|
فريدريش نيتشه (1844-1900)
فريدريش نيتشه Friedrich Nietzsche فيلسوف وعالم لغة ألماني. ولد في 15 تشرين الأول من العام 1844 في قرية روكن قرب لوتزن في سكسونيا من أسرة بولندية الأصل هاجر أسلافها إلى ألمانيا. كان والده وجدُّه قسيسان پروتستانتيان. توفي والده في العام 1849، فأصبح يتيمًا وهو بعدُ في الخامسة عشر، فأخذته والدته إلى نورمبُرغ، حيث أنهى الابتدائية والثانوية في مدرسة بفورتا. تخرَّج من جامعة بون حيث درَس اللغات اللاتينية واليونانية والعبرية والفرنسية وتعمَّق في دراسة الأدب الإغريقي. عُيِّن أستاذًا في فقه اللغة القديمة في جامعة بال بسويسرا قبل أن ينتهي من إعداد رسالته للدكتوراه. انقطع نيتشه عن التدريس لتبدأ فترة أخرى في حياته هي فترة التأليف والكتابة والتنقل، على الرغم من تردِّي أحواله الصحية. من أهم أعماله: ميلاد المأساة من روح الموسيقى (1872)، ثم تأملات في غير الأوان (في ثلاثة أجزاء)، تلاها كتابُه الثالث إنساني، إنساني جدًّا (1878-1880)، ثم كتابه الفجر، الذي أعقبه بـالعلم المرح (1882)، ثم هكذا تكلم زرادشت (1883-1885)، دُرَّة مؤلفاته. وبعد سنة، أتبعه بتأملاته ما وراء الخير والشر، وتابع التأليف، فأصدر أصل الأخلاق وفصلها، ثم إرادة القوة في جزأين (1884-1888)، الذي كان الكتاب الوحيد الذي لم تُتَح له فرصةُ إتمامه وتنسيقه. ومن مؤلَّفاته أيضًا أفول الأصنام وغيره. وقد تُرجِمَت أعمالُ نيتشه إلى مختلف اللغات، ومنها العربية، واكتسب منذ العام 1888 شهرة عالمية واسعة. أصيب نيتشه بانهيار عقلي وبدني في كانون الثاني سنة 1889، وتوفي في 15 تشرين الأول 1900. يُعَد فريدريش نيتشه عبقريةً فذةً في تاريخ الفلسفة، إذ تركت أفكاره تأثيرًا كبيرًا على التطورات السياسية والفكرية والفلسفية اللاحقة. ويرتبط اسمُ نيتشه بالنقد الجذري للفلسفة والدين والأخلاق والعلم. فهو يفهم الحداثة من خلال أهم حدث يميِّزها، وهو موت الإله. وهو ينطلق من هذه المقولة ليصف الإنسانية الحديثة بأنها إنسانية العدمية. وهنا تأخذ عبارته "مات الإله" دلالةً جديدةً ومعنًى جديدًا: لقد "مات الإله" بمعنى أنه لا ينفي وجوده، بل يعلن موته، لا يقتله، بل ينقل حادثة قتله؛ فالأمر لا يتعلق بالعبارة الميتافيزيقية التي تؤكد أنه لا يوجد إله، بل بمعاينة حدث قتله. وهذا ما لاحظه ألبير كامو (1913-1960) عندما قال: لم يعقد نيتشه النيَّة على قتل الإله. فقد وجده ميتًا في نفوس أهل زمانه، وأدرك قبل غيره أهمية الحادثة. إنَّ إعلان نيتشه عن مقتل الإله ليس مجرَّد قضية إلحاد أو معارضة للديانات، بقدر ما هي قضية وعي فلسفي، وقضية قيم، وقضية فكر. وتندرج عبارتُه في إطار وعي فلسفي بالعصر لأنه لم يجد إلهًا، بل عُرِضَتْ عليه جثةُ إله. لقد عصفت العلوم الحديثة ورؤاها بالفكر الديني، واهتزت فكرة الإله في وعي البشر، وتقلصت مكانته تدريجيًّا في ظل تقدم العلوم؛ فكان لا بدَّ أن يحدث تحويل عام للأفكار والقيم في وعي البشر، لأنَّ الإله، كفكرة أونطولوجية، لم يعد مثبتًا في وعي الإنسانية الحديثة، ولم يعد مثلاً أعلى للتجربة الإنسانية. لم يكتفِ نيتشه بإعلان مقتل الإله، بل دعا أيضا إلى التحرر من المسيحية لأنها مصدر التضحية بقدرات الإنسان وقوَّته. يقول: إنَّ دينًا كالمسيحية لا يلامس الواقع ولا من أية نقطة؛ والذي حالاً يسقط في اللحظة التي يمتلك فيها الواقع حقَّه، ولو في نقطة واحدة، يجب أن يكون بطبيعته عدوًّا حتى الموت لـ"حكمة هذا العالم"، أعني العلم. واعتراض نيتشه على المسيحية كامن في أنها السبب الرئيس في قبول ما أسماه "أخلاق العبيد" وقيمها وفي الترويج لها، أخلاق هذه الطبقة التي تشكل جزءًا أساسيًّا من نظريته المشهورة في التفرقة بين نوعين من الأخلاق: نوع مصدره الممتازون في الإنسانية، وهو أخلاق السادة، وآخر مصدره رعاع الإنسانية وطبقاتها المنحطة، وهو أخلاق العبيد. وقد جاءت فكرتُه هذه بعد دراسته للنظم الأخلاقية. تفيض أخلاق السادة بالقوة والثراء والعطاء، في حين تنبع أخلاق العبيد من الحقد والكراهية وحب الانتقام. وتاريخ الأخلاق، كما وجده نيتشه، هو تاريخ الصراع بين أخلاق السادة وأخلاق العبيد ومحاولة الواحدة منهما السيطرة على الأخرى. ورمز هذا النضال مكتوب بحروف بارزة باقية فوق تاريخ الإنسانية كلِّه: روما ضد يهودا ويهودا ضد روما ولأن المسيحية حملت لواء النضال ضد أخلاق السادة وكرَّست أخلاق العبيد، بما فيها من ضعف وعجز، وقف نيتشه موقفه الرافض لها ولما تكرِّسه من أفكار، فدعا إلى تجاوُزها وبناء أخلاق جديدة تقوم على إرادة القوة. ويمكن أن نستمد دلالات هذه الإرادة من ذلك التفسير الذي قدَّمه نيتشه للوجود عندما عدَّها مبدأه الأساسي وجوهره الأعمق، مؤكِّدًا أنها تحيط بكلِّ شيء. وأكبر عدوين لها هما: الماضي، بتراثه الذي يجبرنا على تكراره، والواقع الذي يفرض علينا سلوكًا قهريًّا. فإذا كانت القوة صفة تميِّز الحقبة الجديدة، فإن إرادة القوة تمثل معيار التقييم الجديد. وحينما يحدث ذلك يصبح من الطبيعي ملاحظة ذلك التغيير الجذري والضروري الذي يلحق بنظام القيم ويحوِّل مسارها ويحرِّرها من العدمية لتستمد مكانتها من مدى استعدادها لأن تعبِّر عن القوة وكميتها ونوعيتها. يقول نيتشه مؤكدًا هذه الفكرة: أنتم، أيها الواضعون للقيم أقدارها بمقاييسكم وموازينكم، وبما تقولونه عن الخير والشر، هل كان لكم أن تفعلوا هذا لو لم تكن لكم إرادةُ القوة؟ ويقدم نيتشه نفسه كأحد المغامرين في العالم الباطني الذي يسمَّى الإنسان. وتُعد مشكلة الإنسان من المشكلات الكبرى في فلسفته لأنه يسعى إلى نقد جميع المعتقدات الدينية والفلسفية والأخلاقية التي تطبع عصره انطلاقًا من وعيه أنه لا يمكن فهم الإنسان الحديث إلا من خلال معتقداته. لقد حاول معرفة الأنماط المحددة التي تتكشف عنها الإنسانيةُ الحديثة، إذ كشف عن صورة مزدوجة لإنسان الحداثة: الوجه الأول لهذه الصورة هو الإنسان الأخير، وهو تجلٍّ لوهن الإرادة وضعفها؛ إذ يعترف بمقتل الإله ويدركه دون شك، لكنه لا يحاول أن يفعل شيئًا نتيجة القوى الارتكاسية التي تسيطر عليه. يقول نيتشه فيه: ويل لنا، لقد اقتربت الأزمنة التي لن يدفع الإنسان فيها بالكواكب إلى العالم، ويل لنا، لقد اقترب زمان الإنسان الحقير الذي يمتنع عليه أن يحتقر نفسه. اسمعوا: هاأنذا منبئكم عن الرجل الأخير. والوجه الآخر هو الإنسان المتفوق الذي يدرك ضرورة هدم القيم التقليدية السائدة، لكنه يهدم دون أن يخلق القيم الجديدة. صحيح أنه يحاول خلقها (وهذا ما يميِّزه عن الوجه الأول)، لكنه، وإن استطاع أن يوجِدها، فإنها ستبقى قيمًا عدمية. ولعلَّ ما يجمع بين الأخير والمتفوق هو الإرادة النافية والقوى الارتكاسية. وتأخذ فكرة الإنسان المتفوق مكانها في القسم الرابع من كتابه هكذا تكلم زرادشت: إذ يتجلَّى في شخصيات مختلفة يتكون منها هذا القسم أو حتى الكتاب بشكل عام، كالبهلوان، والملكين، والساحر، وآخر الباباوات، وأقبح العالمين، والمتسول. يقول: لقد أصبح كل شيء صغيرًا. فإنَّني حيثما أوجِّه أنظاري لا أرى غير أبواب خُفِضَت أرتاجها. فإذا شاء أمثالي أن يجتازوها عليهم أن ينحنوا. [...] لقد تعلَّمت بين هؤلاء الناس حقيقةً أخرى، وهي أنَّ مَن يسدي الثناء يتظاهر بإعادة ما بُذِلَ له، وهولا يرمي في الواقع إلا إلى الاستزادة لنفسه من المديح والإطراء. [...] إنَّ من هؤلاء مَن يتجه إلى الأمام، لكنَّه لا يفتأ يتطلع إلى الوراء مُتلعًا عنقه، معرقلاً سير التابعين. أما الإنسان الأرقى (الأعلى) فهو الهدف الذي يسعى إليه. إنه الإنسان المتمرد على ما هو سائد، الذي يمتلك إرادة القوة الفاعلة. وقد لا تشير فكرة الإنسان الأرقى إلى شخصية اجتماعية، بل إلى الشخصية الداخلية للإنسان، لأنه ماثل فينا على شكل استعداد لا يتحقق إلا بالتسامي والانتصار على الذات. ولعل أهم سمات هذا الإنسان إرادته المثبتة وقواه الفاعلة. يقول نيتشه: لقد أتيتكم بنبأ الإنسان الأعلى: إنَّه من الأرض كالمعنى من المبنى. فلتتَّجه إرادتكم إلى جعل الإنسان المتفوق معنًى لهذه الأرض وروحًا لها. أتوسل إليكم، أيها الإخوة، أن تحتفظوا للأرض بإخلاصكم، فلا تصدِّقوا مَن يمنونكم بآمال تتعالى فوقها. العود الأبدي عند نيتشه أعمق فكرة في فلسفته: إذ تشبه نبوءة غامضة وكشفًا عن سرٍّ ما أكثر من كونها برهانًا فلسفيًّا مُحكَمًا. فالوجود تغير وصيرورة، لكنه ليس صيرورة مستمرة لانهائية؛ إنما تأتي فترة يسميها نيتشه "السنة الكبرى للصيرورة" تنتهي عندها دورة لتبدأ دورة جديدة. ولا اختلاف بين دورة وأخرى: فإن الوجود كلَّه صورة واحدة تتكرر بلا انقطاع في الزمان اللانهائي. إن فكرة العود الأبدي لا تقضي على الحرية، بل هي تخلِّصها من الحاجز الذي كان يحدُّ منها حتى الآن، حاجز ثبات الماضي. فلما كان الماضي هو المستقبل – بحسب العود الأبدي – فإن النفس حرة فيما خُلِقَ وفيما لم يُخلَق. ومَن يعرف العود الأبدي يشعر بأنه فوق كلِّ استعباد للزمان. إن "الآن" ليس هو اللحظة الهاربة، بل هو التصادم بين المستقبل والماضي. وفي هذا التصادم يستيقظ الآن على نفسه ويعي ذاته. قد تبدو لنا بعض المذاهب الفلسفية أحلامًا خيالية واهية أو نظرات وهميَّة تافهة لا قيمة لها مطلقًا في صميم حياة الأفراد الاجتماعية. لكننا، لو دققنا النظر فيها وفي دلالاتها، لتحقَّقنا من أنَّها مرآة تعكس لنا صورة صادقة لما مرَّت به البشرية من أحداث وتغيرات ووقائع وجدت جميعها في الفلسفة تعبيرًا ساميًا عنها. وكانت فلسفة نيتشه إحدى هذه المرايا التي عكست تغيرات الواقع في مختلف مجالاته. أعدَّ المادة: منقذة العلاَّن * * *
المراجع بدوي، عبد الرحمن، موسوعة الفلسفة، ج 2، المؤسسة العربية للدراسات والنشر. عبده، سمير، هكذا تكلم نيتشه، دار التكوين، دمشق، ط 1: 2005. كامو، ألبير، الإنسان المتمرد، بترجمة نهاد رضا، منشورات عويدات، بيروت، ط 1: 1963. نيتشه، فريدريك، عدو المسيح، بترجمة جورج ميخائيل ديب، دار الحوار، اللاذقية، 2004. نيتشه، فريدريك، هكذا تكلم زرادشت، بترجمة فليكس فارس، دار القلم، بيروت، دون تاريخ. يسري، إبراهيم، نيتشه عدو المسيح، سينا للنشر، القاهرة، 1990.
|
|
|