الإسلام والغرب والغد

 المطران جورج خضر

المطران جورج خضر

 

من مقتضيات المواجهة بيننا وبين الغرب التسميات عندنا وعندهم. أنت تتخبط إن كنت لا تعرف مدلول كلماتك أو ما بقيتْ الدلالة عندك غامضة. لنأخذ مثلا عبارة "الإسلام والغرب" التي هي حصيلة الاستشراق. وقع المسلمون في الفخ إذ قبلوها؛ فكأن المواجهة هي بين دين وإقليم أوروبا الغربية وسياسته وحضارته. في الحقيقة أن "الحضارة الغربية" ما سُمِّيَت كذلك إلا بعدما التمعتْ في الغرب أو تركزت فيه. لكن دوستويفسكي أهم من الغرب مجتمِعاً. وإذاً نحن في مواجهة لحضارة أوروبية، وليست غربية فحسب. والعثمانيون كانوا في مواجهة سياسية وعسكرية مع روسيا بخاصة أكثر مما كانوا مع الغرب. إن الذين قبلوا العبارة إنما يريدون أن المسيحية ديانة الغرب. فكأن لا مسيحية أخرى؛ أو كأن المسيحية الأخرى مذيِّلة للغرب؛ أو كأنها تقف تجاه المسلمين موقف الغرب!

ثم إذا اتَّخذنا الإسلام، فهذا دين يواجه أدياناً، ولا يواجه حضارة. هناك عالم إسلامي إزاء الغرب لأن العالم الذي يسوده الإسلام فكراً لا يسير على الإيقاع نفسه الذي يسير عليه الغرب أو أوروبا، وتسوده فلسفة سياسية مختلفة؛ إذ الغرب علماني ودار الإسلام تحيا في ظل هيمنة الله أو حاكميَّته – هذا بصرف النظر عما إذا كان الغرب لا يزال يحيا على الإيمان أو لا يحيا. لكن الخطأ الكبير أن نقابل الحضارة الإسلامية بالحضارة الغربية، إذا اصطلحنا، كما الألمان، على فهم مدلول الحضارة مدلولاً مركَّباً يضم الإنسانيات والتكنولوجيا معاً.

فبعد سقوط بغداد في أيدي المغول أخذت الحضارة الإسلامية، من حيث هي بناية كاملة، تنهار مع بقاء الإسلام عزيزاً وذا طاقة انتشار. شيئاً فشيئاً، وبظهور المطبعة والقطار ونشوء النظم الثورية في بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة وبدء النهضة في القرن السادس عشر، احتكرت أوروبا الحضارة وعَوْلَمَتْها، وزالت الحضارات الأخرى من حيث هي كيانات فاعلة في الواقع. هذا ما كان يسميه أستاذي في الاقتصاد السياسي تيار في معهد الحقوق "صراع الإناء الخزفي والإناء الحديدي" قبل ستين سنة. ليس شيء فاعل اليوم اسمه "الحضارة الإسلامية". هناك ثقافة إسلامية، نحن العرب مشتركون فيها، ومعتقد إسلامي (الأركان الخمسة)، وأخلاق إسلامية، وشرع وفقه، وبعامة، أنثروبولوجيا إسلامية.

غير أن الشعوب الإسلامية جميعاً تشتهي الالتحاق بالنمط الغربي في ما هو علم وتكنولوجيا؛ وقد تشتهي الديموقراطية؛ ولعلها تتمنى أن تستعيد العقل الذي جمَّلها زمان الفارابي وابن سينا وابن رشد. ولا ينفع أحداً القولُ بأن العرب كانوا في أصل الحضارة الغربية؛ فهذا صحيح جزئياً فقط. وما من مجال الآن لمقارنة حضارة ولَّتْ عند منتصف القرن الثالث عشر وحضارة أوروبية حية اليوم، ولو كانت تشكو أعراض احتضار، لكن الاحتضار لمَّا تكتمل عناصره.

***

السؤال الذي لم يواجهه مفكِّرو العرب، منذ الطهطاوي إلى محمد عبده والمعاصرين، هو: هل لأوروبا محرِّك عظيم يفسِّر، إلى تحركات أخرى، حيويتَها؟ موقف المسلمين الذين أُعجِبوا بحضارة أوروبا – على سبيل التبسيط – هو أنهم يأخذون ما يروقهم من هذه الحضارة لاحتسابهم أن كلَّ العلم وكلَّ التكنولوجيا هما، سلفاً وبلا نقاش، متَّفقان مع الإسلام كيفما فسَّرته. ولم يرَ المسلمون أن حضارة أوروبا عضوية organisme، أي أن عناصرها متداخلة وأن بينها لحمة؛ فلا تقدر أنت على أن تتبنَّى ما شئت وترمي بما شئت، وتقرِّر سلفاً أن كل ما اقتبلتَ يتجانس والإسلام بما هو قائم تاريخياً وفقهياً وفي ظل فلسفته السياسية السائدة – وكأن الإسلام القائم في العقول والممارسات والحكم هو الذي أنزله الله على نبيِّه!

لا يمكن أن يستمر المسلمون في مواقفهم التبريرية أو الاعتذارية ليقولوا إن حضارتهم هي خير ما ظهر في الناس لمجرَّد قول الوحي إنهم "خير أمة أُخرِجَتْ للناس". تفوُّق حضارتهم أمرٌ قابل للنقاش، خصوصاً أنه رأيٌ في شيء مضى، وليس رأياً في الإسلام. على المسلمين وحدهم أن يقولوا، مثلاً، إنهم يقتبسون الحرية والديمقراطية كما تراها أوروبا، ولا تراها إلا أوروبا. فإما أن تقول إن هناك حكماً إسلامياً، وتالياً، ليس في دنياك إلا كلام الله، ولا من تشريع بشري؛ وإما أن تقول: نرتِّب الدين والدنيا معاً بما يوافق مصلحة المسلمين والذين يعايشونهم حتى يشعر الشعب بكرامة تقريره لمصيره ومعاشه اليومي، لأن الله لم يقل كلَّ شيء في كل شيء، وليحسَّ غير المسلم أنه يحيا في ظل القانون يطبَّق بعدل على الجميع.

المشكلة الأساسية التي تواجهنا في الشرق، بالاستقلال عن مطامع الغرب بنا، مشكلة الحرية. وعلى المسلم أن يجد مخارج لتبنِّيها كاملة، كما تبناها الغرب الذي لا يعرف في الدولة طوائف ويؤمِّن لكلِّ مواطن حرية معتقده. فالمسألة ليست بين المسيحي العربي والمسلم. المسيحي العربي يحيا بالمسيح ومع المسيح ويتمنَّى لنفسه حرية كاملة في دنيا العرب. المشكلة هي أن بعض المسلمين يريدون أن يبلغوا ذروة الحضارة في كلِّ معطياتها، وعلى رأسها الحرية والديمقراطية، وأن كثيرين آخرين لا يريدون ذلك خوفاً على الإسلام، وكأن بمقدور الغربي "الكافر" أن يهز الدين القيِّم! لماذا لا نجد نظرية المؤامرة إلا في الشعوب المستضعَفة؟ هذه النظرية ابتُلِي بها الأرثوذكسيون تجاه الغرب قبل وعيهم الروحي الحاضر. وقد دخلت الآن عقل الأميركيين بعد 11 أيلول لأنهم أحسُّوا بالاستضعاف.

***

بصرف النظر عن أوروبا وما ترتضيه لنا، وبصرف النظر عما نريده منها، لا بدَّ لشعوب العالم الثالث أن تدخل في مدرسة العالم الأول الفكرية وتأخذ منها ما تأخذ. مثال على ذلك أن الكنيسة الأرثوذكسية تخشى على لاهوتها، ولا تدخل في ممارسة النقد لنصوص الكتاب المقدس، كما يفعله الغرب منذ ثلاثة قرون. هل هذا متصل باللاهوت الأرثوذكسي؟ أم أن عقل الشعوب الأرثوذكسية لم يبلغ بعد نقد الفكر الديني ومعالجة النصوص بالمعطيات العلمية الحديثة؟ قد يكون هذا وذاك. فإذا لم تدخل الأرثوذكسية بعدُ مواجهة نصوصها بالعقل العلمي الحديث – ويبدو أن الإسلام لم يلج هذا الباب – فقد يكون مردُّ ذلك إلى أن المسيحية الأرثوذكسية والإسلام لم يقتنعا حتى الآن بضرورة هذه المسيرة، ولم يستنتجا أن الحضارة الحديثة واحدة ولا تقبل التجزئة، لأن هذا قد يقود إلى فصام في الفكر الواحد.

إذا كنتَ أوروبيَّ العقل، كائنة ما كانت ديانتك، لا يمكن أن تتهرب من مشكلة ربط كلام الوحي بالتاريخ، وتالياً، من مشكلة ظروف الوحي أو أسباب نزوله في الزمن والمدى. فإذا استخدم الله كلمات من القاموس فمعنى ذلك أن ثمة جانباً بشرياً في القول الإلهي. عندما تستعمل أنت معجماً يونانياً لفهم العهد الجديد فهذا يعني أن كلماته ذات صلة بالحضارة الهلنستية السائدة آنذاك، وأن الإنجيل، تالياً – ولو كان إلهي النفحات كما يقول هو – إنما هو أيضاً مرتبط بأسلوب لوقا وبولس وسواهما، وأن هذا الموقف لا ينفي إلهيَّته.

لستُ ضليعاً من العلوم التفسيرية عند المسلمين المعاصرين لأعرف إذا كانت هذه المشكلة قد طُرِحَتْ. ولكن إذا ارتضينا أن يسائلنا الغربُ في هذا الأمر أو ذاك منذ حملة نابوليون فلماذا نحدُّ له مساءلاته لنحتمي وراء المقولة إن الغرب يريد الدسَّ علينا في المقدَّسات؟ من أقام أساس بيته ليقاوم الزلازل لا يخشى هزة أرضية. من يعرف أن إيمانه قائم بالله لا يخشى من التعرُّض لفكر جديد.

إن العرب القدامى، عندما فتحوا بلاد الشام ومصر وفارس، كانوا أحراراً من العقد النفسية. كانوا يؤمنون أن الله أظهر الإسلام على الدين كلِّه. مع ذلك، حاوروا في بلاط الخليفة وخارج البلاط. ولما رأوا أنهم في حاجة إلى أن يعالجهم الأطباء المسيحيون فعلوا ذلك، حتى ظهر ابن سينا؛ ولما أحسوا أنهم في حاجة إلى الفكر اليوناني ليكونوا حقاً إمبراطورية مساوية لإمبراطورية الروم كلَّفوا المسيحيين إخراج ذلك لهم. العرب المعاصرون يخشون كل شيء.

أنا لا أريد أن يصبح الفكر الغربي مهمازاً لناً حتى نفكر.

إلى ذلك يحزنني كثيراً أنه لم يخطر على بال الذين جبهتم أوروبا التي عاشوا فيها، من مسلمين ومسيحيين عرب، أن يحلِّلوا الحضارة هناك، ليروا أن الإنجيل كان بذرة فيها أساسية، وأنه لا يزال كذلك، على علمانيَّتها؛ ولعل بعضاً من هذه العلمانية هو إنجيل معبَّر عنه بمفردات مدنية. عندما يرى المفكرون المسلمون في مناطقنا رقياً ما عند المسيحيين ينسبون ذلك إلى انفتاحهم على الغرب وأنهم درسوا اللغات منذ البدء. لم يطرحوا على أنفسهم سؤالاً في سبب الانفتاح. لماذا كان هذا؟ هل يوجد في المورِّثات (= الجينات) ما يجعل إنساناً منفتحاً؟ أم نكون أدنى إلى الصدق إن قلنا إن المسيحيين العرب لم يكن في تراثهم العقائدي ما يحول دون إقبالهم على الفكر الأوروبي. ولعلِّي لا أخالف التقرير العلمي إذا قلت إن المسيحيين العرب استطاعوا أن يستقرئوا وجود يسوع الناصري في تراث أوروبا لأنهم كانوا قادرين على اشتمامه؛ وكان في هذا منفعة للجميع. قالها – وبطريقة بليغة – الأمير طلال بن الوليد أخيراً بصدق وشفافية وقولة لم أعهدها عند مفكر عربي من قبل.

إن عودتنا إلى تحليل علمي كامل لأوضاعنا الثقافية على ضوء الوجود التاريخي المحيط بنا هو ما يسعفنا في سعي دلالي أساسي، حتى نفهم المقولات التي نستعمل، ونفرِّق بين ما هو جبه وما ليس بجبه، ونتَّخذ مكاننا في زمان الناس وأمام الحضرة الإلهية. يبدو لي أحياناً أنه يحلو لنا أن نعتقد أن الغرب عدوَّنا لنرتاح إلى تعظيم ماضينا ونبقى في الذاكرة. وساعدنا الغرب على ذلك. أنت عليك أن تبلغ في التقدم مرحلة تضطر الغربَ إلى أن يراك مثله وأن يعاملك كمثيله. لا تقدِّم له، بتخلُّفك، ذريعة لاضطهادك. ولن تكون مثله إذا جلست لتختار منه ما يروقك. قبل اقتناعك الكامل بالحرية وتفعيلها في قراءتك للتاريخ ونقدك إياه، وقبل إعلانها حية في نظم عيش وحكم، تبقى أسير ماضيك وحزيناً على كونك مقموعاً ومهيأ لكلِّ انفجار.

الرُّقي الكبير يتطلب شجاعة كبيرة.

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود