الكتاب المقدس وشؤونه في مؤلَّفين

 

ترجمة وإعداد: معين رومية

 

طوال ألفين أو ثلاثة آلاف عام وحتى الآن، وفي ثقافات كثيرة وحضارات كثيرة، تعاملت المجتمعات مع نصوص محددة بأسلوب خاص مُلفت. هذه النصوص التي نسميها الكتب المقدسة استُدعيت في التاريخ البشري كي تخدم فكرة تشمل مواقف متعددة. لكن ربما علينا التذكير أولاً أن "الكتاب المقدس Scripture" مصطلح غربي خُصص للعهدين القديم والجديد اللذين حظيا بإجلال اليهود والمسيحيين، وإن بشكل مختلف، ولم يخضع هذا المصطلح ولا مضمون ما يمثله إلى إعادة نظر إلا بصعوبة وفي وقت متأخر. ولذلك تأخر ما نعرفه الآن من اختلافات عبر القرون، عدا عن الاختلافات بين المجتمعات والنصوص والمعالَجات، كما لم يُفكَّر مليًا وبكفاية لا بالتشابهات ولا بالتباينات. ويظهر من الفحص الدقيق أن تحول كتاب إلى كتاب مقدس ليس خاصية أصلية لنص معين، أو لنوع من النصوص، بقدر ما هو علاقة تفاعل بين ذلك النص وجماعة الناس (حتى لو أن هذه العلاقة لم تكن ثابتة)، بل لعل المرء يتحدث عن ميل واسع للتعامل مع النصوص وكأنها "كتب مقدسة": أي ثمة نزوع لدى البشر لتقديس كتاب.

كيف نتعامل مع مثل هذه القضايا؟ لقد طرحت أغلب المجتمعات على بساط البحث نظريات لتفسير ما جرى في الحالة الخاصة لكتابها المقدس. ونادرًا ما التمست هذه النظريات شرح الحالات الأخرى، أو فهم الأمر في عموميته. درس الأكاديميون بعناية نصوصًا متنوعة؛ لكنهم نادرًا ما اعتبروا انخراط الناس وتفاعلاتهم مع هذه النصوص. وكثيرون سلَّموا بأن المجتمعات الدينية لها كتب مقدسة، لكن قلة هم من سألوا: لماذا؟ إحدى الحقائق واضحة وذات أهمية حيوية من منظور مقارن: كان دور الكتاب المقدس في الحياة الإنسانية هائلاً - في التنظيم الاجتماعي وفي الإيمان الفردي وفي الحفاظ على النماذج الاجتماعية وفي التغيرات الثورية، وبالطبع في الفن والأدب والنظرة الفكرية. وباعتبار التنوع فإنه لا يسهل تقديم وتطوير تصور للكتاب المقدس يتجنب الإفراط في التبسيط. وباعتبار السلطة والاستمرارية فإنه لا يسهل تطوير تصور للكتاب المقدس يتجنب التقليل من أهميته الواسعة النطاق في تاريخ العالم وصولاً إلى أيامنا الحاضرة.

طوال مدة اعتمد الغربيون، بمن فيهم العلمانيون، عن وعي أو عن غفلة، على فهمهم للعهدين القديم والجديد لتوسيع المعنى الذي قدموه للكتاب المقدس في جميع أنحاء العالم. لكن التحرك صوب فهم حديث ومعاصر للكتاب المقدس يستلزم أكثر من ذلك؛ يستلزم تعزيز فهمنا لما يعنيه في المآل أن نكون بشرًا - ما الذي عناه ذلك، وما الذي يمكن أن يعنيه، وما الذي يجب أن يعنيه.

يسمع معظمنا كلمة "كتاب مقدس" من دون أن يرتبك إزاءها، وباستخدامنا لها نعطي انطباعًا، حتى لأنفسنا، بأن ثمة فهم لمعنى المصطلح؛ وأننا جميعًا نعرف ما هو الكتاب المقدس. أما بمزيد من التفكر فينقلب الأمر تمامًا.

والموضوع ينبغي بحثه في سياق تاريخي مقارن لأن ظاهرة الكتاب المقدس نشأت في سياق سيرورة تاريخٍ نحن منخرطون فيها. وأحد عناصر أطوراها الراهنة هو ما يمكننا رؤيته الآن من تطور ونحن مشتركون فيه ويمكننا فهم ذواتنا بوساطته، وفي الحقيقة نستطيع الآن إدراك أن حالتنا لا يمكن فهمها أبدًا بطريقة أخرى.

إن الوعي الذاتي محوري لكن بشرط أن يكون وعيًا ذاتيًا مشتركًا ولذلك يتعذر الانفكاك من المنظور المقارن. لقد وضعنا التاريخُ جميعنا على الأرض في نموذج من الجدائل المتضافرة ونحن على وعي بهذه التعددية، ولا يمكننا فقط الوعي بها بل علينا إذكاؤها لأن ما تقوم به أي جماعة على الأرض يؤثر في مستقبل الجميع. ولا ينبغي قصر معنى "التاريخ" على الماضي بل النظر إلى السيرورة المتواصلة، فالحاضر تاريخي تمامًا كما هو الماضي وكذلك الأمر مع القرون الآتية. هذا هو معنى التاريخ الذي يجب اعتباره عند البحث في ماهية الكتاب المقدس.

إن الكتاب المقدس واقع ومفهوم ورثناه وانحدر إلينا من الماضي ومتضمَّن الآن في عالمنا الحديث المتعدد. لكن فهمه لم يكن مطردًا مع الحالة التي وصلناها في ميادين المعرفة الأخرى، وقد حان الوقت لتكوين مفهوم جديد له. كما أن فهمنا لما يعنيه كوننا بشرًا لم يتساوق مع معرفتنا الحديثة في مجال ما يعنيه الكتاب المقدس.

إن الكتاب المقدس طالما كان مختلفًا عما نتخيله وهذا يشمل أمرين جوهريين. لقد كان أكثر أهمية وبطرق أكثر ولشعوب أكثر مما اعترفنا به سابقًا. ومن جهة أخرى فإنه كان متنوعًا بأكثر مما أدركنا ذلك. ولذا ينبغي في المقام الأول اعتبار هذا التنوع. وعليه تبدو الحاجة ملحة لتطوير فكرة أكثر حذقًا ودقة حول ما يعنيه الكتاب المقدس وحول دوره في الحياة البشرية.

لقد طرأت في الغرب عدة أشياء تخص فكرة الكتاب المقدس. أحدها لخصته في القرن التاسع عشر الجدالات والنقاشات التي ثارت بخصوص الفصل الأول من سفر التكوين والتحول الذي حدث في الفهم الغربي لكل من الكتاب المقدس والكون. ونحن الآن نعيش عواقب تلك الأزمة. في أواسط القرن التاسع عشر تحولت قطاعات جوهرية من المجتمع الغربي وانزاحت بعيدًا عن الدين وعن التفكير في الكتاب المقدس. وفي حالات كثيرة تخلُّوا عن المفهوم القديم للكتاب المقدس(التوراة خصوصًا) بوصفه كلام الله وآخرون اختزلوا المصطلح إلى كونه مرادفًا للتوراة. أما أغلبية المسيحيين وبالأخص البروتستانت فقد احتفظوا بكون التوراة عنصرًا مهمًا في حياتهم المسيحية المعاشة وليس فقط في طقوسهم الكنسية. والأمر ذاته حصل مع اليهود. وفي كلتا الحالتين أصبح دور الكتاب المقدس أقل أهمية ومفهومه أقل وضوحًا. أما الليبراليون وغير الأصوليين والعلمانيون فقد اشتركوا في عدم عزوهم إلى الكتاب المقدس أي وضعية ميتافيزيقية أو أخروية وقدموا مرجعيات وإحالات أخرى في تفسيرهم لقداسة الكتاب.

كان لهذه النظرة الجديدة نتائج إيجابية كبيرة. وهذا البحث ينطلق من كلا المنظور العالمي الذي تم افتتاحه بإدراك تعددية الكتب المقدسة، والثورة التي شقت طريقها في الفهم الغربي للعهدين القديم والجديد بوصفهما كتابًا مقدسًا، متماشيًا مع الإنجازات المؤثرة في التفسير التي حدثت منذ تلك الثورة.

إن البحث في ماهية الكتاب المقدس يهدف للوصول إلى أبعد من ذلك؛ إلى رؤية أكثر شمولاً وتحديدًا خصوصًا عبر تقديم معنى ديناميكي وإنساني. وأحد إنجازات الغرب الحديث في الموضوع تمثلت بالحركة بعيدة الغور لمدرسة النقد التاريخي في درسها لنصوص العهدين القديم والجديد. فقد اهتمت هذه الحركة بتلك النصوص لجهة الشكل والمعنى الأصلي لها وخلفيتها وبيئتها التاريخيتين مع بناء وجهة نظر حول الوضعية التاريخية التي انبثقت منها، والمعنى الذي لحق تاليًا بالكلمات التي لُفظت في الأصل. ولكن ثمة مفارقة، فمن وجهة النظر التاريخية لم تكن هذه النصوص تمثل كتابًا مقدسًا عند نشأتها، بل فقط فيما بعد، الممارسةُ التي نشأت عن التعامل بطريقة مقدسة مع هذه الكتابات أدت إلى انبثاق مفهوم الكتاب المقدس. لقد ظلت دراسات العهدين القديم والجديد تضع مفهوم "الكتاب المقدس" جانبًا وتتعامل مع نصوصهما كأي نص آخر، لكن دراستنا، خلافًا لذلك، تُعنى عن عمد بالدور الذي أدوه بوصفهم كتابًا مقدسًا على مدى القرون. ونوضح ما الذي يعنيه اكتسابهم هذه الصفة الإضافية، ذلك أنهم منذ تلك اللحظة بات دورهم في حياة المجتمع وفي الإيمان الشخصي دورًا غنيًا ومعقدًا وشديد النفوذ.

وإذا كان النقد التاريخي يدرس نصوص العهدين القديم والجديد في طورها ما قبل المقدس فإن النقد الأدبي إذ يطبق عليهما مفاهيمه وأفكاره ويتعامل معهما كأي نص أدبي آخر فإنه يعالجهما في طورهم ما بعد المقدس. وسط ذلك كله كان دور النصوص بوصفها كتابًا مقدسًا قويًا وغنيًا ولا يزال كذلك.

إن لحظ هذا الدور بدقة يتطلب إدراك الطابع التاريخي الأساسي للكتاب المقدس لجهة خاصيته في التغير عبر الزمان والمكان وكيفية انخراطه في حياة الأشخاص والمجتمعات في سياقات محددة.

ويتطلب أيضًا إدراك كيفية اندماجها في الواقعي بوصفها جزءًا متكاملاً مع السيرورة التاريخية المتواصلة. فهذه قضايا لا يمكن تنحيتها جانبًا أو القفز فوقها لكي نفهم الكتاب المقدس بحد ذاته بعيدًا عن التغيرات التي لحقت بدلالاته ومعانيه. فهذه التغيرات هي المسؤولة عن صيرورة النصوص مقدسةً وكوَّنت خاصية التقديس الجوهرية فيها.

وهذه التغيرات حدثت في الكتب المقدسة على مستويات متنوعة ومن أنواع متعددة. وأكثر ما يلفت الانتباه تلك التغيرات عبر الأزمنة والأمكنة التي حدثت في تأويل نص مقدس معين (سورة أو آية أو فقرة أو إصحاح) وهذا يمكن إقامة الدليل عليه من أي نص مقدس. مهما كان النص مستقرًا فإن مجرد كونه مقدسًا يجعل تأويلاته تتغير وتتنوع.

والأمثلة التي يمكن سوقها في هذا الصدد عديدة. لقد ركزت الدراسات في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين على سفر التكوين وحصلت نقاشات بارزة وإعادة تأويل جذرية له لدى الجماعتين المسيحية واليهودية. كما خضع إنجيل يوحنا لتأويلات مماثلة وبأساليب متنوعة. وغصت الجامعات بأطروحات الدكتوراه التي تتوجه نحو الكتب المقدسة الأخرى لدى الهنود والمسلمين واليابانيين وغيرهم راصدة كيفية تغير تأويلات هذه الكتب في بلدان وقوميات ومجتمعات معينة.

وكان للقراءات المتباعدة للرسالة ذاتها مضامين بعيدة المدى، وكان هذا أول نوع من التغيرات التي تلحق بمجموعة من الكتابات. والنوع الآخر من التغيرات يتعلق باختلاف التركيز تبعًا للجزء المعتبر من كتاب مقدس ما. ففي الكنيسة المسيحية مثلاً، كان ظهور الإنجيلية الاجتماعية (وهي حركة في البروتستانتية الأميركية ترمي إلى جعل النظام الاجتماعي منسجمًا مع تعاليم المسيح) في أمريكا وأماكن أخرى قد جعل تركيزًا جديدًا يتوجه نحو أنبياء العهد القديم. ويمكن أيضًا التحدث عن الانزياحات من إنجيل يوحنا إلى الأناجيل الإزائية. والأكثر إثارة تلك الانزياحات في التركيز من الأناجيل عمومًا إلى الرسالة إلى أهل روما العائدة إلى بولس. كل ذلك مما يضع أمام السوسيولوجيين موضوعات هامة لدراسة أثر مثل هذه التغيرات التاريخية.

وحصل وضع مشابه في الحالة البوذية. فقد برزت اتجاهات جديدة تبعًا للتركيز الذي يُعطى إلى هذا الكتاب المقدس بدلاً من آخر، أي إلى سوترا sutra بدلاً من أخرى. وفي القرآن تؤكد آيات معينة أن كل الأفعال تحدث بمشيئة الله وأمره، في حين توحي آيات معينة أخرى بدور المبادرة والحرية والمسؤولية البشرية. وقد حصل تاريخيًا في مراحل مختلفة أنه بحسب الظروف كان التركيز، سواء فرديًا أو مجتمعيًا، ينصب على الآيات التي تتوافق معانيها مع تلك الظروف. إن انهيار الحضارة الإسلامية ترافق مع اتجاه واضح للإيمان بالجبرية والتركيز على فقرات ومقاطع من القرآن تعزز القول بالجبرية. هذا، في حين أن القرون التي شهدت ازدهار الحضارة الإسلامية شهدت تركيزًا على الفقرات التي تعزز القول بالحرية والمسؤولية البشرية.

وعمومًا انزاحت الدراسات من الخاص إلى العام: من الكلمة الغربية "كتاب مقدس" التي تشير إلى العهدين القديم والجديد إلى سلسلة واسعة من النصوص حول العالم دعيت كتبًا مقدسة. فالقرآن أصبح، بنظر الغربيين، الكتاب المقدس للمسلمين، والتاو تي تشينغ الكتاب المقدس للتاويين، وغيرها. وقد تعزز هذا الأمر عندما صدر عن أكسفورد في العام 1879 خمسون مجلدًا عنونت "الكتب المقدسة للمشرق" وشكل صدورها حدثًا مهمًا في تاريخ الثقافة الغربية.

وأول نتائج هذا الحدث كان في إدراك التنوع والاختلاف بين الكتب المقدسة سواء في المحتوى أم في المفهوم خصوصًا لجهة العلاقة بين الشفوي/السماعي والمكتوب/المرئي. وقد لفت هذا الأمر نظر الغربيين إلى أن هذا الاختلاف موجود أيضًا في تراثهم المسيحي-اليهودي.

ويمكن للمرء أن يلاحظ عبر الانتشار الواسع للنصوص المقدسة في العالم استخدامًا مزدوجًا لها أحدُ جانبيه هو تلاوتها أو قراءتها بشكل أساسي، والثاني الشكل المكتوب لها الذي كان ثانويًا أحيانًا، علمًا أنه في حالات متعددة كان ثمة انزياح من أحد الجانبين إلى الآخر ببطء أو بسرعة. لكن الملاحظ أنه في القرآن كان ثمة ارتباط وثيق بين الجانبين.

وإضافة إلى هذا التمييز بين الكتابي والسماعي، ثمة أمور عديدة أخرى تختلف فيها الكتب المقدسة فيما بينها، أو قد تختلف في الطريقة التي يتم تلقي أحدها من قبل مجموعات مختلفة أو في مراحل مختلفة ضمن المجتمع الواحد. ففي بعض العصور، أدت بعض الكتب المقدسة دور قوة لا تضارع في إسناد لحمة المجتمع وترابطه؛ وفي عصور أخرى أدت الكتب نفسها دورًا في تعزيز قدرة الفرد على مجابهة مجتمعه. وقد كانت بعض الحركات الدينية شديدة الحماسة لترجمة كتبها المقدسة إلى لغات أخرى، في حين اعتبرت حركات أخرى أن لغة كتبها غير قابلة للترجمة نظرًا لقدسيتها.

وأول مشروع ترجمة كبير في التاريخ البشري حصل في بلاد الرافدين حوالي 200 سنة قبل الميلاد عندما نقلت النصوص المقدسة السومرية إلى اللغة الأكادية. بعد ذلك بألفي عام كان مشروع ترجمة الكتب المقدسة اليهودية إلى اللغة اليونانية، وكذلك التحول من السنسكريتية إلى الصينية فيما يخص الكتب المقدسة البوذية ولقد أثرت هذه المشاريع الترجمية في تاريخ البشرية بعمق كبير تجاوز ترجمات أي نوع أدبي آخر.

الجوانب الشفوية في الكتاب المقدس

إن إهمال البعد الشفوي في الكتاب المقدس لا يؤدي فقط إلى زيادة التركيز على النص المكتوب، بل إن خسارة الجانب الشفوي الأساسي من الكلمة المكتوبة يعني أيضًا خسارة منظور مهم جدًا من الجانب الوظيفي للكتاب المقدس. إن أهمية الكلمة المنطوقة في الكتاب المقدس لا تنبع من قوة نفسانية بدئية أو غامضة تفصلها عن الكلمة المكتوبة أو المطبوعة، وفي نفس الوقت فإن البعد الشفوي ليس هو الجانب الأكثر سحرًا في الكتاب المقدس. لكن هذا البعد الشفوي هو الأكثر حميمية في الأدوار التي يؤديها الكتاب المقدس في الحياة الدينية للجماعات أو للأفراد خصوصًا عندما لا يتعلق الأمر بالمجال الفكري الأخلاقي بل في مجال الحواس، كما يحصل في الطقوس والصلوات.

ثم إن الكلمة المنطوقة من الكتاب المقدس كانت الوسط الأكثر أهمية للجماعات الدينية وأفرادها لمعرفة نصوصهم المقدسة والتفاعل معها. وعبر التاريخ، كان هؤلاء الأفراد الذين لا يحصى عددهم قد تلقوا نصوصهم المقدسة وعرفوها ونقلوا رسالتها شفويًا وليس كتابة. وأبسط دليل على ذلك أنه حتى في العالم الغربي فإن قسطًا بسيطًا من المسيحيين واليهود كان قبل القرن التاسع عشر يعرف القراءة، وينسحب الأمر على بقية الناس المتدينين في العالم أيضًا فهم لم يتمكنوا أبدًا من قراءة كلمة مكتوبة في نصوصهم المقدسة. ولعل هذا الأمر يوضح أن فهم ظاهرة الكتاب المقدس بأسلوب يفي بحقائق التاريخ ينبغي أن يمر عبر النظر في وظيفته كنص تُلي وأُعيد ورُدِّد واستُذكر واقتُبس في المجال الشفوي/السمعي للحياة اليومية.

ثنائية الشفوي/المكتوب

في معظم الأحيان كان النص المكتوب والكلمة المنطوقة يوضعان في موقف التعارض أو في أحسن الأحوال في موقف التتامية وذلك بوصفهما ظاهرتين في السياق الديني تتصلان بالحرف والكلمة. ولعل هذا التعارض يعكسه القول المأثور "الصوت المسموع يتلاشى، والحرف المكتوب يبقى". وإذا اعتبرنا، على وجه الخصوص، دراسة بنيات السلطة [أي الشرعية الدينية] في تاريخ المجموعات الدينية فإن هذا التعارض كان يجد تعبيرًا عنه في ثنائية "الكتاب-التراث". وأحد الأمثلة على ذلك هو الخلاف بين البروتستانت والكاثوليك حول السلطة النسبية لكل من الكتاب المقدس (العهد القديم والعهد الجديد) والتراث الكنسي. والمثال الآخر عن هذه الثنائية هو التمييز اللاهوتي بين القرآن والحديث كمصدرين للسلطة الشرعية الذي توسع على يد علماء المسلمين.

لكن، لا ينبغي لهذه الثنائية أن تحجب رؤية التداخل بين الكلمة المنطوقة والكلمة المكتوبة في النصوص المقدسة. ولذلك، بدلاً من المحاجة بأهمية النصوص الشفوية على حساب النصوص المكتوبة ينبغي التسديد نحو الجوانب الشفوية في النصوص المكتوبة وتدارك الإهمال الذي لحق بهذه الجوانب في كلا الدراسات الأكاديمية الحديثة وفي الاستعمال العام.

ويمكن من الناحية النظرية أن يكون لهذه الثنائية منافعها. لنفترض طيفًا من الخطابات الدينية يتراوح بين تراث شفوي خالص وتعبيراته اللفظية في الصلوات من طرف، وصفحات مكتوبة لنصوص مقدسة من الطرف الثاني للطيف، عندها سنجد تنوعًا واسع النطاق من التوسط أو التراكب بين الكلام المنطوق والكلام الشفوي على مدى الطيف المفترض. وبشكل عام يمثل هذا الطيف متَّصلاً نصيًا يتراوح بين الثقافات "الشفوية البدائية" أو ما قبل الكتابية وصولاً إلى الثقافات الأكثر اعتمادًا على المكتوب والمطبوع. وربما يُرى هذا الأمر تطوريًا على أنه ميل متزايد باتجاه الكلمة المكتوبة.

ولكن، لا ينبغي رؤية هذا الطيف المفترض من زاوية التطور الثقافي فحسب، بل إن مداه يمكن أن يمثل الحاجات النفسية والاجتماعية المختلفة والأنماط المختلفة من التعبير التي تميز سياقات دينية وثقافية متباعدة. إن الكلمة الملفوظة تنقل معها وبامتياز فريد الإحساس بالتلقائية أو المشاركة أو بالانخراط الفردي والجمعي عبر الأثر الحسي الانفعالي للإنشاد والصلاة والابتهال والتسبيح والترنيم والترتيل وتلاوة العبارات الطقسية. إن هذه الممارسات تميز الحساسيات الدينية في الطرف الشفوي من الطيف. ومن جهة أخرى، إن البهجة والمسرة اللتين تغمران قلب المتدين بما يحسه من الحضور الموثوق المطمئن والجميل للنصوص المكتوبة، وكذلك المتعة في تجاوز الصعوبات وحل المشكلات في أثناء دراسة النصوص والتعليقات والتأويلات سواء تعلق الأمر بالمعاني الروحية أو الإرشادية، كل ذلك عوامل جعلت من الكتابة المقدسة موضع توقير وتبجيل بحيث يتم التعامل معها وكأنها حاملة لقوة سحرية عجيبة. وهذه الحساسية البصرية تميز الطرف المطبوع/المكتوب من الطيف الذي افترضناه.

يمكن أن نستفيد من الطيف المفترض بين حدي الشفاهية الخالصة والكتابية في أرقى مستوياتها كي نصف ونقارن تقاليد دينية تاريخية بوساطة النظر في مدى تركيزها على ضروب معينة من الخطاب اللفظي.

هنا نحصل على متصل أو مجال حدَّاه يتوافقان مع مفهومي "دين العبادة" و"دين الكتاب". يوازي المفهوم الأول الشفاهية الخالصة كما نراها في التقاليد الفيدية وبدرجة أقل بعض أشكال الإخلاص لترتيل القرآن لدى المسلمين. أما المفهوم الثاني فيوازي الكتابية الخالصة كما نراها في التقاليد الصارمة الملتزمة بكتبها المقدسة حرفيًا والتي تبالغ في الإجلال، وهذه هي الحال لدى البروتستانت والسيخ وبعض أشكال تقديس التوراة لدى اليهود. ولكن، يجب أن نبقي في الذهن حقيقة أن ثمة تبادلية أو تداخل بين الشفاهية والكتابية نشهدها في الممارسة الدينية الشعبية عندما يُحمل الكتاب المقدس في الاحتفالات الدينية أو يُقبَّل أو يُعلَّق في البيت أو في السيارة تمامًا كما أنه يرتل ويقرأ بصوت جهوري وتنشد مقاطع منه.

ترتبط مشكلة الشفاهية في الكتاب المقدس بجملة من القضايا المهمة في التاريخ العام للدين وكذلك في بحث دور النصوص المقدسة في الدين وثمة ثلاث من هذه القضايا جديرة بالانتباه. أولاً، الوظيفة الشفوية للنصوص المقدسة المكتوبة، وثانيًا: البُعد الحسي للدين، وثالثًا: مكانة الكتاب المقدس في عالم متعدد ثقافيًا لا يزال واقعًا تحت تأثيرات وعواقب الحداثة الغربية.

إن تعليم النص "عن ظهر قلب" يُدخِل النص في مجال الألفة والحميمية التي نعهدها مع أي كتاب حتى وإن كان يُقرأ غالبًا. فعملية الاستظهار هي استيلاء حميم على النص، والقدرة على استدعاء أو تلاوة مقاطع من الذاكرة هي مصدر إلهام يكون جاهزًا تلقائيًا في أي فعل من أفعال التأمل أو العبادة أو الصلاة أو في أي وقت من أوقات الأزمات الشخصية أو الجماعية. ويبدو واضحًا أن العلاقة الشفوية بنص الكتاب المقدس قد عززت الإيمانَ الديني عبر التاريخ. ويتضح هذا أكثر إذا لحظنا حقيقة بيِّنة فحواها (على الأقل في التجربة الغربية) أن تضاؤل الاستظهار والتلاوة للنص المقدس قد ترافق تاريخيًا مع تدهور الإيمان الديني، ومن هنا يبدو أن استقصاء الوظائف الشفوية والكتابية للنصوص الدينية، وبالأخص الكتب المقدسة، يضيء لنا الاتجاهات المتغيرة في الإيمان الديني.

لعل أهمية الجانب الشفوي تتضح أيضا بالسؤال الذي طالما كان موضع بحث وفحواه: هل ثمة صلة بين الاستعمال الشفوي الكثيف للكتاب المقدس وبين حركات الإصلاح الديني؟ إننا مطلعون جيدًا على دعوة الكثير من الحركات الإصلاحية إلى "العودة إلى الكتاب" خصوصًا في السياقين المسيحي والإسلامي، وكذلك في تراثات وتقاليد متنوعة؛ كالبوذية الشعبية لدى جماعة sung china وحركة Arya samaj الهندية في القرن التاسع عشر. ففي هذه الحالات كان الدعاة المجددون يطلعون على "الكتاب" شفويًا، أقله بسبب انتشار الأمية. لكن يظل من المفيد والمطلوب معرفة المزيد حول الطرق والأساليب التي يرتبط بموجبها استظهار وتلاوة الكتاب المقدس بحركات التجديد والإصلاح. ففي هذا الإطار ثمة ارتباط وثيق بين الازدياد السريع في قراءة وتلاوة الكتاب المقدس وبين التشديد الإصلاحي على السلطة والمعنى اللذين يتمتع بهما الكتاب المقدس. وفي هذا السياق فإن تحول النصوص المهمة إلى أن تكون جزءًا من الشخصية الداخلية للمرء عبر الاستظهار والتلاوة يمكن أن يؤدي إلى مزيد من الضبط التربوي أو العقائدي. كما لا يجب أن يغيب عن الذهن أهمية التعزيز الشعبي للإيمان والتقوى والازدياد في الحماسة الشخصية والجماعية الناجمين عن تلاوة الكتاب المقدس للجماعة في كل مناسبة حياتية، من الطقوس إلى الإرشادات والمواعظ. إن التشارك في النص الذي يمكن تلاوته أو ترنيمه هو عامل ارتباط قوي لدى أي جماعة، خصوصًا تلك الجماعات الدينية الإصلاحية الأقلّوية التي تحتاج الرابط الداخلي بين أفرادها مما يعينها على الثبات في مواجه المجتمع الأكبر الذي يعارض توجهها التجديدي والإصلاحي.

تعد القراءة الطقسية للنص مؤشرًا قويًا وراسخًا على مكانته ككتاب مقدس. ومن الواضح أن استخدام النصوص المقدسة في الطقوس هو السياق الأهم والأكثر شيوعًا في الاستخدام الشفوي للكتاب المقدس من دون أن يعني ذلك أن الطقوس تركز فقط على تلاوة وقراءة الكتاب، ومع الأخذ بالاعتبار أن الدور الشفوي للنصوص المقدسة قد يؤدَّى خارج الطقوس والعبادات. وثمة في هذا الإطار اختلافات بنسب متفاوتة. فمثلاً، إن العهدين القديم والجديد لهما في العبادة المسيحية في الكنيسة دور كبير لجهة قراءتهما وتوافق تلاوة نص محدد منهما مع خطوات محددة في الطقس. أما في الإسلام فليس ثمة تركيز كبير على النص أو السورة أو الآية التي ستقرأ أو تتلى في هذه المناسبة أو تلك. ويمكن تقصي أمثلة أخرى من تقاليد دينية مختلفة لكن يبقى القول إن وجود خصائص مشتركة في هذا الموضوع يكمن في الضرورة البيولوجية والنفسانية لأن يتم إعلان وسماع كلمة الكتاب المقدس- قراءة أو تلاوة - على الملأ؛ هذه الضرورة التي هي أهم من الدور الجزئي الذي تؤديه في العبادة الجماعية.

ربما تكون الرسالة الشفوية "غير دقيقة" إلا أن التركيز على النص الشفوي لا يعني التعارض مع حرفية الكتاب المقدس. إن الحرفية تتصل بإدراك سلطة الكتاب المقدس أكثر من اتصالها بشكل التعبير عنه. إن الانتباه المتفحص والورع إلى المقاطع الصوتية من الكلمة التي تُتلى غالبًا ما يتطابق أو يتجاوز الانتباه إلى "الحرف" في الكلمة المكتوبة كما هو الحال في تقليد تلاوة الفيدا. ومن جهة أخرى، ففي حين أن حميمية النص المقدس بكامله ربما تؤدي إلى مزيد من الحرية في استخدام النص وإنتاج ما يسمى "الكتاب المقدس المنطوق"، إلا أن ذلك يمكن أن يقود أيضًا إلى إنتاج تعلُّق بالحرف كمثل الذي نشأ في تقليد تلاوة القرآن. هذه الحرفية لدى المسلمين جعلتهم يشددون دومًا على اللفظ المضبوط لكل مقطع صوتي، أي التجويد، مترافقًا مع الإلحاح في مسألة الطابع المتعالي السماوي الموحى لكل كلمة من النص المقدس للقرآن.

قد تكون إحدى أهم نتائج الوعي بالبعد الشفوي للكتاب المقدس والتركيز عليه هي في إدراك كم يصبح الانخراط الشخصي في الجماعة حيويًا عبر النص المقدس. فالكتب المقدسة ليست مجرد وثائق لسلطة الشرع الديني أو مجرد مصادر للعقائد؛ إنها كلمات حية تولِّد مجموعة منوعة من الاستجابات الانفعالية والجسدية إلى جانب الفكرية والروحية. وفوق ذلك، ليس من المحتمل أن يثير أي كتاب مقدس استجابات متنوعة أكثر مما يثير عندما تتم تلاوته أو ترنيمه في السياقات والمناسبات الحاملة للمعنى من قبيل أوقات العبادة أو التأمل.

لكن عدم الاقتصار على اعتبار الكتب المقدسة مجرد وثائق للسلطة الشرعية الدينية أو مصادر للعقائد يطرح أسئلة المنهجية والمضمون، وعلى الخصوص ما يلي: كيف لنا أن نتبين الطرائق التي نفذ عبرها الكتاب المقدس إلى قطاعات الحياة الدينية البعيدة إلى هذا الحد أو ذاك عن أن تكون نخبوية – أي الجماعات التي ليست معدودة ضمن المفكرين اللاهوتيين أو رجال الدين أو المشايخ أو الكهنة؟ ثم، هل من الممكن فهم أثر الكتاب المقدس لدى الغالبية المجتمعية الأمية أو شبه الأمية التي تقتصر في تعاملها معه على الجانب الشفوي؟ ثم هل يمكن عدم التحيز في الأحكام عند المقارنة بين الأشخاص الذين يلتقون بالكلمة سماعيًا عبر التلاوة أو الترنيم وأولئك الذين يقرؤونها بصمت في صفحات مطبوعة؟ هل هؤلاء الأخيرون أكثر "كتابية" من الأولين؟ وكيف نتعرف الأثر الذي تتركه الكلمة المنطوقة حتى عند ذوي المعرفة بالقراءة، ونميزه عن الأثر الذي تتركه الكلمة المكتوبة التي تقرأ بصمت وخصوصية؟

ليست هذه الأسئلة بيسيرة على الإجابة وقد لا يكون ثمة إجابات دقيقة عنها. إنها تقحمنا في ضرورة اعتبار الدور العاطفي للنصوص المقدسة في الحياة اليومية؛ هذا الدور الذي يطرح مشكلات مهمة تتصل بالمعنى والفهم. كما أنه ليس من السهل ترسيخ وتثبيت أثر النصوص المرتلة بوصفه جزءًا من التجربة المتعددة الحواس وأحيانًا المتناغمة جماليًا للعبادة الجماعية، أو التثبت من أثر اللغة المقدسة للنصوص في السياقات "الأجنبية" ، أي عند المؤمنين بهذا الدين أو ذاك من دون أن يكون لديهم إلمام أو معرفة باللغة التي يُقرأ بها.

لكن ثمة أيضًا إضافةً إلى الجانب الشفوي من الأثر الحسي للكتاب المقدس، جوانب مادية أخرى ينبغي إيلاؤها الاهتمام الكافي. يتعلق الأمر هنا باستعمالات النص المكتوب أو المطبوع - المجلدات، ولفائف الخطاطين، والصفحات المزينة والتعاويذ التي تحوي مقاطع من الكتاب المقدس - كل ذلك يلقي ضوءًا على الطبيعة الوظيفية للكتاب المقدس. كما أن ممارسات مادية معينة من مثل تقبيل الكتاب أو تعليقه على الحائط أو لمسه في الطقوس والشعائر، يمكن إذا ما دُرست أن تضيء أيضًا الخاصية المتعددة الجوانب التي تجعل للكتاب المقدس ذلك الدور المهم جدًا في الحياة الدينية.

معلومات عن الكتابين:

WHAT IS SCRIPTURE?: A COMPARATIVE APPROACH

By Wilfred Cantwell Smith

Published by Fortress Press, 1993

Pages 381

 

BEYOND THE WRITTEN WORD: ORAL ASPECTS OF SCRIPTURE IN THE HISTORY OF RELIGION

By William A. Graham

Published by Cambridge University Press, 1993

Pages 306

      

*** *** ***

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني