الأخلاق البيئية٭

 

معين رومية

 

لما كان السلوك الأخلاقي وما يحمله من قيم هو مجلى الثقافة والحضارة وأسلوب الحياة، ولما كان اتصال الأخلاق بالسلوك الإنساني مباشر، فقد ازدهرت البحوث الأخلاقية ذات التوجه البيئي أبكر من غيرها وراحت تنصب على الجانب الأخلاقي في علاقة الإنسان بالبيئة الطبيعية natural environment ومخلوقاتها من الحيوان والنبات. فثمة الكثير من الأعمال البشرية الاعتيادية ذات المتات بالمشكلات البيئية، كقتل الحيوانات وصيدها الجائر أو إخضاعها للتجارب العلمية، أو قطع الأشجار وتدمير الغابات وما آل إليه من انقراض أنواع حية كثيرة وانهيار منظومات إيكولوجية. هذا ما استحث بعض المفكرين لبحث المسؤولية الأخلاقية للبشر إزاء البيئة ومكوناتها والإطار الذي يمكن شمل هذه المسؤولية ضمنه.

ففي تساؤله عن الحاجة إلى أخلاق جديدة بيئية، لاحظ المفكر الاسترالي ريتشارد سيلفان Richard Sylvan أن الأخلاق الغربية التقليدية تنطبق على الكائنات البشرية وحسب، مما دفعه إلى اتهام هذه الأخلاق بالشوفينية البشرية التي تجعل الإنسان وحده موضع الاعتبار الأخلاقي، وتعطيه الحق في التصرف بحرية تجاه البيئة الطبيعية طالما أنه لا يؤذي أبناء جنسه. ولذلك رأى سيلفان أن ثمة تحدٍّ يتمثل في توسيع القاعدة الفئوية للأخلاق بحيث تشمل الكائنات الأخرى من غير البشر[1].

لكن سيلفان إذ طرح ذلك التحدي أمام المفكرين لم يوضح المعايير التي ينبغي على أساسها توسيع مجال الشمول الأخلاقي. وقد حاول بيتر سينغر Peter Singer الإجابة على هذا التحدي، ولاحظ بداية أن وضع الكائن البشري في مرتبة رفيعة أخلاقيًا يستند إلى اعتبار أن العقل هو المعيار المائز بين من يستحق الاعتبار الأخلاقي ومن لا يستحق. هكذا جرى استبعاد الحيوانات وطردها من الفردوس الأخلاقي للبشر. كما لاحظ أيضًا أن الانسجام مع هذا الموقف يقتضي استبعاد الحالات الهامشية من البشر كالأطفال والمعوقين. ويمضي سينغر، كبديل لذلك، إلى اقتراح معيار جديد يتيح توسيع الفئة الأخلاقية على أساس الإحساسية Sentience، أي قدرة الكائن الحي على اختبار اللذة والألم. فالخير الخاص لدى الحيوان يكمن في إحساسه باللذة، والشر يكمن في إحساسه بالألم[2].

لكن كيف نحدد اللذة أو الألم بالنسبة للحيوان، ألن نكون مضطرين إلى إضفاء لذَّاتنا وآلامنا كبشر في مثل هذا التحديد؟ ثم أين يكمن الخط الفاصل بين الحيوانات الحاسَّة وغير الحاسَّة؟ وما هو شأن النباتات والأجزاء غير الحية في البيئة الطبيعية كالهواء والماء والتربة والمنظومات الإيكولوجية... الخ؟

لتجنب هذه الأسئلة، وبملاحظته أن الإحساسية هي وسيلة من وسائل الحياة وليست غاية بذاتها، يرى كينيث غودباستر Kenneth Goodpaster أن الاعتبار الأخلاقي يجب أن يتأسس على معيار الحي being alive، ويعترف بأننا قد لا نستطيع أخذ مصالح الكائنات الحية جميعًا بالحسبان في ممارساتنا وقراراتنا اليومية[3]. ولتوسيع هذا المعيار قدَّم بول تايلور Paul Taylor نسخة أقوى من نظرية أخلاقية ترتكز على "الحي"، فرأى أن جميع الأشياء الحية هي أوساط غائية للحياة، وأن غاية الكائن الحي تتمثل في أن يصل إلى النضج وأن يتكاثر. وعلى ذلك فهو ينسب قيمة أخلاقية ethical value متساوية لجميع الأحياء البرية، من ذبابة الفاكهة إلى الحيتان، وحقًا في الوصول إلى غايتها الحيوية. وبذلك يعتبر أن أفعالنا التي تحول دون وصول الكائن الحي إلى غايته هي شرٌ أخلاقي[4].

لكن السلوك البشري غير الحصيف بيئيًا لا يمس الكائنات الحية الفردية، من نبات وحيوان، فحسب، بل يؤثر على الأنواع الحية وعلى المجتمعات الحيوية biocommunities والمنظومات الإيكولوجية والنطاق الإيكولوجي الكوكبي الشامل، أي الكرة الأرضية، مما يعني أن الأخلاق البيئية كي تكون متكاملة وشاملة ينبغي أن تأخذ بالحسبان هذه الكيانات غير الفردية.

في هذا السياق، يقترح ألدو ليوبولد Aldo Leopold مقاربة كلانية holistic approach للأخلاق البيئية زاعمًا أن أخلاق الأرض Land Ethics التي يدعو إليها تغيِّر دور الإنسان العاقل من مستعمر لمجتمع الأرض إلى عضو عادي بسيط كمواطن فيه، وتستلزم منه احترامًا للأعضاء الآخرين ولمجتمع الأرض ككل[5]. والقاعدة الأخلاقية الذهبية لدى ليوبولد تقول: "يكون الشيء صائبًا عندما يميل للحفاظ على تكامل واستقرار وجمال المجتمع الحيوي، ويكون باطلاً عندما يميل بالاتجاه الآخر"[6]. وبإضافة لمسة داروينية على آرائه، يتصور ليوبولد أخلاق الأرض على أنها المرحلة القادمة من التطور الأخلاقي البشري، ويعطي للتوعية الإيكولوجية دورًا كبيرًا في خلق التعاطف والإحساس بالزمالة للأعضاء الآخرين في المجتمع الحيوي ومشاعر الإخلاص لكوكب الأرض[7].

لكن تبقى المشكلة المتمثلة في الكيفية التي نوازن فيها بين مصالح البشر ومصالح الكيانات الطبيعية والمعايير التي تحدد ذلك.

في هذا الإطار، وإذ يلاحظ أن ألدو ليوبولد خبير بالحراج في الأصل وليس فيلسوفًا، يقترح ج. بايرد كاليكوت J. Baird Callicott نسقًا أخلاقيًا من مبادئ ذات مستويين تكفل التوفيق بين واجبات وإلزامات الانتماء التعددي للإنسان. المستوى الأول ينص على أن الواجبات والإلزامات الناشئة عن انتمائنا للمجتمعات الأقرب والأكثر حميمية تمتلك الأولوية على تلك الناشئة عن انتمائنا للمجتمعات الأبعد والأقل حميمية. والمستوى الثاني ينص على كون المصالح الأكبر مقدمة على المصالح الأقل[8].

وينبه هولمز رولستون Holmes Rolston إلى أن ليوبولد وكاليكوت يجنحان نحو المقاربة الكلانية على حساب المقاربة الفردية ولذلك فهو يقترح تركيبًا جديدًا بين الفردي والكلاني في الأخلاق البيئية. ويقوم بالأمر على الشكل التالي: يمنح قيمة ذاتية intrinsic value أساسية متساوية للأشياء الحية جميعًا التي يمتلك كل منها خيرها الخاص، ثم يضيف "علاوة" قيمية للكائنات الحية الحاسة و"علاوة" أخرى للكائنات الحية المتمتعة بالوعي الذاتي، أي البشر. ثم يمنح من جهة ثانية، حصة قيمية للأنواع الحية التي تعتمد في بقائها واستدامتها على الغاية التكاثرية لأعضائها، وكذلك "حصة" قيمية للمنظومات الإيكولوجية التي ترعى وجود وتطور الأشياء الحية، أفرادًا وأنواعًا[9].

*** *** ***


 

horizontal rule

٭ من كتاب: من البيئة إلى الفلسفة، تأليف معين رومية، معابر للنشر، دمشق، 2011.

[1] Sylvan, Richard, Is there a Need for a New, an Environmental Ethics, in Zimmerman, Michael et al (eds.), Environmental Philosophy: from Animal Rights to Radical Ecology, Prentice Hall, New Jersey, 3rd ed.(revised), 2001, pp. 17 – 25.

[2] Singer, Peter, Animal Rights, Human Wrongs, in Zimmerman et al, op.cit., pp 41-55.

[3] Goodpaster, Kenneth, On Being Morally Consider , in Zimmerman et al, Ibid., pp. 56 – 70.

[4] Taylor, W.Paul, The Ethics of Respect for Nature, in Zimmerman et al, Ibid., pp. 71– 86.

[5] Leopold, Aldo, The Land Ethics , in Zimmerman et al, op. cit., p. 99.

[6] Ibid., p. 98.

[7] bid., pp. 100-101.

[8] Callicott, J. Baird, Holistic Environmental Ethics and the Problem of Ecofacism, Zimmerman et al, op. cit., pp.111-22.

[9] Rolston, Holmes, Challenges in Environmental Ethics, in Zimmerman et al, Ibid., pp. 143 – 46.

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود