ما بعد الحداثة

في إطار التشكيك في السرديَّات الشمولية (الإيديولوجيات)، يعرِّف ماك غرايث بما بعد الحداثة postmodernism بأنها

[...] الالتزام المسبَّق بالنسبية والتعددية فيما يخص قضايا الحقيقة. وأحد المجالات التي تلاقي شعبيةً في فكر ما بعد الحداثة هو التأكيد على أن كلَّ فرد هو جزء من مجتمع إنساني محلِّي، ولذلك لا بدَّ من تفسير الحقيقة في ضوء ذلك المجتمع. ولأن هناك الكثير من المجتمعات المحلِّية المختلفة، تعتقد ما بعد الحداثة بأن هناك الكثير من الحقائق المختلفة التي يمكن لها أن يتجاور بعضُها مع بعض [...]. فمادامت الحقائقُ مرتبطةً بالبيئة الاجتماعية التي تظهر فيها، فإن ما يصح عند بعضهم قد لا يصح عند مَن يعيشون في بيئة اجتماعية أخرى.[1]

بناءً على هذا الفهم الذي اعتمده المشروع الثقافي ما بعد الحداثي للحقيقة، متمثلاً في الأنثروپولوجيا الحديثة التي وضع أسُسها ك. ليڤي شتراوس وب. مالينوڤسكي، واضع الوظيفية، تأسَّست غالبية المفاصل الفكرية لهذا المشروع على هذه النسبوية relativism، كونها تشكِّل المدرَك المُشَرعِن لـ"الفوضوية الخلاقة وتوافقية التضاد وجمالية التناقض" التي تستبطن رغبةً ملحةً في القفز على الفضاء الزمني لكلِّ ما هو آني.

هذا الرغبة/الهوس الذي غالى فيه بعضُهم، تحوَّل إلى رفض كلِّي للأنماط الثقافية، بمختلف تجلِّياتها الفنية والموضوعية السائدة، وإلى صيرورتها معرفةً "رمزية" مبتذلةً تتعالى عن ملامسة الهموم المعمقة لواقع المتلقِّي، وبالتالي، استحالةَ الأشياء والأفكار إلى جدلية مغلقة بين "المنتِج" و"المنتَج" – مما يضطر المثقف ما بعد الحداثي، بين الفينة والأخرى، إلى إخضاع "ذاته التراثية" لتناصٍّ واعٍ ليؤكد لنفسه، أولاً وبالذات، ولغيره، ثانيًا وبالعرض، كينونته المعرفية. ولعل المفارقة غير المدرَكة أن هذا التناص قد شكَّل أقسى فعل توهيني يمكن له أن يمارَس ضد العقل المعرفي، بماهياته الوجودية، كونه أحدث انهيارًا فجائيًّا في كلِّ ما هو قارٍ في بنية مشروعة الفكري، مما يعني ضياع كلِّ ما من شأنه أن يؤكد مركزية العقل، بوظائفه المسيِّسة للكون والحياة، منتجًا بذلك "متواليات معرفية" هيمنت على القراءات الفكرية التي أبدعَها.

في ضوء هذه الافتراضات، يمكن لنا القول بأن النسبوية تقف أمام منزلقات فلسفية تعجز عن تجاوُزها في اطمئنان، من أهمها ثلاثة:

-        المنزلق الأول: وجوب الإيمان بالتناقض الفلسفي والمنطقي: فـ"كل تفسيرات الحقيقة [...] هي صحيحة بالقدر ذاته الذي تكون فيه غير صحيحة."[2] وهذا ما لا يسلِّم به "هؤلاء" تجاه الكثير من المفاهيم التي تشكِّل البُنى التحتية للنسبوية.

وتتأكد حقيقة التناقض فيما لو أدركنا أن المجتمع المحلِّي الواحد يحتوي على عدة حقائق متعددة ومختلفة بتعدد أفراده، مؤديًا بذلك إلى فوضوية هدامة. وبذا تخرج المعرفة من طابعها الموضوعي objective الخارجي، لتتخذ مسارًا ذاتيًا subjective؛ مما يجعلها مرتبطة ببُعدها الوظيفي في النظام المتداوَل. وهو ما جعل ما بعد الحداثة تلاقي رواجًا هائلاً بين الأوساط الشعبية المروِّجة للإباحية، باعتبار أن ما يضفي على القيم طبيعتها الأخلاقية لن يكون، في ما بعد الحداثة، التسالُم الوجداني العقلاني، بل التحيز والتشيؤ الوظيفي للقيم في مجمل المنظومة الرقمية:

وأي شيء لا يمكن له أن يتحول إلى رمز قابل للتشخيص والعرض في الحاسوب [لا يدخل في التكنولوجيا الرقمية] سيتوقف عن أن يكون شكلاً من أشكال المعرفة في مجتمعات ما بعد الحداثة.[3]

-        المنزلق الثاني: ما يمكن لنا أن نسمِّيه بـ"إشكالية التعريف"، حيث لا يمكن، وفقًا لهذا اللازم، التعريف بالأشياء وبالأفكار، وبالتالي، يضيع الركنُ الأساس الذي تُبنى عليه الحضارات:

التعريف بالطريقة الحداثية يرى أن الحقيقة هي توافُق بين الشيء والفكرة التي نحملها عنه. ولكن ما بعد الحداثة تنأى عن هذا الأسلوب نتيجة عدم وجود هذا التوافق المثالي: فالشيء والفكرة التي نحملها عنه يندمجان لدرجة أننا لا نعرف ما إذا كانت الثقافة هي التي تجعلنا نرى الشيء كما نراه أو أنه بذاته هكذا فعلاً. فلا يوجد فاصل واضح بين الشيء وتمثيله لأننا لا نستطيع أن نفصل الموضوع عن إطاره. فهذا الإطار هو الذي يرسم تصوراتنا عن الموضوع، وهو مرتبط بظروف مختلفة وبتاريخ متشابك من القناعات والمصالح والرغبات. فالموضوعية، إذن، غير موجودة؛ لذلك لا تكترث ما بعد الحداثة بالتعريفات.[4]

-        المنزلق الثالث: الفقدان الحتمي لظاهرة التعميم والشمولية والكلِّية التي تستند إليها أيةُ حضارة، مما يسهم في نقل الفكر المؤمن بالنسبوية إلى حالة الاستغراق في جزئيات غير منسجمة، ليس بينها أي رابط موضوعي أو فلسفي أو علمي. وبفقدان تعميمات العلوم التجريبية والفلسفية، يصبح الفكر الإنساني فكرًا مهشمًا، وبالتالي، تنتفي القيمة المعرفية لكلِّ ما يُنتِج؛ مما يرسخ "البرزخية" بين المعارف النظرية الفلسفية، من جهة، وبين العلوم التجريبية والإنسانية، من جهة أخرى.

من هنا لا بدَّ للعقل ما بعد الحداثي من القيام بمسح شمولي لأولوياته وأنساقه الفكرية لتشكيل أسٍّ معرفي أولي قارٍ، بعيدًا عن هيمنة الفكر التفكيكي deconstructionist الذي كان، وما يزال، سمته البارزة. فالمشكل الذي وقع فيه ناجم، في أحد جوانبه، عن طبيعة تصوراته الفلسفية حيال الكون وقضاياه: فقد اعتاد في ذلك على تفكيك المفاهيم في صيغة إثنينية، توهمًا منه لمانعية الجمع بين طرفيها. لهذا حاول مفكِّرو ما بعد الحداثة التخلص من غياب التوازن في المفاهيم الضدية بإلغاء المساحات المشتركة بينها والاحتفال بالتشتت واللاثبات؛ وبدلاً من الاشتغال على تقويض الفواصل المعرفية الحاكمة على مجمل النشاطات الفكرية، فقد اتُّجهوا نحو لملمة هذه الثنائيات في ثنائية أخرى شمولية تمثلت في النسبية/الإطلاق.

يبقى أننا، ضمن هذا الإطار التحليلي، نستطيع الادِّعاء بعدم استقرار الحقيقة على نسق تقييمي واحد، وبالتالي، عدم خضوعها لمعيار واحد. فالقول بالنسبوية يملك قدرًا معقولاً من الواقعية فيما لو نظرنا إلى الحقيقة في عدد من تجلِّياتها – لا مطلقةً –، كونها نتاجًا إنسانيًّا، حيث لا يمكن حينئذٍ احتكارُها احتكارًا توتاليتاريًّا، بمعنى تجهيل الآخر أو إقصائه.

أعدَّ المادة: علي كاظم الخفاجي[5]

* * *


 

horizontal rule

[1] قراءات في ما بعد الحداثة، مجموعة من الباحثين، بترجمة حارث محمد حسن وباسم علي خريسان، ص 61.

[2] المصدر نفسه، ص 62.

[3] المصدر نفسه، ص 7.

[4] عبد الرحمن الحبيب، ما بعد الحداثة ترحب بكم.

[5] كاتب عراقي؛ إيميله: kshali2@yahoo.com.

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني