الدنيا أجمل من الجنة لخالد البرِّي

سيرة الوعي المتحوِّل

 

وضاح يوسف الحلو

 

جذَّاب طريف كتاب خالد البرِّي، لكونه سيرة ذاتية لأصولي مصري تقاذفتْه تياراتُ الحياة في تجربة باكرة مثيرة في صفوف "الجماعة الإسلامية" مع مطلع حياته؛ ثم قادتْه توتراتُ الأحداث إلى دراسة الطب حيث لم يجد ذاته، فأصبح محرِّراً في هيئة الإذاعة البريطانية.

وحكاية الكتاب بدأت بلقاء مصادفةً مع ليليان داود في مؤتمر عُقِدَ في القاهرة، حيث أوصلتْ هذه اللبنانية المسودَّة الأولى للكتاب إلى أستاذها في الجامعة اللبنانية وضَّاح شرارة الذي كتب تعليقاً في صحيفة الحياة على ما نُشِرَ في "الملحق" الأسبوعي لصحيفة النهار تحت عنوان الدنيا أجمل من الجنة. وفي آب 1999 زار خالد البرِّي لبنان، حيث التقى الزميل محمد أبي سمرا مقترحاً عليه إكمال كتابة السيرة الذاتية. وهكذا صدرت هذه الشهادات التي يقول خالد البرِّي في تقديمها: "لن أخفي شعوري بالألم لأنني رويت أخبار أشخاص عايشتُهم زمناً طويلاً في أفراحهم وأحزانهم؛ لكن آلامي هذه لن تحملني على الاعتذار، ولن توقفني عن الكلام." والإنسان بأصغريه: قلبه ولسانه.

فالكتاب دمجٌ بين السيرة الذاتية والوقفات التأملية في الأنظمة المنزَلة أو العلمانية، في التصوُّف أو في إلزامية قيام الدولة الإسلامية. فكاتب السيرة يقترب أحياناً من ممارسة الرومنسية، ويتماثل أحياناً مع الصوفيين الذين يحوِّلون القلق إلى تعبير عن الرغبة الإنسانية العادية في تجسيد وجهة نظرهم حول وحدة الوجود الذي يتماهى فيه الجمال الإلهي مع جمال العالم المادي. ولأن كاتب السيرة فتى لم تعركه الحياة بعد، كان يحاول دوماً البحث عن الجوهر، عن الفهم، عن استيعاب حركة الحياة في نقيضيها: الإلهي الإسلامي النقي، والعلماني الذي يعتقد بأبدية العالم وتطوُّره وفق قوانين تنبع من ذاته. وقد ارتشف المؤلف الكثير من المرارات قبل أن يعرف أن لا شيء في العالم عديم الفائدة، وأن "الدنيا أجمل من الجنة"، وأن روح الإنسان معلَّقة في منقار طائر الحرية.

يتوسَّع كاتب السيرة في تدرُّج هادئ في علاقاته مع "الجماعة الإسلامية"، من لعب كرة القدم، إلى أداء الصلاة، إلى الأحاديث المتصلة بحركة المجتمع، وكيفية فهم الجماعة لمجموعة الحركات الاجتماعية بكونها أموراً دنيوية لن تفيد في الآخرة، وأن مهمة الإنسان الأولى هي السعي إلى إقامة دولة الإسلام القوية، القادرة على تحرير أرض الإسلام السليبة، من فلسطين حتى الأندلس، وعلى فرض النموذج الإسلامي في العالم كلِّه، أو ما يردده إخوان الجماعة: "إدخال الناس الجنة مقيدين بالسلاسل."

وإذ يبتعد خالد البرِّي عن أصدقائه القدامى يدخل عوالم مستجدَّة عليه. يبقى هذا الأصولي السابق حائراً بين الدعوة إلى دخول الجنة، وفقاً لتفسيرات الجماعة، واندفاعه إلى تقديم كل الخدمات إلى معارفه الجُدُد في كلية الطب، والمستجدَّات التي غزت حياته، كاضطراره يوماً إلى حلق لحيته ذاهباً إلى الجامعة أو إلى كلية الطب منكَّس الرأس، كمحمود المليجي في فيلم الأرض. لكن الطلاب يحوطونه بكل اهتمام لتوفير ما فاته من دروس.

ثم انتقل من مرحلة أغراض الدعوة إلى الاهتمام بالتفاصيل اليومية البسيطة والأدنى التي ينهماك فيها الناس إلى موضوعات الثقافة التي اختزن بعضها من مطالعاته لكتب سيد قطب ومحمد قطب، مع استخدام بعض المصطلحات (مثل "توتم" و"تابو") بغية إدهاش زملائه طلاب الكلية بسعة اطِّلاعه على الفكرة عامة.

ومن ممارسة الخطابة انتقل خالد البرِّي إلى مفاعيل الاتصالات الشخصية. ويقول في هذا الشأن: "لم يكن اختيارُنا للأشخاص الذين نتوجَّه إليهم بالدعوة عشوائياً، بل تعلَّمنا أن نختارهم من بين الذين يُبدون ميلاً ونزوعاً طبيعيين إلى الخير." ومفهوم "الخير" هنا أن يعمل الإنسان لمصلحة كلِّ البشر، رغم أن الجماعة الإسلامية كانت تؤثر عدم بذل أي جهد مع أشخاص ينتمون إلى الحركات الناصرية أو الحركات الشيوعية لأن هؤلاء "يحتاجون إلى مجهود مضاعف، الأصعب فيه أن تثبت لهم أن الفكر الذي يتبنونه خاطئ".

ويتوغل الأصولي السابق رويداً في عالم الإنسان من عدة زوايا، ويعترف بأن "الجماعة الإسلامية فتحت لـ[ـه] آفاقاً للتمرد على التربية البورجوازية المحافظة". إحساس جعل خالداً البرِّي يلاحظ نسبة الذين يعيشون تحت خط الفقر، وأولئك الذين لا يعرفون كيف ينفقون أموالهم. الكلُّ له معاناته، والكلُّ له تذمره، والكلُّ له شكواه.

وإذ يعترف خالد بأن "النظرة هي بريد الزنا"، يعترف بأن نظرته تبدَّلت بعد سنتين، وأن ممارسة العادة السرية جعلته يشعر بالذنب وعمَّقت كراهيته للجنس وإحساسه بالضعف إزاءه. وعلى شاكلة بعض الفلاسفة المتصوفة كان يتمنى لو أن الله لم يخلق غريزة الجنس لضمان الجنة لأن الجنس كان يشكل له شعوراً بالذنب، مع اعترافه بمشاعر جنسية كانت تعصف بأحاسيسه حتى الامِّحاء، كما كانت محطَّ اهتمام بالنسبة إلى الجماعة؛ إذ كان أعضاؤها يتداولون كتاب تحفة العروس الذي يتحدث عن حكايات من أيام السلف الصالح، وهي نوادر جنسية عن الجماع و"كيف تستطيع المرأة إيصال زوجها إلى قمة نشوته دون مخالفته أحكام السنة"، وعن "فن الرَّهز، أي إصدار أصوات معينة أثناء العملية الجنسية".

يقول خالد البرِّي بعد إحاطته بالكثير من شؤون الحياة: "وضعتني تلك الحادثة في بداية الطريق إلى التسامح ومحاولة تفهُّم النفس الإنسانية كما هي، وليس كما يُراد لها عنوة، وكأنني بدأت أستوعب نقائصها وضعفها، تردُّدها وتقلُّبها، كجزء من الحقيقة الإنسانية. ثم رحت أغيِّر طريقتي السابقة في تقويم الأشخاص بقدر ما يُحكى عن بطولاتهم وتضحياتهم، ونزعت فكرة القداسة المطلقة عن البشر، وتكوَّنت لدي بذرة النظر إلى الإنسان بلا تنميط ولا أفكار سابقة".

وتعبُر حياة هذا الأصولي أحداثٌ جِسام، فيدخل السجن، ثم يخرج منه معافى، ليقف أمام مشهديَّة حياتية جديدة، من أهم خلاصاتها: "الدنيا أجمل من الجنة"، وتغيير الإنسان إلى الأفضل يسير على تؤدة، لا على نار حامية. ويعترف خالد البرِّي بأنه ظل خمس سنين يستعيد ويسترجع ما مرَّ معه كالمستيقظ من حلم جميل، مع اعتقاده أن جماعته السابقة كانت على حق، وأن الله سينصرهم عاجلاً أو آجلاً. لكنه تخلَّى عن السير في طريقهم، إذ أخذ يقرأ كلَّ الكتب، يصلِّي في البيت ويشاهد التلفزيون، ويرتاد ملاعب كرة القدم، ويفكر للمرة الأولى أن العقل الإنساني يستذكر خارج النص الذي يقرأه. وهذا التوجُّه علَّمه الشك، الشك الديكارتي. وهنا يقول: "تعلَّمت الفرق بين كلمة تصلح للخطابة، وأخرى تصنع إيقاعاً، وكلمة تصنع فناً وتفجِّر معنى."

تعلَّم الكثير، هذا الفتى الطموح، وتذوَّق طعم الحرية على إيقاع آخر، ومشى دربه طبيباً، ثم كاتباً، ثم راوية لسيرة ذاتية هي من أبكر السير الذاتية التي يرويها إنسان.

ويبقى الإنسان بأصغريه: قلبه ولسانه.

وقلب خالد البرِّي، إلى لسانه، معنا في هذا الكتاب.

*** *** ***

عن النهار، الخميس 27 كانون الأول 2001

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود