إنسان آخر يجب على نيته أن تبقى مدفوعة بـ"إرادة اللاعنف". هذا قطعًا من قبيل التناقض، لكن ضرورة التعنيف، بالدقة، هي دومًا تناقُض، ووحده وعي هذا التناقض من شأنه أن يتيح للإنسان ألا ينغلق في منطق العنف. وإن فساد مذاهب الدفاع المشروع هو في إلغاء هذا التناقض بالتوكيد على أن شرعية نية الدفاع عن النفس تكفي لشرعنة العنف.

بناء وسط إنساني

"لا يبلغ الفكر كمال وجوده إلا متجسدًا في وسط إنساني"[37]، على حدِّ ما تلحظ سيمون ڤايل. فحتى يتمكن اللاعنف من إظهار كموناته كافة لا بدَّ بالفعل من أن يستطيع التجذر في "وسط إنساني"، أي في جماعة أو مجتمع يشترك جميع أفراده، أو غالبية عظمى منهم، في القيم نفسها والقناعات نفسها. لكن هذا الشرط، بكل وضوح، لا تلبيه مجتمعاتنا اليوم. ففي وسطنا الثقافي، حالما يرد ذكر اللاعنف يحرَّض سيلٌ من الحجج - هي هي دومًا - ترمي إلى الطعن في صحته ووجاهته. مادام اللاعنف باقيًا حبيس جدال مستمر فهذا يعني أن ثقافة العنف لا تزال مسيطرة على الأذهان والأفهام.

عندما نظَّم الجنرال فرانكو، في 19 تموز 1936، تمردًا عسكريًّا على الحكومة الشرعية للجبهة الشعبية التي تولت قيادة إسبانيا منذ شهر شباط، لم تتردد سيمون ڤايل في اختيار معسكرها: فما جرى على الطرف الآخر من جبال الپرانس كان بنظرها

[...] عدوانًا موصوفًا لا يمكن له أن يلتبس على أحد. بالطبع، ليست أمة هي التي اعتدت على أمة أخرى، بل هي طائفة عسكرية اعتدت على شعب عظيم.[38]

غير أنه ما كان لها أن تكتفي بتأكيد تضامنها مع الجمهوريين بالبقاء هانئة في باريس، بل أرادت أن تكون إلى جانب العمال والفلاحين المهددين "بالإبادة على أيدي طغمة من المتوحشين المتفاوتين في حملهم الرُّتب"[39]. وفي العام 1938، في رسالة بعثت بها إلى جورج برنانوس، شرحت لماذا ذهبت إلى إسبانيا:

في تموز 1936، كنت في باريس. أنا لا أحب الحرب؛ لكن ما روعني دومًا في الحرب أكثر ما روعني هو وضع الموجودين في المؤخرة. حين فهمت أنني، على الرغم من جهودي، ما كنت لأستطيع أن أمنع نفسي من المشاركة معنويًّا في هذه الحرب، أي من التمني كل يوم وكل ساعة أن ينتصر فريق وينهزم فريق آخر، قلت لنفسي إن باريس كانت لي بمثابة المؤخرة، فاستقللت قطارًا إلى برشلونة وفي نيتي الانخراط.[40]

حين وصلت إلى برشلونة في 9 آب فإن التغيير الوحيد الذي لحظته في المدينة التي عرفتها في زمن السلم وبين المدينة التي اكتشفتها في غمرة الحرب الأهلية هو أنه يوجد "القليل جدًّا من رجال الشرطة والكثير جدًّا من أولاد الأزقة يحملون البنادق". لهذا التغيير الطفيف قطعًا مغزى سياسي خطير: ألا وهو أن "السلطة بيد الشعب" وأن "هؤلاء الذين أطاعوا دومًا باتوا يتحملون مسؤوليات". لكن سيمون ڤايل سرعان ما لحظت: "هذا لا يحصل من غير مغبة قطعًا. فحين يعطى أولاد أزقة في السابعة عشر بنادق محشوة وسط سكان عُزَّل..."[41].

وهكذا وجدت نفسها، منذ 14 آب، وسط مجموعة دولية مؤلفة من 22 رجلاً منخرطًا في الرتل الذي يرأسه القائد النقابي درُّوتي العامل في أراغون، على ضفة الإيبرو. وفي 17 آب، دونت باقتضاب في "يوميات إسبانيا": "أعطوني سلاحًا: بندقية قصيرة جميلة"[42]. وفي اليوم نفسه كادت أن تستعمله. وهي تروي هكذا معموديتها بالنار:

"الطيران يقصف". خرجنا حاملين بنادقنا. أمر: في الذرة. انبطحنا. استلقيت في الطين لأطلق في الهواء. بعد انقضاء بضع دقائق نهضنا. الطائرات أعلى بكثير من أن نصيبها. [...] لم أنفعل بتاتًا.[43]

بعد يومين من ذلك، شاركت في سرية على الضفة الأخرى من الإيبرو. وفي أثناء طلعة استكشافية للطيران المعادي اضطرت المجموعة إلى الاحتماء. وقد دونت في يومياتها:

استلقيت على ظهري، نظرت إلى الأوراق، السماء الزرقاء. نهار جميل جدًّا. إذا قبضوا عليَّ سيقتلونني... لكني أستحق هذا. لقد أراق أصحابنا ما يكفي من الدم. أنا متواطئة معنويًّا.[44]

لكنها في اليوم التالي أحرقت ساقها اليسرى حرقًا خطيرًا حين داست على طست ممتلئ بالزيت المغلي موضوع على مستوى الأرض على نار من الجمر المطمور. وبسبب حسر بصرها لم ترَ هذا الطست. وقد توجعت كثيرًا، مما اضطر رفاقها إلى إقناعها بمغادرة المجموعة والذهاب إلى برشلونة للاستشفاء. وهناك وجدت والديها اللذين أصرا على الانضمام إليها في إسبانيا. وقد ذهب ثلاثتهم للإقامة في سِتْخِس، لكن جرح سيمون ڤايل لم يندمل سريعًا، فاقتنعت بوجوب العودة إلى فرنسا. عبروا الحدود من جديد في 22 أيلول وتوجهوا رأسًا إلى باريس. وبهذا لم تبقَ سيمون ڤايل في إسبانيا غير ستة أسابيع.

كان في نيتها العودة إلى إسبانيا فور شفائها، لكنها عدلت عن ذلك أخيرًا. وقد فسرت موقفها ذاك في رسالتها إلى برنانوس:

غادرت إسبانيا على الرغم مني وفي نيتي العودة إليها؛ غير أني لاحقًا لم أفعل ذلك من تلقاء نفسي. لم أعد أشعر في نفسي بأية ضرورة داخلية للمشاركة في حرب لم تعد، كما كانت بدت لي في البداية، حرب فلاحين جياع على مُلاك الأراضي ورجال دين متواطئين مع المُلاك، بل حرب بين روسيا وألمانيا وإيطاليا.[45]

لكن تدويل النزاع لم يكن، في الواقع، السبب الرئيس لرفضها العودة إلى إسبانيا. السبب الحقيقي هو أنها كانت قد ذهبت للانخراط في ثورة وأنه، هناك، تبيَّن لها أنها لم تكن تشارك إلا في حرب. وقد كتبت إلى برنانوس:

يذهب المرء متطوعًا تحدوه أفكار التضحية، فيسقط في حرب أشبه بحرب المرتزقة، مضافًا إليها الكثير من الأفعال الوحشية، لكنْ من دون حسِّ الإكرام الواجب تجاه العدو.[46]

ولدى عودتها من إسبانيا، قامت، في مشروع مقال، بتحليل سيرورة فساد الثورة الإسبانية باللجوء إلى وسائل العنف. وقد أكدت:

لا يجوز التشكيك في حسن نوايا رفاقنا القشتاليين التحرريين. غير أننا ماذا نشهد هناك؟ هناك أيضًا، بكل أسف، نشهد حصول أشكال من الإكراه، حالات من اللاإنسانية مناقضة مباشرة للمثال التحرري والإنساني للفوضويين. الضرورات ومناخ الحرب الأهلية يتغلبان على الأشواق التي يُسعى في الدفاع عنها بواسطة الحرب الأهلية.

وما تكرهه ورفاقها من أقصى اليسار في فرنسا أشد الكره، أعاد الجمهوريون توطيده في إسبانيا: "الإكراه العسكري"، بسنِّ "تطبيق الكود العسكري على الميليشيات"، "الإكراه في العمل"، بالذهاب حتى سنِّ "الإعدام في الإنتاج الصناعي"، و"الإكراه الشرطي"، بـ"الإعدام رميًا بالرصاص من غير أدنى تظاهُر بالمحاكمة"[47]. وقد خشيت عندئذٍ من أن تتبع الثورة الإسبانية الطريق نفسها التي اتبعتها الثورة الروسية، أي أن تولِّد دولة استبدادية تقوم أيضًا ودومًا على البيروقراطية والشرطة والجيش.

إن ما وسمها وسمًا عميقًا إبان إقامتها في إسبانيا هو أنها تنفست "رائحة الحرب الأهلية والدم والرعب". لقد وقع قتلى كثيرون من كلا المعسكرين، "لكن لعل الأرقام ليست هي الجوهر في موضوع كهذا". "الجوهر هو الموقف حيال القتل". والحال، فإن المأساة في إعصار الحرب الأهلية هي، بالدقة، أن البشر يمسون عاجزين عن اتخاذ مسافة ما بالنسبة إلى القتل. وقد توصلت سيمون ڤايل إلى التفكير بأنه، في شروط كهذه، "ما من شيء أقرب إلى طبيعة الإنسان من القتل":

حين يعرف المرء أن القتل جائز من غير المخاطرة بالعقاب أو الملامة فإنه يقتل؛ أو على الأقل، يحاط القتلة بابتسامات مشجعة. فإذا اتفق للمرء مصادفة أن يعاني شيئًا من الاشمئزاز في البداية فإنه يُسكته وسرعان ما يخنقه خشية أن يبدو ناقص الرجولة.[48]

وقد شعرت سيمون ڤايل بأنها قد تنجر إلى المشاركة بنفسها في وحشية كهذه. وقد كتبت في العام 1942، ذاكرةً إقامتها في إسبانيا:

كانت الجرائم تروِّعني، لكنها لم تكن تفاجئني؛ إذ كنت أحس بإمكانيتها في قرارة نفسي؛ لا بل إنها كانت تروِّعني بالذات لأنني كنت أحس بإمكانيتها في قرارة نفسي.[49]

بذا فإن المنطق الذي لا يلين للعنف الذي تجر الحربُ إليه البشرَ حتمًا ينتهي إلى تغييب تام للمثال الذي باسمه شُنَّتْ هذه الحرب. فوسائل العنف تناقض جذريًّا غاية الحرب. وتؤكد سيمون ڤايل:

مناخ كهذا سرعان ما يمحو هدف الصراع بالذات. لأنه لا تجوز صياغة الهدف إلا بإرجاعه إلى الخير العام، إلى خير البشر - والبشر لا قيمة لهم بتاتًا.[50]

مذ ذاك، إذا كان هدف الحرب الأهلية أصلاً يصير موضع شبهة من جراء وسائل الحرب الأهلية، أليست الحرب الأهلية أصلاً ما يجدر أن يصير موضع شبهة؟ تلكم بالدقة النتيجة التي توصلت إليها سيمون ڤايل:

إذا شاءت نوائب الدهر أن تصير الحرب الأهلية حربًا كأية حرب أخرى [...]، ليس لنا إلا أن نستخلص نتيجة واحدة: تفادي الحرب الأهلية أيضًا.[51]

ترجمة: ديمتري أڤييرينوس

*** *** ***

نصٌّ أعدّه المفكر الفرنسي اللاعنفي جان-ماري مولِّر لجامعة "أونور" (جامعة اللاعنف وحقوق الإنسان في العالم العربي، تولّى، university@houkoukmadania.org ومقرُّها لبنان)، في سياق مادة "فلسفة اللاعنف" التي يدرِّسها في الجامعة. ترجمه إلى العربية ديمتري أڤييرينوس، ويُنشر ضمن اتفاق خاص مع "أونور".

 

horizontal rule

* فيلسوف ومناضل لاعنفي فرنسي والناطق باسم "الحركة من أجل بديل لاعنفي"؛ وضع كتبًا عديدة في فلسفة اللاعنف وإستراتيجية العمل اللاعنفي، منها: مبدأ اللاعنف: مسار فلسفي (1995گاندهي العاصي: ملحمة مسيرة الملح (1997إستراتيجية العمل اللاعنفي، حركة حقوق الناس (1999قاموس اللاعنف، معابر للنشر/الهيئة اللبنانية للحقوق المدنية (2007).

[1] Simone Weil, La connaissance surnaturelle, Paris, Gallimard, 1950, p. 95.

[2] Simone Weil, Écrits de Londres, Paris, Gallimard, 1957, pp. 38-39.

[3] Ibid., p. 78.

[4] Simone Weil, Oppression et liberté, Paris, Gallimard, 1955, p. 202.

[5] Simone Weil, Cahiers III, Paris, Plon, 1956, p. 111.

[6] Simone Weil, Attente de Dieu, Paris, Livre de poche chrétien, 1963, p. 129.

[7] Simone Weil, Cahiers I, Paris, Plon, 1951, p. 53.

[8] Cahiers I, op. cit., p. 140.

[9] Ibid., p. 47.

[10] Ibid., p. 80.

[11] Simone Weil, L'Iliade ou le poème de la force, in La source grecque, Paris, Gallimard, 1953, pp. 12-13.

[12] Ibid., p. 80.

[13] Simone Weil, Intuitions préchrétiennes, Paris, Fayard, 1985, p. 54.

[14] Cahiers I, op. cit., p. 68.

[15] Simone Weil, Cahiers II, Paris, Plon, 1953, p. 116.

[16] Ibidem.

[17] Simone Weil, Écrits historiques et politiques, Paris, Gallimard, 1960, p. 79.

[18] Ibidem.

[19] Simone Weil, Œuvres complètes, VI, 2, p. 88.

[20] Intuitions préchrétiennes, op. cit., pp. 83-84.

[21] Platon, La République, Livre VI, 493c, Paris, Garnier-Flammarion, 1966, p. 251.

[22] Simone Weil, L'enracinement, Paris, Gallimard, 1962, pp. 33-34.

[23] Écrits de Londres, op. cit., p. 40.

[24] Attente de Dieu, op. cit., p. 143.

[25] L'enracinement, op. cit., p. 33.

[26] Écrits historiques et politiques, op. cit., p. 48.

[27] Oppression et liberté, op. cit., p. 95.

[28] La source grecque, op. cit., p. 32.

[29] Ibid., p. 21.

[30] Cahiers III, op. cit., p. 47.

[31] Cahiers I, op. cit., p. 56.

[32] Ibid., p. 59.

[33] Intuitions préchrétiennes, op. cit., p. 58.

[34] Ibidem.

[35] Cahiers I, op. cit., pp. 57-58.

[36] Ibid., p. 58.

[37] Simone Weil, Pensées sans ordre concernant l'amour de Dieu, Paris, Gallimard, 1962, p. 65.

[38] Ibid., p. 405.

[39] Œuvres complètes, II, 3, p. 44.

[40] Écrits historiques et politiques, op. cit., p. 221.

[41] Œuvres complètes, II, 2, p. 375.

[42] Ibid., p. 378.

[43] Ibidem.

[44] Ibid., p. 380.

[45] Écrits historiques et politiques, op. cit., p. 221.

[46] Ibid., p. 224.

[47] Œuvres complètes, II, 2, pp. 388-389.

[48] Ibid., pp. 221-223.

[49] Attente de Dieu, op. cit., p. 20.

[50] Écrits historiques et politiques, op. cit., p. 223.

[51] Œuvres complètes, II, 2, p. 387.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود