الإيديولوجيا وسيط ضروري للفعل في التاريخ

رشيد عوبدة

 

يعتبر مفهوم الإيديولوجيا من أشيع المفاهيم وأكثرها تداولاً، لكن معناها يظل مع ذلك من أكثر المعاني إثارة للجدل، ومن ثمة فهو من أقل المفاهيم ثباتًا، فهو عند البعض مفهوم علمي حثمي، وعند الآخرين معنى مبتذل، بل يمكن أن يكون سبة كما نجد عند ريمون آرون، بل إن نهايتها وشيكة كما ينظر لذلك فوكوياما. وهذا الوضع يبين أن مفهوم الإيديولوجيا نفسه، هو موضوع لعملية "أدلجة" مكثفة. ويعتبر المفكر المغربي عبد الله العروي في كتابه مفهوم الإيديولوجيا، أن كلمة "إيديولوجيا" دخيلة على جميع اللغات الحية، فهي لغويًا تعني في أصلها الفرنسي "علم الأفكار" كما أصَّل لها الفيلسوف الفرنسي ديتوت دى تراسي tracy De (1754- 1836). وكلمة إيديولوجيا Ideology كلمة يونانية تتكون من مقطعين، المقطع الأول Idea ويعنى الفكرة، والمقطع الثاني Logos يعني العلم فتكون الترجمة الحرفية "علم الأفكار"، وقد تأثر دي تراسي بالنظرية التجريبية للفيلسوف الإنجليزي جون لوك، كما تأثر بمذهب الفيلسوف الفرنسي كوندياك الذي يرد كل معرفة أو إدراك إلى أصول حسية بحثة، لكنها لم تحتفظ (أي الإيديولوجيا) بالمعنى اللغوي.

ما الإيديولوجيا؟ هل هي وعي زائف ومقلوب للعالم أم أنها الوسيط الضروري الذي بدونه لا يمكن للبشر أن يتحاوروا ويفعلوا في التاريخ؟ هل هي اغتراب للوعي وبالتالي عجز عن توجيه الفعل وضياعه في مسارب خاطئة، أم أنها أداة الإنسان لتملك عالمه ومصيره؟ ثم هل الإيديولوجيا مجرد أوهام مفارقة للواقع أم أنها تعبير عما يتضمنه هذا الواقع من تناقضات وصراعات؟

لننطلق من معنى الإيديولوجيا كاختلال وتشويه للواقع، وهو الذي يطابق الاستعمال الشائع لهذه الكلمة الذي انتشر عبر كتابات كارل ماركس الشاب منذ تأليفه للمخطوطات الاقتصادية والسياسية، وبالخصوص بعد ظهور كتاب الإيديولوجيا الألمانية، ومعلوم أن ماركس استعار مفهوم الإيديولوجيا من فلاسفة سابقين أطلقوا على أنفسهم إيديولوجيين، وهم الذين ورثوا في فرنسا فكر الفيلسوف كوندياك.

لقد حاول ماركس أن يقدم تصورًا جديدًا للإيديولوجيا مستعملاً في ذلك استعارة محددة، إنها استعارة انعكاس الصورة وانقلابها داخل العلبة السوداء، وهي المنطلق الأساسي في كل عملية تصوير، ومنذ ذلك الحين أصبحت الوظيفة الأولى التي تلحق بالإيديولوجيا هي صنع صور معكوسة عن الواقع. وقد استفاذ ماركس من نقد فيورباخ للدين معتبرًا (أي فيورباخ) أنه داخل الدين يتم إسقاط مجموعة من الخصائص البشرية على "كائن إلهي خيالي" بشكل تحولت فيه الصفات الخالدة المميزة للإنسان إلى صفات مميزة للإله. والقلب الفيورباخي للمسيحية يتلخص في أن الإنسان خلق الله على صورته لا العكس معتبرًا في كتابه أصل الدين (دراسة وترجمة الدكتور أحمد عبد الحليم عطيه) أن "الدين هو حلم العقل البشري" وأن "الإنسان حين يتحدث عن الله فإنه في الحقيقة لا يتحدث إلا عن نفسه". فقد حاول البشر، حسب فيورباخ، تحقيق مثلهم العليا وصفات الكمال (فيهم)، ونظرًا لعدم تحققها (كاملة) في كائنات بشرية محددة، ورغبة في تجسيد هذه المثل، خلق البشر الله متناسين أن هذه الصفات والمثل هي التي تكون صورة الله عند البشر. ويمكن أن نتابع نفس الفكرة مع فيورباخ حين يضيف:

لو لم تعتبروا الله الوجود النهائي أنه شخصية، أي لو لم تروا فيه شيئًا غير حرية الإرادة، الوعي بالذات، فأنتم تفكرون في الله بشكل سطحي. هذا الإله الشخصي لم يكن شيئًا آخر سوى النموذج المادي الذي هو في الحقيقة انعكاس لذاتية الإنسان أو للذات الإنسانية، فالله كالسطح الأملس الذي يعكس الذات الإنسانية للذات الإنسانية.

وكما قلت فقد استفاد ماركس من هذا النقد، لكن إضافة ماركس النوعية تمثلت في الربط بين التمثلات الفكرية وبين واقع الحياة الذي هو الممارسة أو البراكسيس Praxis. بهذا الشكل ينتقل ماركس من المعنى الضيق لكلمة إيديولوجيا إلى معناها الواسع الذي يعتبر أن الحياة الواقعية للإنسان تسبق مبدئيًا تمثلاته الذهنية. وعلى أساس المادية التاريخية طور ماركس وانجلز المفهوم العلمي للإيديولوجيا المرتبط بتحليل الوعي الاجتماعي، كانعكاس للوجود الاجتماعي. يقول ماركس في مقدمة نقد الاقتصاد السياسي: "ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم، بل العكس إن وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم". ويتساءل ماركس وانجلز في البيان الشيوعي: "هل نحتاج إلى تأمل عميق كي ندرك أن أفكار الإنسان وآراءه ومفاهيمه، وباختصار وعيه، تتغير مع تغير وجوده المادي وفي علاقاته وحياته الاجتماعية". وصولاً إلى الاعتراف بأنه في مجتمع طبقي تكون الإيديولوجيا جماعًا للتصورات الاجتماعية لطبقة معينة، يعبر عن وضعها الاجتماعي التاريخي، وعن مصالحها. وبعبارة أخرى، فإن الإيديولوجيا في مجتمع طبقي سمة طبقية. إن الطبقة المتحكمة في وسائل الإنتاج المادي تملك في الوقت نفسه الإشراف على وسائل الإنتاج الفكري.

طبعًا إلى جانب وظيفتها الإساسية والأولية والتي هي تشويه الوقائع وقلب الحقائق يمكن أن نتحدث عن وظيفة ثانية للإيديولوجيا وهي وظيفة تبرير السلطة بما هي آلية تلجأ إليها الطبقات الحاكمة والمسيطرة لإعطاء مبررات لأفكارها، وإضفاء المشروعية على مخططاتها و مشاريعها. هناك أيضًا وظيفة ثالثة للإيديولوجيا تنضاف إلى وظيفتي التشويه والتبرير هي ما أسماه بول ريكور وظيفة الإدماج، وهي وظيفة أعمق لأنها تمثل المستوى التحتي أو القاعدي للإيديولوجيا، وهي تظهر في استعمال الطقوس والاحتفالات التخليدية. إننا هنا إزاء بنية رمزية خاصة بالذاكرة الجماعية، مثل إعلان استقلال أمريكا الشمالية، والاستيلاء على قصر لاباسيتي أثناء الثورة الفرنسية، وثورة أكتوبر بالنسبة لروسيا، والاحتفالات التي تعرفها جل البلدان والكيانات السياسية بخصوص الاحتفالات المحلية أو الدينية... دور الإيديولوجيا، إذن هنا، هو تأمين بقاء مجموعة بشرية، ووجودها، بفضل الصور الثابتة التي تصنعها لنفسها وعن ذاتها.

إن الإيديولوجيا لم تمت، كما ينظِّر لذلك البعض، بسبب انهيار المعسكر الشرقي الذي قاده الاتحاد السوفياتي، وبفعل انهيار جدار برلين واتحاد المانيا الشرقية بأختها الغربية، وبسبب سيادة النظام العالمي الجديد الذي يقوده الغرب... بل إنها (أي الإيديولوجيا) لا زالت مفعمة بالحياة لأن عناصر اقتتاتها لازالت متوفرة، والتي يشكِّل الصراع الطبقي أهم عنصر فيها. ومن ينظِّر لأسطورة موتها هو يمارسها في الآن ذاته. أليس السعي إلى الإقناع بنهايتها خوف من تقويها في ظرفية استحوذت فيها القوى الرأسمالية على كل السلط مخلفة وراءها فوارق طبقية يمكنها أن تتحول إلى وقود للصراع الطبقي الذي شأنه أن يفضي إلى إعادة التوازن للمجتمعات بما يضمن لها الهدوء بعد العاصفة؟

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود