أخلاق العبيد وبناء دكتاتوريات الأرباب
المجتمع العراقي المعاصر نموذجًا
الجزء الأول

 

وليد عبدالله*

 

العبودية وطن المتدّين، وطريق المؤمن، وغربة أهل المعرفة.
يفقد الإنسانُ نصفَ روحه عندما يصبح عبدًا.[1]

 

1
تمهيد لنزاع قاس

أصحبت مراجعة المفاهيم والأفكار والحقائق الدينية ضرورة اجتماعية، وحاجة إنسانية وعقلية. وموضوع العبودية، بكل أنواعها، وعلاقتها مع بناء أخلاق الإنسانية، من المواضيع الحساسة كونها تشكل التمثل السلوكي والظهوري للدين بشكل خاص، وتأثيره المباشر على المجتمع بشكل عام. ويشتد ظهور هذه الأفكار والحقائق الدينية في فترات مختلفة، وتفعل فعلها في مجتمعات لها خصوصيات تواصلية تتوافق نوعًا ما معها، أو أنها روضت عليها عبر تاريخ طويل من الإيمان بها. والموضوع الذي نطرحه هو حول العبودية والأخلاق والقيم، كون هذه المفاهيم تشترك، كعناصر سلوكية ونفسية، في بناء الذات الإنسانية، وهي ليست حقائق قائمة خارج الوجود الإنساني، أو مفاهيم تشكل منظومة خارجة عن الذات الإنسانية عبر التاريخ كباقي الحقائق الأرضية التي استقلت بذاتها كمنظومات لها قوتها الخاصة واستراتيجياتها المعرفية (كسلطة الدين، وسلطة التاريخ، والقوانين، والأحكام السماوية والأرضية في الماضي، وأنظمة التقنيات، وعلوم الاتصال الحديث، والمؤسسات المدنية، والعلوم الحديثة في الحاضر). كل هذه الأشكال من الحضور الديني والمعرفي والأيديولوجي والعلمي أصبحت خارج الوجود الإنساني وتتحكم في الكثير من مفاصل الحياة. لكن الحقائق الأخلاقية والفضائل الإنسانية بقيت متلازمة في ظهورها وفعالية تطورها مع مسمى الإنسان كقيمة وجودية وشكلاً أرضيًا ومعنىً حضوريًا للوجود. تقام الأخلاق كمنظومة معرفية وسلوكية لجوهر الوجود الإنساني، وتتأثر باتجاهات الحياة سواءً كانت دينية أو أيديولوجية أو فلسفية أو معرفية، وكل ذلك يتسرب إلى الأخلاق ويؤثر فيها.

ما زال ظهور الإنسان الأرضي في بلاد الشرق الأوسط والبلاد الإسلامية تحت رعاية تراث ديني وأسطوري يمتلك سلطة قيومية سارية في الحياة، بل إن الكائنات الحية في بلاد الشرق مُصنفة دينيًا وليست بالضرورة متدينة بل هي مبنية على هواجس إيمانية شكلية، وبنية عقلية عائمة على كنوز من الخيال الملازم لكل ما هو وهمي ويمتلك فعالية الحضور والتشكل وفق طبيعة الارتباط بسلسلة منظومات تاريخية ودينية واجتماعية. هذا الشكل المعلن لظهور الإنسان الشرقي والعربي هو كونه بنك استثماري لكل التاريخ الربوبي التسلطي بكل ما يحمل من قدرات الاستعباد الذاتي والاستلاب الوجودي لقيمته الإنسانية التي هي جوهر وجوده وعلامة مميزة يدافع عنها بكل ما لديه من أدوات الجهل والمعرفة. إن أهم هذه العلامات الفارقة والمميزة لحضور الإنسان الشرقي، ظاهريًا وباطنيًا، هي علامة العبودية كمنظومة معرفية تنجب أبناء يحملون جينات تاريخية لأرباب متسلطين وخالدين إلى الأبد، ويشكلون امتدادًا قائمًا لوجودنا الصحراوي العميق والقديم جدًا والحديث بامتياز. ومن خلال انتمائنا نحن، كعرب، إلى الدين الإسلامي الذي بنى مجدًا وحضارة عظيمة على هذه الصحراء القاحلة، وكوّن مجدًا كبيرًا، نرى بوضوح، لو كاشفنا أنفسنا، أننا ما زلنا نسكن نفس بيوت العبودية القديمة، سواء كانت سماوية أو أرضية، والتي أصبحت جزءًا من الذات والوجود والسلوك العربي والإسلامي. ومن خلال هذه العبودية بدأنا نشيد حضارة انتماءنا لمفاهيم السماء، والابتعاد عن المضامين الأولى لرحلة الانبياء، ربما! فتأثير العبودية، بكل أنواعها، على ذواتنا ووجودنا ومجتمعاتنا جعلنا متأخرين في كل شي، ساهين عن البحث عن وسائل عقلية وواقعية وسلوكية نتخلص من خلالها من كل أشكال الاستعباد الذي مورس في حقنا، ابتداء من السماء حتى الأرض؛ هذا الاستعباد الذي جعل فرص التقدم والتطور والتخلص من الوهم الساكن في ذاكرتنا أمرًا صعبًا، بل حتى يبدو مستحيلاً، لأنه أصبح يمثل هويتنا على الأرض.

ليس بإمكاننا، في بحثنا المختصر هذا، التخلص من تاريخ الوهم الساكن في ذواتنا، بل سنحاول تجديد وفتح مجال تساؤلي روحي وكوني وآفاق حرة لمعرفة إنسانية واقعية لأنماط المجتمع الديني بشكل خاص والثقافي والفكري بشكل عام. ولا نقصد من خلال كتابة البحث تحت عنوان أخلاق العبيد وبناء دكتاتورية الأرباب أيّة إثارة شخصية واستفزازية لأيٍّ كيان. كما أننا نسعى إلى عدم الانحياز الذي لا يخلو من التصادم والمكاشفة، رغم ميلنا الوراثي والتاريخي إلى الدين، إذ أننا داخل المدار الديني ونعيش نفس الإشكاليات، ولا يمكن تبرئة أنفسنا من قوة التأثير الحسي والانفعالي، والاستلاب الذاتي، لما تحمله ذاكرتنا من أنماط استعبادية وسلطوية جماعية وفردانية تكونت وتأثرت في أشكال عقائدية، وأيديولوجية دينية، واستفراغ روحي لأشكال من الرقابة الدينية التي تدعو إلى إذلال الإنسان وتحقيره.

قد تطرح هكذا أسلوبية تصادمية بعض المباحث غير المقيدة بنظام معرفي أو علمي إلا أنها تتسم بالتكاشف الروحي والقوة الحرة للذات الفكرية، منطلقة بلاشك من قسوة التسلط التاريخي والواقعي والاستلاب الفكري الذي مورس على عقولنا زمنًا طويلاً. وتبقى وجهات نظرنا في فهم العلاقة بين دكتاتورية الأرباب المترسخة في ذاكرتنا الجمعية، وحضور أخلاق العبودية في سلوكنا الحياتي، هي محاولة لسرد آثارهما المدمرة وتفكيك سلطتهما من جهة الدين ومن جهة الأخلاق، وتهذيب تديننا، وفتح آفاق روحية خالصة تنظم علاقتنا بالسماء من جهة، وتعكس روح القيم الإنسانية المدنية من جهة أخرى. ونتمنى أن نشارك، معرفيًا على الأقل، في دفن الاستعباد الديني لظهورنا الأرضي الذي لم يحضر بعد لأن الحضور ليس ظهورًا استهلاكيًا فقط، كما حالنا اليوم، بل اثبات وجود ومشاركة في الإبداع الإنساني على الأرض. وإن تحقق مشاركة الجميع في محاولة نقد الجذور ومراجعة التاريخ المقدس هو من القوة والفعالية بحيث يعمل على اختصار زمن التخلف والتمذهب الروحي بالوهم، والتخلص من تراكم توحش التاريخ والقدر، وتخمة مفهوم هوية الأمة الواحدة، ورقابة السلطة الطاغية، وسيادة دكتاتورية الأرباب على الإنسان المسلم والعربي بشكل عام والعراقي بشكل خاص. وكما هو واضح، من خلال تاريخ الفرد العراقي، أن هذا الفرد قد جُنّد كيانه المادي والمعنوي، على أرض خصبة، للبلاءات الربانية، وشُطرت ذاته في عوالم أوهام رجال الدين وقداسة الخيال التسافلي للمنقذ الأبدي، ودكتاتورية السلطة الاستلابية للأنظمة والحكام، هذه الدكتاتورية التي تم تعميمها ابتداء من السماء حتى أعماق الأرض. وقد تحول الإنسان العراقي، بتوالٍ وتعاقب تدميريين، إلى كائن يسلتذ بممارسة الاندكاك الذاتي تحت أي سلطة شر، لأن الذات العراقية تعودت على ممارسة الهزيمة التاريخية تحت وطأة أية قوة للشر والظلم، وخاصة إذا كانت ماركة مسجلة باسم الدين والقومية والقبيلة. أما من جهة الحياة العامة فما زلت عوالم الأسطورة الاستلابية غير المنتجة تمارس فعاليتها في إدراة شؤون الحياة الإنسانية عند العرب والمسلمين بشكل عام، والعراقيين بشكل خاص.

2
سؤال حول أخلاق العبيد

تكونت الأخلاق الإنسانية مع بداية الظهور البشري على الأرض. ويمكن اعتبار كل الحركات الكشفية الأولى حول الكيان الإنساني، أو باقي الكيانات والطبيعة، وكل الإشارات والعلامات الدالة على سلوك، مهما كان نوعه، إحدى البدايات للتكون الإخلاقي للإنسان. وقد تم تصنيف أي سلوك أو تصرف أو سنّ قانون أو أيّة عملية تنظيمية تسمى وفق المنطق المتفق عليه على أنه يمثل (الخير) خيرًا، وفي الجانب الآخر كل الحروب والدمار والسلوكيات المتوحشة التي تكونت عبر التاريخ البشري، وتطورت تحت مسمى (الشر)؛ وضمن هذه الثنائية "الخير-الشر"، ومهما توسعت وتقلصت وتمايزت وفق انتمائها لأيديولوجية معينة تحت عنوان الدين أو السلطة أو أي قوة أخرى، واستثمرت حيازة الخير لنفسها، وقذفت الشر على الآخر في لعبة أبدية مكررة يقربّن فيها الإنسان من أجل الحفاظ على هذه السيادات العليا في التواصل والديمومة؛ تبقى القيم الإنسانية والمكونات الأخلاقية والفضائل ضمن المدار السلوكي للقيم الوجودية للإنسان، وهي علامة فطرية ضمن غريزة البقاء والتواصل الإنساني رغم استهلاكها واستثمارها من قبل السيادات العليا. ويمثل هذا الاستثمار في كيانات تاريخية مثل المؤسسة الدينية والأيديولوجيات الشمولية والتكتلات القبلية أو العشائرية التي أضفت على منظوماتها الجوهر الأخلاقي الذي منحّها بدوره قوة الظهور والتمثل الوجودي والديمومة على الأرض. فمن خلال القيم الإنسانية والفضائل الأخلاقية ظهرت السيادات العليا على أنها تمثل الحضور الإنساني، واستفادت من المدار الأخلاقي في تعميق الجانب المعنوي والإنساني لديها. لهذا تشكلت قديمًا تحت ما يسمى الأخلاق الدينية والأخلاق القبلية والأيديولوجية. وهي تتنبى الجانب الشمولي في الحياة. وكذلك تكونت سياقات أخلاقية أخرى حديثًا تمثل الشكل المهني والنظام الاجتماعي مثل أخلاق السوق، وأخلاق المهنة، وأخلاق الدولة، وأخلاق الشارع، وأخلاق التجارة، وأخلاق البيت، وصولاً إلى الأخلاق الفردية والذاتية والتي هي عبارة عن حصلية شخصية فردانية ينتقيها الفرد كلٌّ وفق خصوصياته وثقافته وتربيته وعمق ما يحمل من قيم معنوية ومادية اكتسبها بشكل مقصود أو تسربت إليه تحت ظروف معينة. لهذا نحن لا نتحدث في هذا البحث عن الأخلاق الفردية والشخصية التي تكونت بشكل ذاتي بل نريد أن نوضح التأثيرات العامة على المجتمع والأفراد من خلال التكوينات الشمولية الاستلابية والتسلطية، والهيمنة على الوجود القيمي والأخلاقي، وتسيير المجتمع وفق إملاءات استفراغية للذات والوجود، على سبيل المثال الدين التاريخي، وسنّ قوانين هيكلة ثنائية العبودية كبنية أسياسية لقوة الفرد، والتسلط الربوبي المتمثل في دكتاتوريات المؤسسات الفقهية والكيانات التحزبية والعسكرية الدينية والتشكيلات المتدينة والمتوحشة، وما مدى تأثيرها على الشكل الحضاري للمجتمع وعمق تفكيره وإنتاج إبداعه وقوته الإنسانية.

3

ثنائية الرب والعبد وتبعات المعنى

ثنائية الرب والعبد ثنائية دينية ظهرت بشكل رسمي في اليهودية، وتجسدت بوضوح في الإسلام، وانعكست عبر الممارسة والطقس والتدين والإيمان على الفرد والمجتمع والتاريخ. وهذه الفكرة الجوهرية في الدين أصبحت تمثل الأساس الاعتقادي لأيّ تدين مقصود، كون المؤمن عبد للرب يمارس كل طقوس العبودية وفعالية الظهور الأمّثل للعبد أمام سيده.

أما تأثير العبودية على غير المتدين فهو لا يقل خطورة، كونه نظام متوارث لأشكال الحياة الأكثر حضورًا واحترامًا لغياب الذات وموت الإنسان. فالرب، الذي يقابله العبد، لابد أن يكون ربًا متسيدًا بشكل مطلق، أو ما يطلق عليه وفق التسمية المعاصرة (رب دكتاتوري)، ولابد من إلحاق العبد به كجزء من نظام التحكم وتأكيد قوة سيادته المطلقة أمام عبودية مسحوقة لا تشترك معه إلا بتسمية (الإطلاق). والرب، السيد المطلق الموجود في التدين، هو رب تاريخي ظهر مع تأريخ النص المقدس بشكل إلزامي، وتطور حتى اكتملت حقيقة سيادته المطلقة تاريخيًا على المعتنقين بعد أن مر بعدة مراحل تكاملية. وليس لدينا غير شرعية النص المقدس الذي استحوذ على مفهوم دكتاتورية الأرباب، وصنف المخلوقات تحت عنوان العبيد، ومنح ذاته السيادة المطلقة للأبد. وأصبح هذا الظهور المطلق واضحًا وجوهريًا في الدين، ووجوب الاعتقاد والإيمان به جزء من مصداقية ظهورنا على الأرض، وفق هذه المعادلة: (الرب السيد المطلق + العبد المستخدم المطلق = الدين). وأمام هذا الوضوح والتصريح الديني في النصوص المقدسة، والتي فسرت على أنها عبودية مطلقة بالإجمال والتفصيل والتكوين والتشريع، أصبح على العبيد الذين توارثوا الإقرار (بالربوبية المطلقة والسيادة التامة) أن تكون ولادتهم ومماتهم وكل أعمالهم الحياتية على أساس نظام (العبودية المطلقة) وتحت (ربوبية مطلقة)[2]. وهذه الإجرائية الإلزامية تترتب عليها ممارسات كثيرة تفاعلت عبر الزمن وتشابكت معانيها حتى أصبحت بديهية ذاتية لكل المتدينين وباقي المجتمع في ممارستهم الحياتية، والتي انعكست في تصرفاتهم اليومية وشكلت بنية أساسية لتفكيرهم وطموحاتهم العقلية واستهلاك وإنتاج الأفكار والسلوك على كل المستويات، والتباهي والاعتراف والتصديق بخصوصية العبودية للرب بشكل مباشر، كما هو الإقرار اليومي عند المتدينين أو بشكل غير مباشر على الآخرين من خلال تسرب هذا المعنى في ثنايا تربيتنا العائلية والمدرسية وتركيبة مجتمعاتنا العربية والإسلامية.

4

مساواة الناس في العبودية

ذكر في ويكيبيديا، الموسوعة الحرة، أن العبودية هي نوع من الأشغال الشاقة القسرية طوال الحياة للعبيد حيث يعملون بالسخرة القهرية في الأعمال الشاقة والحروب. وكانت ملكيتهم تعود للأشخاص الذين يستعبدونهم. وكانوا يباعون في أسواق النخاسة أو يشترون في تجارة الرقيق بعد اختطافهم من مواطنهم، أو يهدي بهم مالكوهم. وممارسة العبودية ترجع إلى أزمان ما قبل التاريخ عندما تطورت الزراعة بشكل متنامٍ، وأصحبت الحاجة ماسة للأيدي العاملة، فلجأت المجتمعات البدائية إلى العبيد لتأدية أعمال تخصصية بها.

كان العبيد يؤسرون من خلال الإغارات على مواطنهم أو تسديدًا لدين. وكانت العبودية متفشية في الحضارات القديمة لدواعٍ اقتصادية واجتماعية. لهذا كانت حضارات الصين وبلاد الرافدين والهند تستعمل العبيد في الخدمة المنزلية والعسكرية والإنشائية والبنائية الشاقة. وكان قدماء المصريين يستغلون العبيد في تشييد القصور الملكية والصروح الكبرى. وكانت حضارات المايا والإنكا والأزتك تستخدم العبيد على نطاق واسع في الأعمال الشاقة والحروب. وفي بلاد الإغريق كان الرق ممارسًا على نطاق واسع لدرجة أن معظم سكان مدينة أثينا، رغم ديموقراطيتها، كانوا من العبيد، وهذا يتضح من كتابات هوميروس للإلياذة والأوديسا. أما في بلاد العرب والعصر الجاهلي فكان الشكل الأول للعبودية لا يختلف عن غيره في البلاد المجاورة، وهي عملية معروفة ومشخّصة تتعلق في فئة من الناس المستعبدين لظروف طبقية أو عنصرية أو حربية. وكان العبيد من كل أصناف البشر الذين شاءت الأقدار، وفق خصوصيات موضوعية، أن يصبحوا عبيدًا. وأكثر العبيد كانوا من أصحاب البشرة السوداء يباعون ويشترون وتسلب منهم كل خصوصية، ويسحقون كوجود وذات وحضور في الحياة، فلا عمل لديهم سوى خدمة السيد وتحقيق كل طلباته بدون أي تردد، ولا يحق للعبد أن يسائل سيده عن أي فعل صادر عنه، ولا يمكن له التفكير في ايجاد أي مبرر لذلك. ولا فرق بين العبد الرجل أو المرأة الأمة، بل إن المرأة كانت معرضة لاستغلال وسحق وتدمير أكبر، فجسد الأمة مباح بشكل مطلق للسيد يبيعها ويشتريها ويسمح لأي شخص أن يمارس معها ما يشاء. ولم يحدث أي تغير في النظرة الواقعية أو السلوكية للعبودية مع الدين الإسلامي بل أصبحت ملامحها أكثر وضوحًا وأكثر ثباتًا، ومنها:

-       تعتبر العبودية، بكل أنواعها، استغلالاً كليًا ومطلقًا للوجود والذات والكيان والزمن من قبل من يسمى (السيد) تمارس على من يسمى (العبد).

-       كانت العبودية، وفق تطور الزمن والحياة، قابلة لأن تُحرَّم ممارستها كما في زماننا المعاصر بحكم تطور الحياة والواقع والإنسان، ولكن الإشكالية في بلادنا الإسلامية هي أن الدين شرع لقوانين العبودية وصادقت عليها السماء.

-       تأكيد مصادقة الدين والنصوص على أحكام العبيد، ومنحّها الشرعية والظهور في تاريخ الإسلام كسلوك طبيعي وواقعي، وربما تظهر بأشكالها القديمة في حال توفر الظروف الموضوعية لها بعد أن اختفت تمامًا من على وجه الأرض.

-       لم يتدخل الدين في الحد من ممارسة العبودية واحتكار الإنسان للإنسان وفق ظروف غير طبيعية، بل منحها الشرعية الكاملة، وصادق الرب عليها في النصوص المقدسة، وتمثلت بشكل كبير في الفتوحات الإسلامية إذ أصبحت تجارة العبيد أحد أهم أعمدة الاقتصاد الإسلامي وأهم أنواع متع الناس آنذاك على الصعيد الخدماتي واللذاتي والتباهي بعدد العبيد والإماء.

-       بالغ الخلفاء والحكام وأصحاب السلطة والجاه والمال والعامة من المسلمين، في أزمان مختلفة، في شراء العبيد أو ممارسة العبودية مع الآخرين وبأشكال مختلفة حسب الظروف، وبهوس كبير وراحة ضمير دينية. وليومنا هذا نرى الهوس والمبالغة في التعامل مع العمال الأجانب والخدم في الدول الخليجية وبشكل استعبادي مفزغ ليس محل ذكره الآن.

-       لم نعد نشاهد في زمننا المعاصر العبودية بفضل تطور المجتمعات وتحريم هذا الشكل الاستغلالي المريض، ولكن الإشكالية الكبرى هي أن الدين ما زال يعترف بها على أنها سلوك اجتماعي طبيعي قَبِلَه الرب في زمن ما. ونرى هذا متجليًا بشكل واضح في كتب الفقهاء، وهم ما زالوا يدرسون ويدرّسون في كتبهم الشرعية فصول العبيد والإماء وأحكامهم وكل ما يتعلق بحياتهم رغم اختفاء هذا الشكل من الحياة المعاصرة، وبكل أشكاله القديمة.

5

تحريم العبودية على الإنسان

أدخل الإسلام الأول بعض التعديلات على شكل العبودية القديم في تحفيز السيد على منح الحرية للعبد مقابل أجر معنوي مؤجل في الآخرة على شكل عطايا ذاتية أو اعفاء من عقوبات سماوية ما. ولكن الأساس التشريعي للعبودية الدينية بقي قائمًا إلى يومنا هذا. ورغم ذوبان ملامح الاستعّباد الوحشي للإنسان بفضل تقدم الإنسان والحياة تبقى الإشكالية الاستعبادية قائمة إلى أبد الدهر، معتمدةً على الأساس الجوهري في بناء الشكل الديني والاتصالي مع السماء، ورسم ملامح هذا الاتصال، وتشكيل قيمه الأولى، في علاقة استنبطت أصلاً من الشكل العبودي الأول، وبكل ما تحمل من مظاهر وإشارات وعلامات حضورية يستدل بها على شكل العبد أو انتماءه. فالعبودية الاجتماعية الأولى، بكل ما تحمل من ملامح، قد تجلت على شكل العبودية الدينية وأصبحت العلاقة الاتصالية تمثل: العبد + الرب = الدين، وهي علاقة جديدة إلا أنها تحمل كل استراتيجية العبودية الجاهلية. وبما أن الاستعباد المباشر لم يعد مُمارسًا على الإنسان المتدين، بل إن العبودية أصحبت تمثل جوهر ذاته وشكل حضوره في الحياة والتاريخ، فقد تمركزت العبودية بشكل فعال في بناء الشخصية الدينية وفي الحياة.

أصبحت العبودية حقيقة ثابتة وجوهرية في بناء شبكة كبيرة من الاتصالات مع السماء وفق قاعدة الاستعباد الروحي والمعنوي للإنسان المتدين. ولذلك يمكن القول إن العلاج الديني لمشكلة العبودية التي كانت محصورة في مجاميع صغيرة حكمتها الظروف التاريخية هو تحويلها إلى استعباد شمولي لكل الحياة والطبيعة والإنسان والكائنات الأخرى (الملائكة والجن) المذكورة في الكتب المقدسة التي امتلأت بنصوص تخاطب الإنسان باسم العبد، وهو الاسم المفضل عند الرب في مخاطبة الإنسان: (عبدي، العبد، وعبيدي)، بالإضافة إلى الكلمات التي تؤكد خصوصية عمل العبيد مثل (اطعني، اتبعني، اسجد لي، ... الخ)؛ وكل ذلك أوامر تمتلئ بها النصوص المقدسة. على هذا الأساس أصبحت العبودية حقيقة تكوينية شاملة مطلقة، وحقيقة تعبدية وروحية ثابتة كونها تمثل الشكل الاتصالي مع الغيب وهوية الحضور الإنساني أمام الحضور السماوي. ونرى أن الشكل العبودي القديم للحياة والإنسان من قبل الإنسان (السيد)، كعبودية اجتماعية وطبقية، قد اختفى بشكل ظاهري من الحياة المعاصرة اليوم كما ذكرنا، ولقد نال العبيد، بعد نضال طويل، والإنسان الأسود بشكل خاص، حريتهم وحُرّمت ممارسة تجارة العبيد في العالم بشكل دولي، وسنّت القوانين الدولية لمعاقبة وتجريم كل من يمارس هذا الشكل من التجارة؛ ولكن الأحكام موجودة في الشريعة الإسلامية بقيت على ما هي عليه، ولم يجر أي تغير في جوهرها وشكلها، إذ بقيت كنص وحكم شرعي ثابت، وتوقفت لعدم وجود الواقع الفعلي والموضوعي لتفعيلها.

قد يكون الحل الديني السابق ضرورة تخدم قيمة الممارسة الدينية كأيديولوجية لها أبعادها المادية والروحية. لكن يجب النظر إلى المشاكل التي لحقت بهذا الحل، والآثار التي ترتبت عليه، ومنها التشتت المفهومي للقيمة الأخلاقية والإنسانية، والذي انعكس على حياة المجتمعات العربية والإسلامية حتى يومنا هذا، إذ ما زالت هذه الآثار موجودة وتشكل عامل مترسب في ذاكرة الأمة الإسلامية، ومن خلالها تكونت طبقات من التحجر والجمود الاجتماعي والأخلاقي والإنساني.

6
حقيقة العبودية

حدث تحول استراتيجي كبير في صناعة العبودية، وإنشاء شبكة اتصالاتها، وممارسة الطقوس والشعائر، وبناء الروح للإنسان والمجتمع، وكذلك بناء الشريعة القانونية والتنظمية للحياة العامة واندراجها بشكل كامل تحت (حقيقة العبودية) والتي اعتبرت الأساس الجوهري في بناء التكوين الاجتماعي والإنساني. وهذا البناء الاستراتيجي تمركز حول عملية تحويل كل منظومة العبودية الأولى (الجاهلية) بين (السيد والعبد)، وبكل ما تحمل من أبعاد وآثار، إلى عبودية بين (العبد والرب) بحيث أصبح هناك تلازم عقلي ومعنوي وطبيعي (لكل رب عبد ولكل عبد رب)، وكل هذا مدرج في آيات في الكتب المقدسة[3]. أما ورود مفردة العبد في الكتب المقدسة فهو كثير وله دلالة واحدة هي هذه الشمولية الكيانية في انطواءها تحت مسمى العبودية بكل أبعادها التكوينية والتشريعية، والتي لم توضح الكيفية المادية والمعنوية في تطبيق شكل العبودية بل خضعت كغيرها للاجتهادات والتفسيرات المختلفة التي وصلت بالعبودية إلى أقسى درجات الاستغلال الفكري والمعنوي والمادي، وتركت آثارًا وملامحًا في بناء الشخصية الإيمانية. ويمكن استعراض بعض هذه الملامح العامة في البناء الإنساني والاجتماعي تحت مسمى العبودية:

- تحويل شكل الاستعباد (من السيد-العبد) الجاهلي، وكذلك ما يحمل من آثار الاستلاب والتخريب الإنساني، إلى (الرب-العبد) الديني، والاعتماد على العبودية المعنوية في بادئ الأمر ومن ثمة على العبودية الجسدانية والعقلية والذاتية.

- تطور مفهوم العبودية من عبودية الإنسان للإنسان، وهي عبودية السيد للعبد وبقاءه تحت رحمته إلى الأبد، إلى شكل آخر من العبودية وهي عبودية شاملة ومطلقه للعبد الأصلي وإضافة عبودية جديدة له، وأصبحت المعادلة هنا مكررة: (فالعبد عبدٌ للسيد) من جهة، و(عبدٌ للرب) من جهة أخرى، و(السيد) تحول بدوره إلى (عبد)، لكن (عبد للرب)، مع الإبقاء عليه (سيدًا على العبد)؛ فتساوى الاثنان معًا "السيد والعبد"، وأصبحا عبيدًا للرب في منظومة الدين مع الفارق السابق.

- تغير التركيبة النفسية للعبد أمام العلاقة الجديدة (الرب-العبد) إلى علاقة قبول ورضى واعتراف شمولي من قبل العبد كونه عبدٌ مطلقٌ للرب، وكذلك قبول ربوبي واعتراف حتمي للربوبية وإطلاقه في الوجود، وتأكيد مفهوم الهيمنة الكلية.

- كان العبد، في الشكل الأول (الجاهلي)، يخاف سيده ولا يحبه ولا يرغب به، ومحكوم بطاعته والانقياد له رغمًا، وكان السيد يمارس رقابة على العبد من خلال عمله معه، ولكن يمكن أن يخلو العبد لنفسه بدون أي رقابة في بعض الوقت، ويحذوه الأمل بالتخلص من السيد بأي شكل كالهروب أو الانتحار أو أن يباع إلى سيد آخر، وكان يحلم بالحرية يومًا ما. أما العبودية، في شكلها الديني، فقد اتسمت بتغيير التركيبة النفسية والمزاجية للعبد أمام الرب، فأصبح العبد يخاف سيده بشكل مطلق وفي كل زمان ومكان، ولا يمكنه الفرار لأن الأرض كلها تحت سلطان الرب. وتُنفذ آليات تطبيق العبودية في تجنيد رقابات فردية كرقابة الرب والذات الإيمانية، ورقابات جماعية كرقابة الملائكة والعائلة والدولة والمؤسسات الدينية الرسمية وغير الرسمية. على سبيل المثال هيئة الأمر بالمعروف أو شرطة الآداب، ووكلاء الفقهاء، والأحزاب والمليشيات المسلحة.

- في مقام آخر بدأ العبد يحب سيده من خلال التعود والتوريث التعبدي والممارسة الطقسية الجماعية والإلزام النفسي والتاريخي المتراكم، وأصبحت العبودية حقيقة بديهية يدافع ويقاتل من أجلها العبد ويصونها ولا يفكر أو يخطر على باله يومًا أيُّ شكل من أشكال الحرية.

- يمارس العبد الديني طقوسًا كثيرة في تحقير الذات وطمس أي معالم خاصة بها من أجل إرضاء الرب الديني الذي يقرر للعبد كل صيغ الطلب وأشكال الطاعة، ابتداء من عبادته في الصلاة إلى الدعاء والتوسل إليه في الخلاص والخشية من الموت. ولا فرق في هذه الممارسة بين العالم والجاهل والغني والفقير إلا في بعض الفروق النفسية كون (الفقير) يمارسها وفق نظام الأمنيات واللذات المؤجلة إلى أجل مسمى، ويتخذ من ممارسة عبوديته طقسًا مجانيًا من أجل كسب أمنيات مادية صغيرة؛ أما بالنسبة للأغنياء فالحفاظ على شكل العبودية الدينية ورعايتها هو صمام الأمان للبرجوازية الدينية، ويمارس الغني عبوديته كواجب تعبيري للحفاظ على ثروته في بلدان سرعان ما تُهدم فيها الأنظمة والقوانين، وكذلك من أجل إكمال شكلانية التدين، وتحقيق براءة ذممهم المالية أمام السماء. أما العامة، كما يسّمون في التصنيف الديني، وهم الجهلاء عادة، فينتمون إلى حقيقة العبودية بهوس استمتاعي أهوج وطاعة عمياء لأي خزين وهمي وانفلات أخلاقي، ويتحالفون مع الوهم الدنيي تحالفًا أبديًا، وخاصة في تحقيق واجب الجهاد أو التفنن في تعذيب النفس، فهم على الأغلب قرابين أيَّة دعوة بطولية تمتهن الوهم التسافلي. والجهلاء يستمتعون باحتقار الذات والزهو باستلابها. أما العلماء فنراهم، في مذاهب إسلامية مختلفة، يذيلون ويعلقون على كتبهم بعبارات مثل (كتبها العبد الحقير الذليل الفقير للّه فلان ابن فلان). وهذه ممارسة لتحقير الذات ولو بشكل ظاهري، يطلب العبد من خلالها الحفاظ على عبوديته وعدم تسرب أي مرض معنوي إليه كالتباهي أو التكبر مثلاً، في المقابل يحتقر ذاته ويسلبها أية خصوصية لأنه يعتقد أنه نافس الرب في العلم وهو من صفات الرب الذاتية. فبراءة ذمته تكمن في الاعتراف بأن كل شيء من عطاء الرب، وكذلك يقوم باظهار تفريغ الذات المنتجة والمبدعة من أي حضور إبداعي أو انتاجي يخدم به البشرية، ما دام الرب، السيد المطلق، مستحوذًا على كل الأسماء الفعلية والصفاتية والذاتية كصفة العلم. وهذه فعالية استلابية من فعاليات كثيرة لا مجال لذكرها لكثرتها في تاريخنا الديني. لهذا نرى من انغمس في العبودية عقليًا ونفسيًا وروحيًا لا يعمل بشكل منتج للحياة والإنسان بل يبقى خائفًا من أي فعل يعتقد أنه لا يرضي الرب، وفي الحقيقة هو لا يعرفه ولهذا يوجب على نفسه دفن ذاته في حقبة زمنية يعتقد أنها أكثر مثالية بالنسبة للرب مثل زمان ظهور الأنبياء والصالحين والأولياء وحلولهم المؤقتة والدائمة للحياة والتاريخ والإنسان.

- العبد بشكل عام إنسان مسلوب الذات ومنزوع الإرادة ومعزول عن ممارسة أي عمل تحت عنوان الإنسان بشكل خاص، بل هو حقيقة تاريخية توقفت عند معنى وممارسة فرضها منطق تاريخي متوقف.

- العبد كائن محطم الإرادة والقوة والعقل، ومسحوق تحت السيادة العليا لدكتاتورية لسلطة (الرب، الحاكم، الأب؛ الشرطي؛ المعلم؛ الذات). ويبقى العبد الديني مخلصًا يدافع عن أي سلطة تمارس فعلها السلطوي والاستلابي على ذاته.

- يُستخدم جسد العبد بشكل قسري، تحت حتمية معقلنة بقوة الجبر والتسلط، لأداء الطقوس أو الخدمة الإجبارية أو الحرب أو التضحية بالجسد كقربان ربوبي دائم.

- العبودية الدينية، في أحكامها الثابتة والطريقة المثلى لأدائها أمام الربوبية، قد حكمت بشكل غير مباشر على مفهوم (الإنسان) بالموت. ولقد سبقنا الفلسفات المعاصرة والحديثة في فلسفة (موت الإنسان) بعّدة  قرون وبشكل واقعي وتفصيلي. لكن هذا الموت موت سلبي لم يتم عبر تطور طبيعي لحركة تاريخ الفكر والحياة بل من أجل أضاحٍ قديمة لابد من ممارستها لطمأنة الضمير الأسطوري المستلب في داخلنا، وتثبيت العبودية في مقام عشق انتقاصي لوجودنا من جهة، وديمومة أشكال حياة الرب، السيد المطلق وبشكل أبدي، من جهة أخرى. لهذا تم قتل (الإنسان) كحقيقة لم تنجز بعد في تاريخنا العربي والإسلامي وعُوضّ عنه (بكيان العبد) كونه حقيقة مارسناها ولنا خبرة فيها ومنحناها صفة الحضور كهوية أبدية لوجودنا التاريخي.

- يمكن لنا مشاهدة آثار العبودية الشاملة والمطلقة للحياة والإنسان والطبيعية على تاريخنا العربي والإسلامي إلى يومنا هذا. وقد تكون العبودية أحد الأسباب المركزية في تدهور الشخصية العربية والإسلامية. وقد أصبحت العبودية في زمننا المعاصر عبارة عن مكونات من الذاكرة تحمل خصوصيات آثار النقص المرضي، وهو شعورنا نحن العرب والمسلمون بشكل عام والعراقيون بشكل خاص بزهونا وعظمة ذواتنا وكوننا مبدعين نعدّد مفاخر تاريخنا القديم، وننسى واقعة حقيقية هي أن هذا الادعاء عبارة عن أحلام عبيد لم يكونوا ليتذوقوا طعم الحرية. وهذا الشعور المتضخم يفتح باب الأمنيات ويستخرج الكم الهائل من مركبات النقص والهزيمة الحتمية والتراكم النفسي الذي يحتاج إلى دراسات معمّقة ومدارس اجتماعية وعلمية حديثة كي تحل لغز تأخر هذا الإنسان وتدهور الأمة والمجتمع الإسلامي والعربي. هذا لا ينفي أن هناك حالات فردية وشخصية عربية أو إسلامية تمتلك طاقات ذكية وإنجازات إبداعية، وهذا ما حصل فعلاً لبعض الأشخاص المبدعين عندما غادروا أمنيات العبيد وأوهام الأمة الواحدة. إلا أننا نتحدث هنا عن مناخات وتركيبة المجتمعات الإسلامية والعربية وتشكيلاتها السلطوية والسياسية والدينية، وهو الشكل الأغلب للحياة ونظامها العام.

- لقد فسرت العبودية على أنها استيلاء كامل على الحياة والإنسان والتاريخ والكون، وتمثّل جوهر فعالية الاتصال بين هذه الحقائق وبين الرب المطلق بكل ما يحمل من أسماء وصفات وذات. وقد سلبت العبودية جمالية الرب والكون والإنسان، واستبدلت القيم الجمالية والأخلاقية بنظام إرشادي عسكري، وربطت كل فعاليات الإنسان والرب والحياة بدورانها في فلك الاستعباد والتسلط المطلق وممارسة الاستلذاذ النكوصي للشخصية الدينية.

- ترسيخ مفهوم الخضوع لأية قوة قادرة على ممارسة أي نوع من الاستلاب الوجودي للإنسان، والانقياد إلى القوة العمياء التي تحمل أي ملامح للسيادة العليا والتقديس والهوس التاريخي والبطولي للدين، حتى لو كان وهمًا محضًا.

- وجوب الاعتراف بالعبودية وممارستها عبر التاريخ أصبح من أكبر النظم التعّبوية لصنع العبيد عبر الزمن، ولإنتاج أشكال الخضوع والطاعة. وأصبحت معامل العبيد هي الوحيدة التي تتنج أشكالاً مختلفة من الدكتاتورية الأرضية وتتعبد بها وتدافع عنها. وهذا ما نراه في مجتمعاتنا العربية والإسلامية في استيلاء الملوك والحكام من الطغاة والدكتاتوريين على السلطة عبر تاريخنا الطويل. إن منظمومة العبودية المطلقة في البناء الديني والمجتمعي هي أحد أسباب الإنتاج المتواصل لأصل الدكتاتورية في تاريحنا القديم والمعاصر.

- تأثير العبودية على تركيبة الشخصية العربية والإسلامية عبر توسيع المخزون الوهمي التاريخي الهائل من الذاكرة القديمة، بكل ما تحمل من أمراض صنعت ازدواجيات متراكمة أو انشطارات شخصية في دواخل الإنسان المسلم نفسه. إذ نرى بوضوح التشتت الذهني والجسدي والنفسي والروحي في الشخصية المسلمة بفعل الآثار المدمرة لقوة العبودية في الذاكرة وهيمنتها وصراعها مع قوى الهيمنة الاستلابية لدكتاتورية الأرباب الذاتية والسلوك العبودي. وغالبًا ما تتصارع القوتان في داخل المسلم نفسه فنراه عبدًا وسيدًا في نفس الوقت، وغالبًا ما يحدث صراع تتنصر العبودية فيه داخل الإنسان المسلم. هذا الصراع يظهر في ممارسة أي مسؤولية ابتداء من العائلة والذات حتى السلطة وباقي سلم المسؤليات الدينية والدنيوية. ونرى أمثلة كثيرة لذلك في انقياد العامة أو العبيد لأي فتوى دينية لفقيه، أو في سرعة الطاعة في تحشيد أي قوة من قبل أي شخصية مقدسة تتمثل في شكلانية الرب كمؤسسة دينية أو رجل دين يتمتع بمميزات دكتاتورية الرب، وهذا ما نراه واضحًا في الجهاد العشوائي أو الانتحار من أجل الرب، وقربنة الجسد بدون أية مراجعة للعواقب الوحشية المترتبة على هذه الأفعال. العبيد يصنعون الأفعال وينساقون بلا وعي وراء أي دعوة تحمل أنفاس وقوة الأسياد سماويًا وأرضيًا.

- تتكون منظومة العبودية من بنوك معلوماتية جاهزة تمتلك آليات عمل قوية في تقديم الإجابات الجاهزة والحلول التبريرية للسيد (الرب) في أي خرق طبيعي أو بلاء أو قدر أو تدمير أو حرب أو فساد أو أي شكل من أشكال الأمراض المادية والمعنوية، ويتم تعليق هذه البلايا في رقبة العبيد كونهم السبب الرئيسي في أي كارثة طبيعية لأنهم أغضبوا السماء وخرقوا القواعد مع السيد. وهذا الفعل التفكيري الأهوج للعبيد، وطاعتها لقوى تسلطية عمياء، حتمًا سيقود الناس إلى حتفهم. فهذه البنوك المعلوماتية، المعدة سلفًا، تعمل وفق أنساق مقدسة في حشد الأجساد المطيعة والعقول القادرة على التبرير والمحشوة بالنصوص المقدسة، وتحارب أي نشاط يتهم أو يعاكس أو يشك في سياسات المنظومة التسلطية للدين، وهي تعلق مسؤولية التدهور وتأخر وتخلّف هذه الأمة على خطايا العبيد، وتارة تعلقها على رقبة الأقدار وإرادة الرب؛ وهذا ما يُغيّب أية فعالية نقدية لتاريخ الدين، وأي تساؤل حقيقي وفعال، ويقود إلى ممارسة أقسى العقوبات بحق أية عملية نقدية تشكيكة للجذور، أو لتفكيك منظومة تاريخ الأفكار الدينية.

- الدفاع عن العبودية الشاملة كونها نص رباني فُهم بطريقة تدوين وترقيم معينة. ويتم تثبيت العبودية الاستلابية للحياة والإنسان والعالم من قبل العبد نفسه. وهذا الدفاع المستميت حد التضحية بالمال والرجال والحياة، ليس تسلط الحاكم فقط بل هو سلطة المجتمع على نفسه، وفقدان القيمة والقدرة على تقدم المجتمع كون القوة والحياة الأبدية للسيد فقط، وكل شي خاص بالعبيد فانّ وزائل، وليس أمامهم سوى التمسك بإرادة التأجيل وقوة الانتظار.

- انعكاس مفهوم السيادة المطلقة للرب على الحاكم أو الأمير أو الملك أو الخليفة، فهؤلاء يمثلون، بمختلف مسمياتهم، ظلَّ الرب في الأرض. وكذلك يصبح رب العائلة سيدًا مطلقًا على عائلته، والزوج على زوجته، والصغير على الكبير، والقوي على الضعيف، والغني على الفقير، والعالِم على الجاهل، والمؤمنون على الكفار، والأصحاء على المرضى، ورجال الدين على العباد والبلاد؛ في سلسلة استلابية لامتناهية من التحكم والسيطرة التعاقبية على الآخرين.

- من ناحية أخرى، يمكن عرض أشكال التسلط في ممارسة قسرية الفعل العبودي للذات، حسب الدعم المادي للتاريخ والقوة التسلطية أو الدينية، على الآخرين، كون الذات منشطرة إلى: (سيد-رب) حسب سياسة التمكين وبامتياز الصفات السالفة الذكر المتمثلة في شكل دكتاتورية الرب (الملك، الحاكم ،الفقيه ،الشرطي ،الأب والمعلم)، و(عبد) لا يتنازل على عبوديته لأنها أصبحت تمثل رأس ماله الديني والدنيوي، وكذلك هو مسخّر لمنظومة الاستعباد الكلي لسلطة التاريخ الربوبي ويمارسها على غيره، ومسخّر للآخرين حسب الطلب والخدمة ومدى قوة انصياعه وتسخيره تحت سلطة الأحكام الدينية والاجتماعية المتعلقة بالعبودية بكل أنواعها.

7
تشكيل دكتاتورية الأرباب في الديانات الإبراهيمية

نشاهد حركة ثنائية (الرب والعبد) في الديانات الإبراهيمية وقد احتلت مساحة هائلة شكّلت الجوهر البنائي للديانات التوحيدية، رغم اختلاف وظيفة هذه الثنائية وطبيعة ظهورها المعرفي تبعًا لطبيعة شكلها التاريخي وتكونها الزمني. ولقد اختلطت مفاهيم كثيرة في الديانات التوحيدية لحركة الرب الواقعية في الحياة الدينية والتاريخية وأصبح من الصعب فك التشابك والتداخل بين سلطة الرب وعبودية العبد في الممارسة الدينية وكذلك الحياة الواقعية، إلا من خلال تدخل مباشر للأنبياء سابقًا وللمؤسسات الدينية حاليًا، في فصل أصل هذه السلطات وتكوين منظومات رقابية لتحديد الوظائف الدينية المتعلقة بكل من الجانبين. وسنقوم بعرض ظاهري لطبيعة التكون العبوّدي وبناء سلطة الرب وقيومية الفعل النبوي ضمن هذه المعادلات الآتية:

الدين اليهودي في مدار ثنائية (الرب-العبد)

تعتبر رحلة الرب في الدين اليهودي رحلة ملوكية منتخبة ومحصورة في شعب واحد هم اليهود، الذين يعتبرون ذواتهم حقيقةً سماوية خالصة، ووحدهم يمتلكون مفاتيح الغيب وخزائن أسرار السماء. فمعظم الأنبياء والرسل عبر تاريخ الديانات على الأرض هم من بني إسرائيل. ويمكن رؤية معادلة حركة الرب وفق ما يلي:

{تاريخ شعب الرب المختار + حيازة النبوة والملوكية السماوية باسم شعب اليهود فقط + سلطة دكتاتورية السماء متجسدةً في شعب بني اسرائيل + كتب ربانية مقدسة لرحلة شعب حارب باسم الرب فهو ظالم ومظلوم وقاتل ومقتول ومضطهِد ومضطهَد + حاكمية الرب والسلطة المطلقة في أيدي تاريخ شعب اليهود + قيادة أنبياء وملوك بني إسرائيل للحياة السماوية على الأرض + شرائع الرب اليهودي وقوانين الرب = الدين اليهودي.}

وهو دين مارس، في حقيقته الواقعية والنصّية، أبشع المجازر باسم (رب الجنود) كما هو مكتوب في نصوصه المقدسة، وقام بإبادة شعوب بكاملها. وهو أول دين أدخل الرب رسميًا الخدمة العسكرية، وعنّون الحروب المقدسة باسمه. وتمتلئ الكتب المقدسة بالنصوص التسلطية والدكتاتورية وحروب الإبادة والتوحش. أما أشكال العبودية فقد رسمت في معابد الشعوب اليهودية وملوكها، فلم تكن العبودية واضحة كشرط وجودي للخلق في الديانة اليهودية، بل هي معنى مقدس وحقيقة دينية مارسها اليهود كشعب ديني خالص، وامتلكوا في ذواتهم تعاليًا ربوبيًا عظيمًا على أنهم ملوك الرب وخاصته على الأرض، رغم أنهم في الحقيقة الواقعية عاشوا مضطّهَدين وليس لهم وطن محدد، إلا أنهم لم يتخلوا عن الاحساس المقدس في ذاتهم كأفراد عظماء، وأن وجودهم وتفوقهم البشري وخصوصيتهم قائم على أنهم (شعب الله المختار)، وكذلك تمايز ملوكهم ورسلهم إلى الأرض، وأن طينتهم الخلقية معجونة من نور الرب. لهذا تكون لديهم كل هذا التضخم التاريخي في صياغة أكبر مملكة تسلطية للرب الواحد المطلق على الوجود. ويمكن القول إن شرعنة قوة وبطش دكتاتورية الأرباب وعسكرتهم تمت في مصانع الدين اليهودي. ولقد اكتسب اليهود خبرة هائلة في ذلك من خلال كل هذه الخصوصيات التي يعتقدون فيها أنهم خاصة الرب على الأرض، ومن خلال تجاربهم الطويلة مع السماء مثّلوا الغالبية العظمى من الأنبياء والرسل في الديانات التوحيدية أو الإبراهمية، معتقدين، كما ذكرنا سابقًا، أن خصوصية الرب وسلطته الخاصة وقدراته وفعالية حضوره توزعت على شعب الرب الواحد على الأرض، أما باقي الشعوب والخلق فهم عبيد خاضعون للرب ولشعبه، فلا يمكن لهم مشاهد ملكوت السماء أو الاتصال بالرب المطلق وخصوصية الغيب وكل حقائق الوجود إلا من خلال عرش ملوك وأنبياء بني إسرائيل فقط، لأنهم، وكما يعتقدون، أسرار الرب على الأرض، ومنهم سيأتي المنقذ الأبدي آخر الزمان ليتسلط على الأرض باسم رب الجنود، ويملؤها قسطًا كما ملئت ظلمًا وجورًا.

الدين المسيحي في مدار ثنائية (الرب-العبد)

يعتبر الدين المسيحي ولادة طبيعة من الدين اليهودي الذي يعتقد بالمنقذ الإلهي، المتجّسد بالمسيح، لإكمال حقيقة الروح في وعود الرب لليهود وللعالم. وتعد حقيقة نبوءة أي دين في رؤية نهايته متجسدة في المنقذ الأبدي المذكور في كتبه المقدسة، والذي سيأتي آخر الزمان، وهي حقيقة دينية متواترة تمنح أي دين القوة التواصلية للاستمرار في الزمن، فحقيقة الاستيلاء على الأرض لصالح السماء، وخصوصية وجود المنقذ الأبدي الذي سيظهر آخر الزمان، هما سر ديمومة الديانات التوحيدية الكبرى. ووفق حقيقة الظهور لكل الأنبياء على أنهم مخلّصون ومنقذون ومبشّر بهم في تاريخ الرب، ظهر المسيح عيسى ابن مريم ليحقق نبؤة الدين اليهودي والوجود في ظهور المنقذ، فكان المنقذ لليهود أنفسهم وللعالم والإنسان. وقد جعل المسيح من رسالته الروحية رسالة شاملة تساوي حقوق الأرض والسماء في ذاته المقدسة التي منحت هدية روحانية للعالم والإنسان، وهذا ما دفع اليهود إلى عدم الاعتراف بشخصه واضطهاده وذلك لحيازتهم حقوق السماء وخصوصية الأرض المقدسة. وهذا ديدن كل دين يحمل نبوءة المنقذ والمخلّص إذ لا يمكن له أن يصدّق قدومه، أي المخلص، لأنه علامة على نهاية الدين نفسه، وموت تاريخ الرب الديني الطويل. وهذا ما يجعل كل الديانات التوحيدية تضيف إلى مقداستها الوجودية فلسفة الانتظار والتمهيد لقدوم المنقذ من دون التفكير الواقعي والحقيقي في آليات ظهوره، إذ أن قدوم المنقذ الإلهي في أي دين يعتبر نهاية هذا الدين، فظهور المسيح على الأرض يعني تعجيل نهاية أسطورة السماء اليهودية، كونهم كيان مقدس وخصوصية ربوبية. وقد تحققت إرادة المسيح بتخليص الرب من دائرة المقدس اليهودي ونقله إلى كل الوجود، وجعل الإنسان في أي مكان وزمان يمثل ابن وحقيقة الرب إذا آمن بالتعاليم الربانية ووصايا الأنبياء السابقين. ويمكن لنا معرفة خصوصية حركة الرب في الدين المسيحي وتجلّيه في حقيقة المسيح، أي نزول الرب من السماء إلى الأرض في جسد المسيح. من الخصائص المهمة في حقيقة المسيح، حسب ما يذكر أهل المعرفة، أن المسيح أصبح قلب ولسان وجسد الرب في كل الوجود بروحانية ممتلئة ومتمثلة في كل كيان طاهر، وكذلك من خصائص حقيقة المسيح هو قيامه بإلغاء كل وسائل الاتصال الغيبية بواسطة كائنات أخرى، سواء كانت ملائكية أو أنسية، والقيام بعملية روحانية كبرى في توحيد الاتصال والخطاب السماوي بذاته الذي أصبح كل الوجود. يمكن اختزال حركة الرب في المسيح في الشكل التالي:

{نزول الرب من السماء إلى الأرض في شخص المسيح + تحقق المسيح كرسول + مزج كل حقائق السماء في ذات المسيح + إلغاء التوسط بين الرب والنبي كالملائكة أو الأرواح النقية + أصبح المسيح الرب هو حضرة الخطاب المباشر + التضحية بجسد المسيح وتجلي الرب في الوجود + تحقيق الأبوة والبنوة والحقيقة لشكل الخلق بالإنسان المسيح + حصر عملية الرب والرسول والابن والحقيقة في ذات المسيح والتضحية بالجسد كقربان أخير من أجل إنقاذ الناس من خطاياهم وتصفية قلوبهم من الشر وملؤها بالمحبة = الدين المسيحي.}

خُصَّ المسيح، في رحلته الظهورية، بتنزيل الرب من السماء وتجّليه على جسده الذي أصبح جسد الكون كله، ومنح الناس محبته كلها، كونه ابن الرب. وامتزج الرب والنبي والحقيقة كلهم في ذاته. فكانت دعوة المسيح من أجل اصلاح الإنسان وتلقينه تعاليم السماء المعنوية والسلوكية. ولذلك لم تظهر أية ملامح مقصودة للدكتاتورية الربوبية والعبودية الاستلابية في تعاليم المسيح. إلا أن الدين المسيحي، كتاريخ، شارك في صنع أكبر دكتاتورية سماوية في القرون الوسطى باسم المسيح، وقد مارست هذا الدكتاتورية الربوبية المسيحية أبشع أنواع الظلم وأسوأ مراحل التوحش والتخلف والاستعباد للشعوب والإنسان باسم المسيح الرب، وتمثل كل ذلك في كيان الكنيسة ورجالها آنذاك الذين ألبسوا المسيح ملابس العسكر ووضعوا على أكتافه رتب الحرب الربانية المقدسة، وبنوا على إثرها أكبر قوة عسكرية مارست غزواتها على الأرض وصنعت أنواع الظلم الاجتماعي والتسافل الأخلاقي في تاريخ أوروبا في القرون الوسطى. وكانت أكبر مؤسسة عسكرية صنعتها الكنسية هي محاكم التفتيش التي مارست عبودية المسيح للحياة بشكل واضح وصنعت أكبر دكتاتورية له، ولطخت يدي المسيح بدماء أبناء الأرض وهو الذي ضحى بجسده ومثّل كل تجليات الرب والحقيقة المطلقة والإنسان من أجل إنقاذ العالم. لقد رحل المسيح مبكرًا لسبب واحد فقط، على ما يبدو حسب آراء الكثير من الباحثين، هو أنه بالتحديد لم يكن نبيًا عسكريًا في الأصل، ولكن، كما يذكر الباحثون، فإن انتشاره وبقاء دينه قد ارتبط بعسكرة الدين المسيحي في زمن ما، أو فتح آفاق عسكرية، كما حصل في تاريخ الدين المسيحي سابقًا.

الدين الإسلامي في مدار ثنائية (الرب-العبد)

يمكن لنا مشاهدة حركة الرب في الدين الاسلامي، وبشكل موجز جدًا، في اتباع آليات جديدة لإرجاع الرب إلى السماء مرة أخرى، وإعادة تشكيل خرائط الأنبياء السماوية والأرضية وفق مبادئ ومعارف جديدة في توزيع خصوصيات الرتب والمقامات والعناوين مع الحفاظ على الشكل الحضوري للأنبياء كصفة موسى ككليم لله، وسحب بعض الامتيازات من البعض الآخر لتثبيت هرمية التنزيه المطلق للرب وإنجاز التقديس العملي للسماء حتى في التضحية بتراث الأنبياء والأمم السابقة، فأطلق على المسيح اسم العبد للرب وتم إدراجه في سجل الأنبياء والمرسلين وسلب كل خصوصية ذاتية لربوبية المسيح الخاصة[4]. صنع النبي محمد أكبر عملية تنزيه للرب من كل تعلق جسدي وكياني خاص بالموجودات المخصوصة بتسمية تخص الأنبياء أو الكائنات السماوية أو غيرها من الحقائق، وشكل التجسد الإلهي وفق خصوصيات العطايا الربانية الخاصة. كما شّيد النبي محمد، من خلال النصوص المقدسة (القرآن والسنة)، منظومة اتصالية كبيرة وهائلة بين السماء والأرض، ونظم نقاط الارتكاز الجوهري بين النبي الرسول ذاته كحقيقة سماوية خالصة وبين مجموعة تجسدات سماوية اشتغل فيها الملائكة والجن والأنس وفق خصوصيات وآليات عمل خاصة. ومن خلال هذه العملية الاتصالية تم توزيع الأسماء الربوبية كحقائق، فاعلة ومسيطرة على كل مدارات الوجود، تعمل لحساب الرب، وأصبح النبي ذاته عبارة عن مؤسسة بريدية سماوية مختارة بدقة وبقصد رباني واضح المعالم. وفتح النبي وظائف إيمانية معتددة وكثيرة منحت لأصحابه والمرافقين له وكل المؤمنين برسالته وخصتهم بهبات ومراتب سماوية وعطايا مؤجلة ومرهونة بطاعتهم وقوة عملهم الأرضي. ولقد تمت عملية التعامل والاتصال مع الرب من خلال التطور التدريجي للإسلام في الزمن التنزيلي للنصوص المقدسة (القرآن) و(السنّة النبوية)، وقام النبي برحلة عمل هائلة في نقل تراث السماء، حسب الرؤية المحمدية، وتنزلاتها وتدوينه كسلوك عملي وتثبيته كحقائق سماوية على الأرض. وقد تحول النبي في تاريخ الإسلام إلى مؤسسة نصية مقدسة ممتدة حتى بعد موته. تمثلت هذه المؤسسة بالحديث النبوي الذي أصبح السلوك العملي للحياة الإيمانية للمسلمين. وهنا يمكن القول إن الإسلام استرجع كل آليات وخصوصية التراث اليهودي لكن بنكهة عربية واستراتيجية مفتوحة وشاملة. وبالإضافة إلى ذلك طوّر شبكة التجليات الربانية على الحقائق الوجودية كما في المسيحية. فأصبح النبي نقطة ارتكاز ربوبي ومحطة توصيل خطابات السماء من خلال آليات عمل توسطية بينه وبين الرب، حيث لعب الملاك جبرائيل دورًا أساسيًا في بناء الدين الإسلامي. ويعتبر جبرائيل من الحقائق الارتكازية في بناء ومصاحبة النبي حتى رحيله إلى العالم الآخر.

ركّزت المعرفة الإسلامية، بشكل عام، على بناء ربوبية تسلطية قوية وكبيرة ولها إنجاز قهري مباشر، وامتدت في تبيان حقيقة الرب على طول عمر النبي، فظهرت الربوبية في مدارت مختلفة لرسم قهرية عظيمة وقوة سلطوية للرب في عوالم الوجود بشكل عام عبر امتلاكه مخزونًا هائلاً من الثوابات الهائلة والعقابات المذهلة والرقابة المباشرة على الوجود والإنسان. وكذلك من قبل النبي والخلفاء والتابعين وصولاً إلى المؤسسات في زمننا المعاصر. وأكبر إنجازات الإسلام الاجتماعية والسلوكية في التّدين هي تعميم العبودية على الكون ابتداء من الأجرام السماوية وكل متعلقاتها ومظاهر الطبيعة والإنسان على وجه الخصوص والحيوانات كلها والحشرات وصولاً إلى كل الحقائق السماوية الأخرى من الجن والملائكة، ووجوب الاعتراف بكل مدارات العبودية من قبل المسلمين وغيرهم من الأمم والأديان، وذلك ما نحن بصدد تقديمه من خلال هذا البحث بشكل مختصر. وتم ذلك خاصة عبر بناء تفاسير هائلة لموضوعة العبودية التي قد يرجع أحد أسباب تضخيمها إلى النزعة السلطوية الإطلاقية والبناء الصحراوي للإنسان العربي، وكذلك إلى دخول عوامل المنافع الاقتصادية والقوة الآنوية للعرب أنفسهم لتفعيل عملية قبول مبادئ العبودية والتي تمثّلت في كل تجلياتها على أنها اندكاك كامل للذات والعقل والنفس كليًا أمام القدرة الربانية المتجّلية في النبي ومن ثم في النص المقدس وبعدها في الخلفاء والصالحين والتابعين وصولاً إلى الفقهاء والحكام وإلى أصغر سلطة. وهذه العملية، رغم قدسيتها، أثرت في بناء تركيبتنا الاجتماعية والعقلية والنفسية، وتركت شروخًا وحجبًا مادية ومعنوية هائلة، وأصبحت سببًا مباشرًا في كثير من الأمراض التي طّمرت الذات الإسلامية. ويمكن إيجاز حركة الرب في فهم التدين الإسلامي حسب معادلة العبودية وفق ما يلي:

{رب واحد مطلق وسماوي + منظمومة العبيد المطلقة (سلطة الرب المطلقة + وظيفة العبد المطلقة) + عبودية شاملة للكون + ربوبية شاملة للكون + تنزيه الرب حد التجرد وتشبيه الرب حد التجّسد + محورية النبي كونه الموصل للخطاب وحقيقة التجلي الربوبي + ملازمة الاعتراف بالرب للاعتراف النبي على حد سواء + دكتاتورية شاملة للكون باسم الرب + دكتاتورية النص المقدس الذي أصبح الرب الفعلي والواقعي في حياة الناس + توزيع دكتاتورية الأرباب والنصوص على المجتمع وفتح أبوابها للجميع + توزيع العبودية المطلقة على الجميع وفتح أبوابها للجميع + توزيع وتصنيف البلاد والعباد وفق قوانين الدخول في الدين + تجنيد السماء وكل الأرض من أجل إنجاز عروش الدين + تخصيص أمة الإسلام بالامتيازات الخاصة والمهمة وتوزيع المقامات الرفعية والدرجات الكبرى في الدنيا والآخرة لهم، ومنح الثروات المادية والمعنوية لشكلانية تسمية الأمة الإسلامية = الدين الإسلامي.}

كان هذا استعراضًا سريعًا للشكل الربوبي (والذي سنفصله في الجزء الثاني من هذا البحث) الذي ظهر في ديانات التوحيد الثلاث بين ثناثية العبد والرب والتي تجلت بشكل شمولي ووزعت على جميع الخلق بالتساوي. ولقد أثر هذا الشكل التقسيمي على تكوين تركيبة المجتمع الديني بشكل عام والإسلامي بشكل خاص والتي كونت القاعدة الاجتماعية الأساسية والبيئة المزاجية والأنوية لاحتضان دكتاتوريات كبيرة استولت على عقل وجسد ونفس المتدين في الإسلام بشكل خاص والمجتمع بشكل عام واتصفت بخصوصية ربوبية لها القدرة الأزلية والولادة المستمرة في أي ظرف وتحت أي عنوان.

أمام هذا الاستعراض، الذي كشفنا عن خطوطه المعرفية، يمكن التصديق بعدم فصل سلطة الرب عن(المنظومة العبودية المطلقة) داخل كيان المجتمع، ولا يمكن تمييزهما دينيًا، بل يمكن فصلهما أخلاقيًا ورؤية الآثار الواضحة في انشطار الذات المتدينة وامتزاج القيم والأخلاق وفق الترتيب الأيديولوجي الخاص بالدين. فقد يكون الفعل خيرًا وشرًا في نفس الوقت حسب تقديره الشرعي في الدين. وكذلك يمكن رؤية تمازج بين عبودية ظاهرية وسلطة وقسوة باطنية شطرت الذات المؤمنة وشتّت وعيها. وقد تسرب داء العظمة بشكل لاشعوري بحيث يمكن مشاهدة كثير من الأشخاص في مجتمعاتنا العربية والإسلامية المجردين من أي قيمة إبداعية، وكثير منهم يعيشون في صحراء روحية قاحلة، فاقدين لأي شكل حياتي منتج ولا يملكون أي مقوم حضاري؛ لكنهم يعتقدون أنهم ذوات عظيمة وأن حضارتهم هائلة وكبيرة. وهم في تواصل لإعطاء العالم القيم والأخلاق والروحانيات رغم خلو بلدانهم منها في الواقع الفعلي. ويتباهون بكل أشكال التخلف والهيمنة على أنه أصالة تراثية والتصاق بالحضارة الدينية والقومية، وبترويج شعاراتي متوارث. هذا التمازج الغريب بين دكتاتورية مبطنة وعبودية متمظهرة بالأخلاق يشكل نسبة كبيرة من التركيبة الاجتماعية لمجتمعاتنا الإسلامية المتدينة بالوراثة.

8
إضافة العسكرة الدينية إلى الحياة العراقية

لم تكن الدكتاتورية الحديثة في العراق خارج دائرة الفهم والتعريف المعجمي لمعنى الدكتاتورية في التاريخ الإنساني، إلا أنها تميزت في مبالغة التفرد الذاتي والارتكاز الحلمي لهلوسات الذات المعظمة للسلطة والإنسان على حد سواء، والتجرد الوحشي في ممارسة كل مراتب الظلم والتدمير على الإنسان والأرض والطبيعة والوجود، والهوس العسكري للسلطة الدكتاتورية في خوض الحروب بكل ما تحمل من استنزاف لطاقات المجتمع والإنسان والحياة، وممارسة أقسى درجات القتل والتعذيب والتدمير الجماعي. لا يمكن الفصل مؤسسات التسلط الدكتاتوري في العراق والاستغراق بالإرث التاريخي لمفاهيم التوحش والسلوك التسافلي لأبطال التاريخ الأسطوري والديني على حد سواء. وقد ترسخت هذه المفاهيم التسلطية المطلقة على الحياة والإنسان بشكل شمولي وأفرغت كل آفاق التحقق الإنساني داخل هذا المجتمع العراقي المسكون بآلهة وهم تمارس أقسى أحلامها في الاستلاب والتوحش الأرضي منذ فجر التاريخ إلى يومنا هذا. ونرى بوضوح أن الدكتاتورية العربية والإسلامية بشكل عام قد تخرجت بدرجة امتياز لا يقبل الشك من مدارس التاريخ العسكري للديانات. ونرى بوضوح من خلال تاريخ الدين العراقي أنها قد اتسمت بأشكال المنافسة التبجيلية للرب الديني والمذهبي بشكل مباشر. ونرى أن العقلية الدكتاتورية تراتبت على كل مدارات الحياة العراقية، وتجلت بوضوح منذ تولي البعث (العقيدة القومية الدينية) السلطة، وطبقت كل نظريات التلسط الوحشي والتدميري في زمن الدكتاتور صدام حيسن. وقد استمر البناء الديناميكي للتسلط المتوحش والتركيبة العدائية ضد كل ما هو إنساني داخل المجتمع العراقي.

ويمكن لنا متابعة وسرد بعض خرائط التسلط العراقي على الحياة في كل اتجاهاتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، ورصد منابع تغذيتها الاستعبادية والقوة التواصيلة لاستثمارها الميداني للحياة وتفريغ الإنسان من ذاته الأرضية والواقعية ورميه في دائرة التيه السماوي المطلق والضياع الوجودي لقيم انبعاثه الطبيعي. وأهم هذه المنابع التسلطية للوحي البنائي للدكتاتورية العراقية هو الشكل الظهوري للدين العسكري، وتجلي دكتاتورية الأرباب، وتوزيع ونبش مفاهيم العبودية الاستلابية في الحياة العراقية بشكل خاص والإسلامية بشكل عام. ويتمثل هذا الظهور في هرمية البناء الدكتاتوري للرب الديني في الحياة العراقية، من زمن الأساطير السومرية والبابلية التي كانت تعددية الأرباب وصراعهم فيها أكثر حرية ومرونة وأكثر قدرة على التحرر والتخلص من ثقل السلطة والاتّباع، وهذا ما جعل الشعوب القديمة أكثر حرية وعمقًا روحيًا وإبداعًا حضاريًا مقارنة بما نشاهده اليوم في دكتاتورية أرباب التدين الذين هم أكثر شمولية ومركزية وقسوة وتقييد للعباد. ونعتقد، من خلال متابعتنا لأشكال التسلط الديني على الحياة الإيمانية والروحية للمجتمع الديني العربي والعراقي بحيث نشاهد التحالف بين العبودية الدينية والتسلط الدكتاتوري، أن طرفي التحالف السماوي-الأرضي يشتركان بصفات عامة تختلف في تطبيقها على المجتمعات. وكذلك نعتقد بتأثير تاريخ التوحش في هذه المجتمعات وعمق حضارتها وتشكيلاتها المعرفية، بحيث تشترك العوامل السابقة في إنجاز عبودية ودكتاتورية خاصة بكل مجتمع. لهذا نرى العبودية والدكتاتورية العربية تختلف من دولة إسلامية إلى أخرى، فتراث العبيد (أي بمعنى العبودية الدينية) أفرد للعراق سماته وتمّرده الخاص وثوراته، وكذلك دكتاتوريته الخاصة التي لها خصائص أكثر وحشية أو قسوة وتدمير. وكذلك هناك شكل خاص لهذه الثنائية (العبودية، وأشكال التلسط السيودي) في السعودية، باكستان، ايران، وافغانستان.....الخ. ونرى قوة الدكتاتورية وشكل العبودية تشتد في هذا البلد وتضعف وتتنوع في الآخر، كلٌّ حسب ظروف طبيعة السلطات وخصوصية القوة الوهمية وطبيعة التحالف مع الجهل والثقل الديني للمجتمع. فكلما كان المجتمع غارقًا في وهم التاريخ الديني وممتهنًا العبودية بشكل سلوكي وطقسي نراه يتفنن في صنع دكتاتوريات متنوعة ومتواصلة ويتفنن في طاعتها والفناء فيها.

لا نقصد بالشكل الدكتاتوري السلطة الحاكمة دول الشرق فقط، بل الشكل العام للتركيبة البنائية للعقل والحياة والروح العربية والإسلامية كونها مبنية من أنساق العبودية المستلبة والتسلط الوحشي المتراكمة عبر تاريخ عميق ابتداء من الذات حتى الغوص في تفاصيل التراث التسلطي. ولا يمكن استثناء المجتمع العراقي من محيطيه العربي والإسلامي، وقوة تأثره وتحالفه مع الشكل الدكتاتوري للأرباب من خلال ممارسة فعالة لأشكال العبودية المتركمة في الذاكرة الجمعية للأمة الإسلامية، وكذلك من خلال الصراع الطويل بين دكتاتوريات المذاهب الإسلامية السياسية التي خلفت أمراض معنوية لها آثارها الجانبية وعوارضها وصفاتها المرضية في خراب متعمد للإنسان والمجتمع. ويمكن تلخيص هذه الآثار في النقاط التالية:

1- الشكل العبودي ودكتاتورية الأرباب من الأعمدة الأساسية في بناء التركيبة العقلية والنفسية للتدين العراقي بشقيه السني والشيعي.

2- المذهب المهيمن على الإسلام الرسمي في العالم الإسلامي هو المذهب السني، وهو يمثّل بلا منافس الشكل الدكتاتوري للدين كأمة جمعية، والقوة التسلطية، واليد الضاربة لها. ويعتبر هذا المذهب أساسًا لولادة معظم الأصوليات التكفيرية والتوحشية. كذلك لا يمكن فصل العبودية التسلطية عن معنى المذهب السني في ممارسة الأفراد وعشقهم للعبودية في شكلها الصحراوي العربي القديم. أما المذهب الشيعي فيمثّل المنافس المضطّهَد والمتهم بتخريب الدين على طول تاريخ العربي والإسلامي، وتهّمين عليه النزعة العبودية بشكل جماعي ونفسي واضح. أما التسلط والدكتاتورية عند الشيعة فيتمثلان في بعض الممارسة الفردية لأشخاص مقدسين أو تاريخيين مدعومين بتاريخ قدسي ما. وكذلك تهيمن على المذهب الشيعي نزعة تسلطية في الباطن، وقسوة استعبادية في تطبيق برامج الإنتماء الطقسي والمذهبي. فكلا المذهبين يمارس فعالية التسلط الدكتاتورية للرب، وهيمنة الإحساس الاستعبادي، في كل ممارسات السلوك الديني والدنيوي باطنيًا وظاهريًا. قوة العبودية الاستلابية والمقدسة مهيمنة على الحضور الديني في الإسلام بمختلف مذاهبه بشكل باطني، والصراع التكارهي والمتوحش للمذاهب الإسلامية هو نتيجة طبيعة للإنتماء لأية عبودية تمارس سحق للذات الإنسانية، وتنتج ربًا متشكلاً من عقد وأمراض اجتماعية مختلفة يمثل الحضور الأمثل لقيادة الحياة الدينية إلى كل هذا الخراب والدمار الروحي والمعنوي.

3- تنوع الممارسة العقائدية لتاريخ ديني عريق مكتنز بشخصيات مقدسة لأبطال تاريخيين يُعتبرون ملهمين لإنتاج التسلط العشوائي والدكتاتورية الظالمة والمتعسفة، وتعتبر أفعال وممارسات وحروب وخبرة هذه الشخصيات المقدسة مصدر إلهام فعال لأشكال الدكتاتورية بكل أنواعها. ولقد امتلأت كتب التاريخ العربي والإسلامي بهذه الشخصيات البطولية المضحية من أجل المبادئ الدينية أو أية أيديولوجية تتمتع بنفس الصفات التسليطة. وإن هذا الانحياز إلى هكذا سلطة توارث عبر أجيال مكررة بنفس الأمثلة، بحيث لا يحتاج الدكتاتور إلى ابتكار طريقة جديدة ولا يحتار في البحث عن أعذار لممارسة التوحش والتدمير والقتل، فكل أشكال العنف والسيطرة والخضوع والاستلاب جاهزة من أعلى هرمية السيد المطلق إلى العبيد الذين ينتظرون بلذة المدمنين للألم ما هو قادم من قبل أمير المؤمنين والحاكم الذي هو ظل السماء على الأرض.

4- لا يقّر المجتمع العراقي، في شكله الديني والقبلي، بأي اختلاف في عقائده وشكل تفكيره، وخاصة في بنائية تفكيره الديني والربوبي وتنوع جذوره، لأن أوهام الأمة الواحدة والدين الواحد والقائد الواحد، وكل واحدية تلسطية، تعتبر مبدأ أساسيًا في بنية التفكير الاجتماعي والأخلاقي والنفسي. لهذا لم نر أي تصريح واضح على أن المذاهب مختلفة في تناولها للحقيقة الإلهية والسلوك العقائدي، بل تؤكد المذاهب إجمالاً على أنها دين واحد وترتبط برب واحد وكتاب واحد رغم أن الواقع والتاريخ لا يقولان ذلك أبدًا. وعدم الاعتراف والتصريح بالاختلاف هو من أخلاق العبيد، بالإضافة إلى نكران الذات الإنسانية لحضورها واختلافها وتنوعها الوجودي. وهذا الشكل المرضي يتعبر نوعًا من التضامن مع الجهل الأبدي في سلوك العرب والمسلمين بشكل عام والسلوك العراقي بشكل خاص.

5- تتوزع طرق الخضوع والاستعباد في المجتمع العراقي بين سلطة الحكام، وأهل المناصب الحزبية، وأصحاب القوة والنفوذ كالمليشات العسكرية في زمننا الحالي، وسلطة الفقيه، والمؤسسات الدينية والعقائدية، وكذلك سلطة القبيلة، وتحديدًا عند أهل الجاه والنفوذ العشائري. فكل هذه الطرق تتبنى العبودية كمشروع اجتماعي متبادل بين السلطات الخاصة يُمارس على العامة وبقوة السيف والتسلط والجبرية المطلقة.

6- المجمتع العراقي يغرق في عبادة الأشخاص الذين يتمتعون بعمق أسطوري، وينتمون إلى التاريخ الديني والقومي الشعاراتي، ولهم نفوذ سلطوي فرداني يتمتع بروح المباغتة، ويمارسون شتى أنواع القوة والخطاب المتعالي الذي تكثر فيه الأوامر والوعد والوعيد والبطش المباشر لأي نشاط مخالف، ويقومون بعملية تقديس شمولي وتدريجي لخلفيتهم العقائدية. وأفضل ما يميز الأرباب والقادة في العراق أنهم يقدمون برامج مؤجلة لوعود جناتية آخروية، وغالبًا ما تكون هذه الوعود مرتبطة بشخصيات غائبة ومقدسة.

6- تتكون الذاكرة الدينية والفكرية والثقافية من خلال أشخاص حكواتية يقرأون بانحياز واضح ونيابة عن العامة، ويسّردون لهم حكايات المذاهب وسير الأبطال والأولياء، بحيث تتكون للمجتمع الديني ثقافة سماعية لها وقع قدسي، هي والأشخاص التي حكوها في محاضرات دينية أو سياسية ويعبرون مراجع فكرية لهم. وهذه الطريقة تتبع من قبل عامة الناس في زمننا الحاضر.

7- من خلال اندكاك المجتمع العراقي بشكل عام والشخصية العراقي في كل مكوناتها تحت سلطة استلاب الحاكم، وتحت الاستبعاد المذهبي، ضاعت كل قوة ذاتية وإرادة خاصة، وأصبح المجتمع مجتمعًا اتكاليًا واستهلاكيًا يمتهن الوهم والخرافة ويمارس تضخيم وتهويل أي قوة تسلطية ودكتاتورية ويعيش على المنح والهبات كونه غارق في تاريخ الاستعّباد من كل الجهات.

8- نرى بوضوح أن المجتمع العراقي لا يخطئ أبدًا، وهذا ما يمكن أن نسمعه ونتلمسه من خلال أقوال الناس وتاريخهم الاجتماعي، فالمجتمع يعيش وهم العصمة والشعور المرضي بالتكامل والافتخار بالتاريخ والحضارة والبطولة وبكل ما هو فكر وهمي غير ممسوك ومدرك، وهو مجتمع ينكر أية مسؤولية على عاتقه مثل الواجبات الاجتماعية والأخلاقية والمادية. وهذه الصفات هي إحدى السمات الخاصة بمجتمع العبيد.

9- يعيش المجتمع العربي والعراقي بامتياز وفق نظرية المؤامرة التي من صنع الآخر، وبالتالي يحّمل كل كوارثه وأخطائه وكسله وفشله وتأخره وكل سلوك توحشي أو استنزافي وتدميري لكل مكونات الحياة، على الآخر سواء كان دينًا أو أمة أخرى لها عداء تاريخي مع العرب أو المسلمين كاليهود والمسيحين مثلاً، ويشترك في الشعارت، التي جلبتها السلطات الدكتاتورية القومية والدينية، في تحميل الاستعمار الغربي وأمريكا كل هذا الهلاك والتخلف الحياتي والإنساني.

10- المجتمع العراقي متسلّط على ذاته من خلال الايحاء الربوبي للسلطة الحاكمة، وهو مجتمع يعشق السلطة العسكرية، ويمتّهن العسكرة في كل شي، وكذلك مستعّبد وجوديًا من قبل المذهب ومسحوق تحت التسلط الديني والتنازع حول أحقيته في عبودية السماء؛ فهو مجتمع ضائع في متاهات الوهم التاريخي.

11- قد ساهم كل هذا التكوين، بشكل إيحائي، في تدعيم السلطة الدكتاتورية والسلوك الاستعبادي في الحياة العراقية، وكذلك قدم معجمًا مقدسًا للاصطلاحات التعسفية والاستهلاكية للحياة والإنسان، التي فهمت وفق الماكّنة العراقية على أنها إيعازات سماوية لمنظومة العبودية والدكتاتورية الربوبية المطلقة في التفرد في قيادة الحياة والإنسان. ويمكن لنا أن نشاهد اليوم وبفضل كل هذه المنظومات الاستلابية أن المجمتع العراقي مجتمع مبني على ترسانة من الأوهام، والدين عبارة عن معمل لإعادة إنتاج التاريخ وأبطاله، والمسجد جبهة قتال ومواضع للمجاهدين، والإنسان العراقي قربان أسطوري على مذابح الرب، وخصوصية أوهام العامة التي يعتاش عليها المجتمع العراقي تصنع ولكل زمان في معامل الخاصة وهم أرباب التدّين التاريخي.

9
النظرية الأخلاقية النفعية

دراسة المجتمع العراقي الحديث، كما ذكرنا سابقًا ونؤكد هنا، تحتاج إلى مؤسسات بحثية مختصة في علم الاجتماع والانثربولوجيا والدارسات السلوكية والنفسية المعمقة كي تقوم بتفكيك منظومة السلوك والتراكم الاجتماعي لإشكاليات يصعب تمييز ميولها وتوحشها وانفصالها الإنساني عن أي فعل ما لم تلطخ دكتاتورية الأيديولوجية الشمولية براءته وتحتل عنوانه الرئيسي.

عمل الخير يعتبر أساسًا جوهريًا للقيم الإنسانية ونتيجة أخلاقية لمقدمات فطرية وسلوكية للإنسان في المجتمعات، ويمكن اعتبار عملية الانتفاع واستخدام القيم الإنسانية، وفق ضوابط إنسانية لا تصادر هذه القيم، أمرًا بديهيًا، حيث أن النتيجة الواقعية لأي عمل أخلاقي هي أن يكون له منافع اجتماعية وإنسانية واضحة في المشاركة في تحقيق العدالة والسعادة واللذة الإنسانية. وموضوع الانتفاع الأخلاقي والقيمة في ممارسة الفضائل، بكل درجاتها المعنوية والروحية والواقعية التي ترتبط بشكل وثيق بالإنسان نفسه ولم تنفصل عنه، وقعت تحت سطوة عملية استحواذ لتفريغ القيم من جوهرها الإنساني وإلصاقها بعناوين السيادة العليا في المجتمعات كسيادة الدين والقبيلة والعقائد والتكتلات الأيديولوجية التي استثمرت القوة الأخلاقية لحساب برامج تلك السيادات المختلفة. أي أننا نرى عملية سطو تاريخي على أي منتج إنساني للقيم والأخلاق وتخصيصه للعناوين الكبرى تحت تسمية الأخلاق الدينية والأخلاق العقائدية والأخلاق القبيلة والأخلاق الحزبية، وتغييب تسمية الأخلاق الإنسانية أو الفردية التي تُستلب أمام تلك القوى كونها تدّعي، أي تلك القوى، تمثيل البعد الإنساني في أي فعالية قيمية وأخلاقية.

لابد أن يكون لهذه المُصادرة لكل التراكمات الإنسانية في العمل على الفضائل، وتعميم أي أخلاق، مرجعية عليا (الأرباب مثلاً في العقائد)، وهذا ما افقد القيمة الإنسانية أهميتها وسلب منها أي حضور بريء لصالح شيء خارج حقيقتها الإنسانية، وصنفها تحت قانون تشريعي محكوم بتعاليم وإرشادات أيديولوجية أكثر منها قيمية وأخلاقية. لا يعني ذلك أن تلك الأخلاق المعنونة باسم الدين العام، والتي ضمّت إليها كل الأعراف والآداب العامة والعادات والتقاليد، غير فعالة ومجدية، بل هي حقيقة اجتماعية وتاريخية يتكون منها المجتمع الشرقي بشكل عام. وما نريد أن نوضحه بهذا الخصوص هو الطبيعة الإجرائية الاستلابية لأي فعل إنساني ينبع من قيمة الإنسان ذاته في الوجود، كون الفعل القيمي والأخلاقي موثق في دساتير الأمة بشكل عام والدين بشكل خاص. والاعتراض حول هذه الإجراءات الاستعبادية للقيم هو في تفريغ القيم من معناها الإنساني ودفعها إلى الانحياز والتكتل والفصام الأخلاقي في نفس العمل القيمي الواحد، فنرى فعلاً معينًا هو خير وفي نفس الوقت شر حسب ضوابط أيديولوجية مرتبطة بمنظومة عمل خارج الذات الإنسانية الفطرية والتكوينية. وعلى سبيل المثال نرى الفعل الأخلاقي كالشجاعة والكرم والصدق، في منظومة السيادة العليا للمجتمع، له مرجعية قانونية وتاريخية تملي عليه شعارات خاصة بها. فالشجاعة هنا قد تكون مرتبطة بنموذج قدسي وتاريخي، وتعتبر شجاعة أو بطولة وفقًا لارتباطها عمومًا بواجب شرعي وأمثلةٍ لأبطال مقدسين في التاريخ الديني، وتتم مصادرة قيمتها الإنسانية أو حتى الفردية لصالح هذه الكيانات، وهكذا باقي القيم والأخلاق النافعة للحياة والإنسان.

والموضوع الآخر في عملية الاستحواذ على القيم والأخلاق من قبل سيادات عليا في المجتمع هو مصادرة الدافع الإنساني والفردي والفطري الذي يصدر عن الإنسان الذي تربى أو تشكل وفق قيم الأخلاق كإنسان أولاً، ومن ثمَّ وفق أي ارتباط آخر سواء كان دينيًا أو معرفيًا. وتؤدي مصادرة الفعل الفطري، واستبداله بقوانين ممتلئة بأمثلة العقاب وتأجيل لذة العمل إلى عالم ثوابات الآخرة، إلى فقدان الدافع الإنساني وروح المبادرة للقيام بأي عمل ذاتي أخلاقي يعبر عن الفطرة الإنسانية والدافع الوجودي للبقاء والتواصل في حياة أكثر عدالة ونضوجًا. وإن إجرائية استعباد القيمة الإنسانية ونفيها ومصادرتها لحساب السيادات العليا، ورمي أسباب الخطيئة والشذوذ والتوحش والأمرض المعنوية والأخلاقية والبلاءات السماوية، وربطها بعدم إلتزام الإنسان بقوانين وشريعة الدين، والإجراءات الصارمة، والرقابة على القيم والأخلاق؛ افقد القيم فعالية حضوراها المتوصل، بل أدى إلى تشظيها في أعمال لا تمت إلى القيمة بصلة، وحصر العمل الخيري بإنتماءات محددة وحرمان الآخرين منها. وسنوضح في اختصار بعض نقاط هذا الموضوع الذي يحتاح إلى أبحاث وإلى كوادر علمية في تنظيم وتأسيس النظريات المعاصرة:
1- التدرب السلوكي والإنساني على اكتشاف الأخلاق الإنسانية، واستخراجها بأدوات الوعي والمعرفة أو أي أداة اجتماعية أخرى، والسعي إلى أنسّنة المنفعة المنتجة.

2- أهمية عدم قربنة الأخلاق والإنسان تحت عناوين القوى الكبرى واستلاب أي عمل قيمي وإضافته إلى تراث الأسياد على حساب القيم الأخلاقية والروحية للإنسان نفسه.

3 - الاستفادة المعنوية والمادية من ممارسة الفعل الأخلاقي والسلوكي في العطاء والعدالة والخير والاحساس بالفعل الإنساني الذي يطور القدرة على الإنجاز بالعمل والإبداع كونه فعالية إنسانية للحياة وقوة بقاء، مما يجعل الحضور الأخلاقي أكثر قوة ونماء.

3- تبيان حضور العمل الأخلاقي ضمن مقاصده الإنسانية، وتجرده من الشعارات الاستعبادية ودكتاتورية التلسط الغيبي، يمنحه قوة الاحتفاظ بخصوصية الإنسانية.

4- النفعية الأخلاقية في تحصيل اللذة والسعادة، وتعلم فن الحياة من خلال القيمة الأخلاقية نفسها، كي تمنح الإنسان الحرية الأوسع في الإبداع وتخلصه من أية تبعية.

5- الانتفاع من الأخلاق الإنسانية كونها تمثل حصيلة التجربة والفعالية الإنسانية في رحلة اكتشاف الإنسان لذاته، وإنتاج السعادة الإنسانية التي تقبل الشراكة، ورفض تصنيف الإنسان إلى عناوين دينية، والسعي إلى تحصيل اللذة الصالحة والمنفعة الأخلاقية عبر ترسيخ القيمة الفعلية للإنسان بدون أي فرض ووجوب استبعادي من قبل سلطة دكتاتوية مطلقة.

10
إنتاج الأخلاق

لا يمكن للعبيد إنتاج أخلاق حقيقة وفعالة، وسلوك قيمّي ينتمي إلى الوعي والبناء الإنساني الاجتماعي الخلاق، لأن أخلاقهم اضطرارية ومؤقتة. حتى لو كانت العبودية غير مباشرة ولا تنتمي إلى الشكل الاستعبادي الطبقي والاجتماعي الأول فإنها تبقى متطابقة مع العبودية الأولى ولا تختلف عنها إلا في أبديتها، وقد تكون أكثر خطورة ووحشية عندما تتبنى مناهج لقيادة الحياة وليس لديها طريق غير الشكل التسلطي والعنفي في التعبير عن هويتها الذاتية وظهورها الأمثل في الحياة. لا يمكن للعبد قيادة حياة حرة بدون كم هائل من الأخيلة المريضة والأحلام التعوضية عن الكبت الاجتماعي والنفسي والعقلي، وليس هناك أية خطة عمل واقعية للسلوك الحلّمي الذي لا يعتبر مشروعًا نفعيًا قابلاً للتنفيذ، بل هو حالة تفريغ نفسي وتراكم تاريخي لعدة مخاوف ومواقف جامدة، وانشطار للذات، وأوهام مركبة للعبيد المستمرين في برامج الاستهلاك الذاتي والدفع للقربنة والتضحية بدون أي مقابل نفعي ومعنوي أمام صنع أشكال التسلط الربوبي بكل أنواعه.

ويمكن معرفة حجم التبادل والدفاع المشترك للحفاظ على خصوصية هذة الثنائية (التسلط الغيبي + الاستعباد الإنساني) كونها أصبحت الأساس الذي يبنى عليه أي اعتقاد غيبي وروحي. ويجاهد أهل التدين، والقائمين على رعاية أمور الدين، في طرح وتدريس وكتابة وتلقين والحفاظ على خصوبة العبودية والتلسط الغيبي المطلق للروبية من خلال حشد النصوص والأدعية وبناء ذات المتدين كوسيلة تدعم تصورات وحقيقة العبودية، وبدون السماح لأية مشاركة فعالة ومغايرة، ولأي مكون عقلي وورحي، في ابتكار أي تساؤل نقدي أو تشكيكي؛ لهذا نحتاج إلى مؤسسات معرفية وأكاديمية، وتدّين واقعي، لمعالجة الآثار الكبيرة التي أنتجتها الأفكار الدينية الضارة والمدمرة لأي نشاط مبدع قادر على التواصل مع الحياة والتغيرات الحضارية الكبيرة في العالم. فالحرية الدينية، والدعوة إلى تفكيك المنظومة التاريخية للرب، والتدين وفق الالتزام بالثوابت الاجتماعية والقيمية الإنسانية النافعة، وهذه الفعالية الإنسانية النقدية المهمة والفعالة تعتبر من الحقائق المعرفية الحديثة، والتي من خلالها يمكن بناء تدين فردي وذاتي يتمتع بقيم إنسانية كبيرة وفعالة، والمشاركة المختلفة في بناء مجتمع يتمتع بقيم الحرية الأخلاقية المنضبطة بقوانين الحياة والإبداع والخدمة الإنسانية، واحترام القوانين المدنية؛ كلها أساسيات يجب توفرها في المجتمع المبدع.

ومحاولة التنظير لحرية التّدين، وتجديد وسائل الاتصال الإيمانية مع السماء، وتفريغها من العبودية الاستحواذية الضارة، وفتح منافذ واقعية وعقلية في قراءة صياغة التاريخ الديني وفق ضوابط الحياة المعاصرة، وضبط ممارسة آليات التدين في عدم الاستحواذ على الحياة بشكل تسلطي؛ وكل ما يمكن من بث نشاط الروحانية التي تعوض الإنسان عن خسائر التوحش المادي، وتملئ فراغ الحاجة الإنسانية للغيب من خلال روئ دينية إنسانية حرة متمثلة في مؤسسات منضبطة وتحترم القانون المدني والإنساني بتنوعاته العقائدية والفكرية والروحية. وأيضًا عدم الدعوة إلى التسيب الديني والانفلات العقائدي وتسليح الحياة العامة، والمشاركة في دراسة أسس صنع أشكال من الانضباط العقائدي والديني وفق قوانين المجتمعات المدنية، وتأسيس عقود اجتماعية تنويرية يتفق عليها المجتمع، وفرض ضوابط قانونية لرجال الدين في الالتزام بوظائفية محدودة وعدم الاستيلاء على منافذ الحياة بحجج تاريخية تسلطية تسلب الآخرين حقوقهم الإنسانية والمدنية والاختصاصية، فكما نرى اليوم في العراق رجال الدين، تحت مسميات التحزب الديني والنضال ضد الدكتاتورية، قد استحوذوا، بشكل عشوائي وهوس انفعالي واضح، على مناصب الدولة، ابتداء من الوزارت ومرورًا بالبرلمان وصولاً إلى المقاولات العامة. كل هذا يشكل دكتاتورية مبطنة لأرباب التّدين، ويفتح طرق استحواذية لهيمنة الاستعباد الديني على كل الحياة وبشكل خفي. وينبغي في المستقبل القريب، وببساطة واضحة، تنظيم دعوات إعلامية وبحثية من قبل العقول الحرة والنخّب العلمية والمثقفين الأحرار لمطالبة رجال الدين بإخلاء المناصب الحكومية، وحثهم على الرجوع إلى مؤسساتهم الدينية والمشاركة وفق اختصاصهم في بناء القيم الروحية وتنظيم الحياة الدينية، وتعتبر هذه الخطوة من أهم الخطوات نحو التحول إلى الحياة المدنية.

لقد أدركت البلدان الغربية منذ عقود خطورة تسلط الدين على الدولة، وكذلك أدرك رجال الدين خطورة تسلط الدولة على الدين نفسه واستمراره في الحياة. ولذلك تظافرت جهود علماء في جميع الاختصاصات الإنسانية، وخاصة علماء اللاهوت والعلوم الاجتماعية والانثربولوجية، لتوجيه الدين وجهة مدنية، وتخليصه من شوائب الإنتماء السلطوي والتعسكر التاريخي. وقد استطاعوا وضع الضوابط المهنية والمساحة الروحية لرجال الدين في ممارسة أنشطتهم الدينية بدون انفلات وتشتت تاريخي مريض، وهذا ما طور الوعي الديني والروحي للمجتمع والحياة، فكثير من المؤسسات العلمية والبحثية والأكاديمية تعتني اليوم ببناء نظريات للقيم الإنسانية، وتدعم الكيانات الأخلاقية والدينية وتحاول أن تطورها، وتنتج نماذج إيمانية وأخلاقية تتلائم مع الحياة المعاصرة.

11
خاتمة
الأرباب قالوا كل شيء

تعلمّنا، ولقرون طويلة تحت سلطة العبودية الدينية، أن نخاطب السيد بأقوال وأفعال وطقوس واجبة، وأن نعمم نظامًا رقابيًا حتميًا من الأوامر والتبعية والطاعات المقدسة. وتحت عنوان إن الأرباب كتبوا كل شيء، يقول العبيد: كل شي معّد ومبرر سلفًا من الولادة حتى الموت وما بعده، وكل الجنان والنيران في الدنيا والآخرة محصورةً بالطاعة والعصيان، ولا فرّار من هذا التسلط السماوي وفق قوانين حتمية سنتّها سلطة النصوص المقدسة.

لهذا ليس مبررًا أن يُطلب من العبيد الإبداع أو الاكتشاف أو التّمدن إلا في صناعة بيوت وقصور ومعابد ومدافن الرب، فالعبيد هم العبيد أنفسهم يتناسخون وفق طقس غريب، ويتوارثون سحق الذات والفرد في فطرة عجيبة، وكأن خرائطهم الجينية استُعبدت تكوينيًا، فكل شيء ينّم على أنه محكوم بقوة العبيد، إذ حتى السماء استُعبدت بطرق غير مباشرة وباسم السماء نفسها، وأُفرغت من قيمها الروحية تحت سلطة تاريخ طويل من التقاتل والتدمير والتوحش من أجل صراع ذاكرة امتلأت بالأحاديث والأحلام المقدسة؛ فالعبد هو الوحيد الذي يعرف الحرية ويتمناها إلا في حضرة عبودية الأرباب، إذ يتلذذ العبد بقوة سلب وجوده ونسف ذاته. ولماذا نتعجب من مجتمعاتنا لأنها غير متمدنة، ولا تملك وسائل الاكتشاف والتغيير والإبداع بشكل يستحق اهتمام العالم، ولأن سلوكنا وحياتنا وثقافتنا وإبدعنا تُمّارس بسلطة الاستعباد الذاتي والاجتماعي والسماوي؟ نستغرب من تبعيتنا وعبوديتنا للغرب، أليس هذا حقيقة متأصلة في تكويننا الأرضي والسماوي، حقيقة أننا عبيد للفراغ الأبدي؟ هذه هي حقيقة حالنا اليوم، والتي منها تتأتى معظم مشاكلنا في تركيبتنا الذهنية والروحية والنفسية واندكاكها تحت برامج الاستعباد المقدس السماوي والأرضي، وعلى كل الجهات الأخلاقية والقيمية والمجتمعية.

وأما من جهة الأخلاق التي نتباهى بها كونها أساس تميزنا، وننسى، نحن العبيد، أن نعرف ما هي الكيفية التي يستطيع فيها العبد المكافح والكادح للسيد المطلق فقط، وعلى كل مستويات الحياة، أن يتلمس القيم الأخلاقية واللذة وهو مضطر سلوكيًا ومحكوم بالطاعة إلى الأبد، وحتى إن عصى يبقى حاملاً صفة العبد لكنه عبد عاص وعاق.

ونختم بحثنا هذا بالقول إن التّدين، وفي فتراته التاريخية المختلفة، أنتج نماذجًا شرعية وقانوينة، وشارك في تطوير الإرشادات والتعاليم الأخلاقية وفق قواعد ومبادئ خاصة به، لكنه في المقابل بنى عبودية متوارثة ومتوحشة تعتبر إحدى عوامل تأخرنا وتدمير قوة الذات فينا وحريتها في الإنتاج والتنوع، واندكاكها تحت سلطة الربوبية المطلقة.

ويمكن الإشارة إلى أن الرب لا يحتاج إلى سلطة قسرية في مساحات الحرية المتوفرة للإنسان. والرب الذي يحتاج إلى طاعة العبيد هو رب بلا سيادة حقيقة.

وعندما تكتشف أنك عبد، أو تشاهد العبيد حقيقة في واقعك الحياتي، سترى حقيقة الأسياد جميعهم منتشرين فوق كيانك ينبشون القبور في ذاكرتك، ويسّدون طرق التساؤل على العقل، ويحجبون الروح عن التحليق، ويعتاشون على جسدك إلى الأبد.

ربما يصنع الرب لوحده كل هؤلاء العبيد في التاريخ، ولكن علينا ادراك حقيقة، تبدو واضحة الآن على الأقل، وهي أن كل هؤلاء العبيد شاركوا في صناعة الأرباب، ويتّحكمون في عناوينهم، والأكثر خطورة هو أن العبيد يمتهنون صناعة الأرباب ويحثونهم على القتال، والعبيد وحدهم يعرفون أنهم قرابين الرب الأبدية.

ولابد من معرفة أن المجتمعات التي تعشق العبودية، وتدافع عن دكتاتورية الأرباب بكل أنواعها وبكل ما لديها، هي مجتمعات متوقفة عن الحياة، ولا يمكن أن ترى الإنسان فيها أبدًا لأنه مدفون تحت ركام الوهم التسافلي لخيال أسطوري مسكون في قبر إنسان مهمل في ذاكرة الأسياد، وهذه الصورة التي ذكرناها لرحلة العبيد فكريًا وذهنيًا وسلوكيًا تعبّر بشكل مأساوي عن واقعنا العربي والإسلامي، وحياتنا وتاريخنا، وشكل الإنسان العبد المتسّيد والسيد المستعّبد، في تكرار أبدي لا ينتهي إلا بظهور الإنسان.

*** *** ***

المراجع

- الأسس النظرية للسلوك الأخلاقي، د. أبو بكر التلوع، بنغازي، جامعة قاريونس، 1995.

- المشكلة الأخلاقية والفلاسفة. أندريه كريسون، ترجمة عبد الحليم محمود وأبو بكر ذكرى، مطابع دار الشعب، القاهرة، 1979.

- الخطيئة والقربان: عن الجهاد وتقديس الغريزة، أحمد عبد الحسين، دراسة، مجلة مدارك.

- تاريخ العبودية في الإسلام. كامل النجار.

- شخصية الفرد العراقي، د. علي الوردي، دار الوراق، 2007.

- فقه الأخلاق، السيد الشهيد محمد صادق الصدر.

- الله أساس المعرفة والأخلاق، د. نظمي لوقا، المطبعة الفنية الحديثة، القاهرة، 1972.

- معسكرات الرب في الدين الإسلامي، وليد عبدالله، دراسة، مجلة معابر.

- الحل الوجودي للدين: انقلاب المعبد، عبد الرزاق الجبران، مؤسسة الانتشار العربي، 2007.

- أوثان القديسين: جدل المعرفة والحياة والوجود، سعدون محسن ضمد، كتاب الصباح الثقافي، بغداد.

- الخبرة مع الله: حب الله والبلاء، سيمون فايل، ترجمة محمد علي عبد الجليل، مقال، مجلة معابر.

- ويكيبيديا: الموسوعة الحرة.


 

horizontal rule

*  وليد عبدالله، كاتب وباحث من العراق.

[1]  (كان الأقدمون الذين يعرفون جيدًا هذه المسألة يقولون: "يفقد الإنسانُ نصفَ روحه عندما يصبح عبدًا.") من مقال الخبرة مع الله: حب الله والبلاء، سيمون فايل، ترجمة محمد علي عبد الجليل، منقولات روحية، معابر.

[2]  قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلا قَلِيلاً. الأحزاب، 21.

[3]  - ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ. آل عمران، الجزء 4.
- ثُمَّ اسْتَوَى إلى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ. فصلت، جزء 24.

- يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ. سورة البقرة.
- وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون. الذاريات، 56.
- مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ. سورة ق، الآية 18.
- هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ. الأنبياء، الجزء 17.
- إنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ. الأنبياء، الجزء 17.

[4]  لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا للّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعًا. سورة النساء، الجزء 6.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود