الفن رؤيا متكاملة إلى الوجود

لكي نحصل على البديل علينا أن نحصل على الوجود *

حول الفن الحُروفي و"استلهام" التراث

  حوار مع الناقد التشكيلي

سمير صايغ

 

سُئِل أحدهم عن الخط، متى يستحق أن يوصف بالجودة، فقال: "إذا اعتدلت أقسامُه، وطالت ألفُه ولامُه، واستقامت سطورُه، وضاهى صعودُه حُدورَه، وتفتَّحت عيونُه، ولم تشتبهْ راؤه ونونُه، وتساوتْ أطنابُه، واستدارتْ أهدابُه، وصَغُرَتْ نواجِذُه، وانفتحتْ محاجرُه، وقام لكاتبِهِ مقامُ النسبةِ والحِليَةِ، وخُيِّل إليه أنه يتحرك وهو ساكن...".

فيما بعد، صارت الحروف رسوماً، ودخلتْ في بنية اللوحة التشكيلية. وفيما بعد، تحول من الخط العربي إلى تيار سُمِّي بالحُروفية، يشخِّص الصورة ويجرِّدها...

قضايا كثيرة أثارها الحرف العربي ويثيرها... نحاول من خلال لقائنا بالناقد التشكيلي سمير صايغ الإجابة عن بعضها.

***

تقول الناقدة سيفريد كاليه: "لعلني لا أغالي كثيراً إن قلت إن من جميع ما شاهدته في البينالي العربي عام 1974 لم أجد نتاجاً يفصح عن مصدره العربي وينطق به إلا ذلك الإنتاج الذي يتصل باللغة، أي يتخذ من فنون الخط العربي والحروف مادةً له...". [فما تعليقك؟]

هذا الكلام، فيه الكثير من الحقيقة، وفيه الكثير من الالتباس أيضاً. الحقيقة هي أن ظاهرة التيار التشكيلي الذي سار في محاولة إحياء التراث أو استلهامه والمضي مع القيم الفنية للَّوحة الحديثة تيارٌ يشكل في الحقيقة ظاهرة ملفتة. فهو أولاً التيار الذي يضم تحت شعاراته أكبر عدد من الفنانين التشكيليين في معظم – إن لم نقل – في جميع عواصم العالم العربي الكبرى. وهو، بطبيعة هذا العدد وهذا الاتساع، يضمُّ أيضاً مذاهب متعددة إذا جاز لنا القول في التيار نفسه.

أما الالتباس فهو يقع عندما نقف أما مسألة الهوية، ومعناها الحقيقي، وخصائصها الجمالية، ودلالاتها الفنية، وما إلى ذلك من أسئلة تسعى إلى الإمساك بجوهر الأسماء والصفات. هنا لا بدَّ أن تبدو الحقائق أكثر عمقاً وأقل وضوحاً.

هل يصحُّ أن تكون الحُروفية هي المعبِّر الأوحد عن الهوية؟ وهل يمكن للفنان أن يتوقف عند "الحرف" كوسيلة تعبيرية ثابتة، بعيداً عن الأساليب الفنية الأخرى في عملية البحث عن الهوية؟

بالطبع لا. فمن السهل أن تنتسب اللوحة الحديثة إلى هوية "عربية" لحظة اشتغالها بالحروف – حروف اللغة العربية؛ وبالتالي، فمن الممكن أن نقول عن هذه اللوحة إنها لوحة "عربية". ذلك من أسهل الأمور، لكنه الأكثر سطحية والأكثر سذاجة أيضاً!

في الفن علينا، لحسم مثل هذا الموضوع، أن نعود إلى خصائص وجماليات فنِّ الخطِّ، إذا كان هذا الخط تراثاً مستوحى، أو نعود إلى فلسفة الفن "العربي" إذا كان هو المقصود في عملية الإبداع، لا اللغة.

نحن، حتى الآن، مقصِّرون ومختلفون وضائعون ومشتتون في مثل هذا الموضوع. وعلى سبيل المثال، لسنا متفقين على التسمية: هل المقصود بـ"الفن التراثي" الفن العربي، الفن العربي الإسلامي، أم الفن الإسلامي؟ وهل المقصود هو فن الخط منفصلاً عن الزخرفة، أو العمارة، أو الحفر، وما إلى ذلك؟ وهل المقصود أشكال ومظاهر وتجلِّيات هذا الفن؟ أم المقصود فلسفته الجمالية أو رؤيته للإنسان والكون؟ وما هو الحدُّ الزماني في ذهابنا إلى الماضي، أين يبدأ وأين يتوقف؟ وما هو الحدُّ المكاني في تجوالنا على هذه الخارطة، أين يبدأ وأين يقف؟

في كلِّ هذا، نحن، كفنانين ونقَّاد ومثقفين ومشاهدين، لم نحسم بعد، أو بالأحرى لم يستقم حوارُنا بعد. من هنا تبدو مسألة الهوية مسألة أبعد بكثير من كون اللوحة الحديثة تتضمَّن بعض الحروف "العربية" لتكتسب هويتها الفنية.

جماعة "البعد الواحد" التي ضمَّت مجموعة من الحُروفيين الأوائل (أمثال جميل حمودي، جواد سليم، عمران القيسي، سعيد العكار، رافع الناصري، محمود حمَّاد، وجيه نحلة، سعيد نصري، حسن غنيم، وآخرين)، إلى أي مدى استطاعت هذه الجماعة استلهام الخط "العربي" تشكيلياً؟

قد تكون جماعة "البعد الواحد" من التجمعات الأولى التي تقدمت خطوات جريئة نحو المشكلات الفنية في التيار الحروفي. ذلك أن معظم التجارب الفنية التي رفعت شعار العودة إلى التراث الفني إنما كانت تستجيب أولاً للتطلعات السياسية، وليس الفنية.

علينا أن نقف عند هذه النقطة لكي نفهم حقيقة الالتباس الذي يحاصرنا اليوم في مثل هذا الموضوع. فالعودة إلى التراث، وبالتالي العودة إلى الهوية، هو في الأصل طرح سياسي جاء مع الأيام الأخيرة للقرن التاسع عشر، بكل ما فيه من تحولات سياسية وحضارية وقومية. فالتمسك بالهوية كان شرطاً جوهرياً لكي لا يكون الانفتاح على الحضارة الغربية المنتصرة تبعيَّة؛ وفي الوقت نفسه ليكون مبرراً شرعياً للانفصال أو للعداء مع السلطنة العثمانية المريضة. تجلَّى هذا الموقف مرة أخرى بعد الحرب العالمية الأولى والثانية كشرط أساسي لحلِّ الازدواجية بين التقدم والاستعمار. إذ لا يمكن أن تكون الحضارة الأوروبية تقدمية أو متقدمة وهي، في الوقت ذاته، مستعمرة للعالم العربي. من هنا نستطيع أن نفهم ظاهرة التيار الذي راح يبحث عن إيجاد خصائص مميزة تلتقي وتنسجم مع التيارات السياسية والاجتماعية والقومية التي نشطت مع عصر الاستقلال العربي.

فإذا أعدنا اليوم ما قالتْه الأحزاب والمفكرون والمثقفون والتنظيمات القومية في العشرينات والثلاثينات والأربعينات في مسألة التوجُّه الحضاري نجد أن ما قيل في السياسة هو نفسه الذي تردَّد في الفن وفي الثقافة بشكل عام.

في النظرية تقع هذه الاستجابة في الأصالة؛ أما في الواقع فثمة خللٌ وقعنا فيه جميعاً، منذ القرن التاسع عشر، نكتشفه في كل مرة نسعى فيها فعلاً إلى تلمُّس إحيائنا للتراث أو استلهامنا إيَّاه. فثمة فارق شاسع بين خطواتنا التي توجَّهت نحو الغرب وفنونه، وبين الخطوات التي ذهبت إلى الماضي وفنونه. الفارق بالطبع لصالح الغرب!

نعود إلى جماعة "البعد الواحد". أقول: قد تكون هذه الجماعة هي الأولى التي طرحت بعض المشكلات الفنية المحضة. ففي التسمية أولاً نقف أمام باب لا بدَّ أن يقودنا إلى واحدة من صفات الفن التراثي، سواء أكان خطاً أو زخرفة أو ما تجلى على النحاس والزجاج والخشب وغيرها. فعبارة البعد الواحد إنما تعني في الفن غياب مبدأ المحاكاة عن الطبيعة، والوقوف عند مبدأ التسطيح. اللوحة ليست نقلاً أو إيهاماً بأنها الواقع مرة ثانية، وبالتالي سندخل مع واحدة من أولى الخصائص الفنية للرسم في الفن الإسلامي.

مع ذلك، لم تذهب هذه الجماعة إلى أهداف أخرى، أو إلى تحقيقات فنية تشمل بقية العناصر وتكمل المسار الفني، لتستقيم النظرية بين إحياء ومواكَبة. فلقد أسرعت هذه الجماعة للانتصار لقيم اللوحة الحديثة التي كانت حركةُ الفن الحديث في عواصم الغرب جادةً في إبرازها، في تعميمها، وفي تحقيقها. وهو الأمر الذي دفع بهذه الجماعة لتكون واحدة كمثل غيرها من التجمعات التي ساهمت مساهمة لا بأس فيها في تحقيق اللوحة التشكيلية العربية، المسمَّاة حديثة، التي نجد لها تجلِّيات هنا وهناك في كل العالم العربي، كجزء لا يتجزأ من النتاج المعاصر.

إلى أي مدى تواصل الحاضر مع التراث في عملية بناء اللوحة الحُروفية؟

علينا أولاً أن نتفق إذا كان الخط العربي، كما عرفناه عبر مراحله الزمنية، فناً قائماً بذاته، وإذا كنَّا في لوحتنا الحديثة نمضي معه كفن. ذلك أن المشكلة هي في فلسفة هذا الفن الجمالية. فنحن نعرف، بعد كثير من التجارب الموازية في الشعر والنقد وفي الكتابة، أن الاستلهام لا يرتفع إلى مستوى الإبداع إلا إذا كان استلهاماً للروح – أي لتلك الرؤيا التي لا بدَّ أن تكون وراء كل فنٍّ حقق إبداعاً أو ترك أثراً في مسار الشعوب. وهذا ما أقصده عندما أشير إلى الخلل الذي تنطوي عليه خطوات استلهام التراث.

الجميع يرى إلى الخط جمالاً وروعة وإبداعاً، ويرى فيه أيضاً انتماءً وقرباً، وما إلى ذلك من رؤى. إلا أننا في الواقع نجهل – أو تجهل أكثريتنا – الكثيرَ من فلسفة هذا الفن ومن خصائصه وصفاته الجوهرية، كما تجهل الرؤى التي كانت تختبئ وراءه والتي شكَّلت روحه وجوهره في التجلِّي وفي الاستمرار. ولا أغالي إن قلت إن آثار هذا الفن، المفترَض أن يعود إليها الفنانون والباحثون والنقاد والمثقفون ليستلهموها كما يقولون، نادرة وتكاد أن تكون مفقودة من أمامنا، ومن عواصمنا ومن متاحفنا، وحتى من بيوتنا. هي قلة نادرة، تكاد تُعَدُّ بالعشرات وحسب، تلك التي اطَّلعت، على سبيل المثال، على الأعمال الأصلية لأيٍّ من الخطَّاطين الكبار، من نحو ابن مقله، ابن البواب، ياقوت المستعصمي، قره حصاري، وسواهم؛ وقلة نادرة أيضاً اطَّلعت على منمنمات أو رسوم الواسطي وبهزاد؛ وقلة أيضاً تلمَّست عن قرب كيف كان يتم "التكفيت"، "التذهيب"، "التعشيق"، "التلوين"، إلخ؛ وقلة نادرة أيضاً تعرف أن جميع هذه الفنون إنما كانت فنوناً جماعية يتم صنعُها في محترفات وبيوت وقصور تعجُّ بالمعلِّمين والمريدين والصُنَّاع، وتخضع لنُظُم وقيم ومراتب، تشكِّل في مجموعها نظاماً متكاملاً يجمع بين السلطة في أعلى مراتبها وبين الأفراد في أدنى أحوالهم ومراتبهم.

هذا الانقطاع عن الغوص في خصوصية التراث واستلهامه والسعي إلى تراث آخر، ما سببه برأيك؟

في كتابي عن الفن الإسلامي أشرت إلى أن القطيعة مع الماضي بدأت حين تحولت السلطة في السلطنة العثمانية إلى الحضارة الأوروبية كحضارة متقدمة. أقول "السلطة" لأن فنَّ التراث فنٌّ غير منفصل عن السلطة (بالمفهوم الإيجابي وليس بالمفهوم السلبي، أو بالمفهوم الذي نحمله اليوم عن علاقة الفن بالسلطة).

تراثياً، كانت السلطة تلتجئ إلى الفن لتؤكِّد شرعيتها كسلطة؛ إذ لم يكن الفن في تراثنا وسيلة بيد السلطة لتأكيد هيمنتها. تراثياً، تتغير السلطات والفن واحد. وثمة أمثلة كبيرة... وآخر السلطات التي أقامت هذه العلاقة كانت السلطة العثمانية، وما قام به السلطان سليم والسلطان سليمان القانوني وغيرهما من تحويل قصر السلطنة إلى مقرٍّ للفنانين لخير دليل على إيجابية هذه العلاقة.

في منتصف القرن التاسع عشر جاء قصر الدولما بكشي (وهو آخر قصر للسلاطين العثمانيين) متقيِّداً في هندسته، وعناصره جميعها، بالنماذج الفنية الغربية. بنظري، هذا التحول يشكل فاتحة الانهيار، أو فاتحة القطيعة مع الماضي. ثم جاء الاستشراق، أو عصر الانفتاح على الحضارة الغربية، أو عصر الاستعمار، وكان كالضربة القاضية.

وإذا أردنا قراءة أخرى لهذا الانقطاع فإننا سنجد جواباً شافياً في سقوط بغداد على أيدي المغول. وإذا أردنا أن نكون حكماء، نقول إن سبب هذا الانقطاع إنما يكمن في القلب الذي لم يعد يؤمن، والذي لم يعد يخفق، وفي الروح التي هجرها النور.

لكن ما نلاحظه مؤخراً أن هناك عودة إلى التراث؛ نرى رجوعاً إلى الخط العربي عند الكثير من الفنانين...

هناك حقائق لا بدَّ من التوقف عندها، حقائق أجد فيها مفارقات مثيرة. فمنذ أواخر القرن التاسع عشر حتى هذه اللحظات، يشكِّل الغرب، بمعاهده وجامعاته ومدارسه الفنية، ما يشبه "الحج" بالنسبة إلى فناني الشرق، عرباً ومن جاورهم. وجميع الفنانين التشكيليين اليوم، في كل عواصم العالم العربي وفي معظم تياراتهم الفنية، إنما هم خرِّيجوا هذه المعاهد من دون استثناء. وبالتالي فإن الفن التشكيلي العربي المعاصر هو جزء لا يتجزأ من الفن الحديث الذي هيمنت قيمُه ومفاهيمُه حتى باتت تشكل بالنسبة لنا المفاهيم المطلقة للفن.

أود أن أشير هنا إلى أنني، في مثل هذه المقارنة بين الفن في الغرب وفن التراث، لا أسوقها من أجل تفضيل فنٍّ على فن؛ إنما أسوقها للوصول إلى أن ثمة فناً آخر له رؤيته وفلسفته الجمالية، قد يلتقي وقد يختلف مع الفنِّ كما هو سائد في الحضارة الغربية الحديثة.

أقول هذا لأشير إلى أن المفارقة تكون في أن الذي وقف أمام فنِّ التراث لم يكن الفنانون العرب، أو فنانو الشرق، بل هم فنانو الغرب أنفسهم. وفنانو ثورة الفن الحديث بالذات، بدءاً بكاندنسكي، وبول كليه، وماتيس، ومن سار على طريقتهم. فإذا ما استثنينا القليل القليل فإن اللوحة التراثية، أو الحُروفية، في عالمنا اليوم، هي لوحة تستوحي في الحقيقة أعمال بول كليه، أي تستوحي التراث كما رآه بول كليه نفسه أو ماتيس أو غيرهما. ولذلك، لا تزال هذه اللوحة تنتمي في جوهرها إلى القيم والمفاهيم الغربية، أو إلى مفاهيم اللوحة الحديثة في الأسلوب والتقنية والذوق والجمالية والرؤية. أما الالتباس في انتمائها إلى هوية شرقية فهو ناتج عن تلك العناصر التي التقى فيها الفن الحديث مع الفن الماضي، ولو جاء ذلك عن عدم قصد.

إذا كنت لا تفضل فناً على آخر فأين يكمن الخلاف؟

الخلاف في الرؤيا، الخلاف في فهم معنى الفن، ودور الفنان، وفي الفلسفة لمعنى الإنسان والوجود... أجل، الخلاف هو في هذه القضايا الكبرى وفي هذه البديهيات. فعندما نقف عند حقيقة أن الفن الإسلامي فنٌّ وظائفي وجماعي، بينما الفن الغربي فن فردي وتعبيري، نقع في الخلاف – وفي الخلاف حتى التناقض – ونقع في فلسفتين: واحدة ترى في الفرد كوناً، وأخرى ترى في الفرد خلية من خلايا الكون. عندما نقف عند حقيقة مثل أن الفن تعبير عن صراع الإنسان مع الطبيعة، مع الموت والحياة، مع الآخر، مع الذات، وأنه سِجِلٌّ لهذا الصراع، كما هو الفن في الغرب، بالمقارنة مع فنٍّ ما هو إلا شهادة على وحدة تجمَع الإنسان والطبيعة، وتجمَع بين الحياة والموت، وبين الذات والآخر، كصور متعدِّدة لحقٍّ واحد، أو لأمر واحد، أو لنظام واحد، سنقع في الخلاف حتى التناقض.

هناك محاولات في لبنان بالذات لتقديم لوحة حُروفية. ترى هل استطاعت هذه المحاولات الوصول بهذا الفن إلى أصالته؟

على الرغم من أن ظاهرة هذا التيار لا تزال أكثر إثارة من نتائجه فإن ما تسعى إلى تقديمه هذه التجارب يحتاج إلى وقت للنضج. فالمسألة أبعد بكثير من النجاح أو الفشل، الجودة أم الابتذال... ولكي لا نقع في الأخطاء نفسها أسارع إلى القول بأن الخطاط أو الفنان أو الرسام وحده لا يستطيع، مهما كان ذا نشاط وموهبة، أن يحقق الأهداف أو التطلعات المرسومة. فالسلطة والمُشاهِد والمجتمع والمدينة والبيت، وما توحي به هذه الكلمات من تفاصيل ومعانٍ، تشترك هي أيضاً في عملية البحث عن الهوية، أو المصالحة مع الذات.

فمن فلسفة الفنِّ الإسلامي ومن خصائصه أيضاً أن مضمونه الفني مضمون يكمِّله المُشاهِد، ذلك أنه في تجلِّياته الأخيرة ما هو إلا شاهد على حقٍّ ما، ولا يكتمل هذا الحقُّ إلا بإيمان المُشاهِد به. وبالتالي فإن المُشاهِد هو أيضاً جزء من الفنان أو هو الفنان ذاته.

هل استطاع الخط العربي وفنونه التعبير عن الذهنية الجمالية الشرقية؟ وهل يمكن لنا القول بوجود جمالية خاصة تتجلَّى في الحرف؟ ألا تحس أن الحرف الصيني مثلاً أكثر جمالية تعبيرية؟

عندما ندرس بالتفصيل النُظُم الجمالية للخط نكتشف أننا كَمَنْ يدرس النُظُم الجمالية للموسيقى أو للشعر التراثيين؛ وبالتالي، نرى أننا نقترب من صياغة رؤيا جمالية واحدة؛ أي أننا، بالفعل، أمام حضارة مكتملة. ولكي لا نطيل الكلام، باستطاعتنا أن نتلمَّس في جمالية الخط عناوين مثل: الشكل كمضمون، والكمال في الإتقان، والجزء ككل، والكل في الجزء، والنقيض كظل، والجمال كمبدأ... جميع هذه الخصائص إنما هي، في الوقت نفسه، شرط للخط وفنِّه. فلا شك، إذن، أن يمثل فنُّ الخط أعمق خصائص الحضارة الإسلامية.

أما إشارتك إلى الخط الصيني فهي إشارة جديرة بالاهتمام والانتباه. ذلك أن الحضارة الصينية أيضاً، مثل الحضارة الإسلامية، رفعت الخط إلى مرتبة الفنون العالية. فالخط الصيني هو أيضاً فنٌّ قائم بذاته كمثل الخط العربي – هذا إذا كنا نفصل بالفعل بين ما نسميه كتابة وبين ما نسميه خطاً.

ما قولك في المحاولات التي تعطي الخط بعداً تشخيصياً فتطوِّعه ليخدم لوحة التصوير؟

لقد كانت هذه الظاهرة واحدة من مظاهر انحطاط الخط العربي منذ عدة قرون. فالخط، أساساً، هو الصورة في المطلق، لأنه يقوم على نظام بنية مظاهر الوجود. هو، في الأصل، نظام الجناح أو نظام الطيران، وهو نظام دوران الكواكب، وهو نظام نمو الأوراق... فلماذا نقلِّل أو نجتزئ من قدرته لنرسم جناحاً بدل الطيران، وورقة بدل الأوراق، ونجمة بدل المجرَّات؟!

يقوم الخط، في أبسط شروطه، على التوازن بين خطٍّ أفقي وخطٍّ عمودي، وعلى توازن بين انحناء واستقامة، وتوازن بين تفتح وانغلاق، وتوازن بين انبساط وانقباض، وتوازن بين اتساع وضيق. وإذا رُحْنا نترجم هذه النُظُم، يقوم الخط على توازن بين فرح وحزن، وبين نصر وانكسار، وبين لين وقسوة، وبين ليل ونهار، وتوازن بين وجود وعدم، وتوازن بين خالق ومخلوق... أيجوز بعد ذلك أن نصرَّ على رسم زهرة بحروف؟!

بعد كل ما تحدثنا به، أترى أن الحُروفية، أو الخط العربي، هي البديل عن كل الفنون الأخرى؟

طبعاً لا. لا نستطيع أن نتحدث عن بديل قبل أن نتحدث عن قبولنا أو قناعاتنا بمعانٍ ورؤى أخرى تتناول الفن والفنان، والجمال والإبداع، وجميع هذه العناصر التي تشكل الموضوع الثقافي أو الحضاري لأي شعب من الشعوب. وسيبدو كلامُنا ادعاءً وسفسطة في الوقت الذي لا تشكِّل فيه هذه القضايا أسئلة مطروحة أصلاً.

ولا أظن أن تحقيق الهوية الحضارية أو المصالحة مع الذات ستتم عن طريق الحُروفية، أو أي لون أو توجُّه آخر. الموضوع أكبر من ذلك وأشكل بكثير. فالخط العربي هو جزء من فنٍّ متعدد التجلِّيات. فلا نستطيع أن نفصل الخط عن العمارة، ولا نستطيع أن نفصله عن الزخرفة، ولا نستطيع أن نفصل الخط عن النحاسيات والخشبيات... وبالتالي، لا نستطيع أن نفصل كل هذا عن مسار الحياة اليومية في نظام المدينة وأسواقها وبيوتها وحدائقها وما إلى ذلك. كذلك لا نستطيع أن نمضي بهذه الفنون بأجزائها أو ببعض عناصرها أو ببعض أشكالها. فمن المستحيل أن يشكِّل الجزء هنا بديلاً عن الكل.

البديل، في الحقيقة، هو رؤيا أخرى بحجم الرؤيا الأولى. والبديل هو فنٌّ آخر بحجم الفن الأول. نحن نبحث عن الهوية، أي أننا نبحث عن الوجود. فلا شك أننا لكي نحصل على البديل علينا أن نحصل على الوجود.

*** *** ***

حاوره وليد محسن

عن البناء – صباح الخير، العدد 810 – 16/11/1991


* نشكر الصديق جبران سعد على تزويدنا بنص هذا الحوار الهام مع واحد من أكابر الاختصاصيين العرب في الفن الإسلامي، منوِّهين إلى أننا وضعنا له عنواناً آخر أقل "تسييساً" (كان العنوان الأصلي هو "تتغير السلطات، والفنُّ واحد")، وجدناه يعبِّر عن جوهر ما أراد سمير صايغ قوله من خلال إجاباته على الأسئلة. (المحرر)

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود