تشعيب اللَّذة في شعر أبي نواس
المنجي القلفاط
تمهيد:
كلمة التشعيب مصدر لصيغة "فعَّل" "شعَّب". وفي اللغة،
"يقال تشعَّبت المسألة" أي تفرَّعت وكان لها وجوه مختلفة، وكذا الأمر
في قولنا "تشعَّبت أغصان الشجرة" أي تفرَّعت، وشِعاب الأرض وشُعبها أو
شِعبها هي السبل المختلفة المتفرِّعة عن الأصل. ويقال "انشعب القوم" أي
تفرَّقوا وفي ذلك يقول أبو نواس (الرمل):
ثمَّ أراب الزمانُ فانقسموا أيدي سبا في البلادِ
فانشعبوا
ومعنى التفرُّع هذا سيكون محوريًا في بحثنا، إذ سنحاول
الكشف عن سبل تشعُّب اللَّذة في شعر أبي نواس كما سنحاول التعرُّف على
خلفيات هذه النزعة. وقد اخترنا صيغة "تفعيل-تشعيب" لغاية محدَّدة فهي
صيغة تفيد الجعليَّة، وآية ذلك أنَّ جعل اللذَّة متشعِّبة هو إجراء
يقوم به الشاعر ويتّخذ له آليات مختلفة.
وعليه فحديثنا عن تشعيب اللَّذة يكون على غرار ما نجده منتشرًا في
الكتابات المعاصرة من صيغتي "تشعير القصَّة"
Poétisation
و"تسريد الشعر" narrativisation.
تجليات تشعيب اللذة
1.
التشعيب الداخلي:
في هذا المستوى، نهتمُّ بتشعيب اللَّذة الواحدة في حدِّ
ذاتها باعتبارها مطلبًا نفسيًا وذلك في مستوى الموضوع المفرد. فالتشعيب
الداخلي هو خلق لتجاويف داخلية في تلك اللذة الواحدة دون ربطها بلذَّة
أخرى، ويلوح ذلك جليًا في شعر أبي نواس في ما يخصُّ لذَّتي الخمر
والجنس:
تشعيب لَّذة الخمر:
تتشعَّب لذة الخمر داخليًا من خلال جملة من الظواهر:
تشعيب لذَّة الخمر بتشعيب مواطن اللذَّة فيها:
تتعدَّد مواطن اللذَّة في الخمر لتستثير جميع الحواس من
ذوق وشمٍّ وبصر ولمس وسمع، بل إنَّ الشاعر يلحُّ أيضًا على القيمة،
قيمة الخمر، فالقيمة تجلب الإثارة وتجعل النفس توَّاقة إلى كلِّ ما هو
نفيس؛ لذلك نرى أبا نواس ينشد (المنسرح):
أقولُ لمَّا تحاكيا شبها أيُّهما للتشابهِ الذهبُ
وكذلك قال (البسيط):
فالخمر ياقوتةٌ والكأسُ لؤلؤة من كفِّ جاريةٍ ممشوقةِ
القدِّ[4]
وغير هذين المثالين كثير في الديوان، ففي تنزيل الخمرة
منزلة الذهب والأحجار الكريمة ترسيخ لمعنى النفاسة والقيمة، القيمة
المادية فضلاً عن القيمة الجمالية، وبذلك يتشكَّل تصوُّر مترسِّخ في
فكر أبي نواس ووجدانه وهو "اللذيذ نفيس والنفيس لذيذ".
أمَّا عن إثارة الخمرة للحواس، فلا تكاد تخلو قصيدة من
إلحاح أبي نواس على هذه الخاصية، فلا قيمة للخمرة إلاَّ إذا أيقظت جميع
الحواس لتبلغ اللَّذة قمَّتها فتتفاعل النفس وتنتشي أيَّما انتشاء،
لذلك لا يكتفي الشاعر بوصف المذاق بل يصف جمال الخمرة ما دام "كلُّ
جميل مثيرًا للذَّة" على حدِّ تعبير فرويد[5].
وبذلك تجد العين ضالَّتها. وفي ذلك يقول أبو نواس (البسيط):
أما رأيتَ وجوهَ الأرضِ قد نضرت
وألــــــــــــــــــــبستها الزرابي نترةُ الأسدِ
حاك الربيعُ بها وشيــــــــا وجلَّلــــها بيانعِ الزهرِ من
مثنى ومن وحدِ[6]
هكذا تستحيل الخمرة إلهة الجمال وإلهة الخصب تبعث
الحياة والجمال في الوجود، فكأنها عشتار أو بلقيس. وممَّا يتنزَّل في
هذا الإطار أيضًا، وصف الخمرة بالذهب والأحجار الكريمة على غرار ما
رأينا سابقًا، وقد ذكرنا بأنَّ مثل هذا التشبيه يجمع بين القيمة
المالية والقيمة الجمالية، كما يتنزَّل في هذا الإطار كذلك تنزيل
الخمرة منزلة العروس، وهو أمر شائع في شعر أبي نواس (البسيط):
هي العروسُ إذا داريتَ مزجتَها وإن عنفتَ عليها فأختُ شيطان[7]
ومن لوازم الجمال الرقَّة واللطف، ولم يتغافل أبو نواس
عن ذلك في مثل قوله (مخلع البسيط):
آلت إلى جوهرٍ لطيفٍ عيانُ موجودِه ضمارُ[8]
إنَّ اللَّطافة والرقَّة، في المنظور النفسي من علامات
نقاوة الجنس، ولا أدلُّ على ذلك من تأويل صورة الماء في التحليل النفسي
على أنَّه رمز للجنس في أنقى صورة[9].
كما أنَّ جعل الخمرة تتَّسم باللُّطف في بيت أبي نواس
السابق وتحويلها من المجسَّد إلى المجرَّد ومن الجلاء إلى الخفاء أو ما
قارب ذلك غايته جعل تلك الخمرة موضع تشوُّق وتشوُّف ما دام كلُّ غامض
خفيٍّ تتوق إلى معرفته النفس وإلى بلوغه وحتى إلى تملُّكه.
ولا يخفى على الباحث في لوازم الجمال الباعث للذَّة،
المهيِّج لها أن يتغافل على صفة الإشراق والإنارة، وهي صفة ملازمة
لخمرة أبي نواس لا تكاد تخلو منها قصيدة واحدة، ودونك قوله (مخلع
البسيط):
لا ينزل الليل حيث حلَّت فدهر شرَّابها نهار
ولا يخفى ما في البيت من إيغال تخييليٍّ إذا استحالت
الخمرة شمسًا لا تأفل فتنكسر حلقة دورة الجديدين أو الحدثين، (الليل
والنهار) لتتحقَّق وحدة كونية قوامها أزلية النور.
ومن عناصر تشكيل الجمال، ما يتعلَّق بوصف جمالية الكأس
التي تسكب فيها الخمر (البسيط):
فالخمرُ ياقوتةٌ والكأسُ لؤلؤةٌ[11]
فلا يكتمل الجمال المثير للذَّة إلا إذا اكتملت معالمه
من خمر ولوازمها ليتحقَّق الانسجام والتناغم.
ولحاسَّة الذوق أو الشرب حضور مكثَّف، وهي أصل اللَّذات
في الخمرة عند أبي نواس، لذلك كثيرًا ما ركز على طعم الخمرة، من ذلك
قوله (البسيط):
سلسالةُ الطعمِ اسقنطٌ معتنقةٌ بشربِها قيِّمُ الحانوتِ
أوصاني[12]
فالسلسالة هي الخمرة التي تتسلسل في فم شاربها أي
تتسرَّب بسلاسة كالماء العذب الزلال، فمن شروط اللَّذة، أو على الأقلِّ
ممَّا يجعلها لذَّة مكتملة، غياب المشقَّة في تحصيلها والظفر بها.
كذلك وصفت الخمرة بـ"المسحولة المزَّة"[13]،
والمزَّة هي الخمرة التي بها بعض المرارة، وذلك من أجود الخمور لأنَّ
هذه الصفة من علامات التخمُّر، وقد يشبِّه أبو نواس خمرته في سلاستها
بـ"ماء المزن"[14].
وممَّا يثير النفس ويدفعها إلى طلب الخمرة كذلك،
الرَّائحة، فلا غرابة والحال تلك أن يكثر أبو نواس من توظيف حاسَّة
الشمِّ في وصف خمرته بطيب الرائحة متوسِّلاً في ذلك الصفات والأفعال
الدالة عليها: "فاحت – ريحان – تنفست"، والصور الشعرية في مثل قوله
(البسيط):
كالمسكِ إن سُكبتْ والسبكِ إن بُزلتْ[15]
وكذلك من خلال تشبيه رائحة الخمرة برائحة التفاح
(البسيط):
فاحتْ كما فاح تفاحٌ بلبنانِ[16]
كما نزَّل طيبها منزلة الريحان (الكامل):
فتنفَّستْ في البيتِ إذ مُزجتْ كتنفُّسِ الرَّيحانِ في
الأنفِ[17]
وما ذاك إلا مظهر من مظاهر تشعيب لذَّة الخمر بتفريعها
بغية البحث عن لذَّة مكتملة تجد كلُّ حاسَّة فيها مشربها ومأربها. على
أنَّ الأمر لا يقتصر على استنفار الحواس السابقة بل إنه يشمل كذلك
حاسَّة السمع، فالخمرة تقرع الأسماع وتطرب شاربها. وممَّا جاء في هذا
الإطار قوله (المنسرح):
كأنَّ هديرَها في الأذنِ يحكي قِراةَ القسِّ قابله
الصليبُ[18]
فالهدير في الأصل هو صوت الجمل الهائج، وقد مثَّله أبو
نواس بصوت القسِّ وهو يتلو إنجيله. إنَّ التركيز على الصوت الصاخب إنما
يعكس رغبة في إثارة اللَّذة والاحتفاء بها، فالصوت يهيِّج النفس ويضاعف
تطلُّعها إلى اللَّذة، فالإيقاع من وظائفه التحفيز تمامًا مثلما هو
الشأن بالنسبة للموسيقى الحربية والدينية، وهذه الوظيفة فطن إليها
الفرابي قديمًا في كتاب العلاج بالموسيقى وغيره كذلك.
ولحاسَّة اللَّمس نصيب في لذَّة ينشدها أبو نواس، ويلوح
ذلك جليًا في سياقات وصف الخمرة خاصة، من ذلك قوله (المنسرح):
ملسٌ وأمثالها محفَّرةٌ صُوِّر فيها القسُّوسُ والصَّلبُ[19]
فالملس جمع ملساء وهي كأس الخمر التي تكون كذلك،
والمحفَّرة من الكؤوس ما كانت منقوشة، وبذلك يجمع أبو نواس في طلب
اللَّذة بين المطبوع والمصنوع سيَّان عنده كأس ملساء أم رقشاء.
والملساء تحيل على اللِّين كذلك وعلى النعومة وذلك من لوازم اللَّذة،
كما أنَّ المحفَّرة تحيل على الزينة ومن ثمَّ يتشعَّب الجمال لاستثارة
اللَّذة ومضاعفتها.
تشعيب لذَّة الخمر بتشعيب وظائفها:
تتعدَّد وظائف الخمرة بتعدُّد مواطن اللَّذة فيها، فهي
توفِّر لَّذة بدائية هي لذَّة الشرب، لكنها تتعدَّى ذلك لتحقيق لذَّات
أخرى ومن ثمَّ توليد وظائف متعدِّدة، وذلك من مظاهر التشعيب.
الوظيفة الجمالية: ليس المقصود هنا الجمال الذي توقفنا
عليه في إطار حديثنا عن جمال الخمرة باعتباره يثير حاسَّة البصر، بل
إنَّ الجمال المقصود هو ما تثيره الخمر في محيطها، فهو خارج عن الخمرة
في حدِّ ذاتها لكنَّ الخمرة تكون مسبِّبة له، من ذلك قوله (البسيط):
أما رأيتَ ربوعَ الأرضِ قد عمرتْ وألبستها الــــزرابي
نــــــــثرةُ الأسدِ
حاك الربيع بها وشيا وجلَّلـــــــها بيانعِ الزهرِ من مثنى
ومن وحدِ[20]
هكذا تفعل الخمرة في الوجود فعل السحر، فكأنَّ هذه
الخمرة آلهة الخصب والنماء أو آلهة الحسن والجمال عند القدماء، فهي
تبسط حلَّة الجمال في كلِّ مكان محيط بها، وتحيل الخلاء والإقفار
إعمارًا واستقرارًا.
الوظيفة النفسية والفكرية: تكون الخمرة في شعر أبي نواس
دواء لكلِّ داء نفسيٍّ حلَّ به، أليس هو القائل (البسيط):
دع عنك لومي فإنَّ اللوم إغراء وداوني بالتي كانت هي
الدَّاءُ؟[21]
فالداء إنما هو كلُّ ما علق بالنفس من همٍّ وغمٍّ،
والدواء إنما هو وليد تصوُّر يرى في الخمرة علاجًا، فلا غرابة والحال
تلك أن يطلق عليها الشاعر كناية "مذهب الأحزان"[22].
والحق أنَّ هذه الوظيفة كثيرة الحضور ممَّا يؤكِّد أنَّ الخمرة ليست
مجرَّد لذَّة عابرة عند أبي نواس بل إنها تتجاوز ذلك إلى الوظيفة
العلاجية النفسية، ومن أمثلة ذلك قوله أيضًا (المنسرح):
بين قهوةٍ تُذهب الهمومَ فلا ترهب فيها الملامَ
والعَذلا[23]
إنَّ الخمرة إذن سبيل أبي نواس للتسلِّي من الهمِّ
النفسي والفكري خاصة من الأحزان ولا سيما من نكبات الزمان والإحساس
الفاجع بانسراب الأيام وهلاك الأنام، وكثيرًا ما صرَّح الشاعر بحربه
الضروس ضدَّ الزمان، هادم الملذَّات مفرِّق الجماعات، وقد تسلَّح
بالخمرة في تلك الحرب (الطويل):
رأيتُ اللّيالي مرصداتٍ لمدَّتي فبادرتُ لذَّاتي مبادرةَ
الدهرِ[24]
وقد اختار أبو نواس صيغة الجمع "الليالي" للمبالغة في
وطأة الزمان فكأنَّه جيش جرَّار، لذلك جعل سلاحه في الجمع كذلك
"لذَّاتي" حتى يكون على قدر قوَّة الخصم.
وقد حدَّثنا الشاعر نفسه عن فعل عجيب للخمرة يتمثَّل في
امتلاك ناصية الأمور والتحكُّم في القدر والزمان، وذلك في مثل قوله
(البسيط):
دارت على فتيةٍ دان الزمانُ لهم فما يصيبهمُ إلا بما شاؤوا[25]
فلا سلطان إذن فوق سلطان الإنسان إذا ما تسلَّح ببنت
الدنان، فهو يغدو قاهر الزمان. إنَّ فلسفة أبي نواس تقوم كذلك على
اغتنام كلِّ لحظة للذَّة قبل أن يخطف الحِمام الأنام (البسيط):
فانعمْ بها قبلَ رائعاتٍ لا خمر فيها ولا خمارُ[26]
لذلك كثيرًا ما يركِّز أبو نواس على مبدأ اغتنام اللحظة
في اللَّذة، لا تأجيل ولا تأخير ما دام الموت لا يؤتمن جانبه (البسيط):
فاشربْ وجُدْ بالذي تحوي يداك لها ولا تذخر اليومَ
شيئًا خوفَ فقرِ غدِ[27]
بل إنه لفرط المبالغة في اغتنام تلك اللَّذة، آثر حال
السكر على حال الصحوة في مثل قوله (الطويل):
وما الغُبنُ إلاَّ أن تراني صاحيًا وما الغُنمُ إلاَّ أن
يتعتعني السُّكرُ[28]
وتلك عادة دأب عليها أبو نواس ونعني تحسين القبيح
وتقبيح الحسن ومخالفة المألوف والعزوف عن المعروف فغياب العقل هو عنوان
السعادة عند أبي نواس لأنَّ ذلك الغياب يغيب معه الرُّوع من المصير.
الوظيفة الاجتماعية والحضارية: الخمرة في شعر أبي نواس
مكمن اللذَّة بامتياز، والطريف أنَّ الشاعر جعلها تتجاوز ما رأينا من
الوظائف. ذاك أنَّ من مظاهر تشعيب هذه اللَّذة جعلها تضطلع بوظيفة
اجتماعية وحضارية، من ذلك إلحاح الشاعر على الندامى وعلى الجماعة عند
الحديث عن التمتُّع باللَّذة، فلا غرابة والحال تلك أن يصف أبو نواس
نداماه بـ"الصحبة" و"إخوان صدق" و"الرفاق"... وغير ذلك من التسميات
التي تحيل على أنَّ الشاعر يجد في لذَّة الخمر فرصة لتمتين الصلات
وتوثيق عرى الجماعة، وفي ذلك مجابهة لفعل الزمان والموت هادميْ
الملذَّات ومفرّقيْ الجماعات. وتتجاوز الصلة بعدها الآنيَّ (الاجتماعي)
لتبسط ظلالها الوارفة على الأجيال المتعاقبة أي لتتَّخذ بعدًا حضاريًا
زمنيًا Diachronique،
ولنا في شعر أبي نواس قصيدة شهيرة تتكشَّف فيها سجف ما نقول، ونعني
قصيدة دار الندامى وممَّا جاء فيها قوله (الطويل):
ودارِ ندامى عطلوها وأدلجــــــــــــــــــــــــوا بها
أثرٌ منــــــهم جديدٌ ودارسُ
مساحبُ من جرّ الزقاقِ على الونى وأضغاثُ ريحانٍ
جنيٌّ ويابسُ
حبست بها صحبي فجدّدت عهدهم وإنّي على أمثالِ تلك
لحابسُ
ولم أدرِ من همْ غيرَ ما شهــــــــــــدت بشرقيِّ
ساباطَ الدّيارُ البسابسُ[29]
إنَّ حضور أبي نواس في أطلال الحان هو لاستحضار أمجاد
الخلاَّن وتجديد أيام زمان "جديد ودارس". وبذلك يتجدَّد الإعمار بعد
الإقفار الذي خلَّفه رحيل السلف عن الدار والعُقار. وبذلك تكون الحان
ملتقى الأجيال تشدُّ إليها الرحال وكعبة القصَّاد ووجهة العباد، وفي
التجديد مصارعة لفعل الزمن هادم اللَّذة ومشتِّت الصحبة، لذلك اختار
الشاعر فعل "حبست" لأنَّه محيل على طول المقام (ومنه الحبس أي السجن)
بل إنَّه ردَّد لفظًا جنيسًا في نهاية البيت "لحابس" لتحقيق بنية
دائرية تعكس معنى التجدُّد وفق منطق العود على البدء. وفي خاتمة هذه
القصيدة يقول أبو نواس:
قرارتُها كسرى وفي جنباتِها مهًا تدَّريها بالقسيِّ
الفوارسُ
والبيت هو في وصف كأس الخمر وقوامه تركيب صورة شعرية
على أخرى تشكيلية نقشت على الكأس نفسها، وللمشهد دلالة رمزية إذ هو
يعكس تلاقح ثقافتين وحضارتين: فارسية مجسَّدة في عظيمها "كسرى" وعربية
مجسَّدة في مشهد الصيد البدوي، وبذلك تكون الخمرة منفذًا إلى تفاعل
الثقافات.
تشعيب لذَّة الخمر من خلال تمطيطها زمانًا ومكانًا:
من تجلِّيات تشعيب اللَّذة عند أبي نواس، تمطيتها
والذهاب بها شأوًا بعيدًا، فهو لا يؤمن باللَّذة العابرة أو النزوة بل
إنَّه يحاول ما أمكن إدامة تلك اللَّذة، ولذلك وجوه مختلفة.
أول هذه الوجوه، الإفراط في اللَّذة لذَّة الخمر وجعلها
بلا حدٍّ، وفي هذا السياق، يتنزَّل تغنِّي أبي نواس بالسكر والثمالي
ويعتبر ذلك أصلاً ومغنمًا فيتباهى به في مثل قوله (الرمل):
واسقني حتى تراني حسنًا عند القبيح[30]
أو قوله (الخفيف):
قهوةٌ تترك الصحيحَ سقيمًا وتُعيرُ السقيمَ ثوبَ
الصحيحِ[31]
أو قوله (الطويل):
فعيشُ الفتى في سكرةٍ بعد سكرةٍ فإن طال هذا عنده قصر الدهرُ[32]
أو قوله (الطويل):
وما الغبنُ إلا أن تراني صاحيًا وما الغُنمُ إلا أن
يتعتعني السُّكرُ[33]
ففي هذه الأمثلة إلحاح على أنَّ الإفراط في اللذَّة
غايته كسر الحدود بين الموجودات، وهي حدود يقيمها العقل والوعي. والوعي
هو وعي بالمأساة الإنسانية، لذا كان السكر فرارًا من مجابهة هذه
الحقيقة الفاجعة وهو إلى ذلك نزعة إلى التحرُّر المطلق من قيد الزمان
والمكان.
ومن مظاهر تمطيط اللذَّة كذلك ما جاء في مثل قوله
(الطويل):
أقمنا بها يومًا ويومًا وثالثًا ويومًا له يومُ
الترحُّلِ خامسُ[34]
فقد سعى الشاعر إلى تمطيط الإقامة بالحان أي بالمكان
لاغتنام بنت الدنان، ولم تعد زيارة الخمَّارة حدثًا عارضًا بل غدت
مقامًا، وقد عمد الشاعر إلى إبراز تشبُّثه بالمكان الذي يختزل تشبُّثه
باللَّذة خشية الإفلات من خلال تعداد أيَّام المقام، وقد كان بالإمكان
اختزال المدَّة بقوله "أقمنا بها ثمانية أيَّام"، لكنه عمد إلى التفصيل
والتعديد فامتدَّ ذلك على بيت بكامله ليعكس الكمُّ اللَّفظيُّ النزعةَ
النفسيةَ إلى تمطيط اللذَّة. وممَّا جاء في تشعيب اللذَّة زمانًا
(علاوة على تشعيبها كمًّا) قوله (الطويل):
خرجنا على أنَّ المقامَ ثلاثةٌ فطاب لنا حتى أقمنا بها
شهرا[35]
فالرحلة كانت لمدَّة أيَّام ثلاثة، لكن اللذَّة تشدُّ
صاحبها فلا يستطيع فراقها. لذا تضاعفت مدَّة الإقامة عشر مرات (30
يومًا).
ومن مظاهر تشعيبه لذَّة الخمر زمانًا كذلك طلبها في
كلِّ آن وحين، فتجد الشاعر يحدِّثك عن "الصَّبوح" أي الخمر التي تشرب
صباحًا في مثل قوله (البسيط):
بادر صبوحَك وانعم أيَّها الرَّجلُ[36]
كما نجد أبا نواس ينشد خمر العشيَّة والمساء "الغبوق"
كما في قوله (الوافر):
تمتَّع من شبابٍ ليس يبقى وصِل بعرى الغَبوقِ عرى
الصَّبوحِ[37]
كما أنَّه يطلبها ليلاً (البسيط):
قامت بإبريقها والليلُ معتكرٌ فلاح من وجهِها في البيتِ
لألاءُ[38]
بل إنه يطلبها في حرِّ الهجير(المنسرح):
ترضعني درَّها وتلحفني بظلِّها والهجيرُ يلتهبُ[39]
إذن، فلا موانع زمانية ولا حدود للذَّة، فهي مطلوبة في
كلِّ آن. وبذلك فلا مجال لحصر هذه اللذَّة في حيِّز زمني واحد، وللظفر
بها وجب على المرء ألاَّ يساوم بائعها ما دامت الخمرة تكفل له مآرب
شتَّى، لذلك يقول أبو نواس (البسيط):
ولا ألاطمُ دون الخمرِ تاجرَها لأنَّ ظنِّي أن لم يغلُ
موجودُ[40]
وقال (الطويل):
أسامحه إنَّ المِكاسَ ضراعةٌ ويرحل عِرضي عنه وهو جميعُ[41]
إنَّ المساومة عند أبي نواس ضرب من هتك العرض ما دامت
الخمرة في تصوُّره هي من باب العرض نفسه، والمساومة تعطِّل اللذَّة وهو
أمر منبوذ عند الشاعر الذي كثيرًا ما دعا إلى اغتنام كلِّ لحظة في
نيلها (الوافر):
فلستُ أسوِّف اللَّذات نفسي مساومةَ كما دفعَ الغريمُ[42]
ومعنى البيت أنَّ الشاعر ليس همَّه تأجيل اللذَّة كما
يؤجِّل المدين دفع المال.
وقد يشعِّب أبو نواس لذَّة الخمر مكانيًا فيجعلها
ممتدَّة على مواضع شتَّى فتتجاوز حدود المكان وذلك في مثل قوله
(الطويل):
مسارحُها الغربي من نهرِ صرصرٍ فقطربلٌ فالصالحيةُ فالعقرُ[43]
والأسماء المذكورة هي قرى ومواضع قرب بغداد، فالخمر إذن
تشرِّق وتغرِّب، تشمئل وتجنِّب، فلا قيود ولا حدود بل هي تضرب في كلِّ
مكان وتبحث عن كلِّ إنسان رام "قهر الزمان".
تشعيب لذَّة الخمر بتشعيب مشاربها ومصادرها:
يسعى أبو نواس إلى الخروج من نمطية اللذَّة من خلال
جعلها متعدِّدة المشارب وفي التعدُّد إثراء وإمتاع، لذا نجد الشاعر
يحدثنا عن اليهود والنصارى وعن الفرس والعرب وعن "دهقان" وغير ذلك من
الشعوب والديانات الطارفة والتليدة، من ذلك ما جاء في وصف الخمر
(الطويل):
تراثُ أنوشروانَ كسرى ولم تكن مواريثَ ما أبقت تميمُ ولا
بكرُ[44]
ففي البيت استحضار للحضارة الفارسية من خلال كسرى
ولحضارة العرب من خلال بعض قبائلها (تميم وبكر). وقال (مجزوء الرمل):
سمتُها عند يهوديٍّ خصيبِ المستزادِ[45]
فأبو نواس يبحث عن مبدأ التنوُّع لأنّه يضمن تجدُّد
اللذَّة بتجدُّد مشاربها.
وقال أيضًا (المنسرح):
ملسٌ وأمثالُها محفَّرةٌ صُوِّر فيها القسُّوسُ والصلبُ[46]
فالسياق هو سياق وصف قوارير الخمر أو كؤوسها، وقد جمعت
الصورة بين طبع البداوة العربية من خلال رمزية "الملس" كناية عن الطبع
والبساطة، وبين تزيُّن الحضارة "المحفَّرة" وقد نسبت إلى المسيحيين من
خلال حضور القسُّوس والصَّلب، وبذلك تكون اللذَّة مطلبًا إنسانيًا
سيَّان في ذلك عرب أم عجم، مسلمون أم مسيحيُّون أم يهود...
تشعيب لذَّة الخمر بتشعيب أنواع الخمور:
من تجليات تشعيب لذَّة الخمر علاوة على ما رأينا تشعيب
أنواعها، فأبو نواس لا يكتفي بضرب واحد من الخمور بل يطلب صنوفًا شتَّى
على النحو الذي يلوح من خلال كثرة الأسماء أسماء الخمرة. من ذلك حديثه
عن السلاف وهي الخمرة البكر التي عتِّقت دون دوس في مثل قوله (البسيط):
سلافُ دنٍّ إذا ما الماءُ مازجها فاحتْ كما فاح تفَّاحٌ
بلبنانِ[47]
كما حدَّثنا عن الكميت إشارة إلى صنف من الخمور يكون
لونه ما بين الحمرة والسواد (الوافر):
وخُذها من مشعشعةٍ كُمَيْتٍ[48]
كما تغنَّى أبو نواس بالقهوة[49]
وهي الخمر التي تقهي صاحبها فتدفع عنه النوم، وتعلَّق كذلك بـ"الشمول"[50]
وهي الخمرة التي تشمل الندامى بريحها، وبـ"الغبوق" وهي خمرة المساء
وغير ذلك من الأسماء التي يجد أبو نواس لذَّة في تعدادها (السريع):
أثنِ على الخمرِ بآلائها وسمِّها أحسنَ أسمائِها[51]
تشعيب لذَّة الجنس
يتمثَّل تشعيب لذَّة الجنس في كسر نمطيَّته على عادة
أبي نواس في خرق المألوف والنأي عن المعروف إذ ينشد لذَّة الجنس من
خلال المزج بين المذكَّر والمؤنَّث، وآية ذلك تغزله بالمخنَّثين وحديثه
عن اللوطيِّ، وفي ذلك محاولة للجمع بين لذَّة المؤنَّث ولذَّة المذكَّر
في صورة المخنَّث، واللذَّة بطبعها تتوق إليها النفس أكثر كلَّما كانت
حاملة لشيء يخرج عن النمطيِّ "المبتذل".
ومما يندرج ضمن هذا السياق قوله (البسيط):
من كفِّ ذاتِ حرٍ في زيِّ ذي ذكرٍ لها محبانِ لوطيٌّ
وزنَّاُءُ[52]
فاللوطيُّ هو الباحث عن لذَّة الجنس يلتمسها في
المذكَّر.
وقال متغزِّلاً (الطويل):
فجاءت به كالغصنِ يهتزُّ رِدفُه تخال به سحرًا وليس به
سحرُ
فقمنا إليه واحدًا بعد واحــــــــــــد فكان به من صومِ
عُزبتِنا الفطرُ[53]
وقال أيضًا (الطويل):
غلامٌ وإلاَّ فالغلامُ شبيهُها وريحانُ دنيا لذَّةٌ
للمعــــــــانقِ
فطانةُ زنديقٍ ولحظةُ قَيْنةٍ بعينِ الذي تهوى ومنيةُ
عاشقِ[54]
وممَّا جاء في هذا السياق أيضًا قوله (الخفيف):
فتلكأ تلكُّؤا في انخناثٍ ثمَّ أضحى لما أردتُ فكانا[55]
وقال أيضًا (المجتث):
والقدُّ قدُّ غـــــــلامٍ والغنجُ غنجُ فتاةِ
مذكّرٌ حين يبدو مؤنّثُ الخلواتِ[56]
إنَّها نفس أبي نواس الميَّالة إلى اللذَّة المتفرِّدة
المتشعِّبة التي تكسر الحدود والحواجز بين الجنسين مادامت اللذة نفسها
في تصوُّر الشاعر مطلقة منفلتة من النمطية ومن الموانع. لذلك يتغزَّل
أبو نواس بغلام صورته تجمع بين المذكَّر والمؤنَّث، ولا شكَّ أنَّ مثل
هذا الولع بهذا الصنف من أصحاب الهوى مردُّه ما أفرزته البيئة الحضرية
ببغداد من اختلاط بين الحضارات ومن انحسار معايير الجمال البدوي في هذا
الإطار الحضري.
2.
التشعيب الخارجي
نقصد بالتشعيب الخارجي ذلك الإجراء القائم على تفريع
اللذَّة انطلاقًا من المزج بين صنفين من اللَّذات أو أكثر فهو يتجاوز
الإجراء السابق القائم على تفريع اللذَّة الواحدة في حدِّ ذاتها ليكون
أكثر تعقدًا. ويمكن أن يكون هذا التشعيب الخارجي ثنائيًا أي قائمًا على
المزج بين لذَّتين كما يمكن أن يكون أكثر تعقيدًا لجمعه بين أكثر من
لذَّتين:
التشعيب من درجة أولى:
الجمع بين لذَّة الخمر ولذَّة الجنس: دأب أبو نواس على
المزج أو الجمع بين لذَّتين رئيسيتين في رؤيته للحياة: لذَّة الخمر
ولذَّة الجنس، وفي سياقات كثيرة، يبدو الفصل بينهما قضاء على اللَّذتين
معًا. فدونك قوله (البسيط):
فالخمرُ ياقوتةٌ والكأسُ لؤلؤةٌ من كفِّ جاريةٍ ممشوقةِ
القدِّ[57]
وقال أيضًا (المنسرح):
أشربُ من كفِّه شمولا ومِن فيهِ رُضابا يجري على بَردِ[58]
فالعطف في هذا السياق هو من باب الإضافة التي تحمل على
التكامل. وقد طوَّع أبو نواس لذَّة الجنس التي عادة ما يوردها ثانية
بعد لذَّة الخمر حين جعل الجنس شرابًا من خلال الرضاب ليجاري طبيعة
الخمرة.
وقال أيضًا (البسيط):
تسقيك من طرْفِها خمرا ومن يدِها خمرا فمالك من
سُكريْن مــــــــــــــــن بدِّ
لي نشوتانِ وللندامى واحــــــــــــــــدةٌ شيءٌ
خُصصتُ به من دونِهم وحدي[59]
ففي هذا الشاهد ترسيخ لما جاء في سابقه ونعني ذلك
التكامل بين لذَّتين وسعي الشاعر إلى تطويع لذَّة الجنس لتكون متجانسة
مع لذَّة الخمر ولا أدلُّ على ذلك من توظيف الخمر على المجاز في الصدر
للغزل وعلى الحقيقة في العجز على النحو المذكور سابقًا. وقد صرَّح أبو
نواس في البيت الثاني بتميُّزه على من سواه من الندامى بالمزج بين
الخمر والجنس. وهنا يتنزَّل دور القينة والساقي والغلام في توفير ذلك
المطلب. ومن ذلك أيضًا قوله (الطويل):
فقالت من الطرَّاقُ قلنا عصابةٌ خفافُ الأداوَى يُبتغى
لهمُ خمرُ
ولا بدَّ أن يزنوا فقالت أو الفِدا بأبلجَ كالدينارِ في
طرفِه فِترُ[60]
فالواضح الجليُّ تصريح أبي نواس وصحبه بالرغبة في الظفر
بلذَّتي الخمر أولاً والجنس ثانيًا حتى تكتمل المتعة، وفي توظيف صيغة
الإلزام "لابدَّ" ما يدلُّ على أنَّ المطلب الثاني ضرورة لا غنى عنها
لا أمر كمالي.
الجمع بين لذَّة الخمر ولذَّة الغناء: قد قرن أبو نواس
لذَّة الخمر بلذَّة الغناء تمامًا مثلما قرنها سابقًا بلذَّة الجنس. من
ذلك قوله (الخفيف):
أدرِ الكأسَ حانَ أن تسقينا وانقرِ الدفَّ إنّه يلهينا[61]
لهد أفاد الربط بالواو معنى الجمع المحيل على الإضافة
والتكامل بين لذَّة الخمر ولذَّة الغناء، فكأنه التلازم عينه بين
المتعتين. وهو تلازم يعكسه التوازن والتلازم بين الصدر "لذة الخمر"
والعجز "لذة الغناء" لتشكيل بنية البيت الشعري ومن وراء ذلك تشكيل
الذات المتوازنة المنتشية حقَّ النشوة في منظور الشاعر.
وقال أبو نواس (البسيط):
لا أرحلُ الراحَ إلا أن يكون لها حادٍ بمنتحلِ الأشعارِ
غرِّيدُ[62]
فقد استعار الرحل للشرب وجعل المغني بمنزلة الحادي.
وقال كذلك (البسيط):
فاستنطقِ العودَ قد طال السكوتُ به لا ينطق اللهوُ
حتى ينطقَ العودُ[63]
لقد قام البيتان السابقان على تركيب الحصر المفيد لمعنى
التخصيص والإلزام أو التلازم بين لذَّتين، لذَّة الخمر ولذَّة الغناء،
فلا تتحقَّق الأولى في نظر أبي نواس إلا بتوفُّر الثانية، وفي هذا
تجلٍّ واضح لنزعة الشاعر إلى تشعيب اللذَّة التي غدت ضرورة ولازمة لا
أمرًا كماليًا.
التشعيب من درجة ثانية: اللذَّة والمجلس:
هذا الصنف من التشعيب يتجاوز التفاعل الثنائي بين
لذَّتين ليشمل جملة من اللذَّات التي يحتضنها المجلس وأهمُّها لذَّة
الخمر ولذَّة الجنس ولذَّة الغناء، لذلك احتفى العرب بمجالس اللهو
احتفاءهم بمجالس العلم وإن اختلفت وظائف كلِّ صنف، فالأول للهزل
والثاني للجدِّ، الأول يحقِّق المتعة في حين يحقِّق الثاني الإفادة،
لكنهما يلتقيان في وظيفة عليا هي تشكيل الذات، فالذات لا تستوي إلا متى
جمعت بين الجدِّ والهزل، بين المتعة والإفادة، ألم يتأسَّس الأدب على
سبيل المثال منذ نشأته على هذه الثنائيّة؟ ولقد كان أبو نواس واعيًا
بدور مجلس اللهو في تلبية الاستزادة من اللذَّة، لذلك كثيرًا ما ربط
تلك اللذَّة بهذا الفضاء.
وفي هذا السياق يتنزَّل شعر أبي نواس القائم على تعدُّد
الأصوات، صوت شعري ينشده هو، وصوت مضمَّن ينشده المغني أو القينة، وهو
صدى لما يتردَّد داخل مجالس اللهو، من ذلك قوله (مجزوء الرمل):
رفــــع الصوتَ بصوتٍ هاج للقــولِ أذكارا
صاح هل أبصرتَ بالخَبْـ تيْن" من أسماءَ نارا[64]
فصدر البيت الثاني قائم على تضمين شطر بيت "للأحوص
الأنصاري".
وقال كذلك (مجزوء الرمل):
غنّني يا ابن أذين "ولها بالماطرون"[65]
وما جاء في العجز تضمين لقول "يزيد بن معاوية" (الرمل):
ولها بالماطرونَ إذا أكل النملُ الذي جمعا[66]
والطريف في مثل هذا التضمين ذلك التطابق بين شخصية أبي
نواس والإطار العام (المجلس) وبين شخصية يزيد بن معاوية المعرفة بلهوها
ومجونها وإسرافها في ذلك، فكأنَّ اللَّذة تتوارث خلفًا عن سلف.
والحقيقة أنَّ الأمثلة كثيرة جدًا في الديوان. لقد وجد أبو نواس في
مجالس اللهو إذن ما يصبو إليه ونعني لذَّة متشعبة الأصناف، لذا تراه
يفاخر بقنصه لها واتخاذها منهاجًا في عيشه قائلاً (مجزوء السريع):
أربعةٌ يحيا بـــــــــــــــها قلبٌ وروحٌ
وبـــــــــــدنْ
الماءُ والبستانُ والـ خمرةُ والوجهُ الحسنْ[67]
وهذا القول يرد على منوال قول طرفة بن العبد:
ولولا ثلاثٌ هنّ من عيشةِ الفتـــــــى وجدِّك لم
أحفلْ متى قام عوّدي
فمنهنَّ سبقي العاذلاتِ بشــــــــــــــربةٍ كُميتٍ
متى ما تعلى بالماءِ تزبدِ
وكريّ إذا نادى المضاف محنّبــــــــــا كسيد الغظا
نبّهته المتــــــــــــــورّدِ
وتقصيرُ يومِ الدّجنِ والدّجنُ معجبٌ ببَهكنةٍ تحت
الخباءِ المعمّــــــــــدِ[68]
إنَّ أبا نواس في رحلة دائمة بحثًا عن الملذَّات قبل
الفوات وقبل "هيهات"، لذا يصبح البحث عن اللذَّة عنده بحثًا عن الذات،
وهو بحث قوامه الاستزادة بلا حدٍّ ولا عدٍّ، ألم يقل (المديد):
تلك لذَّاتي وكنت فتى لم أقل من لذَّةٍ حسبي[69]
على أنَّ في المجلس، علاوة على تعدُّد اللذَّات، معطى
آخر يجعل أبا نواس منشدًّا إلى طلب اللذَّة داخله ألا وهو معطي
المشاركة، فالمشاركة قاعدة رئيسية من قواعد تحسين اللذَّة وتشعيبها،
فأغلب اللَّذات إنما تزداد إمتاعًا متى اغتنمت في جماعة، فلا غرابة
والحال تلك أن تكون الولائم طقسًا احتفاليًا جماعيًا لاغتنام اللذَّة،
ولا غرابة كذلك أن تشكِّل مجالس الأدب والفنِّ وغيرهما فضاء خصبًا
للإمتاع والإفادة الجماعية، وقد فطن الجاحظ قديمًا إلى أنَّ لذَّة
الضحك إنَّما تتضاعف في الجماعة وبالمشاركة فتراه يقول:
فما ضحكت قط كضحكي تلك الليلة، ولقد أكلته جميعًا، فما هضمه إلا الضحك
والنشاط والسرور فيما أظنُّ. ولو كان معي من يفهم طيب ما تكلَّم به
لأتى عليَّ الضحك أو لقضى عليَّ، ولكن ضحك من كان وحده لا يكون على شطر
مشاركة الأصحاب[70].
وعلى هذا الإقرار بقيمة المشاركة في تأجيج اللَّذة سار
"بارجسون" حديثًا فتوسَّع في إطار بحثه النظري الصادر في الربع الأول
من القرن العشرين عن الضحك في شرح هذا المبدأ[71].
ولذلك كثيرًا ما ألحَّ أبو نواس على الجماعة ومن ثمَّ على المشاركة
أثناء وصف لحظات طلب اللذَّة فتراه يتحدَّث بضمير المتكلِّم الجمع في
مثل قوله (الخفيف):
طالعات مع السُّقاةِ علينا فإذا ما غربن يَغرُبن
فينا[72]
كما جعل رحلته في طلب اللذَّة جماعية من ذلك ما جاء في
قصيدة "دار الندامى":
ودارِ ندامى عطَّلوها وأدرجوا بها أثرٌ منهم جديدٌ
ودارسُ
أقمنا بها يومًا ويومًا وثالثـــًا ويومًا له يومُ
الترحُّلِ خامسُ[73]
ويبدو أنَّ مردَّ هذه النزعة نحو الجماعة هو طبع الذات
الإنسانية الميَّالة إلى الألفة والاجتماع النفورة من الوحدة والعزلة،
وما دامت اللذَّة تحقِّق ضربًا من السعادة، فتمام السعادة الاجتماع
للاستمتاع، وقد أقرّ أبو نواس في مواضع كثيرة بقيمة الجليس باعتباره
عنوان اكتمال اللذَّة وعونًا على الظفر بها وذلك في مثل قوله (الكامل):
فالخمرُ طيِّبةٌ وليس تمامُها إلاَّ بطيبِ خلائقِ
الجلاَّسِ[74]
وقوله (الوافر):
ولا بمدافعٍ بالكأسِ حتى يهيِّجني على الطربِ النديمُ[75]
ففي الشاهد الأول، نظر إلى الجماعة من منظور جمالي،
فتمام اللذَّات داخل المجلس في نظر أبي نواس هو حسن طباع الجلساء
الندمان، وفي الشاهد الثاني أقرَّ الشاعر بوظيفة من وظائف الجماعة
والمشاركة عمومًا ألا وهو تهييج النفس، فالجماعة تخرج هذه النفس من
خمولها وسكونها وتستحثُّها على طلب اللذَّات والاستزادة منها، وهي إلى
ذلك تضحك وتسلِّي، وذلك من الأمور التي أثبت العلم أثرها الإيجابي في
النفس وتفطَّن إليها "بارجسون" في سياق حديثه عن قيمة الجماعة
والمشاركة في إنتاج الضحك.
في خلفيَّات التشعيب:
ليست ظاهرة تشعيب اللذَّة في شعر أبي نواس – فيما نرى –
أمرًا من باب المصادفة أو عملاً شكليًا مفرغًا من الخلفيَّات بل هو
نتاج جملة من العوامل والخلفيَّات.
الخلفية النفسية والفكرية:
إنَّ طبع أبي نواس هو الميل إلى اللهو والمجون، إلى طلب
اللذَّات دون انقطاع، وهذا التهافت على اللذَّة، جعله ينشد التنوُّع
الداخلي والخارجي، الكمِّي والنوعي في طلب تحصيلها بغية تمطيط المتعة
وتجديدها. كما أنَّ إحساس الشاعر الفاجع بانسراب الزمن وفناء العمر،
دفعه إلى البحث عن اللَّذة المتشعِّبة باعتبارها "سلاحًا فعَّالاً"
للتسلِّي عن هذه الفاجعة، وكلما كانت اللذَّة متشعِّبة، كان التسلِّي
أعمق والعزاء بالنفس ألصق.
الخلفية الحضارية:
عاش أبو نواس معظم حياته في بغداد، أي في بيئة حضرية،
ونعلم أنَّ هذه المدينة، عاصمة الخلافة العباسية، قد شهدت انفتاحًا
منقطع النظير على الحضارات المجاورة كالفارسية والتركية خاصة، ومن آثار
هذا الاختلاط، تلاقح عادات الأمم وتقاليدها وطقوس احتفالاتها، وممَّا
ترتَّب عن ذلك، اختلاط في مستوى وسائل تحقيق اللذَّة وأطرها التي غدت
متشعِّبة بدورها، وهذا التشعُّب انعكس على تلك اللذَّة التي يطلبها أبو
نواس، فكان في تشعيبه إيَّاها يعكس روح العصر ونبض المجتمع العباسي
المختلط شديد الاختلاط، المتنوِّع غاية التنوُّع على خلاف المجتمع
الأمويِّ الذي كان مكتفيًا في الغالب بالعرق العربي الصرف. هذا من جهة
أولى، ومن جهة ثانية، فإنَّ الذائقة الحضرية ميَّالة بطبعها إلى
المتشعِّب والمركَّب وهي تنفر عادة من كلِّ ما هو بسيط لأنَّ البسيط
مبتذل مألوف على خلاف حياة البادية المنصرفة بالطبع إلى البساطة، فكان
أبو نواس بنزعته إلى تشعيب اللذَّة إنما يعبِّر عن ذوق الحياة الحضرية
التي تحتفل غاية الاحتفال بالمجالس التي تكثر فيها على خلاف البادية
المنصرفة أكثر إلى حياة الجدِّ لا اللهو والترف، والمجلس كما أسلفنا
يعدُّ ظاهرة اجتماعية تعكس نزعة إلى الاحتفال باللذَّة المتشعِّبة. فلا
غرابة والحال تلك أن يعادي أبو نواس حياة البادية ويمجِّد حياة
المدينة، ومن أبرز دواعي ذلك، اعتقاده الراسخ أنَّ اللذَّة المتشعِّبة
لا تكون إلا في حياة حضرية (البسيط):
لتلك أبكي ولا أبكي لمنزلــــــــــــة كانت تحـــــــلُّ
بها هندٌ وأسماءُ
حاشا لدرَّةَ أن تُبنى الخيامُ لها وأن تروح عليها الإبلُ
والشاءُ[76]
وقال أيضًا (الوافر):
ولا تأخذْ عن الأعرابِ لهوًا ولا عيشًا فعيشُهمُ جديبُ[77]
والمقصود بالجدب إنما هو غياب اللذَّة والمتعة، ولا
يتعدَّى الأمر ذلك في نظرنا، وليس في البيت كما يظنُّ الكثيرون تحقير
للحياة البدوية في المطلق.
الخلفية الجمالية الفنية:
إنَّ تشعيب اللذة يحقِّق كذلك مطلبًا جماليًا فنيًا
مادام الأدب خصوصًا والفنُّ عمومًا يعدَّان شكلاً من أشكال تحقيق اللذة
وفق المنظور النفسي[78].
إنَّ المزج بين لذَّة الخمر ولذَّة الجنس هو مزج على
المستوى الفني بين غرض الخمرية وغرض الغزل وذلك من شأنه أن يخلق نصًا
شعريًا ثريًا متنوِّعًا من حيث تداخل الأغراض والمواضيع. ومثل هذا
التشعيب يكسر نمطية الغرض الواحد والموضوع الواحد لتتداخل المواضيع
والفنون كالتداخل بين فنِّ الشعر وفنِّ الغناء ليصبح النصُّ الشعريًّ
لوحة فسيفساء تتفاعل فيها الفنون.
الخاتمة:
إنَّ اللذَّة هي محور شعر أبي نواس بامتياز، وقد بدا
لنا الشاعر محتفلاً بها أيَّما احتفال، وقد سعى إلى تشعيبها من خلال
إجراءات مختلفة شديدة التفريع والتنويع، وكلُّ ذلك تمليه طباع نفسية
وفكرية تتصل بالذاتي وأخرى حضارية ثقافية تتَّصل بالموضوعي أو الجماعي
ليتكامل كلُّ ذلك ويولِّد لذَّة الأدب ولذَّة الفنِّ التي لا تقلُّ عن
تلك اللذَّة التي تعلَّق بها أبو نواس. فالأدب هو ترجمان الوجدان
والمكان مادام يمثِّل نقطة التقاء النزعة الذاتية والنزعة الاجتماعية
التي تترك بصمة على الشعر فتتأكَّد لدينا مقولة التفاعل بين الأدب
والواقع الاجتماعي.
*** *** ***
قائمة المصادر والمراجع:
المصادر:
-
الديوان،
تحقيق سليم خليل قهوجي، ط2، دار الجيل، بيروت، 2003.
-
الديوان،
تحقيق محمود أفندي واصف، ط1، المطبعة العمومية، مصر، 1898.
المراجع:
-
هنري بارجسون، الضحك، تعريب د. علي مقلد، ط1، المؤسَّسة الجامعة
للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت 1987.
-
الزوزني، شرح المعلَّقات السبع، دار الجيل، بيروت، د.ت.
-
سيغموند فرويد، الموجز في التحليل النفسي، تعريب سامي محمود علي
وعبد السلام القفّاش، دار المعارف، القاهرة، 1980.
-
سيغموند فرويد، ثلاثة مباحث في نظريَّة الجنس، تعريب جورج
طرابيشي، ط2، دار الطليعة، بيروت، 1983.
-
مبروك المنَّاعي، في إنشائيَّة الشعر العربي، ط1، دار محمد علي
ومركز النشر الجامعي، تونس، 2006.
-
كارل غوتساف يونغ، علم النفس التحليلي، تعريب نهاد خيَّاطة، ط2،
دار الحوار، اللاذقية، 1997.
-
Bachelard :
l’eau et les rêves éd.J.Corti.
Paris 194