سورية: الطريق الوطني المهجور، إلا من...؟!

 

حبيب عيسى

 

(1)

كنت قد اعتمدت قاعدة أساسية حكمت سلوكي على مدى العقود المنصرمة تقوم على مبدأ يقول: "كلما خفضَّت من حاجاتك ارتقيت بحريتك". وفي التطبيق السياسي لهذا المبدأ نقول: بقدر ما توازن بين قدراتك الذاتية وأهدافك، بحيث يكون اعتمادك على ذاتك أساسيًا بينما اعتمادك على العوامل الخارجية ثانويًا، بقدر ما تمتلك من حرية القرار والإرادة، وإذا كانت السمة الأساسية للعصر الحديث هي العولمة، والترابط والتداخل والصراع بين المصالح الامبراطورية لقوى واحتكارات دولية تبتكر كل يوم أدوات جديدة "ناعمة" للتحكم والسيطرة والإخضاع واستلاب إرادة الشعوب بحيث تأتي القوة العسكرية المباشرة كخيار أخير، وليست كخيار أولي، كما كانت الحال في الامبراطوريات التقليدية، فإن مجرد التفكير بالانعزال عن المؤثرات الخارجية، والعمل دون أخذها في الحسبان ضرب من الوهم المدمِّر، لكن الكلمة الفصل في الموضوع هي: كيف تتعامل مع المؤثرات الخارجية؟ تقاوم بعضها، تحيِّد بعضها الآخر، تستفيد من مساندة البعض الثالث، تمتلك معرفة التناقضات بين المصالح الخارجية دون أن تنجرف لتكون ورقة تلعب بها الأطراف المتصارعة، ودون أن تحوِّل وطنك إلى ملعب لكل من هبَّ ودبَّ.

(2)

وإذا كان ما تقدم أفكارًا عامة مجردة، فإن التعامل الموضوعي معها واقعيًا في الوطن العربي عامة، وفي سورية على وجه الخصوص، يعطيها أبعادًا إضافية، ذلك أن التاريخ والجغرافيا والديموغرافيا قد أعطت هذه المنطقة من العالم أبعادًا تتشعب في الاتجاهات الأربع من هذا الكوكب، فهي أرض مقدسة طهور بالنسبة للبعض يحجُّون إليها من مكة إلى القدس، ومن رباطات البصرة حتى زوايا المغرب، وهي عقدة مركزية بالنسبة للبعض الآخر يسعون للتحكم بها كونها تتحكم بالتواصل بين أطراف هذا العالم، وهي مخزن للثروات الباطنية الاستراتيجية عند البعض الثالث يتسابقون لنهبها، وبالتالي من الطبيعي أن تتصارع القوى الطامحة للسيطرة الامبراطورية ليكون لها موطئ قدم هنا حتى يكون لها شأن في هذا العالم، وعبر التاريخ كان الحلم الإمبراطوري لأي إمبرطور في التاريخ البشري يبدأ، وينتهي بين المحيط والخليج العربي.

(3)

وإذا كان هذا مفهومًا، ويجب أن يكون كذلك، فإن جوهر الغاية من هذا الحديث ليس إلقاء تبعة ما يجري في الوطن العربي على قوى الهيمنة الخارجية شرقًا وغربًا، وكذلك ليس تحميل المسؤولية لأنظمة الاستبداد التابعة لها، فهذه وتلك تنفذ أجندات وضع اليد الغاصبة داخليًا وخارجيًا على الوطن، جوهر الموضوع هو كيف، ومتى، وبأية أدوات يمتلك المواطنون في هذا الوطن حرياتهم وقرارهم وإرادتهم لمواجهة طغاة الداخل وغزاة الخارج فيحررون ويتحررون، ويجنبون وطنهم صراع الإمبراطوريات عليه، ليتحول من ساحة للصراع عليه إلى مركز إشعاع حضاري وإنساني كما يجب أن يكون فعلاً؟ ثم كيف يمكن أن يكون المواطنون في هذا الوطن مواطنين حقًا ينتمون لوطنهم وتاريخهم وهويتهم الوطنية وعقائدهم وثقافاتهم يتعاقدون فيما بينهم بموجب عقد وطني للتطور والبناء والتقدم بما يزخر به وطنهم من ثروات بشرية ومادية؟ كيف لا يكونون أدوات ولا تابعين ولا وكلاء للغير في الهيمنة والنهب؟ كيف يقاومون العدوان على وطنهم من أية جهة كانت، فلا يكونون ضحايا في خنادق الغزاة شرقًا وغربًا، ولا أمعات في أجهزة الطغاة شمالاً وجنوبًا؟ ثم، وفي الوقت ذاته، كيف يتحالفون مع الجماعات الإنسانية الحية استنادًا إلى مبدأ إنساني يعتمد المساواة والعدالة ومقاومة الظلم والاستغلال والعدوان من أي طرف كان، وتحت أي ادعاء للوصول إلى نظام عالمي عادل يضع حدًا للظلم والنهب والعدوان على الإنسان وحقوقه الأساسية في كل زمان ومكان من هذا العالم؟

(4)

هكذا، وعلى ضوء تلك المبادئ نحاول، على وجه التخصيص، قراءة المشهد في دولة سورية كجزء من هذا الوطن الممتد بين المحيط الأطلسي والخليج العربي، فالثورة في سورية ليست من تداعيات الربيع العربي، وحسب، وإنما الربيع العربي ذاته من تداعيات "ربيع دمشق" الذي كانت رياحه المحملة بأريج الياسمين قد انطلقت قبل عقد من الزمان في عام 2001 حينها نجحت قوى الهيمنة داخليًا وخارجيًا في صدها، لكنها عادت تهبُّ في عام 2011 محملة بأريج ياسمين قرطاج، إلا أن السلطة في سورية عبر أجهزتها المخابراتية القوية كانت قد أجهزت على التجمعات السياسية الضعيفة أصلاً مما أدى إلى وهن شديد في النسيج الاجتماعي، صحيح أن السلطة كسبت جولة، وأنهكت قوى التغيير، بل وعزلتها، وأبعدت الخطر عن القوى المتفردة بالسلطة، لكن ذلك فتح أبوابًا لا حصر لها لتخريب النسيج الاجتماعي والنكوص إلى علاقات ما قبل المواطنة مما سهل عمليات الاختراق الداخلية والخارجية عبر نبش تاريخ طويل من الصراعات الطائفية والعرقية والمذهبية والمناطقية، وفي الوقت ذاته فإن السلطة التي اعتقدت أنها انتصرت بتهميش القوى المطالبة بالتغيير الديموقراطي خرجت هيا الأخرى ضعيفة لفقدانها الحاضنة الوطنية العريضة مما اضطرها لنسج علاقات إقليمية ودولية غير متوازنة، هكذا عندما هبت رياح الربيع العربي من قرطاج وانطلقت شرارة الثورة من قبل شباب ثائر ومن خارج أطر الحركات السياسية التقليدية المهمشة والعاجزة. كان النسيج الاجتماعي ضعيفًا، والحركات السياسية شبه غائبة عن الفعل والتأثير، والسلطة بدورها متشرنقة على نفسها تصم آذانها عن نبض الشارع، فبدأ الصراع بداية بين ضعفاء  يخوضون صراعًا إلغائيًا لا هوادة فيه فكل طرف لا يقبل إلا بالهزيمة الماحقة للطرف الآخر، ومع تطور الصراع ليكون صراعًا داميًا بدأت حاجات الأطراف كلها تتفاقم للدعم الخارجي، أو كما يقال بات لكل طرف داخلي في الصراع خارجه الخاص الذي يستقوي به على الآخر، أو على الأصح بات كل طرف داخلي في الصراع الدامي تابعًا لأجندة خارجية بيدها القرار سواء كان ذلك على دراية منه، أو في غفلة منه. وزاد من خطورة الموقف أن القوى المتصارعة في سورية من قمة السلطة وحتى قاع المجتمع وما بينهما لا تخوض هذا الصراع الدامي في محيط محايد، وإنما تخوضه في ظل قوى إقليمية ودولية تتصارع فيما بينها على سورية بذات الحدة التي يشهدها الصراع الداخلي فيها، والمشكلة الأساسية في ذلك كله أن عناصر الصراع الداخلي حسمت مواقفها منذ اللحظة الأولى بانعدام أي حل أو تواصل داخلي فيما بينها وتصرفت من منطلق: إما قاتل أو مقتول. قالها النظام بوضوح تام، ثم تطور الخطاب المقابل إلى مثله، وبدأ نهر الدم يفيض، ومع تطور الصراع وامتداده زمنيًا تقلصت القدرات الذاتية لدى الأطراف المحلية وتفاقمت في الوقت ذاته حاجات كل الأطراف المتصارعة من هنا وهناك للقوى الخارجية حتى تتمكن من الصمود واستمرار الحلم بالنصر على الآخر، وشيئًا فشيئًا بدأت الإمكانيات الذاتية للأطراف المتصارعة داخليًا تنضب، وبات وجودها من عدمه يعتمد على الدعم الخارجي إقليميًا ودوليًا، شرقًا وغربًا، وبالتالي بدأت القوى الداخلية تفتقد القرار والإرادة، وتحولت من لاعب على الساحة الداخلية الوطنية إلى أوراق ملعوب بها على طاولة يتحلق حولها عتاة مافيات العالم وقراصنة العصر ومحتكري ثروات الشعوب وأسلحة القهر والهيمنة على هذا العالم.

(5)

وإذا كنت قد لجأت إلى مبدأ الحاجة والعجز الذاتي لتفسير تخلي القوى الداخلية المتصارعة عن قرارها وإرادتها، وعن مبدأ السيادة الوطنية، فإن الغاية من ذلك لم تكن تبريرية من جهة، كما أنها ليست تهربًا من كيل السباب والشتائم والاتهامات بالخيانة الوطنية والارتهان للهيمنة الخارجية التي يتبادلها أطراف الصراع، وحسب، وإنما لأن الواقع الموضوعي للصراع وحيثياته قد فرض موضوعيًا على الأطراف المتصارعة داخليًا، بغض النظر عن النوايا، التبعية للأجندات الخارجية المتناقضة، وإذا كان أنور السادات قد أقر بشجاعة أنه سلم 99% من أوراق اللعبة طواعية لدولة لولايات المتحدة الأمريكية، فإن 1% التي توهم أنه احتفظ بها قتلته بعد ذلك، وكان هذا درسًا بأن التبعية تكون مطلقة، فليس هناك تنازل عن نصف إرادة، أو نصف قرار، فالعجز الذاتي يدفع صاحبه لطلب العون من طرف ثالث للانتصار على خصمه، والطرف الثالث لا يقدم العون لتحقيق أهداف المتصارعين، وإنما يقدمه خدمة لمصالحه، هو، مما يضطر الطرف الذي يطلب العون إلى التنازل راضيًا، أو مرغمًا عن قراره المستقل، والسير وفق أجندة مصدر الدعم والقوة، وبقدر ما يتفاقم العجز الذاتي والحاجة للدعم الخارجي بقدر ما تتحول القوى المحتاجة والعاجزة إلى قوى تابعة للقوى الخارجية تتخذ القرار بالتبعية، مرغمة على ذلك، أو بكامل إرادتها المفقودة أصلاً.

كان ما تقدم المشهد السلبي من الصورة القاتمة للقوى التي تطفو على السطح في الداخل والخارج والتي يتم إبرازها من خلال أجهزة الإعلام، فيبدو المشهد في سورية ليس دمارًا في العمران، وحسب، وإنما كائنات تتنافس في إبراز البشاعة والتوحش من كل الأطراف، ويتم التعتيم عمدًا ومع سبق الإصرار على الظواهر الإيجابية الوطنية النبيلة التي يعبِّر عنها الشعب الأصيل العظيم الذي يتلمس طريقه الوطني ليمتلك إرادته الوطنية وقراره الوطني، ويبدو ذلك جليًا من خلال جيل شاب اكتشف من خلال المعاناة والمآسي ضرورة بناء مؤسساته السياسية الوطنية الحامل الموضوعي لأجندة الوطن وهو ماض في عملية التأسيس بعد أن طفى كل هذا الزبد على السطح والذي سيذهب جفاء، إنه جيل وطني يولد من رحم المأساة خبر الخنادق الطائفية والعنصرية والمذهبية ومخاطرها وقرر مواجهتها، وخبر الأجندات الأجنبية وشرورها، وقرر الاعتماد على إمكانياته الذاتية، وأن يقلع شوكه بيديه، وأن يسلك الطريق الوطني المستقل لاستعادة السيادة الوطنية والاعتصام بقيم المواطنة المتساوية، هذا الطريق الوطني الذي هجره الكثيرون عجزًا أو ضعفًا أو نفاقًا، إنه جيل لن تروه على الفضائيات، ولا تراه تلك الفضائيات، إنه في الميدان الوطني يقاوم الاستلاب والتبعية ويرفع رايات الحرية والكرامة، ويؤسس لوطن العدالة والحرية والمواطنة والمساواة.

*** *** ***

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني