انطباعات "من بعيد" عن ورشة مرمريتا

 

لنا عبد الرحمن[*]

 

اطَّلعتُ على المحاضرات ومدارات النقاش في ورشة "اللاعنف، الثقافة، التربية"، التي تمنيت أن أشارك فيها، بدءًا من أفكار المشاركين الذين أحببت طريقة تعريفهم بأنفسهم. أورد فيما يلي بعض انطباعاتي من غير ترتيب. لكن عليَّ، قبل إيرادها، التنبيه إلى عبارة جاءت في وصف شخصية جان ماري مولِّر، حيث قيل: "معتنق اللاعنف هو شخص قوي." أفضل كلمة أخرى على كلمة "معتنق"، لأن جان ماري نفى من البداية أن يكون اللاعنف إيديولوجيا، بينما كلمة "اعتناق" تحيل في الذهن إلى الدين و/أو الإيديولوجيا؛ فالأفضل قولنا فورًا إن "اللاعنفي هو شخص قوي".

أعجبني جدًّا قول جان ماري:

هناك عبارة ملتبسة، برأيي، في قول أحدهم: "أنا أفتش عن السلام مع نفسي." وكثيرون يقولون: يجب أن تبدأ بالسلام مع نفسك قبل أن تهتم للسلام مع الآخرين. السلام لا يتحقق إلا مع الآخر، ولا يُقتبَل السلام إلا من الآخر. وعندما أكون في سلام مع الآخر يمكن لنا، عندئذٍ، – ربما، فلست متأكدًا من ذلك – أن نضفي معنًى على عبارة "السلام مع النفس". إذا كنت أنتظر أن أكون في سلام مع نفسي قبل أن أعمل من أجل السلام مع العالم، فقد أموت قبل أن أعمل سلامًا مع نفسي، ولا أكون قد عملت شيئًا من أجل السلام في العالم!

كما أحببت جدًّا قوله في الفقرة التالية:

فالإنسان، بمعنى ما، حين يصغي إلى ضميره، فإنه يصغي إلى "صوت الله". وقد آل قولُ غاندي: "الله هو الحقيقة" إلى قوله: "الحقيقة هي الله". هناك اختلاف بين هاتين الصياغتين: إذا قلت بأن "الله هو الحقيقة" فهذا قد يُفَسَّر بأن "ديني" هو الحقيقة؛ أما قولي بأن "الحقيقة هي الله" فهو يعني أنني في بحث مستمر عن الحقيقة. وأخيرًا، قال غاندي: "لا دين آخر سوى الحقيقة." وبما أنه قال بأن الحقيقة تتماهى مع اللاعنف فقد آل قولُه ذاك إلى أنْ "لا دين إلا اللاعنف"؛ بل وصل حتى إلى التشديد على هذه العبارة: "الوسيلة الوحيدة لمعرفة الله هي اللاعنف."

ملاحظة أخرى: أعمق آراء جان ماري جاءت في سياق كلامه على اللاعنف الإنساني، ولاسيما في الجزء ما قبل الأخير من محاضرته عن "المبادئ الفلسفية"، حين أتى على ذكر العلاقة الفكرية بين غاندي وتولستوي. بداية النص جاءت صعبة قليلاً. وهذا لا يعني أبدًا أن آراء جان ماري السياسية معقدة؛ لكنه، كما يبدو لي، يكون أكثر سلاسة حين يحكي في الجانب الروحي والإنساني. كلامه على يسوع، مثلاً، رائع!

لفت نظري أيضًا ذكرُ إحدى المشاركات حركةَ "كفاية" في مصر، لأنني أعيش فيها. فقد كونتُ وجهة نظر مختلفة عنها، ليست سلبية تمامًا، لكنها ليست إيجابية في المقابل. الآن، مثلاً، لا يوجد أي صوت لـ"كفاية"، خاصة بعد وفاة عبد الوهاب المسيري، مما يعني أنها لم تكن حركة ناضجة. ليس هذا موضوعنا الأساسي على كلِّ حال.

نصوص المَحاضر عميقة عمومًا، وجديرٌ بالإعجاب فعلاً الجهدُ المبذول في نشرها. أشعر أن عندي كلامًا كثيرًا حول الأمر، خاصة فيما يتعلق بالعنف النفسي وممارسة الأشخاص العنف على أنفسهم. لي صديقة، مثلاً ، أول شيء انتبهت إليه عندها أنها تقضم أظافرها! فيما بعد، حكت لي أنها توجِّه مخزونها من العنف نحو الآخر كلَّه إلى ذاتها. والآن، بعد أن قرأت النصوص، بدأت أفكر في حالتها وحالة أشخاص آخرين أعرفهم وكيف أنهم يمارسون العنف على ذواتهم وعلى الآخرين من دون إدراك كافٍ يدفعهم للتوقف عند سلوكهم.

اطَّلعت كذلك على مَحاضر ورشة مرمريتا 2007. في خصوص النقاش حول محاضرة "جذور العنف"، أحببت جدًّا توضيح ديمتري معنى كلمة "ثقافة" من حيث جذرُها اللغوي. سؤال منى هلال الأول عن علاقة اللاعنف بالدين عميق جدًّا، وكذلك رد ديمتري. سأنقل حرفيًّا السؤال الثاني والجواب وأعلِّق عليهما:

منى هلال: هل تقصد ضرورة الوصول إلى التدين الروحي، كمرحلة أولى، قبل الوصول إلى اللاعنف؟
ديمتري أڤييرينوس: طبعًا لا. اللاعنف مسعى جماعي للبشر قاطبة، ووجودهم بعضهم مع بعض هو نوع من التعاضد والتآزر في هذا المسعى. وإلا ما معنى وجود البشر بعضهم مع بعض؟! أعود هنا إلى تمييز الأستاذ ندره اليازجي بين "التجمع" و"الاجتماع". نحن، بكلِّ أسف، نشاهد "تجمعات" عقائدية أكثر مما نشاهد "اجتماعات" دينية غايتها الارتقاء بالمجموع إلى سوية وعي أرقى.

أظن أن الوصول إلى الإيمان باللاعنف ينطوي، بشكل من الأشكال، على شيء من الروحانية، حتى وإن لم يقصد الشخص ذلك أو كانت "روحانيته" غير مباشرة. في عبارة أخرى، كما هي الحال في الرحلة إلى مكان ما، حين نشاهد على الطريق مناظر طبيعية لم نكن نعرف أنها موجودة، وهذه المشاهد الخلابة تؤكد صحة مسارنا نحو المكان المقصود وتعزز سعينا إليه، كذلك هناك معادلة بسيطة أحدسها بذهني في خصوص اللاعنف: إذا كان اللاعنف ينطوي، في عمقه، على نوع من السلام وتقبُّل الآخر، وفي مرحلة لاحقة، على التصالح معه، فإن الروحانية الحقيقية تنطوي أيضًا على سلام مع النفس والآخر – وهنا التقاطع بينهما.

قطعًا من الصعب تطبيق هذا الكلام على جموع بشرية كبيرة، لكن خلِّنا نحكي عن بلد مثل الهند: يخيل إلي أن الناس في الهند يحملون في داخلهم ميلاً فطريًّا إلى اللاعنف؛ كما توجد في هذا البلد روحانية عالية واضحة، تكاد أن تكون محسوسة. وهذا ناتج، ربما، عن معتقدات القوم الدينية، وفي جملتها تأثير فكر غاندي، لكنه موجود على كلِّ حال بنسبة أكبر من أيِّ بلد آخر. لذا أتمنى أن ينفتح الحوار حول نِسَب العنف في الدول التي لم يشهد تاريخُها أحداث عنف وتعيش حاليًّا في رخاء اقتصادي؛ أو لعله يُفتَح حول ثلاثة أنماط من الدول: الأول، بلدان رأسمالية شهدت حروبًا وعنفًا، ثم واقعها الآن؛ الثاني، بلدان شهدت حروبًا، لكنها ليست رأسمالية ولا استعمارية؛ والنمط الثالث، بلدان لم تشهد حروبًا ولا أعمال عنف.

أوافق تمامًا المشاركين القائلين بأن مسعى الشخص اللاعنفي ليس العمل السياسي المباشر واستلام السلطة بالضرورة، لأن هذه لا تقع في دائرة اهتمامه أصلاً. فالمسعى الأول للاَّعنفي يجب أن يكون العمل على نطاق قريب (وليكن أسرته ومجتمعه الصغير، مثلاً). لكن، في الوقت نفسه، يجب ألا ننسى أن مسعى اللاَّعنفي هو إحلال تغيير عميق في المجتمع ككل. فاللاَّعنف ينطوي على نواة لتشريع اجتماعي ومؤسساتي، واسع وعميق في آنٍ معًا: اللاعنف في العلاقة مع البيئة، اللاعنف في إدارة الموارد البشرية، اللاعنف في توجيه ميزانية الدولة المخصصة للتسليح نحو تنمية البلد والارتقاء بمؤسساته المدنية، إلخ. ما قصدت هو أن المسعى اللاعنفي الصغير، الذي بدأ مع تربية الطفل في المنزل وتنشئته على سلوك سليم، قد يؤدي – أو يجب أن يؤدي في وقت من الأوقات – إلى وصول هذا الطفل كبيرًا إلى منصب ما في المجتمع يمكِّنه من المساهمة في التغيير، سواء من خلال مهنته أو عبر مؤسسات الدولة، وهكذا دواليك. في عبارة أخرى، على بذرة اللاعنف أن تعود ثمارُها على المجتمع الذي قد ينخرط بعضُ أفراده "اللاعنفيين" أيضًا في العمل السياسي بهدف القيام لتغيير ما.

أعود هنا إلى تمييز ديمتري في أحد مقالاته بين "العالمية" و"العولمة". من وجهة نظري، أرى أنه ينبغي الكتابة حول الأمر كموضوع مستقل، لأن الناس اليوم إما يتبنون العولمة مطلقًا، وإما يرفضونها مطلقًا أيضًا، في حين أن العولمة هي جزء من العالمية. ثم أليست "العولمة" مصطلحًا جديدًا نسبيًّا، بينما كلمة "العالمية" هي الأقدم؟ أربط هذا كله باللاعنف، من حيث إن الناس يخافون اللاعنف لأنه يجردهم من سلاحهم؛ و"سلاحهم" هو الدرع الواقي في مواجهة الآخر. أليس هذا موجودًا عالميًّا في الدول كافة؟!

المهم أن مَحاضر الورشة ككل فتحت في داخلي سيلاً من التساؤلات ودفعتني إلى التفكير الدقيق في أمور عدة، أحاول أن أربط فيما بينها.

*** *** ***
 

horizontal rule

[*] قاصة وروائية وصحافية لبنانية مقيمة في القاهرة؛ صدرت لها مؤخرًا رواية تَلامُس.

 

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود