الأبعاد المتوازية للصحّة

 

قيصر زحكا

  

 بدايةً قد نتساءل: ما المقصود بقولنا "الأبعاد المتوازية"؟ وهل للصحة أبعاد متوازية؟

أجل، لقد اخترنا – ويمكننا أن نختار لفترات طويلة بعدُ – أن نعالج فقط ما يصيب الجسم الفيزيائي من علل وأمراض، دون الاهتمام بما يصيب المشاعر والعقل اللذين كثيراً ما يكونان في أصل المشكلة؛ بل قد نهتم أحياناً بعضو معيَّن، دون الاهتمام بالأعضاء الأخرى وما يعتورها من تأثيرات سلبية من جراء علاجنا. والأنكى من هذا أننا، بعلاجنا الأعراضَ والعواملَ الخارجية، نهمل الاضطراب الداخلي وعدم التوازن اللذين هيَّئا أصلاً لاقتحام الجسم والتسبب بالمرض. فالإنفلونزا تصيب بعض الأشخاص المعرَّضين، وليس كلهم، مما يدل على وجود اضطراب مناعي معين أو غيره تسبَّب في المرض. وعلى هذا، فنحن نعالج المرض وليس المريض!

تعني "الأبعاد المتوازية"، في جملة ما تعني، أننا أشخاص مؤلفون من جسم ونفس وروح، تسير كلها سوية، وما يؤثر على أحدها يؤثر على الأخرى.

هناك مشكلة كبرى أساسية في التركيز على الجسم، ألا وهي أننا كثيراً ما نشعر أن هذا الجسم ينقصه عنصر أساسي هو الحياة بحدِّ ذاتها. لقد قال الطبيب الفرنسي المشهور كلود برنار Claude Bernard إن الأمراض تحوم دوماً من حولنا، وإن بذورها تتناثر في الهواء، ولكن المرض لا يحدث ما دامت العضوية لم تعطِه الضوء الأخضر. لقد عارض باستورPasteur  المبدأ الكلاني holistic بشدة، معتبراً المرض ناشئاً عن العوامل الخارجية، فعارض بذلك كلود برنار معارضة شديدة؛ لكنه قال على سرير الموت: "إن برنار على حق. الجرثوم لاشيء، والعضوية هي كل شيء!"

لقد أدرك الأطباء الأقدمون أهمية المقاربة التكاملية للمرض. فأبقراط، مثلاً، تدرب ككاهن آسٍ؛ ولقد كان وأمثاله من المعالجين من أتباع أسكلبيوس Aesculapius، إله الطبابة والشفاء الإغريقي الذي كان شعاره الحية الواحدة الملتفة حول العصا. وقد آمن هؤلاء الأطباء أن الشفاء التام يشمل الجسم والنفس والروح. لكن أبقراط، في مرحلة لاحقة من حياته، تحوَّل إلى منهج اختزالي بدني فقط، وقال بأن مصدر المرض يكمن في المرض نفسه.

لقد برهنت الدراسات المتكررة أن التوائم الحقيقيين الذين نشأوا في نفس البيئة أظهروا اختلافات كبيرة في شخصياتهم وفي الأمراض التي أصابتهم خلال حياتهم. كذلك، مثلاً، لا يموت كل المدخنين من أمراض القلب أو سرطان الرئة، ولا يموت كل المدمنين على الكحول من تشمع الكبد، ولا يؤثر التوتر النفسي بالشدة نفسها على كل الأشخاص.

يُعرَّف بالتوتر Stress على أنه قوة حاثَّة أو دافعة مطبَّقة على نحو ما أو تركيب ما. ومن كلمة "حاثَّة" نستنتج أنه، بالتالي، ضروري للنمو والازدهار، وأننا بدونه تتقهقر صحتنا ونموت بسبب نقص التغذية. التوتر الجسمي والنفسي، إذن، ضروري للحياة؛ ومهما حاولنا تجنبه فإن المكان الوحيد الذي لا يوجد فيه توتر في الواقع هو القبر. أما الإنهاك Strain فهو التمدد إلى حدٍّ أكبر من الحدود الملائمة. يحصل الإنهاك عندما نبذل جهداً أكبر مما اعتدنا عليه، مدفوعين بضغوط نفسية، كالخوف أو الشعور بالذنب. وفي الحقيقة كثيراً ما تلعب هذه العوامل دوراً كبيراً في كثير من الأمراض. وهنا نرى الأبعاد المتوازية للمرض من خلال انبساط الأسباب العاطفية والعقلية والبدنية، وربما الروحية، جنباً إلى جنب، في اقتحام المرض للعضوية. لقد أثبتت التجارب المتكررة أن الارتكاس للتوتر النفسي يختلف كلياً بين شخص وآخر، وبين تجربة وأخرى عند نفس الشخص؛ لا بل إن الشخص قد يرتكس بشكل مختلف لنفس المؤثر إذا ما تعرَّض له بطريقة مختلفة. لقد تبيَّنت لغرير Greer وأعوانه أربعة مواقف أساسية تتعامل بها النساء المصابات بسرطان الثدي، ألا وهي:

1.    الرضوخ الصبور: وهو الموقف الأشيع في أوروبا، ويرتبط ارتباطاً وثيقاً بشخصية الأشخاص المصابين بالسرطان. يتظاهر هذا المنهج بارتكاس هادئ سلبي ومميَّز.

2.    الإحباط والتشاؤم: هنا تحتدم ثورة داخلية وانعدام الرغبة في التكيف. يُعتبَر هذا الموقف الأقربَ إلى الاكتئاب، ويشاهَد أكثر ما يشاهَد في بدايات المرض. وأعتقد أن هذا الموقف هو الأشيع في بلادنا.

3.    المجابهة: يغلب هذا الموقف عند اللواتي اعتدن التحدي والمجابهة في حياتهن، ويرغبن في السيطرة على ظروفهن، فيقمن بالاطلاع والتماس آراء متعددة وتنظيم حلقات.

4.    الإنكار: نلحظ هنا عدم القدرة على تحمل الحقيقة الذي يجعلهنَّ يُصَبْنَ بنسيان لكلِّ مظاهر المرض والتشخيص.

قد يعتقد كثير من الأطباء بهذا الصدد أن عليهم إخبار المرضى بمرضهم والإصرار على قول الحقيقة؛ لكن هذا ليس صحيحاً دوماً، وهو يرضي "أنا" الطبيب أكثر مما يهتم لرغبة المريض. نحن نعرف أنه في كثير من الأحيان، بسبب سيادة المدرسة الغربية الحالية واحترام الفردية والتفكير الحرِّ إلى أبعد الحدود، صار أغلب الأطباء يميلون لإخبار المريض بالتشخيص. وهذا جيد في كثير من الحالات لأن إخفاء المرض عن المريض يجعله غير قادر على القيام بالمواجهة الضرورية للتغلب على المرض؛ والأسوأ منه أن يشعر المريض أن الآخرين لا يخبرونه بالحقيقة: فهنا يصير الوهم أكبر، وتصير وسائل الدفاع معدومة. مع ذلك، عليَّ التنويه أن هذا المبدأ ليس دائم الصحة، والكثيرون منا شعروا أنهم أخطأوا بإصرارهم على إخبار المرضى المنكرين لمرضهم بهذا المرض.

للأسف، تكاد تكون كليات الطب التي تعلِّم طلاب الطب كيفية التعامل مع المرضى المحتضرين، أو الذين يعانون من مرض خطير أو عضال، شبه معدومة؛ فبالعكس، يسود التركيز على النواحي العلمية والتكنولوجية، ويجد طالب الطب نفسه يواجه مواقف كهذه في عمر الـ23 أو 24 بدون سابق معرفة أو خبرة. والسبب في عدم تعليم هذا هو أن الأطباء الأقدم والأعْمَر لا يفسحون لأنفسهم المجال للتفكير في موتهم هم بحدِّ ذاته. من هنا نرى الجهود الإنسانية والمادية والزمنية تتَّجه كلها نحو إطالة أمد الحياة التي تعني أحياناً حياة اصطناعية متكلة على جهاز تنفس، أو جهاز صدمة كهربائية، يرافقها ألم بدون طائل. أما التركيز على الحوار مع المحتضر وإعطائه الوسائل الداعمة المعنوية فلا يخصَّص لهما أي مجهود إنساني أو مادي أو زمني.

لقد دُرِّبنا جميعاً، بكل أسف، على اعتبار الموت فشلاً، مع أنه رحمة وحاجة طبيعية في كثير من الأحيان. لقد نشأنا كلنا من نفس المصدر ونفس الخالق. وربما كانت غاية الحياة أن نبلور وعياً ذاتياً، بمعنى أن نعرف أنفسنا ونقبلها كمخلوقات روحية، وأن نشعر بوحدة كل أجزائنا، وبوحدتنا مع كل شيء في العالم من حولنا. علينا أن نتعلَّم أن نحب ما نسميه مظهرنا أو جانبنا السلبي كما نحب الجانب الإيجابي لأن كلا الجانبين يؤلِّفان الكل. فلكي تستطيع النفس العمل في الظروف الأرضية عليها اتخاذ أقمصة معينة حولها، وهي العقل والمشاعر والجسد؛ ولكن تبقى النفس أو الذات مرتبطة طبعاً بالخالق أو المصدر عبر الروح. من هنا ندرك أنفسنا ليس فقط كشخصية، بل كجزء من البعد الكوني للحياة.

يجب ألا نعتبر الذات أو النفس قوةً خارجية تحاول السيطرة علينا رغماً عنَّا، بل والدة حنون تبيِّن لنا كيف نتعامل مع هذا الطفل الخائف أحياناً في اللاوعي. تحتاج النفس إلى الشخصية؛ وكلتاهما في حاجة إلى العمل معاً كصديقتين. إن أحد جوانب الحياة الذي يعتبره بعضُنا هبة من الخالق – عزَّ وجلَّ – بينما يرى فيه غيرهم مصدر تعب وإرهاق، هو الإرادة الحرَّة. فالإرادة الحرة تعادل الاختيار، وبالتالي قبول نتائج هذا الاختيار والتعلم منها. إن الكثيرين يتجنبون التجربة بسبب الخوف من الفشل؛ ولكن في الحقيقة لا يوجد فشل، وكل التجارب عبارة عن دروس وعِبَر. وقد يخوض آخرون التجربة ويضيعون فيها، فيستغرقون في التفاصيل بدل الاهتمام للفرصة التي تتيحها هذه التجربة من أجل التحوُّل.

تسيطر الشخصية عادة على معظم الأعمال اليومية التي نقوم بها، عند معظم الناس، وذلك من خلال الإشراطات conditionings التي رُبِّينا عليها في طفولتنا، وربما في المراحل الجنينية وغيرها، وبالتالي تتكون عندنا ارتكاسات بدنية وعاطفية وعقلية معينة. لكن عندما نحاول الانتقال من سيطرة الشخصية على حياتنا إلى سيطرة الذات أو النفس، يظهر شيء من عدم الانسجام ومن التشوش في العقل، لأن نوعين من الاهتزازات ينتقلان آنياً إلى العقل: النوع الأول يأتي من الشخصية، والنوع الثاني يأتي من النفس. إذا سُمِحَ لهذا الانتقال أن يحدث ببساطة، عندئذٍ لا يحدث اضطراب يُذكَر عند الشخص؛ أما إذا حدثت مقاومة للتغيير فنشهد عندئذ أعراض التوتر والإجهاد بادية عليه، من إحباط وغضب واكتئاب إلخ. وإذا لم نقرأ في هذه الرسائل إشارات إلى ضرورة تغيير أنفسنا وفهمها، إذ ذاك تظهر الأمراض على مستوى البدن، من أمراض قلب إكليلية، وقرحة هضمية، وتشنجات عضلية، وانتفاضات ليلية، إلخ. هذه التظاهرات لا تدلنا فقط على وجود اضطراب، بل تلعب أيضاً الدور الأكبر كدولاب لتسريع حصول التغيير المطلوب. فكم من الناس غيَّروا كثيراً من ظروف حياتهم وعملهم وعلاقاتهم بعد إصابتهم بمرض معين!

لقد اجترح الطب الحديث معجزات حقيقية وخوارق؛ لكننا إذا بقينا على اهتمامنا بتحديد المرض ووضع التشخيص فقط، خسرنا الرسالة العظيمة التي تقدمها لنا الذات. ولطالما أصيب كثير من الأشخاص بمرض آخر بعد فترة من الزمن يعود إلى العلل النفسية والروحية نفسها؛ إذ لم يتعلموا الدرس الذي جاء به إليهم المرضُ الأول. المرض، بحدِّ ذاته، يجب أن يُحدِثَ تغييراً في الشخص؛ وهذا كثيراً ما يهمله المريض والطبيب ويفهمانه فهماً خاطئاً. وكثيراً ما نرى الناس في عجلة دائمة لاستعادة صحتهم إلى حدٍّ يخسرون معه الفرص الذهبية للنمو والنضج النفسي والروحي. ليس الداء الذي يصيبنا هو المهم، بل كيفية التعامل مع الداء والتجارب الحاصلة فيه من أجل أن نغني حياتَنا و نوسِّع وعيَنا الروحي.

كيف تكونت النفس؟

هناك مصدر أو طاقة إلهية بدئية هي مصدر كل شيء مرئي وغير مرئي في هذا الكون. عندما تبدأ هذه الطاقة الخلاقة باتخاذ صورة ما يظهر قطبان يفصحان عن كل الثنائيات الموجودة في العالم. تطلَق على هذين القطبين أو هذه الثنائية أسماءٌ مختلفة. فقد نسميهما:

1.    الروح أو الأب.

2.    المادة Matter أو الأم Mother.

3.    ومن ائتلاف الأب والأم ينجم الابن أو النفس (المخطط 1).

 

مخطط 1

من الواحد نشأ الاثنان، ومن الاثنين نشأ الثلاثة، والثلاثة معاً تمثل الواحد. إن جوهر الآب، أو الروح، أو الـيانغ Yang، يتبدى بالفاعلية، والذكورة، والسيطرة، والحركة النابذة، والمنطق، ويعبِّر عن رغبة التكوين، وبالتالي النمو؛ بينما يتبدى جوهر الأم، أو المادة، أو الـين Yin، بالعاطفية، والأنوثة، والاستقبال، والحركة الجاذبة، ورهافة الإحساس والرعاية، ويعبِّر عن حكمة التركيز، والجمع بين الأضداد من أجل رعاية بذور الخلق بغية استمرار الحياة عبر ولادات جديدة. يحصل اتحادهما من خلال قوة الانجذاب أو المحبة، وينتج الابن، أو النفس.

والمحبة توحِّد وتؤدي إلى زوال العزلة. إن طاقة الإرادة طاقة كهربائية إيجابية أو سلبية؛ أما المحبة فهي طاقة مغناطيسية تجذب الأب نحو الأم، أو الذكورة نحو الأنوثة، أو اليانغ نحو الين، وبالعكس؛ ومن اجتماع المحبة مع الإرادة تتولد طاقة "كهرطيسية".

وباستعمال مفردات تأنيسية نقول إن الأب يعطي بذوراً تولِّد الطفل و تكوِّنه؛ بينما تقدم الأم الخواص الاستقبالية للرحم كي ينمو الطفل، وبحكمتها تستعمل المادة التي يعطيها الأب للحصول على أفضل شروط نمو للطفل. وكلاهما يشارك على حدٍّ سواء لتكوين الطفل (أو النفس) التي تعبِّر عن قوة محبتهما.

يتكون كل شيء حي من التداخل بين المادة والروح؛ ولذلك كان لكل شيء حي نفسٌ، من الذرة إلى المجرة. وفي كثير من الحالات، قد تكون النفس "جمعيَّة"؛ أي أن نفساً واحدة تخص مجموعة من العناصر، كما هي حال معظم عناصر الطبيعة، باستثناء الإنسان، حيث توجد نفس واحدة مميِّزة لكلِّ فرد بشري. وهذا ما يمنحه الوعي المتميز والتنوع الهائل الذي من أبسط الأمثلة عليه بصمات الأصابع.

يحوي كل من الروح والمادة مستوى فطرياً من العبقرية والفطنة نتيجة صدورهما عن القدرة الإلهية الأصلية. وباتحادهما، تتكون النفس كمستوى من الوعي والإدراك الحاصل من التقاء هذين العنصرين؛ وتبعاً لدرجة اللقاء أو الاتحاد الحاصل بينهما تكون درجة الوعي النفسي، أو ما يسمى shen في الطب الصيني. فدرجة وعي خلية تختلف عن درجة وعي نبات أو حيوان أو إنسان، كما أنها تختلف من إنسان لآخر. إن هدف الحياة في النهاية هو زيادة درجة الوعي عن طريق زيادة تداخل المادة بالروح (مخطط 2)، حتى لا يكون هناك في النهاية أي افتراق بين هذين القطبين؛ وبذلك يكون وعي وإدراك النفس متطابقاً مع الوعي الكلي الأصلي (مخطط 3).

 

مخطط 2، 3

إذاً يمكننا القول إن مسيرة الإنسان تقتضي أن يصبح مدركاً أو واعياً لنفسه، أو بالأحرى أن يعرف نفسه. وهذا طبعاً لا يحصل بين ليلة وضحاها، بل هو مسيرة تطورية يصبح فيها الإنسان قادراً على رؤية نفسه مستقلاً عن جسمه ومشاعره وأفكاره، أو ما نسميه بشخصيَّته (مخطط 4).

 

مخطط 4

بنمو هذا الوعي، يزداد استشعار المرء للعالم الروحي، ويدرك الدور الصغير – لكنْ المهم جداً – الذي يستطيع القيام به ضمن هذه الخطة الكونية الكبيرة. وبالطبع نحن ندرك أن قدرة الإنسان على تمييز النفس عن الشخصية قد أوجدت قطبين جديدين، لابدَّ من اتحادهما من جديد قبل أن نستطيع القول إن هذا الإنسان أصبح كائناً روحياً. لذلك، بعد إدراك النفس على أنها شيء مستقل عن الشخصية، لابدَّ لنا أن نستقطبها نحو الأسفل، أي نحو الأفكار والمشاعر والجسم، كي تتوحد إرادة النفس والشخصية؛ وعندئذٍ فقط تنغمس النفس تماماً في الشكل الفيزيائي (مخطط 3) وتستطيع طاقة كونداليني kundalini (حسب تعبير اليوغانيين الهنود) أن تصعد إلى غايتها صعوداً طبيعياً، دونما إكراه (مخطط 5).

 

مخطط 5

إن تواجد قطبين للوجود – الروح والمادة – ومن بعدُ اتحادهما وتشكُّل الابن أو النفس هو أساس كل الظاهرات الحياتية. ويجلب لنا اختبارُ وتقبُّل القطبين الحياتيين الوعيَ الكامن بعدم وجود افتراق وانفصال، فنعي أنهما مظهران للمبدأ الواحد نفسه وللطاقة الإلهية الخلاقة الكبرى. هذان القطبان المدعوان في الحكمة الصينية يانغ وين دائما التداخل واحدهما بالآخر، وفي بطن كلِّ واحد منهما قابليةُ التحول للآخر؛ فالواحد منهما لا يستطيع الوجود بدون الآخر. إن الخط الفاصل المنحني بينهما يوضح أن المظهرين دائما الامتزاج. وتقول الحكمة الصينية إنه من المتعذر البقاء في مظهر واحد دون الآخر – قانون التوازن والاستواء –؛ إذ عندما يبلغ أحد المظهرين حدَّه الأقصى يبدأ المظهر الآخر بالظهور لإعادة التوازن. وكثيراً ما تكون الأمراض محاولة لإعادة التوازن المطلوب؛ فالمرض ليس عقاباً أو علامة ضعف، بل مسعى طبيعي لإعادة التوازن (مخطط 6).

 

مخطط 6: دائرة الطَيْ تشي، ويظهر فيها قطبا الين (أسود) والينغ (أبيض)

مثال: رجل أعمال دائم الانشغال، عليه أن يعقد باستمرار صفقات في أسفار متواصلة أو يلبي دعوات على الغداء والعشاء، وربما اضطر إلى تناول الكثير من الكحول والقهوة والتوابل والتدخين. هذا الرجل سيجد نفسه مصاباً بداء يحرِّم عليه تناول هذه الأشياء، مثل القرحة، أو بداء يبطئ من حركته، مثل احتشاء عضلة القلب. يرى رجل الأعمال في هذه الإصابة بالداء الناجمة عن سوء طالع شماتةَ المنافسين وقيداً مزعجاً؛ أما الإنسان الروحاني فيرى في مرضه إشارة إلى ضرورة الاعتناء بصحته. فإذا أهمل الإنسان هذه الرسائل سيجد نفسه قد أصيب بأمراض أكثر إقعاداً له وإزعاجاً، حتى يحصل التوازن المطلوب.

قد تحصل الكثير من المشاكل المرضية بسبب الفشل في التخلص من الأفكار والمشاعر والمسالك والتعلقات القديمة التي تؤدي إلى تعبير حدِّي أقصى عن مظهر واحد من الثنائية. وعادة ما يكون الخوف أو الشعور بالذنب من أكثر أسباب التعلق بالماضي أو فشل السير نحو الأمام. فلكي نستطيع التحرر من هذين الرفيقين لابدَّ لنا من الإيمان؛ والإيمان لا يحصل بدون الشعور بذاتنا الداخلية. وهنا ينبغي أن أقول، من وجهة نظر طبية، إن الإيمان الأعمى بمعتقَد دون غيره، والتثبُّت عليه، يؤدي إلى تصلب الأفكار وعدم التطور. أما ما نقصد هنا فهو الإيمان الداخلي العميق، القائم على شعور مستمر بحضور الخالق، بأن لكل شيء سبباً جوهرياً، وبأن كل شيء يسير بمقتضى خطة كونية عظمى رفيعة التنظيم، مفادها الشعور بوحدة الأشياء وبوحدة الإنسان مع كل شيء. وهنا أشدد على أن قدرتنا على تجاوز الماضي والسير نحو الأمام، حاملين معنا الأمور التي ما تزال مهمة فقط، هي من أكثر القوى والطاقات شفاء في العالم.

كثيرا ما يُنظَر للمرض على أنه كارثة أو "أزمة" crisis، مع العلم أن أصل الكلمة من الكلمة اليونانية κρίσης التي تعني "قرار". فالمرض هو نقطة تحول للشخص. وحتى الكوارث الكبرى، من نحو الزلازل والأعاصير والبراكين والكوليرا إلخ، هي نقاط تحول على مستوى أوسع يصيب العديد من الأشخاص والكائنات على بقعة واسعة من الأرض؛ ومن خلالها تُفرَّغ شحنة كبيرة من الطاقة من أجل إعادة التوازن. يمتلك الجسم عادة قدرة كبيرة على التوازن من أجل خلق وسط متوازِن – وهو ما يسمى بالـhomeostasis – وذلك من خلال إحداث توليفات بسيطة هادئة لا نشعر بها في عقلنا المدرك. ولكن إذا تغلَّب عقلُنا على هذه التعديلات يصل اختلال التوازن إلى درجة الكارثة، ويتحتم المرض حينئذٍ من أجل إعادة التوازن.

نمو الوعي

يتطور وعي الإنسان بين قطبي الوجود السالفي الذكر. ومن خلال رصد هذين القطبين، والاعتراف بوجودهما، واختبارهما المستمر، يصل الإنسان إلى الحقيقة القائلة بأنهما غير منفصلين، بل هما تجلِّيان للمبدأ الحياتي نفسه. إن ابتعاد النفس عن كل مظهر سطحي من مظاهر الشخصية لا يتحقق بدون القيام بتضحيات ومعاناة الألم؛ وقد يطرأ اكتئاب عميق في مرحلة معينة، هو ما يسمى في الكتب السرَّانية (القديس يوحنا الصليبي، على سبيل المثال) باسم "ليل النفس المظلم" the Dark Night of the Soul. في هذه الفترة حصراً يمكن رؤية ضوء الذات، تماماً مثل الشمعة التي نراها رؤية أفضل في الظلمة الدامسة، بينما قد لا ننتبه لوجودها في وضح النهار. إن البقاء في أحد القطبين متعِب؛ فعسانا نبلغ مرحلة لا نصرُّ فيها على البقاء في قطب واحد وتجنب الآخر، مثل البقاء في السعادة وتجنب الحزن، والبقاء في الشباب وتجنب الشيخوخة، والبقاء في الحَرِّ وتجنب البرد. وهذا يصح بشكل خاص في حالة المشاعر، حيث يؤدي إنكار أحد المشاعر ومحاولة طمسه إلى انتفاخه في الداخل، حتى يصل لمرحلة ينفجر فيها؛ وهذا يؤدي لخوف أكبر من العاطفة ومحاولة طمس أكبر. يسمي يونغ هذا الجانب المطموس بـ"الظل" Shadow، ويقول إننا، بهروبنا المستمر منه، نضخِّمه، وإنه من الأفضل لنا أن نتعامل معه كصديق. طبعاً لا يبقى ثمة "ظل" عندما نقف في ضياء الشمس مباشرة؛ أما عندما نضع مسافة بين شخصيتنا وبين الذات، أو الشمس، يظهر الظل. وبنقل وعينا من تأثير الشخصية والمؤثرات الخارجية من حولنا إلى تأثير الروح أو الذات، ندرك أن الألم والحزن مؤقتين. أما إذا أصررنا على التعلق بجسدنا ومشاعرنا وعقلنا فلن نعرف أبداً وعي الذات أو السلام الداخلي.

مثال: غطاس في البحار العميقة، صلتُه الوحيدة باليابسة حبلُ النجاة المربوط به؛ لكنه يحمل عدَّة غطس ثقيلة تحجب رؤيتَه لخيط النجاة. ومع الوقت لا يعود الغطاس يتحسَّس الحياة الأرضية، وتصير حواسُه مرتبطة بالحياة المائية فقط. يصادف أناساً آخرين ويبادرهم بالسؤال عن طريق العودة؛ كل واحد منهم يظن نفسه فطحل زمانه، فيبدأ بإلقاء مواعظ لا طائل تحتها، لكن لا أحد يعرف الطريق. في نقطة معينة، يصير خيط النجاة مشدوداً جداً، ويضطر الغطاس أن يراقب خطواته خطوة خطوة؛ ويلتفت هنا وهناك، لكن دون طائل، ويصيبه الذعر. أخيراً، بمشقة عظيمة، يرفع رأسه ويبصر بصيص ضوء ضئيل جداً. وبعد محاولات متتابعة وئيدة يفلح في الصعود إلى السطح، طبعاً بعد سقطات متتالية، لكنه على الأقل يعلم بوجود هذه الطاقة العظيمة على السطح، ولا يعود في حاجة إلى مساعدة الآخرين وآرائهم المتناقضة، بل يكفيه نور الذات، وبعدها النور الإلهي الذي هو مصدر كل نور.

الذات موجودة لتشير إلى الطريق ولتقدم لنا المعونة؛ لكنها لا تجبرنا على شيء، والخيار يبقى خيارنا، ضمن إرادتنا الحرة، باتباع رغبات الشخصية أو اتباع الذات التي تعطينا حياة أكثر امتلاء، وإن كانت أكثر صعوبة في البداية.

طريق الوعي

يتحقق الوعي، كما أسلفت، باجتياز كل مستوى من مستويات الشخصية على حدة، من جسد ومشاعر وعقل، ومن بعدُ استنزال الوعي، عبر الذات، إلى الشخصية، حتى لا تظهر ثنائية جديدة؛ وعندئذٍ تتحرَّر طاقة كونداليني. وكما هي الحال مع الين واليانغ فإن متعاكسات مثل غني وفقير، وجميل وقبيح، هي مجرد تعبيرات نسبية، وليست أموراً مطلقة؛ وهي تتغير باستمرار بحسب وضع الراصد وقربه وبعده عن الشيء. فقطبا الثنائية الظاهرية وجهان لقطعة العملة نفسها أو نقطتان مختلفتان على الدائرة عينها.

1.    العالم المادي:

لنقدم هذا المثال المعروف جداً: كان هناك صبيان يتجادلان. قال الأول: "رأيت فيلاً، له أذنان كبيرتان وخرطوم طويل يستطيع أن يرفعك من على الأرض." قال الثاني: "هذا يا أحمق ليس فيلاً! فقد رأيت واحداً منذ شهر. إن له قوائم ضخمة وذنباً إذا لوَّح به رماك أرضاً." وبدأا يتجادلان ويتعاركان، حتى جاء صبي أوفر حكمة ووعياً، فقال لهما: "لقد جلستُ على ظهر الفيل. إن له في المقدمة خرطوماً طويلاً وأذنين كبيرتين، وله في الخلف ذنب طويل وقوائم ضخمة. كلاكما على حق. فمقدمة ومؤخرة الفيل تصنعان الفيل الكامل الذي رأيتُه من النقطة العليا."

عند الإنسان الروحي، النقطة العليا هي الذات. فمن خلال قدرة الشخص على الرؤية بشكل موضوعي، وليس عبر تواحده مع الموضوع، يحدث توسُّع طبيعي للوعي.

 

مخطط 7

إن وعي الوحدة من خلال التنوع والثنائية يوازي مبدأ تكوُّن الذات من الاتحاد بين الجسم والروح. وهذا أبلغ مثال على القانون الكوني المعروف بقانون التقابل Law of Correspondence الذي يعني حدوث أمور متقابلة على عدة مستويات.

2.    عالم المشاعر:

عندما يبدأ الإنسان بالسير على طريق الوعي ينتقل اهتمامُه من العالم المادي إلى عالم المشاعر والعواطف، ويصير الشخصُ هو مشاعرَه، فيصير هو قلقه، ويصير هو اكتئابه، وبهجته، وخوفه، وعقدة ذنبه، إلخ، فيختبر بذلك قطبي التكوين العاطفي غالباً خلال المرحلة الزمنية نفسها. فعلى سبيل المثال: رجل غاضب باستمرار في العمل قد لا يُظهِر غضبَه مطلقاً في المنزل خوفاً من إزعاج الآخرين. والغالب أن يحدث العكس، أي أن يُظهِر الشخص دائماً ابتسامة على وجهه، وفي داخله اكتئاب؛ أو ألا يشتكي الشخص أبداً، وفي داخله امتعاض شديد. كل هذه الأمثلة تدلنا على تواجد القطبين في آن معاً. إن كل المشاعر تعبيرات عن تشكيلات ذهنية ستتحول لاحقاً إلى أفعال. فإذا أراد الإنسان السير قُدُماً عليه أن يتذكر أنه ليس مشاعره وعواطفه، وأن هذين القطبين هما أيضاً وجهان للشيء نفسه.

 

مخطط 8

3.    عالم الأفكار:

كان حمدي في عمر السادسة عندما ترك والدُه الأسرة وتزوج بامرأة أخرى. لم يفهم في ذلك الوقت مما حدث إلا أنه تصرف تصرفاً غير لائق جعل والده يغادر. حمل حمدي معه هذا الاعتقاد طويلاً؛ ومن ثم صارت كل علاقة خطبة أو علاقة عاطفية تربطه بفتاة تنتهي بالفشل. كانت النساء تشتكي منه بأنه خانق في عواطفه: كانت عنده رغبة مبالغ فيها أن يُسعِد الآخرين، ظناً منه أنه إن لم يفعل فهو لا يستحق هذه المرأة. بعد مدة، لاحظ من خلال نقاش مع صديق أن الأمر يتكرر، وأن شعوره بفقد محبة نفسه قد جذب نحوه الأشخاص الذين يؤكدون له ذلك ويثبِّتونه عنده. إن تشكيلاتنا الذهنية واعتقاداتنا تترسب في سني حياتنا الأولى وتعبِّر عن نفسها من خلال "ما ينبغي" و"ما لا ينبغي"، و"افعل" أو "لا تفعل". نعيش طوال حياتنا بين التمرد على التعاليم والقيم والانصياع لها، إلى أن نجد توازناً بين التعاليم التي ما تزال مفيدة وبين التي عفا عليها الزمان. نحصل على هذا التوازن من خلال اتباع المبادئ الكونية للحياة، وليس المبادئ المحدودة التي سأذكرها لاحقاً. فبالبصيرة وحدها نستطيع أن نحدد أية أفكار تنبع من الذات أو النفس وأية أفكار تأتي من الشخصية.

حالما يعرف الإنسان نفسه كشخصية ونفس، تصير النفس هي الوسيط من أجل الوصول إلى العالم الروحي. المرحلة التالية هي استنزال الطاقات النفسية باتجاه الشخصية، إلى أن يشعَّ نور النفس من خلال هذه العجلة المسماة بالشخصية (مخططات 7، 8، 9): جِدْ ذاتك على الطريق، وبعدها أضِع ذاتك فتربح الطريق.

 

مخطط 9

القوانين الكونية

أحب أن أذكر هاهنا أن هذه المبادئ مترجمة من بعض المصادر التي أخذت من بوذية التيبت، وقد لا تنطبق على بعض معتقداتنا تماماً:

1.    قانون التقابل Law of Correspondence السالف الذكر والقائل بأن ما يحدث على المستوى الروحي يحدث على المستوى الأرضي: "كما في الأعلى كذلك في الأدنى" (هرمس المثلث بالحكم).

2.    قانون العودة Law of Reincarnation الذي يعتقد به الهندوس والبوذيون وأتباع بعض الديانات الأخرى، والذي يقول بأن الروح تعيش أعماراً عديدة؛ وبالتالي، لا تقتصر حياتها على فرصة واحدة، بل على فرص عديدة تسمح للكائن باختبار الحياة من خلال عدة ظروف وأدوار؛ وهذا يسمح بالتطور والنضج الروحي. تشير الأعمار المتعددة إلى الوجوه المتعددة للذات التي تسمح لها باختبار الكل.

إن العائلة التي نعيش فيها هي معلِّمنا الأول؛ ومهما تنشب أحياناً بين الأهل والإخوة من عداوات أو غضب لا يمكن نسيانهم أبداً؛ أما الرفاق فمن الأسهل طبعاً الابتعاد عنهم؛ وأما عائلتنا الروحية فلا يعيش أفرادها معنا تحت نفس السقف، ولكن يمكن معرفتهم من خلال الدعم المستمر والمساعدة التي يقدمونها. سيان إن آمنت بوجود عمر واحد أو أعمار متعددة؛ فالمهم أن تعيش بوحي من نفسك في الحياة الحاضرة.

3.    قانون الفرص Law of Opportunity الذي يعني أنه توجد دائماً فرص للتعلم والنضج، كما توجد الوسائل لفعل هذا.

4.    قانون التجاذب Law of Attraction الذي يعني أننا نجتذب إلينا كل ما نحتاج إليه للنضج وللتعلم ولما نفكر به؛ وهذا لا يعني أن هذا ما نريده بعقلنا.

5.    قانون كارما Law of Karma الذي يعني أن ما نزرعه إياه نحصد. إننا دائماً نأخذ شهيقاً يتبعه زفير؛ وتقلُّص النابض يليه استرخاء. كارما ليس عقاباً على ما نفعل من خطأ؛ فالمهم أن نفهم قطبي الوجود، ومن بعدُ لا نتواحد مع أيٍّ منهما. إذا لم نستفد من التجربة تتكرر بشكل آخر، ولكن ليس بشكل أسهل بالضرورة.

الأجسام الطاقية الدقيقة

الإنسان هو أكثر من مجرد جسمه. إنه نفس تأتي من تداخل الروح بالمادة. والروح والمادة هما نتاجا منبع الطاقة الإلهية. الإنسان أيضاً ذو شخصية تشمل العقل المنطقي والمشاعر والبدن. هذه الأقسام المختلفة عبَّرت عنها الأدبيات الباطنية أو السرَّانية باسم الأجسام الدقيقة لأنها تتعذر رؤيتها بالعين المجردة. دونكم هذا المثال: عندما يمر الضوء من الموشور يتشعب إلى سبعة ألوان أساسية هي ألوان قوس قزح؛ وعندما تعود هذه الألوان للمرور من جديد من خلال موشور مقلوب تتلاقى من جديد على شكل ضوء أبيض. وبالطريقة نفسها فإن كل جسم من الأجسام هو مجال من مجالات طاقة تهتزُّ بتواترات مختلفة. وهي تسمى من الأعلى للأسفل:

1.    الجسم الإلهي

2.    الجسم الروحي

3.    الجسم النفسي

تشكل هذه الثلاثة معا الذات العليا.

4.    الجسم العقلي

5.    الجسم الكوكبي

6.    الجسم الأثيري

7.    الجسم الفيزيائي أو الجسد

تشكل الأجسام من 4 إلى 7 الذات الدنيا.

 

 

مخطط 10

هذه الأجسام موجودة ضمن طبقات، ولكن يختلط بعضها مع بعض باستمرار، مثل ألوان الطيف، وتشكل ما يسمى بالهالة Aura. وإذا أردنا الاعتماد فقط على حواسنا للإيمان بوجود هذه الأجسام لن نصل إلى أية نتيجة، لأن الحواس لا تزوِّدنا بالحقيقة كلِّها، بل هي وهم maya، كما يقول الهندوس والبوذيون. لنتذكر مثلاً أن المجال البصري يتراوح بين 4000 و7000 أنغستروم؛ ولكن هناك أمواجاً فوق هذا المجال وتحته. كذلك الأمر بالنسبة للسمع واللمس والشم والذوق. إذا أعطيتكم، على سبيل التوضيح، قطعة ثلج وطلبت منكم تمرير يدكم عبرها، ستقولون إن هذا هراء في هراء؛ لكني إذا سلَّطت عليها حرارة، أو حتى تركتها في الجو، ستتحول إلى ماء، وستستطيعون تمرير يدكم عبرها؛ الآن، إذا قلت لكم إني سأجعلها تختفي ستقولون إنني أهذي! لكن، إذا أوصلتها لدرجة التبخر ستتلاشى في الهواء. فبالمحاولة الجادة والمستمرة يمكننا الوصول للتعرف على الجسم الأثيري والعاطفي والعقلي، وربما النفسي؛ أما "الجسمين" الروحي والإلهي فنسمع فقط عن بعض الأشخاص بلغوا الوعي على مستواهما.

كما ذكرت أعلاه، فإن ثالوث الجسم الإلهي والروحي والنفسي يشكل الذات العليا Higher Self التي تعبر عن نفسها من خلال العقل الأعلى Higher Mind، الذي يُعتبَر، بدوره، أعلى من الاهتمامات اليومية؛ وهو يعطي الشخص المحبة غير المشروطة ونظرة شمولية غير مقاضية للحياة بكل مستوياتها. عند الوصول للعقل الأعلى، يصبح من الأسهل رؤية الأمور بشكل موضوعي وعدم التعامل بشكل أناني شخصي. أما الذات الدنيا، أو الشخصية، أو الأنا، فتعبِّر عن نفسها من خلال العقل الأدنى، وتتألف من الجسم العقلي والجسم العاطفي (أو الكوكبي) والجسم الأثيري والبدن. إن الأقسام السفلى من الجسم النفسي هي الوسائط بين الذات العليا والدنيا (الزهرة، مخطط 11).

 

مخطط 11: الزهرة

1.    يعبِّر كل جسم عن مملكة بحد ذاتها. فقد تكونت أولاً المملكة المعدنية أو الجمادية (وإن كانت كلمة "جماد" خطأ بحدِّ ذاتها؛ فكلنا نعرف وجود البروتونات والإلكترونات وغيرها من القسيمات الأولية التي تكون في حركة دائمة)؛ وهي تعبِّر عن الجسم الفيزيائي.

2.    ثم أتت المملكة النباتية لتعبِّر عن الجسم الأثيري: فكما أن وظائف النبات بالدرجة الأولى تقوم على التحويل transformation وبناء جزيئات معقدة من الجزيئات البسيطة التي تأتيها من الماء و ثاني أكسيد الكربون، كذلك يكون هدف الجسم الأثيري استقبال وتحويل الطاقات والإلهامات الآتية من الأجسام الأعلى ومن الشمس والماء وغيرها إلى طاقات يستهلكها البدن؛ فهو يصل بين الجسم الفيزيائي وبين الطاقات الآتية من الجسم الكوكبي والجسم العقلي والذات العليا، وهو ما يطلَق عليه طاقة الحياة، لأنه ما يميز حالة الحياة عن الموت، ويتخلَّل الإنسان والحيوان والنبات؛ فعندما توجد هذه الصلة نختبر الحياة، وعندما تزول نختبر الموت.

يقوم الجسم الأثيري بتفعيل الجسم الفيزيائي من قبل عبر مقابِله المعروف بالجهاز العصبي، وخاصة الجهاز العصبي الذاتي الودي sympathetic ونظير الودي parasympathetic. للجسم الأثيري أيضاً علاقة وثيقة بالـDNA، وهو يلعب دور الطبعة الأساسية الاهتزازية التي يتم على أساسها تشكيل الخلايا والأعضاء والأجهزة. للأسف لا يستطيع الجسم الأثيري دائماً معرفة أية هي الطاقات الكهرطيسية الضارة بالإنسان؛ ونتائج هذا الضرر نرصدها في الجهاز العصبي المركزي الذي يُعتبَر المقابل الفيزيائي للجسم الأثيري. سنأتي لاحقاً إلى بناء الجسم الأثيري من شبكة مترابطة تسير فيها الطاقة، معادِلة لما تكلَّم عليه الصينيون والهنود ومستعملة في مبادئ العلاج بالطب الصيني.

3.    ثم تأتي المملكة الحيوانية لتعبِّر عن نفسها من خلال الجسم الكوكبي أو العاطفي. وهذا الجسم، كالحيوان، مشغول بالدرجة الأولى بالبقاء وبالتكاثر؛ لذلك قد يحدث ميل نحو التنافس والعدوانية والدفاع عند الأناس المرتبطين بمشاعرهم دون عقلهم وحدسهم. فبدون تأثيرات العقل المنطقي والبصيرة والحدس يميل الجسم الكوكبي للارتكاس للتنبيهات الحسية الآتية دون تفكير. إن كثيراً من الأمراض الجسمية (كالقرحة وأمراض القلب وارتفاع التوتر الشرياني والربو وحتى الأمراض العقلية) ناجم عن هذا المستوى.

4.    ثم يأتي الجسم العقلي الذي يعبِّر عن المملكة الإنسانية؛ وهو المقعد الذي تجلس عليه النفس، والنقطة البدئية التي تحاول النفس من خلالها ربط الإلهامات العليا بالشخصية. ما تزال الأمراض الناجمة عن هذا الجسم قليلة، لأن الأمراض العقلية تنجم في معظمها عن الجسم الكوكبي أو العاطفي.

لا يوجد شيء متبلِّد أو ساكن في هذا العالم؛ فإن هدف كل مملكة أن تطوِّر درجة أعلى من الوعي. كان من المعروف أن النباتات تستقبل وتحول الطاقة الآتية من الشمس؛ ولكن في السنوات الأخيرة تبيَّن أن النبات حساس لما حوله، وقد يتجنب التنبيهات المؤلمة أو المزعجة، وبالعكس يستعذب التنبيهات المريحة، حتى إن بعض النباتات لها القدرة على اجتذاب الحشرات، ومن بعدُ الإطباق عليها بشيء من العدوانية؛ وهذه من صفات المملكة الحيوانية. كان من المعروف أيضاً أن المملكة الحيوانية مرتبطة بالبقاء وبالتكاثر؛ ولكن العديد من الحيوانات المنزلية تُظهِر صفات عقلية وإرادة تتصف بها عادة المملكةُ الإنسانية والجسمُ العقلي. وبالمقابل، فإن الإنسان، بعقله المنطقي القادر على التحليل والتركيب، يسعى إلى معرفة وقبول نفسه ككائن حكيم ومحب.

إن العقل هو المجال الذي تفصح عن طريقه نبضاتُ الذات العليا عن نفسها، بمساعدة القوانين الكونية السالفة الذكر، مروراً بالنفس، وتتحول إلى تشكيلات فكرية thought-forms، وبعدها تتجلَّى الدوافع العاطفية المعينة من خلال الجسم العاطفي، وتتحول إلى أعمال من خلال الجسد (مخطط 12). هذه التشكُّلات الفكرية قد تحدث خلال النوم على شكل أحلام، أو خلال التأمل على شكل أحلام يقظة، أو قد تتطور بشكل أبطأ على شكل أفكار، وتدخل العقل الواعي على شكل هدف للتحقيق. وبدرجة ما، يستطيع الشخص أحياناً أن ينكر هذه التشكُّلات ويدفنها في أغوار العقل اللاواعي؛ ولكن إذا كانت النبضات مهمة للنضج النفسي فستعاود الظهور بطرق مختلفة وأزمنة مختلفة، حتى تتظاهر في عمل. قد يؤمن بعضهم بالصدف؛ ولكن من المنطقي أكثر أن نرى ما يختبئ وراء ما نسميه صدفة من فرصة تعلُّم تُقدَّم لنا ومن المفترض أن نستفيد منها. إن نتيجة العمل الذي قمنا به والارتكاس الحاصل يتخذ صيغة عاطفية، ومن بعدُ يتحول من جديد بواسطة العقل إلى ذاكرة، فيعبر إلى النفس، حيث تضاف إليه الحكمة وتقارَن النتائج مع النبضات الأولى. (مخطط 12)

 

مخطط 12

من هنا نرى أهمية العقل والجسم العقلي في العمليات التي نقوم بها على الأرض. يقوم التقدير النفسي للأمور على الحدس؛ بينما يعتمد العقل على المحاكمة المنطقية التي تميل لصالح الشخصية، وليس النفس؛ لذلك كثيراً ما يحكم على الأعمال بأنها جيدة أو سيئة، بيضاء أو سوداء، ويصوغها في قوانين وأعراف ومعتقدات تؤثر على أحكامنا كلِّها في المستقبل. إن القوانين توضع في البدء من أجل حمايتنا؛ وبخروجنا على القوانين والأعراف يتهدد مصيرنا. يلقننا إياها عادة أبوانا ومعلمونا والأسرة الذين يحاولون حمايتنا ضمن هذا الجو الأرضي، وتصحبها كلمات من نوع "مسموح" و"ممنوع"، "مباح" و"حرام"، "دونك" و"إياك". تعلِّمنا هذه الكلمات الحذر من النار والطرقات والهاوية والتكلم مع الغرباء – وهذه نصائح تفيدنا في الشعور بالأمان؛ ولكن المشكلة أن النصائح أحياناً تكون متأثرة بتجارب الناصح ولا تنطبق على كل الظروف والأوضاع الأخرى.

هنالك ما يسمى بدورات السبع سنوات للحياة. إن أكثر السنوات خطورة هي السبع الأولى؛ ففيها تتثبَّت المعتقدات والمبادئ التي قد تكون صحيحة أو خاطئة. والأشيع أن تكون صالحة لبعض الأوقات، وخاطئة لأوقات أخرى. وعلة دخول هذه المعتقدات وتثبُّتها في الشخصية أن الفرد ههنا متكل على الأهل والقائمين على تربيته في الطعام والشعور بالدفء واللباس والحب. ثم تأتي السنوات بين 7 و14 كفترة عصيان؛ وهنا يشعر الفرد بحاجة لتحديد ما هو هام بالنسبة له أو بالنسبة لأهله، ويستمر في هذا بين 14 و21 ليُظهِر الجانب أو القطب الآخر من الوجود، عكس أهله، فيستمع لموسيقى مختلفة، ويقص شعره بأشكال عجيبة، ويصاحب رفاقاً عجيبين! وبين 21 و28 يطبِّق الأفراد ما أخذوه بشكل عملي. وبين 28 و35 يعودون لإدخال بعض قيم والديهم إلى شخصيَّتهم ويمزجونها مع معتقداتهم – وهذا يشير رمزياً إلى دورة السبع سنوات لكوكب زحل. بعض الأشخاص يجتازون المراحل ببطء ليجدوا أنفسهم يدخلون فترة العصيان في الأربعين أو الخمسين، فيغيِّرون عملهم، وقد يغيرون أزواجهم. إن علينا أن ندرس معتقداتنا وقوانيننا بين فترة وأخرى لنرى هل ما تزال صالحة لوقتنا الحالي أم ليست كذلك.

يقوم الجسد بالتعبير عن الدوافع من خلال العواطف. إن للعواطف emotions حركة باتجاه الخارج: فهي مؤلفة من حرف e (اختصار energy) مع حركة motion؛ و يتم هذا باستعمال خمسة ذبذبات مختلفة من الطاقة المعروفة في الطب الصيني، وهي: النار والتراب والمعدن والماء والخشب، للتعبير عن الدافع أو النبضات على مستوى فيزيائي (مخطط 13). إن الفعل يولِّد ردة فعل أو استجابة تُسجَّل بواسطة الحواس الخمس على شكل مشاعر feelings في الجسم الكوكبي؛ وهذه المشاعر تتخذ شكلاً في الجسم العقلي؛ ومن بعدُ تدخل النفس لتقارِن مع الدافع الأصلي. المشاعر، إذن، تتجه نحو الداخل؛ أما العواطف فنحو الخارج. الجسم الكوكبي هو المقعد الذي تجلس عليه كلا المشاعر والعواطف؛ وما نعبِّر عنه بالعواطف نسجِّله بالمشاعر.

إذا حدث توافُق بين الدافع والاستجابة، يُسجَّل هنا انسجام وينمو الوعي النفسي. إذا أحسن الممثل أداء دوره وصُفِّق له بحرارة فهو يقارِن التصفيق الحار والوجوه المبتسمة مع ما اختزنه في السابق، فيعرف بذلك أنه أدَّى دوره بشكل جيد ويشعر بالانسجام؛ لكن إذا لم يحصل التوافق المطلوب لا يشعر بالانسجام، فيعيد الكرة بشكل آخر عدة مرات حتى يحصل الانسجام المطلوب. وللعواطف ألوان، ولكلِّ لون دلالة عاطفية معينة ليس ههنا محلُّ الخوض فيها. ولا يمكن تصنيف العواطف إلى جيدة أو سيئة، على عكس المحاكمات العقلية. إنها فقط تعبير له أهمية في هذه الحالة بالذات، ويجب ألا يصير لها سلطان علينا، سواء كانت معبَّراً عنها أم لا (مخطط 13).

 

مخطط 13

هنالك ثلاث مشاكل أساسية على هذا المستوى:

1.    أن يحدث تواحُد مفرط مع العواطف: كثيراً ما يجيب هؤلاء الأشخاص عندما يُسألون عن صحتهم: "أنا سعيد، أنا غاضب، أنا منزعج." وبتكرار هذه العبارات طوال الوقت تصير هذه هوية شخصية بدلاً من كونها حالة نفسية عابرة: "أنا إنسان غاضب، أنا إنسان ممتعض، أنا إنسان سعيد." من المفيد والأنسب القول: "أنا أبدي غضباً في هذه اللحظة." لقد وُجِدَت المشاعر والعواطف من أجل استعمالها خارجياً أو داخلياً للاستفادة من دروسها التعليمية للنفس (مخطط 14).

كثيراً ما يستر التعبيرُ العاطفي المفرط خوفاً من تغيير الوضع السيئ الحالي، لكنْ المجرَّب على الأقل؛ ويعبِّر هذا عن نفسه على المستوى البدني بأمراض، مثل التهاب المفاصل التنكُّسي وبعض الأمراض العصبية التي تعيق الحركة. حتى السعداء بشكل دائم قد يخفون وراء سعادتهم خوفاً من النظر إلى الداخل واللقاء مع "ظلِّهم". فإذا كنتُ كثيرَ الغضب عليَّ عندئذٍ أن أتساءل عن ذلك العائق الطاقي الذي يسبب غضبي، وعليَّ التخلص منه وتفريغه؛ وهذا يتطلب مني أن أغير الطريقة التي أرى بها هذه الحالة. ويتعين علينا أحياناً أن نتخذ دور المشاهد، وليس الممثل، للنظر إلى الأمر بشكل موضوعي.

 

             مخطط 14

2.    أن يحدث نقص تواحُد مع العواطف أو تثبيط لها: هؤلاء الناس كثيراً ما يقولون: "أنا أعتقد" و"أنا أرى" بدلاً من قولهم: "أنا أشعر." يجيبون على السؤال بشكل دقيق ممتاز، ولكنهم لا يذكرون الشعور أبداً. هؤلاء هم المستمعون الأبديون، يصغون للجميع وهم يتحدثون عن مشاكلهم، ولكن لا يذكرون مشاكلهم هم؛ يشعرون بالامتعاض، ولكن لا يشتكون، لأنهم يخافون من تفريغ هذا الغضب (مخطط 14).

بحسب الطب الصيني، يتركز هذا الغضب في قناة الكبد، ويولد أمراضاً لها علاقة بهذه القناة، كالاختلاجات، والشقيقة، والتهاب المفاصل المتنقل، والإغماء، وغيرها. إن البكاء والغضب، عندما يُلجَأ إليهما بشكل مناسب وعابر، تفريغان طبيعيان للطاقة يسمحان بتحرير الوضع الحالي المتلبِّد للسماح لخبرات جديدة بالحدوث. قد نكون غاضبين على وضع عملنا ونكره مديرنا، ولكن ليس عندنا القدرة على البحث عن عمل جديد، فنصير مكتئبين وغاضبين من الداخل؛ وفجأة نتذكر أنه كانت لدينا هواية معينة، ونبدأ بالعمل؛ ثم نلحظ تمتعنا بالساعات في هذا العمل الذي يتحول من هواية إلى عمل لكسب الرزق. لسنا بحاجة دائماً للإصابة بمرض، أو لتحولات خارجية كبيرة، أو لتجربة روحية شديدة، لنفرِّغ غضبنا. إن الطاقة الراكدة تؤدي إلى المرض، ووعيها يقود للحرية. أحياناً نرى الرجل يصرخ في وجه زوجته طريحة الفراش؛ فإذا أمعنَّا النظر وجدنا أن الرجل خائف وليس غاضباً؛ فهو لا يتحمل فكرة أن تتركه زوجته. كذلك الأطفال الذين تربوا في ظروف غير آمنة وفي عائلات مضطربة، مع عادات إدمانية أو أمراض عصبية أو نفسية، كثيراً ما يلجئون إلى إخفاء مشاعرهم ليستطيعوا النجاة والبقاء.

3.    أن يحدث تواحُد مع رغبات الشخصية بدلاً من رغبات النفس: وهذه أكثر الاضطرابات ظهوراً. الاضطرابان السابقا الذكر يعبِّران عن قطبي وجود حول نفس الفكرة، ويؤديان إلى انسداد في مسار الطاقة، غالباً ما يكون بسبب الخوف. أما هذا الاضطراب فهو تسجيل الشعور بواسطة الجسم العقلي وعدم تمريره إلى النفس للنظر فيه موضوعياً. (المخطط 14) هنا قد يكون الشخص مسروراً تماماً في الصباح، ولكنه يرى أشخاصاً غير مسرورين ومكتئبين، فيصاب بالاكتئاب، أو يكون مكتئباً، فيرى أشخاصاً يقولون له كم يبدو بصحة ممتازة فيبتهج.

هذه "العقد" المسبِّبة لحالتنا مترسِّخة في داخلنا من عمر مبكِّر، وتنجم عن عبارات عديدة سمعناها في طفولتنا: "لن تنجح في حياتك أبداً!"، "توقف عن القراءة وافعل شيئا نافعاً!"، "إذن أنت الثاني في صفك! لماذا لم تكن الأول؟"، "اخرس (التي تعني بمعنى ما: "اختفِ من الوجود")!"؛ وبالتالي فإننا نفتش في الخارج عن شيء يمنحنا الثقة بدلاً من اللجوء لداخلنا. من الصعب جداً أن نتغلب على هذه الأفكار ونثق بأنفسنا، لذلك نحتاج لعمل متواصل. وفي الحقيقة، لا يوجد فشل في عين النفس، بل محاولات وسير مستمر؛ أما على مستوى الشخصية فهناك قطبان: النجاح أو الفشل. إذا لم أقيِّم نفسي جيداً سأستمر في رؤية أشخاص يذكِّرونني بأني لست جيداً. فنحن في الحقيقة صانعو أوهامنا. قد يحتاج التعلم لأن نصغي إلى حدسنا فترة طويلة؛ ولكن، في النهاية، نجد أن الحكمة الناتجة أكثر مصداقية من سماع محاكمات الآخرين. الحل هنا هو التمعُّن والاستغراق في النفس غير المحاكِمة التي تغدق المحبة غير المشروطة.

مراكز الطاقة أو الـتشاكرا

في كل جسم من الأجسام الطاقية الدقيقة الستة سبعة مراكز طاقة تدعى بالـتشاكرا chakra؛ وهي ترتبط ارتباطاً دقيقاً مع الدماغ والنخاع الشوكي (مخطط 15).

 

مخطط 15: مراكز الطاقة السبعة وتوضعها التشريحي على طول العمود الفقري

      1.        تشاكرا القاعدة عند العصعص؛ ترتبط به غدة الكظر.

      2.        التشاكرا العجزي عند أعلى الحوض وأسفل البطن؛ ترتبط به الغدد الجنسية.

      3.        تشاكرا الضفيرة الشمسية في الشرسوف؛ ترتبط به غدة البنكرياس.

      4.        تشاكرا القلب وسط الصدر؛ ترتبط به غدة التيموس.

      5.        تشاكرا الحنجرة في أسفل الرقبة؛ ترتبط به الغدة الدرقية.

      6.        تشاكرا "العين الثالثة" بين الحاجبين؛ ترتبط به الغدة النخامية.

      7.        تشاكرا التاج أو القمة في أعلى الرأس؛ ترتبط به الغدة الصنوبرية.

هنالك طبعاً مراكز عديدة أخرى أصغر من السابقة الذكر، مثل المراكز الموجودة في القدمين واليدين وصيوان الأذن وخلف الركبتين إلخ؛ وهنالك جهاز دقيق مكوَّن من قنوات أصغر بكثير يطلق عليها اسم nadi، تربط التشاكرا بالجسم الفيزيائي، وهو نظام الأقنية، المعروف جيداً من خلال الطب الصيني، الذي يميِّز الجسم الأثيري. الطاقة التي تدخل التشاكرا من الأجسام المختلفة يتداخل بعضها مع بعض لتشكل طاقة واحدة تتخلل الجسم الأثيري. وهنالك بعض النصوص التي تذكر وجود تشاكرا أخرى، مثل التشاكرا الثامن الذي يطلق عليه "الطفل النجم" Starchild والذي يقع أعلى الرأس، ويرتبط مع الذات العليا.

يشبَّه التشاكرا بالوردة المتعددة البتلات، مع توضع طاقة الجسم النفسي في المركز، مرتبطة بالذات العليا؛ ثم تتألف البتلات من الجسم العقلي، ثم الكوكبي، فالأثيري. وكلما كانت الوردة متفتحة أكثر كان الشخص أكثر انسجاماً مع طاقة نفسه. وتتوقف درجة تفتح الوردة على مقدار الوعي النفسي للشخص وللجنس البشري بأكمله (مخطط 16).

 

مخطط 16

ترتبط تشاكرا القاعدة والعجز والضفيرة الشمسية بالشخصية؛ بينما ترتبط تشاكرا القلب والحنجرة والتاج بالنفس؛ وتكون العين الثالثة محطة وصل بين النفس والشخصية. يتلقى تشاكرا القاعدة إرادة الشخصية؛ أما تشاكرا التاج فإرادة النفس؛ وعند الاتصال بينهما يتحول وعي الذات كجزء من الحياة على الأرض إلى معرفة الذات كجزء من المنبع الكوني الخلاق. يعبِّر تشاكرا العجز عن إرادة الشخصية؛ أما تشاكرا الحنجرة فيعبر عن إرادة النفس؛ وعند الاتصال بينهما يتحول الإبداع والتعبير من الشخصية إلى الكائن الروحي بأسره وإلى الذات الداخلية (مخطط 17).

 

مخطط 17

يجتذب تشاكرا الضفيرة الشمسية الحاجات الضرورية لرغبات الشخصية؛ أما تشاكرا القلب فيجتذب الحاجات الضرورية لرغبات النفس؛ وهذا الجذب هو طاقة المحبة. ففي حين يعبِّر التشاكرا الرابع عن المحبة غير المشروطة، يعبِّر الثالث عن الحب الشخصي القابل للتغير بحسب متطلبات الشخص (مخطط 17). إن الإنسان الروحي يعبِّر عن الدوافع الآتية من النفس التي تدخل الجسم عن طريق مركز الطاقة أو التشاكرا الرابع المعروف بشاكرا القلب؛ أما إذا لم نكن متمركزين في أنفسنا فإنها تدخل الجسم من خلال التشاكرا الثالث المعروف بالشمسي؛ وهنا يعبَّر عن دوافع الشخصية وليس النفس. تلعب العين الثالثة دور الطاقة المفعِّلة الأساسية لضمان تكامل الطاقة في التشاكرات. وربما كان هذا ما يعبَّر عنه في نسختي الـDNA ضمن الكروموسوم (مخطط 18).

 

مخطط 18: لولبي الـDNA في الكروموسوم

سأعدد هنا بعض الاضطرابات المرافقة لخلل عمل كل تشاكرا من هذه التشاكرا كما رآها بعض الباحثين (ولا أزعم هنا أن هناك براهين حاسمة على هذا بالطريقة العلمية التقليدية).

      1.        التشاكرا الأول: الإمساك، البواسير، التهاب الكولون، داء كرون، أصابع القدمين واليدين الباردة، السلس البولي، التهاب المفصل الحرقفي، الحصيات الكلوية، ارتفاع الضغط، انخفاض الضغط، العنانة، تشنج المهبل، إلخ.

      2.        التشاكرا الثاني: تشنج الكولون، الاضطرابات الجنسية الأنثوية (مثل تناذر ما قبل الطمث، قلة أو فرط النزف الطمثي، الورم الليفي الرحمي، أكياس المبيض، ورم بطانة الرحم)، والذكرية (مثل أمراض الخصية والموثة أو البروستات).

      3.        التشاكرا الثالث: السكري، التهاب البنكرياس، أمراض الكبد، الحصيات المرارية، القرحة، الفتق الحجابي والتهاب المري، الداء الزلاقي، أمراض الطحال، إلخ.

      4.        التشاكرا الرابع: أمراض القلب، أمراض الجهاز المناعي (مثل فرط الحساسية)، السرطان، الإيدز، أمراض المناعة الذاتية، وتناذر الإنهاك المزمن Chronic Fatigue Syndrome.

      5.        التشاكرا الخامس: أمراض الدرق، الربو، التهاب القصبات وانتفاخ الرئة، التهاب اللوزتين، اضطرابات السمع والطنين، قرحات الفم، مشاكل الأسنان، القَمَه العصبي، التصلب اللويحي، إلخ.

      6.        التشاكرا السادس: الصداع التوتري، الشقيقة، الأمراض العينية، أمراض الجيوب، إلخ.

      7.        التشاكرا السابع: الاكتئاب، السكيزوفرينيا (الفصام)، داء باركنسون، داء ألزهايمر، الصرع.

وأخيرا، سأذكر – باختصار شديد جداً – من خلال ما ذكرت ماذا يعني المرض:

      1.        قد يعني المرض ظاهرة من ظواهر الحياة تدل أنه قد حان الوقت للتغيير واكتساب فرص جديدة للنمو النفسي.

      2.        في معظم الحالات يكون المرض في العقل والنفس قبل ظهوره على مستوى جسمي؛ وقد نختار أن نتعامل معه على المستوى النفسي–العقلي، أو قد نختار الإثبات الفيزيائي.

      3.        إذا لم يُحَل الخلل على مستوى عقلي عندئذ يُظهِر المرض الفيزيائي قطبَ وجود بلغنا فيه درجة قصوى.

      4.        الأعراض والعلامات التي أظهرها المرض تقول للشخص إن هناك شيئاً مختلاً يجب العمل عليه.

      5.        يمكننا استعمال الرسالة لعلاج الظاهرة الفيزيائية فقط أو لعلاج الشخص بكلِّيته.

      6.        لا يقدِّم المرض رسالة تبلِّغ عن المرض وحسب، بل وسبل الحلِّ أيضاً. قد يكون من الصعب قبول هذا في أمراض ما تزال مستعصية، مثل التصلب اللويحي، السرطان، والإيدز، لكن أغلب المرضى يذكرون حدوث تغيرات هامة في حياتهم، ليس فقط على مستوى بدني بل في نظرتهم إلى الحياة.

      7.        يكون المرض هو الذي يخاطب الشخص ويبلِّغه أن شيئاً داخلياً بحاجة للتعبير عنه؛ وعندما يُنصَت للرسالة يفرَّغ المرض. ولكن للأسف، في معظم الحالات، يكون المرض غير عكوس، وبالتالي، يصير عبئاً إضافياً. يمكن تسمية النقاط السبع السالفة الذكر بـالكسب الأولي، وتأتي من مستوى النفس.

      8.        باستمرار المرض، يتحول الكسب الأولي إلى كسب ثانوي، إلى كسب للشخصية. لا يمكن الرجوع لحالة الصحة ما لم نُعِدْ التوازن، وما لم ندرك أن أي كسب حصلنا عليه، سواء للنفس أو للشخصية، هو وهم. فالمرض ليس ضعفاً، بل حركة نحو الأمام.

نقاط أخرى متمِّمة:

الجانب الأيمن من الجسم يعبِّر عن الجانب الذَكَري، المنطقي، القوي، المفصح، والمؤكد؛ بينما الجانب الأيسر هو الجانب الأنثوي، الحساس، المستقبل، الحدسي، والراعي. أيضاً، بالنسبة للمفاصل، يعبِّر الكتف عن الرفع والحمل، وآلامه قد تعني أن الشخص يحمل مشاكل الآخرين دونما ضرورة؛ ويعبِّر المرفق عن القبول، وآلامه تعني، ربما، أن الشخص يدفع الناس دائماً بعيداً ولا يقبل مساعدتهم؛ والرسغ يعبِّر عن الحرية المبدعة، وآلامه تعني الإحساس بالمحدوديَّة والضيق؛ والأصابع تعني التلاؤمات اللطيفة الدقيقة مع الحياة، وآلامها قد تعني الحاجة لليونة أكثر أو فرط الدخول في التفاصيل – والسبابة بالذات تشير للمحاكمة والانتقاد؛ والحرقف يعني الثبات، والركبة الفخر والتواضع، والكاحل حرية الحركة، وأصابع القدم التغيرات الدقيقة للحركة نحو الأمام، إلخ.

إن جسمنا ونفسنا وعقلنا كتب ما تزال تنتظر من يقرؤها بتواضع ورحابة صدر. فوحدها قراءة متأنية كهذه، تستدمج "الأبعاد المتوازية"، من شأنها أن تفتح لنا أبواب الصحة الكلانية.

 

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود