مؤسسة "الولاية والصلاح" في التاريخ المغربي

 

العياشي السربوت*

 

تعتبر كتب مناقب الأولياء والصالحين من المصادر الأساسية للبحث في التاريخ المغربي، خاصة منه تاريخ الأفكار والعقليات وبالتالي الثقافة، فهي تفيد الباحث المؤرخ في التعرف على تطور الفكر، وطرق الاستدلال الشعبي.

إن تناول هذه المصادر لمختلف الأحداث والوقائع يتسم بخصوصية ذات أهمية كبرى للتدليل على الرأي العام ومؤطريه. فإذا كنا اليوم نتحدث عن المجتمع المدني من نقابات وجمعيات... إلخ فإن كتب المناقب تمكننا من استجلاء عناصر المجتمع التي كانت تؤطر الرأي العام في الماضي[1]. فكتب المناقب تبرز لنا الأدوار المختلفة "للولي الصالح" وتصوِّره على أنه ضرورة اجتماعية وثقافية وسياسية لسير المجتمع بكيفية متوازنة في ذلك الوقت.

فالنص المناقبي هو شكل من أشكال الأدب المتداول شعبيًا، لغته شعبية، تدفع المتلقي إلى الإيمان، وتجعله يشعر بكونه سجين الفكرة أو الأفكار التي يحملها ذلك النص المناقبي، لأن "الولي الصالح" يرتبط بعامة الناس عن طريق عبارات تفيد الإيمان والتسليم مثل "سيدنا فلان نفعنا الله ببركته".

فـ"الصلاح" و"المشيخة" ليست فقط علاقة خاصة "للولي" بربه، لكنها تحمل كذلك دلالات اجتماعية، فكل حدث في حياة "الولي الصالح" يفسر في اتجاهين: الأول تجاه ربه، والثاني تجاه المجتمع. فالبعد الاجتماعي "للولي الصالح" يبدو واضحًا من خلال سيرته التي تفيد المجتمع كله، لكونه يتعلم من خلالها دينه ودنياه، لذلك نستطيع القول إن "الولي الصالح" يقوم بعدة وظائف: دينية واجتماعية وسياسية.

فالوظيفة الدينية تبدو جلية من خلال السلوك/"الطريقة" المنظمة والمقننة التي يتبعها الولي/الشيخ في التعبد[2]، حيث تتأسس الطريقة الصوفية التعبدية التي تنضاف إلى الممارسة الدينية لدى العامة والأتباع والمريدين، وبذلك يساهم الولي/الشيخ في التأطير الثقافي للمجتمع. فتبرز وظيفته الاجتماعية التي تتعدى العمل التربوي التعليمي إلى المجال الطبي وشفاء المرضى، ذلك أن "الولي/الصالح" غالبًا ما يكون متخصصًا في شفاء عدد من أنواع الأمراض، لذلك أصبح وجوده وتأثيره منغرسًا في حياة الفرد والجماعة. فهو قد يعتبر بمثابة المحول الكهربائي حيث يستطيع أن يعدل من درجة قوة الثورة ضد المخزن، فيمكنه إضعافها أو إخمادها أو الزيادة في قوتها، لأنه يملك وقودها المتمثل في قوته الرمزية/البركة، تلك القوة/البركة التي أكسبته نفوذًا ووقارًا كبيرين في مجاله الجغرافي/البشري، حيث تأثيره في العامة واسعًا، باعتباره العارف بأسرار القضايا المختلفة، بفضل بركته المنتشرة، والجامعة للمعرفة المطلقة، فهو يعرف كيف يرى[3] لكنه لا يعرِّف الناس بوسائله في الرؤيا، التي تبقى من أسراره غير القابلة للإدراك، في حين تكون النتائج مادية محسوسة، وذلك ما يدعى بـ"كرامات الأولياء"[4].

اعتمادًا على ما سبق يقتسم "الولي الصالح" أو "شيخ الزاوية" السلطة والنفوذ السياسي مع السلطان، فـ"الولي الصالح" أو "شيخ الزاوية" يخضع له عدد كبير من المواطنين/الأتباع والمريدين الذين يتوزعون على مستوى مجال جغرافي قد يتسع كثيرًا، فهم الذين ينشرون أقوال ومواقف الولي/الشيخ الدينية والسياسية... تلك المواقف التي تتحول إلى أوامر لا يمكن مخالفتها، لأنها صادرة عن الولي صاحب "البركة"، التي تجعل شخصيته مركبة، فهو صاحب "الكرامات" التي تبدو كأنها ذات طبيعة روحية، لكنها تتحول على مستوى الواقع إلى سلطة مادية/دنيوية، قد يضعها رهن إشارة المخزن أو ضده. وعندما يستعمل الولي/الشيخ تلك السلطة، فإنه يغلفها بالبركة/الكرامة لتكون في متناول العامة، وذلك ما يتبين خلال النص الكرامي التالي:

... لما ثار أبو العباس أحمد بن الرئيس عبد الله بن الأمير أبي عبد الله محمد الحاج الدلائي في قبائل البربر بناحية الدلاء على السلطان المولى إسماعيل مدده الله، وجمع له من جيشه...، قال رضي الله عنه[5]: إنهم يهزمون ويولون البر ولا يثبتون عند اللقاء، وقال شبهتهم كحطام أصابته النار، فالنار: السلطان والحطام البربر، وقال مرة أخرى: كبقرة بيد الجزار، أترون البقرة تقاوم الجزارة؟ فكان كما أخبر رضي الله عنه، فإنه لما ذهب السلطان متوجهًا إليهم انهزموا عندما لاقاهم بمرة... واستولى السلطان على محلتهم، وانتهب أموالهم، وقتل منهم العدد العديد، وقطع رؤوسهم والعياذ بالله، وأتى بها إلى فاس، وملأ بها أسوار مدينة الخميس، نسأل الله العافية، فلم تر لهم قائمة بعد ذلك، وفر صاحبهم إلى الجبال، وبقي بها إلى أن مات بالطاعون عفا الله عنا وعنه، وكان هذا الرجل يقول: إنه مأذون فيما فعل، فنُقِلَ ذلك لسيدنا أحمد رضي الله عنه، فسمعته يقول: نعم أَذن له بعض الصالحين كان لقيه، ولكن جاء من هو أكبر منه، فضرب على يده، يعني نَقَضَ ذلك الإذن".

يبدو من النص أن "الولي الصالح" سيدي أحمد يعلم الغيب، فهو ببركته قد تنبأ بانهزام الثائر، وانتصار جيش السلطان، ذلك التنبؤ يعتبر دعمًا للسلطان، حيث سيقوي من الجيش المخزني الذي عرف نتيجة المعركة قبل أن يخوضها، والنتيجة/النصر المسبق هي كرامة من كرامات "الولي الصالح" سيدي أحمد، الذي وكأنه قد مارس الدور الحالي للصحافة – السلطة الرابعـة – فهو قد قال: "شبهتم كحطام أصابته النار، فالنار، السلطان، والحطام: البربر، وقال مرة أخرى: كبقرة بيد الجزار، أترون البقرة تقاوم الجزار؟... وكان هذا الرجل (الثائر) يقول: إنه مأذون فيما فعله... لكن جاء من هو أكبر منه، فضرب (سيدي أحمد) على يده، يعني نقض ذلك الإذن". هذا القول يعتبر دعمًا صريحًا لسياسة السلطان مولاي إسماعيل، فالنص يعتبر كمقال صحفي يهاجم سيدي أحمد بواسطته خصم السلطان، ويزرع الرعب في نفوس الثوار/البربر. الذين لا بد أنهم يعتقدون في بركة الأولياء وكراماتهم، حيث أن الكرامة الصوفية تعتبر بمثابة البرهان الذي يؤكد ولاية "الولي الصالح"، وتجعل أقواله بمثابة أحكام لا يمكن نقضها، إلا إذا كانت صادرة عن "من هو أكبر منه".

فالكرامة الصوفية هنا تبدو بمثابة تأويل للموقف السياسي الغير المعلن، والذي اتخذ مظهرًا دينيًا للأحاسيس والأفكار الخاصة التي تكونت لدى "الولي الصالح" أثناء تأمله للظاهرة المطروحة عليه بكيفية مباشرة أو غير مباشرة، والاستدلال عليها يأخذ شكل "البرهان"، حتى أن المتلقي يشعر بأن الأرواح تسكن المادة الجامدة أو تختلط بها، الشيء الذي يجعل التمييز بين الجماد والحي صعبًا بل مستحيلاً، لأن بركة "الولي" تنتشر في المكان بكل مكوناته[6]، وبذلك يصبح المجتمع مضبوطًا بطريقة حدسية، حيث يكون الفرد محاسبًا ومصنفًا حسب مجموع الأحاسيس والأفكار/الكرامات التي ينتجها الولي/الشيخ، مما يضعف من التصنيف الاجتماعي الذي يقوم على أساس القرابة العائلية/القبلية، ويضعف من دور الوظيفة الإدارية لرجل السلطة.

فالدولة بأجهزتها تعتبر جسمًا كبيرًا تتفاعل فيه مجموعة من القوى الاجتماعية/السياسية[7] التي تساهم في المحافظة على توازنها، فكل طرف عليه أن يعمل في مجاله، ويقوم بدوره بشكل منضبط ومنظم، فـ"الشيخ" يوجد في قمة الجسم الصوفي، والسلطان في قمة جسم المجتمع. والجسم الصوفي ينتظم في شكل هرمي: في القمة يوجد الغوث فالشيخ فالمريد فالفقير ثم الأتباع... وكل واحد من هؤلاء له دوره ووظيفته. أما جسم المجتمع، فيجد في قمته السلطان فالوزراء فالقواد فالجيش... ثم الرعايا/المواطنون.

السلطان وفق هذا التصور يشبه الشمس التي تنتشر أشعتها/قوتها على كل الرعايا، أما الولي/الشيخ فيوصف بالبدر[8]، وهذا ما يفسر جنوح السلطان إلى نظام الحكم المطلق، خصوصًا أثناء الحرب والقلاقل الاجتماعية، لكنه يرضي القوى الاجتماعية/السياسية عن طريق ظهائر التوقير والاحترام[9]، واستعمال القوة العسكرية ضد الذين يبقون خارج الطاعة[10].

إن إصدار ظهائر التوقير والاحترام من طرف السلاطين هَدَفَ إلى الإبقاء على استمرار فعل تلك القوى الاجتماعية/السياسية من شرفاء، وأولياء، وزوايا... لأن وجودها أمر ضروري وحيوي، نظرًا للمكانة الاجتماعية والسياسية التي تحتلها في جسم المجتمع، لأنها تشغل وظائف عامة كالإشهاد على العقود، والوساطة بين السلطان وقبيلة ما، وإطعام الطعام، وشفاء المرضى، وتنشيط الحركة الاقتصادية عن طريق إقامة المواسم وغيرها.

وكما يعمل السلطان جادًا من أجل استمرار مملكته عن طريق تعيين ولي للعهد، الذي يسهر على تربيته وتعليمه، وإطلاعه على أسرار الحكم... إلخ، فإن "الولي/الشيخ" هو الآخر يعمل في الاتجاه نفسه، فيجمع حوله عددًا من المريدين في زاويته، الذين يخدمونه ويتعلمون منه، وقد يكون من بين المريدين أحد أبنائه الذي يتعلم ويتعبد وفق طريقة شيخه/والده، ولتزكيته يبدأ "الشيخ" في التحدث عن مستقبله بأسلوب "كراماتي" ينبئ أنه سيكون من الأولياء ذوي الأتباع والنفوذ الكبير.

خلاصة القول: إن "الولاية والصلاح" في التاريخ المغربي تعتبر مؤسسة متعددة الاختصاصات، تستثمر مجموعة من الرموز والمفاهيم في قطاعات مختلفة، وفي اتجاهات اجتماعية مختلفة أفقية وعمودية.

*** *** ***


 

horizontal rule

* باحث في التاريخ الديني للمغرب، المغرب.

[1] نقصد هنا بالمجتمع المدني: الشرفاء والأولياء والزوايا... على اعتبار أن كل فئة من هؤلاء تؤثر في مجالها الجغرافي/البشري عن طريق الأتباع الذين يساهمون في تأطير المجتمع وتوجيه الرأي العام.

[2] مجموعة من النصوص الدينية: أذكار، أوراد، أحزاب... وتختلف تلك النصوص من طريقة إلى أخرى.

[3] "كيف يرى" أي يعلم الغيب، وكيف يتنبأ بما سيحدث في المستقبل.

[4] في الكتابة التاريخية ليس مطلوبًا أن نؤكد أو ننفي صحة "الكرامة الصوفية"، بل ما هو أساسي هو موضوع "الكرامة" ووظيفتها الفكرية والاجتماعية والسياسية، وعلى أساس ذلك نرى أن "الكرامة" أداة أساسية تمكن الأولياء من التدخل في مختلف القضايا الاجتماعية والسياسية... ويؤثرون بواسطتها على عامة الشعب.

[5] المقصود سيدي أحمد، الولي الصالح.

[6] العياشي السربوت، مفهوم "دار الضمانة"، مجلة أبعاد فكرية، العدد الثاني. إبريل 1989.

[7] الأولياء، الشرفاء، الزوايا...

[8] البدر: لفظة تتكرر في كتب المناقب حيث نقرأ: وكان سيدي فلان بدر زمانه.

[9] العياشي السربوت، "الظهير الشريف" أداة سياسية واقتصادية، جريدة الشمال 2000، العدد 9، 10 يناير 2000.

[10] مثل ما قام به السلطان المولى الرشيد عندما حطَّم الزاوية الدلائية ولاحق زعماءها وأتباعها.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود