نجيب محفوظ:
"الإخوان خازوق ربَّاني"
محمود الزيباوي
في
الذكرى السابعة لرحيل نجيب محفوظ، استعادت الأوساط الثقافية المصرية
مواقف صاحب "الثلاثية" وآراءه في المجتمع والسياسة والدين، ورصدت بشكل
خاص قراءته لظهور حركة "الإخوان المسلمين" ونموِّها في نتاجه الأدبي
الواسع، وذلك بعد مرور عام على تولي هذه الحركة الحكم، وما خلَّفته هذه
التجربة القصيرة من ردود في وعي المصريين. شدَّد البعض على ليبيرالية
الكاتب وعدائه المبطَّن للإسلاميين، ورأى البعض الآخر أنه صوَّر بكثير
من التجرد نمو حركة "الإخوان"، ووصف بشكل غير منحاز صعود نجمها في
العقود الأخيرة من القرن العشرين.
عام 1945، أصدر نجيب روايته، القاهرة الجديدة، وعرف الجمهور
العريض هذه الرواية من خلال فيلم سينمائي مميز عنوانه القاهرة 30،
أخرجه صلاح أبو سيف بعد أكثر من عشرين سنة. تجمع الرواية في صفحاتها
الأولى أربعة شبان يمثلون مصر في تلك الحقبة من تاريخها: الوصولي محجوب
عبد الدايم، الإسلامي مأمون رضوان، الثوري علي طه، والصحافي الطالب
أحمد بدير. يعلن علي طه إيمانه "بالعلم بدل الغيب، والمجتمع بدل الجنة،
والاشتراكية بدل المنافسة". ويعلِّق محجوب عبد الدايم على كلامه بقوله:
"طظ طظ طظ". ويردُّ مأمون رضوان: "الله في السماء، والإسلام على الأرض،
هاكم مبادئي". يبتسم علي طه، ويقول له: "لشد ما يدهشني أن يؤمن إنسان
مثلك بالأساطير".
في هذه المواجهة الودية، يبدو مأمون رضوان مثل "قمقم مغلق على أساطير
قديمة، وعلي طه معرض أساطير حديثة". في موقع آخر من القصة، يقول لنا
الراوي بشيء من السخرية إن مأمون رضوان لقِّب بـ"المهدي غير المنتظر"،
وقيل عنه:
الأستاذ مأمون رضوان إمام الإسلام في عصرنا هذا، وقديمًا أدخل عمرو بن
العاص الإسلام في مصر بدهائه، وغدًا يخرجه منها مأمون رضوان بثقل دمه.
لا يقول نجيب محفوظ إن مأمون رضوان كان من "الإخوان"، غير أنه يُلبسه
ثوبًا إسلاميًا صرفًا. فهو ينكر كل الأحزاب، ولا يعترف بـ"القضية
المصرية"، ويرى بحماسة "أن هناك قضية واحدة هي قضية الإسلام عامة
والعروبة خاصة". "لم يتأثر بموضة الالحاد التي كانت ذائعة بين طلبة
الجامعة على عهده"، و
آمن
بثلاثة أشياء لم ينكرها بعد ذلك طوال حياته: الله، الفضيلة، قضية
الإسلام. فلم يزغ بصره حيال نور الجامعة الجديد، ولبثت صخرة إيمانه
القائمة تنكسر عليها أمواج السيكولوجي والسوسيولوجي والميتافيزيقيا.
تحدى بإيمانه العلم والفلسفة جميعًا، وجعلهما من ذرائعه ومقوماته.
في المقابل، يمثل علي طه مصر الحديثة المنفتحة على الاشتراكية والثورة،
ويجسد محجوب عبد الدايم الانتهازية القصوى. في نهاية المطاف، يسقط
الوصولي الانتهازي، صاحب "الأحاديث المستهترة" الذي عُرف بـ"طز
المشهورة". ويعلِّق مأمون رضوان على هذا السقوط بقوله: "إذا تزعزع
إيمان الإنسان بالله غدا صيدًا سهلاً لكل شر".
يحتج علي طه، فيجيبه: "أنت لك ايمانك الخاص وإن كنت أراه دون الكفاية"،
ثمَّ يتساءل: "ترى أنصير في المستقبل عدوَّين لدودين؟". يضحك الصحافي
الشاب أحمد بدير ويقول: "لا شك في هذا. ستهاجمك هذه المجلة التي
تباركها الآن بتمنياتك، وستتهمك غدًا بالرجعية والجمود، وستتهم أنت
صاحبها، صديقك، بالزيغ والكفر والإباحية، ومن يعش ير!". في الختام،
يبتسم "الأصدقاء الأعداء، وكأنهم يتساءلون معًا: ماذا تخبئ لنا أيها
الغد؟".
"الإخواني" والشيوعي
في الجزء الثالث من الثلاثية، تتجدد المواجهة بين الإسلامي
والاشتراكي وهما هنا شقيقان، أحدهما "إخواني"، والآخر شيوعي. أنجز نجيب
محفوظ هذا العمل الفذ في عام
1952،
ولم يتسنَّ له نشر الجزء الأول منه قبل عام 1956؛ بسبب ضخامة حجمه،
وعدم اقبال الناشرين على طباعته، كما هو شائع. صدرت السكرية عام
1957، وفيها رصد الكاتب تحولات المجتمع المصري بين 1934 و1943. يكبر
أحفاد بطل الثلاثية أحمد عبد الجواد، ويسلك كل منهم طريقه
الخاص. يلتزم عبد المنعم الصلاة، ويدمن قراءة الكتب الدينية، ثم ينضم
إلى جماعة "الإخوان المسلمين"، ويطلق لحيته على
طريقتهم. على العكس، يتبنى شقيقه أحمد مبادئ الشيوعية مبكرًا، فيتوقف
عن اداء الصلاة، وينشر مقالاته في مجلة "الإنسان الجديد"
الاشتراكية. يعقد عبد المنعم الاجتماعات السرية مع رفاقه من "الإخوان"
في مسكنه، ويعقد أحمد اجتماعات مماثلة مع رفاقه الشيوعيين في شقة أخرى
من العمارة نفسها، ويخطط معهم للقضاء على الدين. تعتقل الشرطة
"الإخواني" والشيوعي، ويجد الشقيقان نفسيهما في زنزانة واحدة.
يتابع نجيب محفوظ نموَّ عبد المنعم، ويصوِّر تحوله بعد انضمامه إلى
الجماعة. يتتلمذ عبد المنعم على يد الشيخ علي المنوفي الذي يؤمن بأن
تعاليم الإسلام وأحكامه شاملة، تنظيم شؤون الناس في الدنيا والآخرة،
وأن الذين يظنون أن هذه التعاليم إنما تتناول الناحية الروحية أو
العبادة دون غيرها من النواحي مخطئون في هذا الظن، فالإسلام عقيدة
وعبادة ووطن وجنسية ودين ودولة وروحانية ومصحف وسيف.
يتبع التلميذ أستاذه بحماسة، ويكرِّس نفسه للدعوة التي بشَّر بها مرشد
الجماعة، وهي بحسب تعريف هذا المرشد
دعوة
سلفية وطريقة سنِّية وحقيقة صوفية وهيئة سياسية وجماعة رياضية ورابطة
علمية ثقافية وشركة اقتصادية وفكرة اجتماعية.
تسخر الأم خديجة المتدينة من تطرُّف ابنها، وتسأله: "الدين جميل ولكن
ما ضرورة هذه اللحية التي تبدو فيها مثل محمد بيَّاع الكسكسي؟!".
كذلك، يسخر عمه من "يقينه وتعصبه". يواجه عبد المنعم منتقديه بشدة،
ويردُّ عليهم بحزم. يسأل أحدهم: "وما الإخوان المسلمون؟". يجيب آخر:
"جمعية دينية تهدف إلى إحياء الإسلام علمًا وعملاً، ألم تسمع بشُعبها
التي بدأت تتكوَّن في الأحياء؟". يعلِّق عبد المنعم بصوته القوي: "لسنا
جمعية للتعليم والتهذيب فحسب، ولكننا نحاول فهم الإسلام كما خلقه الله،
دينًا ودنيا وشريعة ونظام حكم". يسألونه: "أهذا كلام يقال في القرن
العشرين؟". فيجيب متحديًا: "وفي القرن العشرين بعد المائة". يعلِّق
المعترض: "احترنا يا هوه بين الديمقراطية والفاشستية والشيوعية، هذا
خازوق جديد". ويضيف الأخ الشيوعي أحمد بسخرية لاذعة: "لكنه خازوق
ربَّاني".
عين
واحدة
تتجلى تحولات الشخصية "الإخوانية" في الفترة الزمنية اللاحقة في أعمال
أخرى لنجيب محفوظ، أبرزها الباقي من الزمن ساعة وحديث الصباح
والمساء. صدرت الرواية الأولى عام 1982، يصور الروائي تقلُّب
"الإخواني" الشاب محمد حامد برهان في الفترة الممتدة من عهد ثورة 1952
إلى زمن توقيع معاهدة كامب ديفيد في عهد السادات. ينشأ هذا الشاب في
بيت وفدي الهوى، ثم ينتقل إلى "الإخوان"، ويبتعد "عن دين أسرته المتسم
بالسماحة والبساطة"، ثم يدخل المعتقل، ويفقد بسبب هذا التوجه ساقه
ويده. يرحب بحركة الضباط الأحرار في البداية، ويرى أنها "إخوانية"
الأصل، وعندما ينصحه والده الوفدي بالابتعاد عن هذه الحركة، يردُّ عليه
حازمًا: "كيف أهجرهم بعد أن تُوِّج كفاحهم بالفوز المبين؟". تنكسر هذه
الصورة بسرعة مع تطور الأحداث، ويخرج محمد حامد برهان من السجن "بعين
واحدة وساق عرجاء" في زمن عبد الناصر، وعندما تتعرَّض مصر للعدوان
الثلاثي نسمعه يقول: "انتهت حركة المجرمين ولكن ما أفدح الثمن". في
مرحلة لاحقة، يعجب "الإخواني"
بسياسة السادات ويحلم بـ"الحلم الإسلامي"، غير أن هذا الحلم يتصدَّع
عند زيارة الرئيس المصري اسرائيل.
تكتمل الصورة في رواية حديث الصباح والمساء الصادرة في عام
1987، وفيها تتقاطع مسيرة سليم حسين قابيل مع مسيرة محمد حامد برهان.
يقول لنا الراوي إن سليم حسين قابيل اتجه "إلى الكتب الدينية في مكتبة
أخيه"، "ولما قامت ثورة يوليو كان في المرحلة الثانوية، فرحَّب بها بكل
حماسة كمنقذ من الضياع"، "وظن أنه بانضمامه إلى الإخوان إنما يندمج
أكثر في الثورة، فلما وقع أول تناقض بين الثورة والإخوان أبقاه قلبه مع
الإخوان". "والتحق بالحقوق ونشاطه السياسي أو الديني في تصاعد". بعدها،
كانت "قضية الإخوان الكبرى"، وأضحى أحد المتهمين فيها، وحُكم عليه بعشر
سنين، وقضى تسع سنوات في السجن، ثم خرج منه وأتمَّ دراسته، وعمل في
مكتب "إخواني" كبير. "ولما وقعت الهزيمة الكبرى اعتبرها عقابًا إلهيًا
على حكم كافر". رحل زعيم الثورة بعد هذه الهزيمة، وأحس سليم عندها
بـ"شيء من الطمأنينة"، وتزوج من قريبة له عملت بالتدريس في الخليج،
وحظي بحياة آخذة في الازدهار، "وأنس في حكم السادات مودة ورحمة، ولم
يقلقه إلا التيارات الدينية الجديدة التي انبثقت من الإخوان، ثم شقَّت
لنفسها مجاري جديدة محفوفة بالتطرف والغموض".
في الختام، "أصبح سليم من كتَّاب الدعوة في مجلة الإخوان، ودهمه ما دهم
زمرته من غضب لمغامرة السادات الكبرى في سبيل السلام، وارتدَّ مرة أخرى
إلى عنفوان السخط والتمرد، حتى صدرت قرارات سبتمبر 1981، ورُمي به في
السجن من جديد، ولما وقع حادث المنصة، قال: عقاب إلهي لحكم كافر. وتنفس
الحرية في جو جديد، ولكنه كان قد فقد الثقة في كل شيء إلا حلمه، فمن
أجله يعمل ومن أجله يعيش".
تحقق حلم
"الإخوان" وانهار
بسرعة قصوى. عادت مصر لتبحث عن نفسها في عصر جديد خفت فيه صوت أمثال
علي طه وعلت أصوات تيارات إسلامية عديدة "محفوفة بالتطرف والغموض"،
وعاد السؤال الذي أنهى به نجيب محفوظ القاهرة الجديدة في منتصف
الأربعينات: "ماذا تخبِّئ لنا أيها الغد؟".
*** *** ***
النهار