الجمالية وأبعادها الكونية

 

وهيب كيروز

 

(1)

المسألة الجمالية

الجمالية، بين دُرَب العقل المتشعِّبة، مسألة مفتوحة. وكونها هكذا فهي أبداً سؤال يتوالد. وجواب العقل هو، بدوره، تفتيح أبعاد جديدة. إنها مسألة متحرِّكة ومحرِّكة في آن معاً. هنا جدليِّتها الدائمة، إنْ في مقوِّماتها التي تفلت من المعايير أو في أبعادها، كونية كانت أو فوق كونية  métacosmique.

وإذا كل دُربة من درب العقل تجهد لتحدِّد كيانها فالجمالية هي الأصعب. إنها، بأبعادها، تصدُم. إنها تأبى الإطارية كما أنها لا تُحَدُّ في موضوع. وهي، على أية حال، لا تستسلم لأي منهجية. لذا:

الجمالية لانهائية. ولانهائيتها تُهمك العقل، تضنيه، تقرِّبه منها فلا يكاد يعقل أفقاً منها حتى يشفَّ ذلك الأفق، في ملء وضوحه، عن آفاق متلاحقة ضبابية، سرابية. وكونها قائمة في الوعي فالعقل لا يكف عن المحاولة. إنها هوى العقل وغُصَّته معاً.

والعقل، في محاولته، إذا تناول الجمالية علماً، يعجز لأن المعيارية خاصِّية العلم الأولى تقضي على الذاتية مصدر الحس الأوَّلي، وما يلازمه من انفعال ومن حياة جَوَّانية خزينة. وإذا تَدَاوَلَها حياة جوانية تمْسَ الذاتية موضوعَه فيميل ناحية علم النفس، كما أنه يلغي ما تبلور جمالاً ظاهراً ويُيُبِس الذات في إخضاعها له مفهوماً. والشعورية، بحد ذاتها، عاجزة عن تبرير ذاتها. وهكذا: أمام مسألة الجمالية يتساءل العقل: أهي فلسفة؟

 

(2)

تقرُّب من المسألة الجمالية بالمقابلة

العقل، في أرقى معاناته المعرفية، عرّف بالفلسفة أنها تبرير شيئية الشيء أكانت فلسفة محضة أم فلسفة شخصية. فالفلسفة هي عقلُ العقلِ موضوعَه، أي تعليل وجوده بما هو موجود.

فالفلسفة إذاً بحث عن الحقيقة. إنها اكتناه تعليلي. وهكذا بدأت "فيلوصوفيا" عشقَ الحكمة. وواصلت وستبقى، بمعارفها الموسوعية التصاعدية، مشدودة لعقل الموجود حتى تحدده بمقوِّماته، نافذة من وجوده إلى كيان هذا الوجود. فمبدأ وجوده حتى وُجِد. هكذا الفلسفة.

والجمالية؟ هل موقفها من الجمال موضوعها موقف الفلسفة من الموجود لمعرفة الحقيقة؟

قيل فيها: هي حصر الجمال في شروطه للحكم على قيم الآثار الفنية.

وفي تصنيف الدُرب الفكرية، هي، أكاديمياً، باب من الفلسفة ذو وجهين: الأول، نظري موضوعه الصفات المشتركة بين الأشياء الجميلة التي تولِّد الشعور بالجمال. (المعجم الفلسفي، صليبا، مادة "جمال")؛ الثاني، عملي مادَّته النقد الفني.

وفي الوجهين دور العقل تفسير طبيعة الجمال فلسفياً، لأن "قيمة الأثر الفني لا تقاس بما يولِّده في النفس من الإحساس فحسب بل تقاس بنسبته إلى الصور الغائية التي يتمثَّلها العقل." (المرجع السابق)

وفي التصعيد الفلسفي للجمالية حاول العقل إبراز قدرته على عَقْلَنة الجمال فولد مصطلح "الجماليانية" التي، بمغالاتها، قد تعني فلسفة مفهوم الجمال. وهكذا:

المصطلح الغربي اليوناني الأصل aisthesis الذي يعني التأثر بانطباعات حسية جميلة تبعث اللذة والرضى، انتهى esthétisme للإدلال على توق العقل ليعقل الجمال. هذا المصطلح يقابله في العربية فعل "جَمُلَ" المستند إلى أثر مستحب يولِّده الحسن أو الملاحة وقد انتهى "جماليانية". إذاً: الجمال، مادة، وعقلنة هذه المادة، هما حقل الجمالية. فهل هي فلسفة؟ لا أراني أصعِّد البحث إلى معقولات المعقولات، وأترك الجماليانية لمقام آخر. لذا: الجمالية هي الطرح. ومعا نبقى في حقل طرفاه الجمال وطبيعة العقل الذي قد يسعه وعي الجمال. من هنا:

الجمال منطلق الجمالية. والجمالية انعكاس العقل عليه. والمنطلق أسبق. الانعكاس أحدث. والمنطلق بَلْوَر المَلَكَة القادرة على الانعكاس. المسلَّمة هي أساس عديد من مسلَّمات تعنينا منها واحدة: نموّ ملكة الجمال.

 

(3)

العقل: فلسفي وجمالي

هذه المَلَكَة، هل تبلورت مُجانِبَةً العقل، أم لازمته في وحدة الحياة الصاعدة التي، بقدر تساميها في الوعي، تصبح أقدر على وعي تنوُّعها وتفريع حقول وعيها؟

إن التسليم بالتلازم يحملنا حتماً على القول بوحدة العقل وقدرته على تنويع محمولات معقولاته. في هذا التنويع يسعنا الإدلال على عقل فلسفي وعقل جمالي وعديد من العقول هي ميِّزات أفراد البشرية. ولكن:

هذه الوحدة المتنوِّعة هي التي تبرِّر السؤال عما إذا كانت الجمالية فلسفة. ذلك أن هذه الوحدة مشتركة وعامة، والتنوُّع هو الخصوصية. من هنا منطقية استنتاج فلسفة الجمال، أي الجمالية، وجمال الفلسفة، أي الفلسفة التي حققت شروط جمالها. فما العلاقة بينهما؟

كل من الفلسفة والجمالية فعل انعكاس على موضوع. وقد يجعل عقل الواحدة منهما عقلَ الأخرى موضوعاً له. وهكذا تغدو الفلسفة موضوع الجمالية، كما تغدو الجمالية موضوع الفلسفة. فإذا كانت العلاقة ممكنة على صعيد العقل يمكن تعميمها على صعيد موضوعات العقل، أي الموجودات التي تصبح مسائل كلٍّ من الفلسفة والجمالية، وذلك لأنهما وَعْيان قادران على فهم الموجودات ولكنهما يتنوَّعان بهوية العقول. لذا:

إذا كان المعقول مطلوباً لحقيقته الوجودية فما يكتَنِهُه العقل هو فلسفة حقَّانية. وإذا كان المعقول مطلوباً لجماله، فما يبلوره العقل هو فلسفة الجمال. وتلك العلاقة على صعيد العقل (أي الوحدة العاقلة والمتنوِّعة) هل تمتد إلى المعقول مطلَبِها؟ باستفهام آخر: هل المعقول هو بدوره موجودٌ حق دون جمال، أو جمال صرف دون حقّ؟

هذا الاستفهام الذي لا يتناول إلا أقنومي الحق والجمال من الموجود المعقول، مِحْوَره العلاقة التكوينية بين الموجود حقاً وجميلاً والموجود جميلاً وحقاً. وبقدر ما يتسع العقل لإدراك وجود هذه العلاقة يدرك وجهي الكينونة؛ فلا موجود دون جمال ولا جمال دون وجود. هذه العلاقة عرفها الفكر الفلسفي في تاريخه، لكنه عرفها في وحدة العقل أكثر مما عرفها في كينونة الموجود حقاً وجمالاً. وحتى معرفته إياها في وحدة العقل جاءت أقرب إلى الحقَّانية منها إلى الجمالية. من هنا اتَّسمت المعرفة الحقانية بالعقلانية، بينما المعرفة الجمالية اتَّشحت بالحدسية. فالأولى أكثف موضوعية ومنطقاً، والثانية أعمق ذاتية وقداسيّة.

لماذا هكذا؟ وما كانت النتيجة؟

الجواب على الـ "لماذا" يوجِب معرفة طبيعة العقل ومبدئه. أما النتيجة فتقضي بمعرفة طبيعة تاريخية التراث الفلسفي الجمالي.

 

(4)

طبيعة العقل وطبيعة الموجود

طبيعة العقل أنه طالب معرفة. والمعرفة تظل سؤالاً متوالداً حتى يبلغ العقل يقيناً، ولو نسبياً، يركن إليه، وبقدر ركونه إلى هذا اليقين يبرِّر وجوده. وتبرير الوجود حقيقة تعليلية تستند إلى حقيقة موجودة. وضرورة تبرير الموجود هي التي لازمت العقل أولاً. وبتبرير الوجود عقلياً برَّر العقلُ وجودَه. إنه موجود حقيقي يعرف أنه يعرف، ويعرف، بما يعرف، ما ينقص معرفته. والنقص في المعرفة ليس فقط إدراك العقل حدود الحقيقة التي يعرف بل هو تحدٍّ له، للحقائق المحدودة، فينشدُّ، مدفوعاً بتأكيد حقيقته، إلى التأكُّد من حقائق الموجودات التي لا يعرفها حتى يعرفها فيتحقق أكمل فأكمل.

والجمال كموجود قائم بحقيقة، والعقل يتقصَّاه، يحاول تبريره، يعلِّل وجوده في الموجودات، يسعى لاكتشاف ماهيَّته فيها، ويجد أنها ماهية علاقة الموجود بمقوِّمات وجوده، بكيفية هذا الموجود، بتواصل هذه المقوِّمات، بتواحدها فيما بينها، بمقدار تناغمها المباشر أو غير المباشر. إنها ماهية تناسق وتواقع وحنين واستجابة.

وهذه الماهية هي نفسها في الموجود كموجود بحقيقة وجوده، وفي الموجود ذاته كطريقة
 وجود. والعقل يسعه أن يؤكد وجوده بالاثنتين: حقيقة الموجود وحقيقة طريقة وجوده. ولكن، هل هذا التأكيد هو ذاته في الاثنتين؟

للوهلة الأولى، لابد من افتراض تباين بينهما تكشف عنه ظاهرات العقل في إدراكه الموجود. لكن العقل، في مباشرته معرفة الموجود، يتدرَّج من محسوسه إلى كمِّيته، إلى عناصره، إلى مقوِّماته المكانية-الزمانية، إلى علة وجوده، إلى ما يؤكده موجوداً. وهكذا:

من الكمِّ إلى مبدأ الكمِّ يترقَّى العقل الفلسفي، لكنه لا يكتفي. فالموجود ذاته يبقى مصدراً ومنهلاً لمقوِّمات أخرى ملازمة لهذا الموجود وتبرز في دقائق أبعد من الكمّ والمبدأ الإيجادي. إنها تدور في كيفية تناسق الكم، في جوهر الإيقاع الذي ينسِّقه، في طريقة تنظيمه، في ماهية حنين عناصره المتعاطفة. وهكذا:

إذا كان العقل يباشر الموجود كحقيقة فإنه يواصل فيه ككيفيَّة وجود. وتاريخ العقل دلَّل على أن الأولى سبقت والثانية لحقت. فالتباين عرضي لجهة زمن الإدراك . إذاً:

ليس من تباين في التكوين أو تعاكس أو تفارق، بل تواصل لا مبرِّر له. إلا أن الأولى أقرب إلى العقل بينما الثانية أصعب منالاً. الأولى قوامها حيرة العقل أمام الحقيقة. فالعقل والموجود يتواجهان فيها، في فعل تيقُّن. الثانية قوامها تفاعل العقل ونظام الموجود وما يصدر عن هذا النظام من تناسق، تناغم، ترتيب، تجاوب يحار العقل في مصدره، في انعكاسه على متأمِّله إحساساً وحدساً وسراً.

وبقدر ما يترقَّى العقل ويدقُّ في إدراك شيّات هذا الإحساس وعقْلَنَة ذاك الحدس وكشف لُمَع من ذلك السر يتمرس بمقوِّمات الجمال، تائقاً إلى تجريد نظام متكيِّف مع كليات الجنس والنوع والخصوصية. وهكذا:

العقل في حرصه على حقيقة الموجود يستند إليها ليَكْنَه نظامه فيدرك الحركة فلسفياً ليرقى في إدراكه النظامَ في الحركة، والإيقاعَ في النظام، والتناسقَ في الإيقاع، والنبراتِ في التناسق، والتنوُّعَ في النبرات، وجدليةَ الذبذبات في التنوع. إذاً:

العقل في عَقْلِه الموجودَ يعْقَلُه كمَّاً بحقيقة؛ وفي عَقْلِه الموجودَ كيفيَّة يدركه زماناً في نظام. وهكذا:

من الجواب على الـ "لماذا" نصل إلى تاريخية طبيعة التراث الفلسفي والجمالي. العقل، عبر
 تاريخه، تكثَّف فلسفياً مدفوعاً بلجاجة الحقيقة ليعرف ويعرف أنه يعرف. وإشباعاً لهذه اللجاجة أخضع دُرَبَ المعرفة في اتجاه حقيقة الموجود. وهكذا استمراراً. والعقل ذاته شارف جمالياً كيفية الموجود مدفوعاً بتحقيق غبطته بالنظام القائم في الموجود. وهكذا:

معرفة الحقّ سبقت معرفة الجمال في تاريخ العقل. لكن هذا السبق على الصعيد المعرفي لا يحتِّم أبداً السبق على صعيد الحس والحدس والشعور بسرِّية الجمال. الحس الجمالي أسبق من المعرفة، لكنه لا يعقل ذاته؛ والحدس الجمالي أقدم من العقل، لكنه يقتضي عقلاً يرتفع إلى مستواه؛ وسرِّية الجمال تبقى ملازمة الموجود في أبعاده التي تفلت من أُطُر العقل ومداركه. من هنا:

محرِّكات الجمالية أشمل أبعاداً وأكثر تنوعاً وقد تكون أشد لجاجة من محركات الفلسفة في العقل. فالحس والحدس والسرِّية والمخيِّلة وحتى الوجدان الصوفي، كونها، هي في ذاتها، طاقات فاعلة ومنفعلة بالأشمل منها، بالأبعاد، باللامتناهي، فإنها تمنح العقل ما تُبَلْوِرُه وفق طبيعاتها دون أن تنحدَّ، كطاقات ومصادر، بمقاييسه ومعاييره. وهو بدوره، في معضلة معرفة الحقيقة لا يقفز قفزاً. والحقيقة مخاض عسير. فكيف يسعه أن يعقل تلقائياً ما هو أبعد في عملية العَقْلَنَة؟ لعل الجواب يكمن في مدى تمدد دائرة الوعي وطبيعة هذا الوعي عل صعيد الفرد. ولعل حال الفرد هذه هي حال الحضارات والشعوب والوعي البشري أجمع. لذا:

العقل، في المفهوم العام والمفهوم الجمالي، ليس تراكماً تاريخياً، إنه تزمُّن تاريخي أو تزمين التاريخ.

 

(5)

التزمُّن الحقاني الجمالي

هذا التزمن عام وشامل، يتناول الوجود الخارجي والكيان الداخلي. الخارجي يتَبَلْوَر جمالياً فيغدو أجمل. والداخلي يتَجَوْهَر جَوَّانياً فيغدو أعمق وأرهف. وجدلية الدُرَب العلمية تلازمها جَوَّانياً أبعاد كيانية تستيقظ فتستنهض قوى كامنة تصبح بدورها ملَكات إدراكية في اتجاه الموجود الخارجي، وحدسية استبطانية في اتجاه الأعماق الكيانية اللاواعية والمنطوية على مخزونها التراثي الحياتي العام. وهذا الحدس الاستبطاني يكاد يكون مصدر المصادر الجمالية في عملية "الوَعْيَنَة"conscientisation  التي تبقى أبداً نسبية حيال ذلك المخزون.

والتزمُّن، خارجياً كان أو داخلياً، من حيث هو تزمُّن، ليس تراجعياً، وما لا تراجع في تَجَوْهُره المتواصل يفرض حضوره كُلاً أكثر تركيباً وأعمق تكثُّفاً. من هنا لغة تفرض التفضيل ( أكثر، أعمق، إلخ) نفسها فالجمال المَوْعيُّ ليس مطلقاً، بل جدلي. فهو في مستوى يسعى الوعي لاكتشافه في الخارج كما في الداخل. إذاً: الجمالية المتطورة بنمو الموجود الخارجي جمالياً هي جمالية في الوعي وقد باتت طبيعته. وهكذا:

مفهوم الجمال ومادته متلازمان في العقل الذي بلغ الجمالية. وهذا يعني فيما يعني أن الجمال صيرورة. والصيرورة هي أن أي خلاصة جمالية هي بدورها صيرورة، ومثلُهَا العقل الجمالي. ويعني أيضاً أن الجمال حقيقة نوعية قيموية ملازمة الوجود. وهذه الحقيقة بمقوِّماتها هي التي، في التزمُّن الجمالي، جعلت العقل يُبَلْوِر مفاهيمه في أحد اتجاهين:

إما الاتجاه الاستقرائي بدافع جمالي جَوَّاني يستشرف ماهيَّات الموجودات في كائن الحق والخير والجمال الميتافيزيائي.

وإما الاتجاه الارتدادي على الحقيقة الجمالية التي تُعَجِّزُ العقل فينسلخ الوعي عن المخزون النوعي القيموي والتاريخي، ويتفوَّش مسطَّحاً لا صلة له بالمجاري الجَوَّانية متَمَحْوِراً على الموجود كمَّاً ومبدأ. إذاً:

الحقيقة الجمالية هي: إما استكمال العقل في استكماله الحقيقة بحقيقة الجمال الذي يلازمها، وإما صدمة العقل الذي عجز عن إدراكها.

وهكذا جاء تراث الفكر في التاريخ. فهو، في أحد تياريه الرئيسيين، غبطة العقل بجماليَّته؛ وفي الثاني شقاء العقل في انكفائه على حقيقة الموجود وحدها. وأخلص إلى القول:

هناك جدلية قائمة بين المعقولات والحقيقة الجمالية في العقل. وهذه الحقيقة هي التي ظهَّرت تاريخ الجمالية كفلسفة تعقل الموجود لتعي جمال وجوده ساعية لاكتشاف تناغم تكوينه وسنَّة هذا التناغم. وخلاصة:

هذه الجدلية في العقل هي التي حدَّدت هوية الفلسفة. فإما هي فلسفة حقيقة الموجود، وإما هي فلسفة جمال الموجود. من هنا قد تبدو الجمالية في تاريخ الفكر، تابعة للفلسفة ومتأتِّية عنها أو ملحَقة بها. ولكن، إذا كان الأبعد منالاً يأتي لاحقاً، فإن الجمالية تظهَّرت في بعض قيم الفكر الإنساني، وقد بلغت شأواً بعيداً في الفلسفة فدقَّت عَقْلَنَتها حتى بلغت ذلك الأصعب الأبعد؛ أو إنها عقول بطبيعتها حدسية وأكثر استبطاناً فَقَصُرت، في عَقْلَناتها، مسافات الكم والحقيقة وبلغت آفاقاً من الحقيقة الجمالية. ولعلنا، استشرافاً، نجرؤ على القول بأن العقل البشري الآخذ، أعمق فأعمق، باكتشاف حقائق الموجودات ومعرفة دقائق تنظيمها، مقبل على إدراك مبادئها من منظور جمالي فلسفي، وإن كان أكثر الأحيان، ولايزال حتى الآن، يتسقَّط الجمال من منظور فلسفي. وهكذا:

جدلية الفلسفة الحقَّانية والجمالية التي أبرزت ملامح طبيعة تاريخية الإرث الفكري تدعو لتمثيل أرقى مناخاتها في تفاعل العقل بين الحقَّانية والجمالية.

 

(6)

الحقَّانية والجمالية وشهادة التاريخ

في عمق التزمُّن التاريخي، في صميم الصراع لتحديد هوية العقل والوجود وما أبعد منهما، الجمالية غاية، وها نحن ذا مع أفلاطون. والجمالية غاية تميتها الفلسفة الحقانية . وها نحن ذا مع هيغل. فلا بُعْد العهد بينهما (اثنين وعشرين قرناً)، ولا للمفاضلة على سواهما، بل لأن كل منهما بلغت معه جدليَّة الحقَّانية والجمالية نقطة الأوج، أي، على صعيد العقل، حتمية تحديد هوية مصير العقل: أحقَّاني هو أم جمالي. فكيف هو مع أفلاطون؟

من تموُّج السائل الأنوثي اللامتناهي التكرار عند هسيود، إلى الهرمونيا الستيرة وراء المبادئ الجميلة والمتوزعة في المرئيات فتجعل الكون يغنِّي عند فيثاغوراس، إلى جدلية الصيرورة التي تقيم التوافق في أعماق المتباعدات عند هيراقليطس، حيث على العقل الفنِّي أن يحاكي النِسَب السرِّية بين الكثرة والواحد، إلى الفعل الإبداعي والفطري في الشعر الذي يفضي إلى سرّ الجمال عند بروتاغوراس، إلى هذا السرّ المستعصي الذي هو "عذاب عذب" عند غورجياس، حيث الظاهر يبقى مائعاً إذا لم يتزمَّن والكائن، إلى تقريب مفهوم الفن من الفلسفة التي غايتها بلوغ الحقيقة عن طريق التوليد، وهي (الفلسفة) بهذا، الموسيقى الأكثر سمواً عند سقراط استقرأ العقل مبادئ جمالية باتت تقتضي طاقات إدراكية فوقية في عقل يتميز بقدرة هي أقرب إلى "الجنون" ليستطيع معرفة أظلال الجمال. هذا العقل هو أفلاطون.

الجمالية عنده أن الجمال لا يسعه أن يقوم في موجود مرئي محسوس. هو، في ذاته، شرط بهاء المرئي. وفي ماهيته مثال، على الفنان أن يقترب منه بعقل يستقرئ الموجودات بقدر ما يستذكر ماهية المُثُل ويعي العلائق الممكنة بين المرئي والمثال. هذا العقل الجمالي هو مصدر التكوين الفني. فالقبيح ليس موضوعاً. لذا:

تصوُّر مثال الجمال، كونه أسمى تصورات المُثُل، يبقى، وهو يبثُّ الإشراق في الموجودات، وحده حافز الإبداع التصاعدي لأنه لا ينتهي. إذاً:

في هذه الصعوبة الاستحالة على الفن أن يتمرس بكل الفوارق بين المحسوس واللامحسوس، وأن يجد، في المقابل، التعبير الذي، في منتهى رهافته وصيرورته، قد يطبِّق أكثر النسب دقة ورهافة. وهو، حتى في هذه الحال، لا يعدو أن يكون أكثر من توسُّط بين طرفين: الأول هو الكائن أي الجمال، والثاني هو شيء سبق وحقق مستوى يخوِّله الانتماء إلى الوجود الجميل. وهكذا:

أفلاطون، في تصوُّره الكائن الأخير كائن الجمال، كان مصير الجمالية معه أنها غاية. ونمو العقل في إدراكها نموٌّ جمالي . وإذا جدليَّته مع ذاته جعلت عقله الجمالي يُخضِع الفلسفة الحقَّانية للجمالية. فانعكاسه على تلميذه أرسطو أدى إلى تبرير الكائن على أنه قائم بالحقيقة التي فيه. وجاءت فلسفته حقَّانية، والجمالية تابعة لطبيعة صيرورة المادة والصورة حقيقة أكمل في الوجود.

ومع أرسطو تركزت الأكاديمية التي ستفرض نفسها، في تاريخ الفن والجمال، كلما اختلّ التوازن بين محاكاة الطبيعة واجتيازها. ومع الأكاديمية تقرر التصنيف والتعقيد والتنظيم، فانبثقت الشكلانية التي ستميل بالجمال إلى فلسفة في الفن.

وارتدّ أفلوطين على أرسطو، فإذا بالجمال أسمى من الإدراك. إنه من مصدر آخر: إنه ألق "الواحد". وتجسيده يكون في روعة التناسب أكثر منه في التناسب ذاته.

وقد تجاذَب العقلَ الجمالي الأفلوطيني خلال العصر الوسيط قطبان: الأول، الخلق دون مادة أي خارج الزمان؛ الثاني، أَخْذُ العقل بالجمال المرئي.

وعن التأليف بين جمالية أفلاطون وحقَّانية أرسطو انبثقت ركائز النهضة في فلسفة الفن مع عقلين عميقَي التقصِّي في خفايا المضمون ونافذَي الدقة في التقنية التظهيرية التعبيرية. إنهما ألبرتي (1404-1472) وليوناردو دافنشي (1452-1519).

الرومنطيقية وجدت المنفذ في ارتدادها على الأكاديمية والكلاسيكية، في أوَّلية المخيِّلة على العقلانية. فالفرد هو العبقري . وعبقريَّته تستند إلى الحدس قبل العقل. وهذان البعدان هما وراء جمالية ليبنتس (1646-1716) التي تجعل الكون يعكس الهرمونيا الداخلية التي في الجوهر الفرد Monad. وفي تقصِّي علاقة الإحساس الجمالي بالعقل وجد بومغرتن أن في الإنسان مَلَكَةً خاصة دعاها "المعرفة الحسية التامة". وهي، في تماميَّتها، وسيطة بين الإحساس وما يلازمه من غموض والعقل وما يلازمه من وضوح.

معمقاً هذا الحس أمسى الجمال مع شافتسبوري (1671-1713) حدساً داخلياً، ولكنه مماثل للعقل. وهكذا وصل إلى التوازن بينهما: فلا طغيان للعقل على هذا الحسّ، ولا الحس يطغى على العقل.

وهذا الحس، في توقه ليماثل العقل، خرج في فلسفة كانط العامة عن الموضوعية لأن اللذة التي في أساسه هي ذاتية، وبالتالي فإن الحكم القيموي ذاتي. والجمال الذي شروط الحكم عليه قائمة في البشر هو، كما يقول، "ما يروق كلياً ولكن دون مفهوم" و"وجوده شرعي دون شرع" و"قصديَّته لا نهاية لها". لذا الجمال عند كانط هو مما لا يُعرَف بقواعد ومفاهيم؛ فمعياره فيه وهو موضوع ملكاتنا فوق الحسيّة suprasensorielles. إنه جوهر. ولكنه جوهر توحيه المخيِّلة الحرّة. من هنا هو "حدس لا يطابقه أي مفهوم" لأن المخيِّلة لا تستطيع أن تصبح معرفة. لذا فإن هذه الأبعاد في جمالية كانط تقتضي مَلَكَة قادرة على استحضارها. إنها العبقرية التي تستقطب المُثُل الجمالية. والعبقرية هي الطبيعةُ ماثلةً فيها. من هنا عادت الكلِّية إلى جدليّة الحقَّانية والجمالية. وهذه الكلِّية هي التي ضمَّنت نقد الحكم، عند كانط، مصدراً ميتافيزيائياً ينعكس مداورةً في كلِّية المحسوس.

هذا المضمون الميتافيزيائي هو مرتكز الفن الذي، بحد ذاته، يوحي المطلق، عند شلِّنغ. ففيه يتألَّف النظري والعملي اللذان يجتازان ذاتيهما استمراراً حتى يبلغا مستوى الأنا السامية التي عنها يصدر الفعل الفني. وهذه الـ"أنا" هي، من جهة، لاواعية كما الطبيعة، ومن جهة أخرى، واعية كما العقل. والفعل الفني، مستقطِباً كل هذه الأبعاد، يرسِّخنا في الطبيعة كما يصلها بنا. من هنا فهو أسمى من الفلسفة لأنه يُحضِر المطلق في الفكر بينما الفلسفة تقتصر على معرفة بريقه. وهكذا علاقة الفن بالعبقرية تكوينية ضرورية. والفن، رغم توزُّعه في نماذج متنوعة، واحد. وفي تطور الفكر يتَعَقْلَن الوجود. ولكن، من جدلية "الواحد" مع الوجود المُعَقْلَن، تحدث فلسفة جديدة تتَّسم بمثيولوجيا جديدة، ويعاود الفن دوره خصوصاً عن طريق الشعر .

هذه العناوين لما بلورته جدلية الحقَّانية والجمالية في تزمين التاريخ وصلت هيغل (1770-1831) صاخبة بالتفاعل التاريخي الطويل فقررت صيرورة الفلسفة صيرورة تزمينية، منطقية تاريخية هي عينها صيرورة المطلق. والفن ملتصق بها ويوحي تلك المطلقية حدسياً في تجلٍّ صرف. ولكنه لا يوحيها إلا بعد أن يدركها العقل. وما فوق العقل هو الدين في مرتبة أسمى. والفلسفة في مرتبة دون الدين. والفن دون الاثنين. وهيغل إن انطلق من شلَّنغ فلكي يرتد عليه، وفي ارتداده هذا ارتداد على الفن ذاته. من هنا اندرج الفن في حركة الصيرورة وما يلازمها من أزمنة ومراحل. وأصبح الفن الملازم الصيرورةَ الفكرية في اتجاه انحداري بينما الفلسفة في اتجاه تصاعدي. وهكذا مر الفن بثلاثة أطوار:

في الأول جاء الفن رمزياً ميثولوجياً لأنه صادر عن الفكر الديني والميثولوجي.

في الثاني جاء الفن كلاسيكياً فتوازنت فيه الفكرة والشكل.

في الثالث جاء رومنطيقياً وحداثة.

وكون لامتناهي الفكر لا يمكن أن يصبح موجوداً بالفعل إلا في لامتناهي الحدس، فاللاثبات الذي يفكِّك، كل لحظة, كل شكل ملموس، يُحْدِث الخلل في نظام الفنون كما في كل منها. والاختلال يعقبه الانحطاط دائماً.

في تحوُّلات الفن هذه على أنه دائماً فعل في الماضي ، لا ثابت في تصاعديَّته إلا الفكر الذي يجتاز الشكل أبداً. وهذا الاجتياز يقتضي أشكالاً أكثر سمواً. وإذا كان الفن فعلاً ماضوياً والفكر فعلاً تصاعدياً مستقبلياً غايته أن يدرك ذاته، فالفن طريقه الزوال، وكون الفكر غاية فالطبيعة مقصيّة. وجمالية هيغل تتحوَّل إلى فلسفة في الفن أكثر مما هي فلسفة في الجمال. و هكذا يموت الفن ومعه الجمالية لتبقى الفلسفة ويهيمن الدين. هكذا سقط، مع هيغل، أحد طرفي الجدلية الحقَّانية والجمالية.

وتَمَعْضَلَت مسيرة تلك الجدليَّة، وتشعبت المفارق في مسألة الطرف المجادِلِِ الفلسفةَ الحقَّانية، ولم يبق في السَّاح من يقدر على إعادة التعادل في جدليَّة الحق والجمال، وكان لابد من العودة إلى التيار الأفلاطوني.

فجمالية شوبنهاور أفلاطونية تأمُّلية، والفنان يمنحنا عينيه لنرى العالم. الفن، كما يقول، "هو التفتُّح الأسمى لكل ما هو موجود". والتفتُّح هو معرفة مباشرة للمُثُل لأن الفن أسمى من مبدأ العقل. إنه مرادف للعبقرية. والعبقرية والذات الإنسانية أمستا مقوِّمي الجدلية الجديدة. ولكن الذات هذه متناهية، والعبقرية وحدها تعلوها. وما تبلغه العبقرية من موضوعية يمكن مواجهتها هو البنية الأخيرة للعالم. وهذه البنية هي الموسيقى. فالعالم، حسب شوبنهاور، هو موسيقى متجسِّدة.

مفهوم "العالم موسيقى متجسِّدة" نشأ عليه نيتشه ليسقطه. والروح الديونيسية راحت تتقلص في قوى شواشية هي دون الأشكال الوجودية. وأمست الحقيقة في المحسوس، وما فوق المحسوس هو استلاب المحسوس. والفن، إذا خرج من إطار هذا المحسوس، يصبح استلاباً كذلك. وإرادة القوة لا تواكبها إرادة الفن والجمال لأن الفن ليس قَوْلَبَة الحياة في ما ليس فيها. الفن سُلالي وليس تاريخياً. والسُلالة تؤدي إلى الفردية. والفردية أساليب خاصة. والفن يتسم بالنبل بقدر ما يجسِّد الأسلوب الفردي إرادة القوة. من هنا أزلية الفن التابعة لـ"أزلية العَوْد" في الفلسفة النيتشوية هي أزلية متنوِّعة تنوُّع الأفراد والأساليب. وهكذا:

تواصل التشتُّت الجمالي حتى أواخر القرن الماضي. فالرفض النيتشوي واكبه رفض كيركغور (1813-1855) للجمالية الهيغلية، وإذا بالتاريخ يصبح، في الفن والجمالية، أسطورة. ومفهوم الدوامية يتفتَّت إلى لحظات متقطِّعة. ومهمة الجمالية هي التعبير عن اللحظة الشبقية. وازدواجية كيركغور أدت إلى السخرية بالجمالية من جهة، كما إلى تأكيد ذاته بها، من جهة أخرى. فكما يقول: "الجمالية هي طبيعتي أصلاً." من هنا:

هذه الازدواجية اجتاحت الغرب في القرنين الأخيرين في كل دُرَب الفكر، ومنها دربة الفن والجمالية. وتمَعْضُل الجمالية هذا، كما يجد باحثوها، يرجع، في أكثر عوامله، إلى هذا الاختلال الذي بدأ مع هيغل وراح يُفسِّخ مقوِّمات الجدلية الحقَّانية الجمالية ويقطع مفاصلها مشلِّعاً ما حاول العقل تأليفه في تزمينه الفكر والتاريخ في مفهومي "الوحدة" و"الكثرة" حيث "الوحدة" هي جمال نظام الكون و"الكثرة" هي التنوُّع الجميل في الوحدة العامة.

وأمام ذاك التفسخ وذلك التشليع ما عساهم يفعلون أولئك الذين يداخلهم مَسٌّ من قدسية الجمال ويشعلهم هوى أبعاده وسحره كأنما هو كائن مجنون في كيانهم يساكنهم ويساكنونه فيعيشون التساكن المدهش؟

 

(7)

حيرة الجمالية على مفارق العصر

وإن سقطت جدليَّة الحقَّانية والجمالية فالجمال بخيريَّته قد يكون له دور الريادة في إعادتها. ولعله يوقفها، يوماً، بوقوفه على قمة عالية من قمم الوعي التي يحبل بها العصر من غير أن يعرف.

عندما تقعَّدت الجمالية في مدارس، نشأت فلسفات الفن. وهذه الفلسفات تبرِّر فعل الإبداع الفني في حين أن الجمالية تشمل البادع والمبدوع والبَدْع والأبعد منها، ولا تنحدُّ في أي منها كما ولا في جميعها لأنها ليست نقداً لنتاج مبدوع، أو قراءة لتاريخ أو تحليلاً لخلفية أو تسقُّطاً لقصديَّة وحسب، بل هي، في ماهيَّتها، كينونة يحاول العقل تجسيدها، وقدر ما تظل تجتازه تبقى سراً فاعلاً. لذا فإنها ما كادت تنحدُّ مرة حتى ترتدَّ على الحد والمحدِّد. ومن هنا:

أي مقوِّم من مقوِّماتها وغاياتها ليس متناهياً: فالحس، الحدس، المخيِّلة، الإلهام، العبقرية، الوحي، اللاوعي، الغريزة، التصوُّف، التجلِّي، الألق، الرهافة، الشعشعانية، الأناقة، الإيقاع، التوازن، التناسب، التمامية، العجز عن التمامية، التأثر، العظمة، الغرابة، الذهول، التزمُّن، الاستبطان، التظهُّر، الذاتية، الموضوعية، التأليف synthétisation، الهَرْمَنة harmonisation، الجدليَّة، البساطة، إلخ أي منها يسعه أن يبلغ حداً نهائياً؟ وأي منها، مجادلاً أو متواحداً مع سواه، لا يولِّد حالات وموجودات لامتناهية؟ فكيف الحال، وهذه الحفنة من عناوين ليست أكثر من تهجئة الحرف الأول من أبجدية الجمالية، مع الجمالية؟

لعلنا نلمح إلى تبرير الفرضية التي منها انطلقنا: الجمالية مسألة مفتوحة. وكون الجمالية هي، في إفلاتها من الأُطُر، مستوى من الوعي الجمالي، فإنها، في هذا العصر، حيرة على مفارقه التي لا تحصى. نعم. ولكن: نِعمَ الصراعُ حتى التناقض. الصراع في كل شيء. في كل مجال. في كل حقل. في كل مُرَكَّب وحتى فيما يتوهَّمه العقل بسيطاً.

وفي هذا الصراع الذي هو وجودية العصر حتى في فهمنا الموجود موجوداً ونحن نتصور اللاوجود، في هذا الصراع المشتمل على الوجود وما فوق الوجود، وحتى في ما نتصوَّره عدماً، تجد الجمالية قاعدة هرمها. وعبثاً يطاول الوعي الجمالي أعالي الجمالية الكينونية إذا لم تصخب القاعدة بكل التفاعلات.

ذاكه، في الفلسفة، مرتكز كل مسألة فكرية تأليفية مفتوحة.

وفي الجمالية، ذاكه المنطلق للخروج من الحيرة إلى فعل التَكَوْنُن. والتَكَوْنُن، ما شروطه؟ متى يحصل؟ وكيف؟

 

(8)

جمالية الآتي وصخب اليوم

أما زمان تحقيق هذا التَكَوْنُن فمرتهن بتحقيق إحدى مسلَّمات الجمالية، وهي: نسبة ارتفاع نسبيّة التناسق في الشواش chaos شرط أن يستمر التولُّد في الشواش ليواصل التناسق في تنظيمه ويتسامى مستوى الإيقاع في هَرْمَنَة نفسه فلا يعتري شجرة الجمالية الصاعدة خُفوت في أي من آفاقها أو نقص في دفق مائيَّتها. وهكذا:

كل أفق يخضُّه العقل المعاصر ممتصاً آخر شيّاته، كل ذريرة يحلِّل المختبَر آخر عنصر في تكوينها وتفاعلها وانعكاسها على سواها، كل شيء، وحتى افتراض اللاشيء يسعه أن يثرى الجمالية.

ذاكه المفهوم الذي يحتِّم وجودها، ينزع عنها نزعة التشليع والإلغاء، كما يقلِّص عنها المفاهيم المتقلِّصة المُتَمَطْلِقة في انزوائتيَّها. ذاك المفهوم الشمولي قد يبدو "يوطوبياً"، وقد يفهم ارتداداً على واقع. ولكن:

إذا كانت الفلسفات المنعوتة بالمثالية سُخراً عَرَفَتِ الإنسانية فيها مناخاتها الراقية وشهدت لقدرة العقل على تساميه بالواقع، فكيف الأمر بالنسبة للجمالية؟

الجمالية‍! أليس عليها أن تُبَلْوِر عهداً جديداً يصبح معه الوعي أرقى جمالاً، فيتوق العقل لمعرفة حقيقته ملحاحاً في اكتناهه؟

أليس على الجمالية، وقد استضاءت بالألوهة وفعل الخلق خارج الزمن، أن تبدأ ببَلْوَرَة بشرية جميلة بتوازنها وتناغمها وإيقاعها الإنساني، فتستند إلى الحق لتبرر قدرتها ووجودها العظيم؟

أليس الانعكاس على الموجود بما هو أشمل وأرقى منه يدعو إلى التحرر من عقد الخوف والجهل؟ والجمال، أليس سلاماً في النفس وعمقاً نوعياً في العقل؟ والجمالية، أليست أبداً مغامرة في كينونة أبت ماهيتها وصفَهَا بما دون القداسة والسرِّية والذهول؟

لا أراني أفلسف الجمالية المنتظرة، وإن باحت التساؤلات ببعض سماتها. ولكن، أليست جمالية الكون هي ألوهيَّته؟ وهل بغير هذه الألوهية يسع العقل أن يرقى إلى اللاهوت والله موضوع اللاهوت؟ ومع هذا :

عبثاً تكون الجمالية المنتظَرة على مستوى ما تتوق إليه البشرية إذا لم تنبع من واقع البشرية كما ومن توق البشرية الذي عليها أن تستجليه وتجسِّده. وهكذا:

الواقع في ارتعاشته والتوق في لانهايات تموُّجه حتميان. وإنقاص شيَّة منهما انتقاص من حنْيَة في خط أو لون في نغم.

والعقل في تقصِّيه آخر ذريرة من إيقاع نظام، مقياسه نغمية هذه الذريرة. والملكات التي تستحضِرُ أرقى اللانهايات في فعل الإبداع على محكِّ المغامرة.

والعصر من جهته، ما تُراه يقدِّم لهذه الجمالية وقد معضَلَهَا انحلالُ جدليَّة الحقَّانية والجمالية الكلاسيكية؟

 

(9)

مقوِّمات الجمالية الآتية (في عناوين)

الفكر الأكاديمي، مختصِراً ما مخضته العلوم والفلسفات في الحقب الأخيرة، جعل المعرفة الناشدة الجمالية في توجُّهين:

الأول، توجُّه نحو الشكل، وتلازمه الجمالية العلمية.

الثاني، توجُّه نحو الَجوَّانية الإنسانية، وتلازمه الفلسفة الذاتية. فماذا عن كل منهما؟

الجمالية العلمية وضعية. لقد استندت إلى العلوم الصرفة، وحرصت ألا تصبح إبستيمولوجيا لتكون نموذج تلك العلوم. وهي، بدافع جمالي، تتقصَّى البنيات الموجودة للقبض على كيفية ونوعية تكوينها. وعَمُقَت دقةً وتقنيةً حتى التحكُّك بطبيعة العناصر التي تكون مادة وشكل النتاج الفني. وهكذا:

العقل الجمالي المواكبُ العقلَ الباحث عن الحقيقة بات هو الأكثر دفعاً لتقصي مقوِّمات الجمال. وهذا العقل ليس قليلاً ما اختزن من تراث اليونان والفلاسفة العرب صُورَ النفس في مراتب النبات والحيوان والإنسان وكيف تولِّد كل نفس، في النوع الذي تلازمه، تركيبات متماثلة وفق إيقاع متتالٍ. وكان أمامه تقصِّي النظام في حياة الخلية.

هذا العقل نفسه، في تأمُّله الطويل بنظام قوة كامنة وراء البلورات والشفافية والأشكال الهندسية، ارتفع، وإن دون أجوبة، إلى التناسق في تويجات الأزاهر والتواقع الهندسي في تلك المتساويات الأضلاع، وراح يلج الشكل حتى النظام الذي يكوِّنه في الطبيعة، أكانت مادية تبدو دون حياة أو حيوانية أو إنسانية، فقرأ اللوالب والحلازين والمخروطات والدوائر والانحناءات وسُلَّم الألوان في قوس قزح ولانهائية تنوُّع الألوان والأصوات في الوجود...

ومن خصوصيات الموجودات نفذ إلى مبدأ الحركة. ولكن كان عليه أن يدركها في حقول الموجودات. والدقة صعوبة، تحدٍّ علمي قاسٍ. ولكن موضوع النظام لم يفارقه لأن ظاهراته تتكثَّف حضوراً وهو يتمثَّلها ويعيشها. إنها في ما يحيط به، من حبيبة تراب يدوسها وهي تشتعل باللون، حتى دوران الأفلاك.

هذا العقل المذهول بجمالٍ لا يعرفه ولا يدرك منظِّمه وموقعه وفق سنن مستمرة أو متقطعة، هذا العقل ليس غرابة القول بأن سرّ هذا الجمال هو دافعه لاكتشاف حقيقة هذا السرّ أكثر مما يدفعه عشق الحكمة لتقصِّي الحقيقة الكيانية. وهكذا: سرّ الجمال كان في هذا العقل غبطة وغُصَّة:

غبطة لأن الجمال يودِع العقلَ عشق الإيقاع في الحياة.

وغُصَّة لأن العقل لا يطمئن إلى جمال لا يعرف حقيقة سرِّه ومقوِّمه.

وبين الغبطة والسؤال عن سببها علا الحدس في العقل، كما دقت المعرفة لتلج حقيقة ذلك الكيان. بالحدس أمسى الكون تناغماً. وبدقة المعرفة كانت التقنية تتناهى دقةً حتى يقبض العلم على حقيقة المتناهي في الصغر طامحاً لمعرفة مبادئ جمال الكائنات في صيغ وقوانين.

وهكذا: على صعيد اللون، كشفت الفيزياء ما تحت الذرية عن مصدره مدقِّقة بأسبابه العديدة فوجدتها تفضي إلى أصل واحد هو: إن إلكترونات الذرة بتفاعلاتها المتنوعة مع الموجات الضوئية تعطي الكون هيئته المتعددة الألوان.

هذه الصيغة العلمية هي بدورها مسألة مفتوحة والألوان لا متناهية. والعقل، في تعليله المصدرَ المتنوِّع كل التنوُّع، وجد إيقاعاً بين الألوان وحاول تصنيفها في سلالم وتوافقات وتعاكسات، فأدرك، من جهة حدود إبصار العين، كما من جهة أخرى، واحدة من قدراتها، عند الفنان في هندستها الحقل الفني واختياراتها اللاواعية . وقرر أن الإبداع جِبِّلي لا يعي مقوِّمات فعله.

وانطلاقاً من تفاعل الإلكترونات نفذت الفيزياء إلى مصدر الحركة وبلغت الصوت. مدفوعة بإمكانية مقارنة سلالم الألوان بسلالم الصوت وصلت الفيزياء إلى التمييز بين الضجيج والصوت الموسيقي القائم بنظام. عانت طويلاً لإيجاد الصوت الواحد الذي، قبل إمكانية اكتشافه، توهَّمته بسيطاً لا تركيب فيه ولم تستطع عزله. ولاتزال التجارب تركز على نوع خاص من النايات لأدائه. والخلاصة الأخيرة أن ذاك البسيط مركَّب. كيفية التركيب هي المطلب جمالياً لأن فيها يكمن مبدأ الاتحاد أوالاندغام  Fusion. وقبض المختبَر الصوتي على ذبذبات تركيبه المتجانسة. وقرر علماء الصوت أن نسبة هذه الذبذبات إلى الصوت المفترض بسيطاً هي نفس نسبة الأصوات الموسيقية في توافقها. وتركزت مبادئ التجانس والقرابة والتوافق انطلاقاً من جدليَّة توافقية هي هي في تموُّجات الصوت الواحد كما في توافق الأصوات. ولئن كانت المقارنة بين سلالم الألوان وسلالم الموسيقى قد فشلت في بعض المستويات ذلك لأن الأولى أفقية بينما الثانية يدرجها الارتفاع خاصة الأصوات الأولى على سلم تصاعدي. من هنا الفارق في الإدراك، إنْ في العين أو في الأذن. فإذا كان متواصلاً في العين في حدود ما يسعها أن تدرك من الألوان في تواصلها، فإنه كذلك متواصل في الأذن في حدود ما تدرك من الأصوات في تقطُّعها. الرنين متواصل، أما الصوت الأساسي فمتقطِّع. وسرعة وكمية ذبذبات الضوء في الألوان لم يكن ممكناً تطبيق إيقاعها على تموج الصوت. من هنا:

التركيب الموسيقي ليس فقط في تدرُّج نغمات السلالم، إنما هو أيضاً نتيجة حوار بين الصوت وفواصل صامتة تتخلَّله. إنه الحوار الأروع عن طريق خلقه التشوُّق، أوان الفاصل الصامت، للتواصل في نفس النغم أوفي صوت توافقي. ذاكه المدخل الأساسي إلى الوزن الشعري في تعاقب النبرات القصيرة والطويلة في ذلك التموُّج النغمي الذي يعيشه الشاعر كالموسيقي ولا يعيه. وهكذا:

ما لايزال غير موعيٍّ هو موثِّب العقل لابتكار ما به يسعه أن يعيه. أتراه صخب الحياة المتموِّج أشمل من مداركنا؟ لابد أن الأمر كذلك. ولعلنا، في عمق أعماقنا، نصغي إلى تألُّم معرفتنا الخرساء من معرفتنا. وهنا الجمالية هي مصدر "عذابنا العذب"!

هذا الألم الجمالي أزلي أزلية الحدس فينا. ولعل أهم مصدر لهذا الحدس وتألُّم العقل من عجزه عن بلوغ الذروة في الحدس أن المبدع إنسان غلبت فيه كثافةُ الزمان محدوديَّة المكان. من هنا انبثقت حاجة العقل الجمالي إلى تنظيم المكان. وغريزة النحلة أتراها بنيانية؟ لذا:

أين ومتى بدأت الحركة في المكان وتكيُّفه جمالياً وفق الطبيعة المادية أو الحية؟

لا أراني أعود إلى مجرَّدات فيثاغوراس ونيقوماخوس العقلية لسببين:

الأول، أن تلك المجرَّدات انطلقت، في تعليلها الأشكال الهندسية، من الجيومطرية التي لاتزال افتراضاً عقلياً أو حدسياً لا يبرهَن على وجوده.

الثاني، أن تلك المجرَّدات تغبط العقل معرفياً ولكنها لا تسلِّح المبدع بالروح التأليفية ليقترب من حياة الشكل.

وإذا كانت برهنة فيثاغوراس وليبنتس أدت إلى التسليم برياضيات جمالية لاواعية، فبقدر معرفي أكثر مما هو جمالي تكمن قيمة ذلك الاستسلام. لذا:

معرفةٌ جماليةٌ مصيرها الرياضيات يقتصر دورها على إعداد مناخ للجمالية لا أكثر؛ ذاك أنها تكون، في ذروة ما بلغته، قد أوقفت العقل أمام الخط المستقيم فوقعت الهوة بين الأشكال الهندسية المقبولة وبلورات الحياة المتناهية الصعوبة والدقة. وهذه البلورات على البحث ألا يوقعها في الجمودية التجريدية، كما يجب ألا يعتبرها جوامد. ذاكه خطأ الجماليين السابقين للذرية المعاصرة.

ومحاولات النصف الثاني من القرن، عبر التطوُّرية والتحوُّلية والتواصلية التاريخية، باتت تساعد على تكوين مفهوم جديد للكون وبنياته، وحتماً، جماليَّته. من هنا باتت عبارة أوفيد: "كل شكل منذ انبثاقه، يحمل فيه نواة تطور" باتت تُفهم بعمق ولاسيما أنها لا تحدِّد اتجاه التطور ولا حدَّه الأخير. إذاً:

نفي الاتجاه والحذر من تعيين الحدّ الأخير يجعلان كل الاحتمالات ممكنة. لذا: على صعيد البلوريات، مثلاً، بات أجدر أن يقال: "تبلُّر" بدلاً من "بلُّور". يقول هويغ René Huyghe:

 

على صعيد البلوريات، النمو يجذب. وعلاوة على التكتيل المتباين (من الميكا، الصوان، صُفّاح الحقول Feldspath التي تتحد لتكوين الغرانيت)، تحدث تكتيلات متشابهة. فالبلّور يزداد حجماً. والعناصر الجديدة تخضع لمبدأ جيومطري في التنظيم الأولي وتلتحم طبقات جديدة على القديمة. والبلّور يبقى أميناً لهويته الذاتية. فهناك التزايد، التكرار لملء قالب نموذجي لطخة إثر لطخة.

 

ونستنتج أن الأشكال هي في صيرورة في حالة انتشار. لذا:

الحياة تتقدم بأمانتها لذاتها. ووحدتها التأليفية تتأكد من الاستمرار الزمني. الطفل ينمو شبيهاً بذاته. وفي هذا التطور المتماثل يبرِز المكان خطوطاً أي أشكالاً. ولعل أهم الخطوط إدلالاً على نمو الحياة وطبيعة جدليَّتها الجمالية هو الخط المقوَّس. هذا الخط قد يكون الوحيد الذي نستطيع قراءته في الحقل المغناطيسي كما نراه رسماً خيالياً يُرمَز به إلى التصوُّر بين المعنى المجرَّد والإدراك للإدلال على الوعي البشري الصاعد لولبياً باتجاه نقطة هي خارج المكان والزمان. إنه الخط الذي، كما ولا أي سواه، يسلم نفسه للعقل محسوساً موجوداً في كل بنيات الكون. وعلى هيئته يروح العقل يرمز إلى أرقى معقولاته وتصوراته.

إنه، في المادة المتحركة، ينتمي إلى الأمومة المائية. بأمومته هذه حقق استمرارية العبور والتحول الذي يقتضيه نمو الحركة المتواصل. بمرونته هو ينسجم وهذه الحرمة أكثر من الخط المستقيم أو الزاوية أو أي مسطح . إنه خط الحياتي. والخلية تظهَّرت كُرَيَّة، حجماً شبه كروي كقطرة في سائل ساكن. هذا الخط إذاً هو اللولبي . واللولب يؤدي إلى ظهور وحركة الأجسام المائية، حتى ذوات الخلية الواحدة، كما يؤدي إلى بناء العديد من الصدفيات. واللولب نجده أيضاً، في الأذن البشرية. وهكذا:

كل الأشكال المنتمية إلى السائل هي في أساس أبجدية الموجود الحيّ. وهي أشكال دينامية ومنطق نموها نفسه يتلاءم مع حاجات النمو الذي يعتمد، بشكل خاص، الكروي واللولبي. وأي بنية كروية تشد على غلافها. ذاكه مبدأ "التمدُّد الحياتي".

وهذا التمدُّد يفرض، من جهة، وجود شواش فوضوي ومن أخرى، قوة تنظيم. وكون الشكل أي شكل هو مادة طاقوية. فالمادة فيه هي الشكل والطاقة هي القوة. وبحلول تكوينية جذرية ليس هناك من مجال لفصل الشكل عن ملازمه الذي هو القوة. وهكذا نصل إلى ما مفاده: "المكان الممثَّل في الشكل يلازمه الزمان الممثَّل في القوة."

فالشكل-القوة حالات لامتناهية ولكنها متَمَرْحِلة. وفي تمَرْحُلها تنتقل من حال في الوجود أكثر شواشية إلى حال في التناسق أكثر إيقاعاً وتساوقاً. والخط المتحرك أبداً مع هذا التمَرْحُل، هو في كل حال كما يراه هويغ: "التسوية الناجمة عن صراع المحرِّك الذي يتوق إلى التقدم، والثابت (أو الشواش) الذي يعيق تقدمه. فالخط هو أول تباشير جدلية القوة والشكل." أما الشكل الذي يتسع لكل هذه التحولات المتواصلة على كل مستويات الحياة وفيه تبلغ الحياة والشواش والقوى التائقة إلى التشكُّل غايتها الآنية، فهو ذلك اللولب.

ويتحتم علينا اختصاره في كل أبعاده وتراثه والرياضيات التي واصلت في بحثه. لذا أُعرِّب فقرة لـ روجيه كايواRoger Caillois  من كتابه اللاتناظر La Dyssimetrie  (مجلة "علم وحياة"، العدد الفصلي 161، كانون الأول 1987) تقول:

 

الحلزون، كونه إدغام الدورة والحركة الانتقالية، فهو يعبِّر عن قوانين تنسيق الأوراق على طول الساق البالغة وقد أمست، على الأقل تقريباً مخروطية [] وصَدَفَةُ الرخويات ذات المصراع الواحد كأذن البحر تلك الرخوية المفلطحة الصدفة، أو مثلاً صدفة المرَّيقات، والحلزونيات من أي نوع كانت، تلك الصدفة تنمو وفق شكل حلزوني متساوق، وصيغة تساوقه لا تتغير. هذا لكي يلائم كل نوع التساوق مع حاجات الحياة [] وأنني لا أعجب من هذا لأن اللولب يكوِّن بشكل فائق الجودة، قانوني الكون الأساسيين: التساوق والنمو. إنه يؤلف النظام والامتداد.

 

هذا الشكل الأكثر اشتمالاً على جدليَّة الحياة هو الذي يعوِّل عيه الفيزيائيون في محاولاتهم إيجاد "نظرية في نسبية النظام والشواش "، حتى إن مجلة علم وحياة في عدد تشرين الثاني 1993، الشهري، صَدَّرت غلافها بعنوان: "لُقيا: الشواش يهيمن على العقل". وهذا العنوان وضعته بموازاة جبهة أينشتاين. والخلاصة من هذه المعطيات العلمية:

إن هذه العناوين التي ترسم ملامح التوجُّه العلمي في تقصِّي الجمالية حتى اللحظة، عناوين في مصدر اللون وسلالمه، في الصوت وإيقاعاته وتوافقاته، في الشكل المتبلور، في الشواش الكوني. هذه العناوين التي تكاد توحي أن الإيقاع هو المشترك بين البنيات المتناهية الصغر والكون الأكبر، هي ملامح العقل الجمالي الآخذ في التكوُّن انطلاقاً من جدلية النظام والشواش.

وهذا التكوُّن ذاته يولِّد السؤال: هذه الأشكال المتبلورة في قلب ذاك الشواش، التي تنهك العقل ليكتشفها في الكون الخارجي، هل لها من دور في ذات المبدِع الجمالي؟

ليس الجواب واحداً كما أنه ليس في مستوى دون آخر. كلُّ يدركه في حقله قدر انشداده للكشف عن مواطن التناسق وقيمة الإيقاع في الأفق الذي يشغله من الحياة والكون. الفيلسوف، العالم النفسي، المحلِّل النفسي، العلموي، العالم الاجتماعي، عالم الوراثة، الفيزيائي الذري والفلكي، البيئوي ، إلخ، كلٌّ له جوابه. أما الجمالي فيحدد أن الجمال موضوع عقله قدر استعصائه يلذع العقل. واللذعة في الاكتشاف تَكَوْنُنٌ في الداخل. وإذا الجمالية هي في بعض مرتكزاتها، قيم كيفية في نظام بنيات الكون، فاكتشافها بدافع تقريب سرّ الجمال تقرِّب من ذلك السر. وفي التقرُّب بداية عَقْلَنة. والذات الإنسانية ليست، في إنسانيتها منكفئة على بدائيَّتها الإحساسية. لقد ترقَّت في العقل. والعقل بدوره أصبح مصدراً آخر لإحساس آخر فيها. ومن جمالية المفاهيم يتولَّد في هذه الذات إحساس جمالي. من هنا: التوجُّه الذاتي الآخر للجمالية، في الزمن المعاصر، لا يحاور التوجُّه الأول آتياً من الذات كنقيض للعقل الجمالي. وكذلك:

لعلنا في تقصي الجَوَّانيات الذاتية نعمق في اكتشاف مصدر آخر للجمالية. أممكن، اليوم، إهمال المخزون الجمالي التاريخي العام الذي يحمله هذا الوعي الآخر غير الواعي الذي ندعوه "اللاوعي"؟

من الجماليين الذين بحثوا لم أجد إلا واحداً تجرأ مركِّزاً، بشكل صريح، على العلاقة القائمة بين الأشكال الهندسية الخارجية في بنيات الكون والأشكال الهندسية القائمة في العقل. إنه رينيه هويغ في كتابه القوي بعمقه أشكال وقوى، يقول: "الجيومطرية: أي الأشكال الهندسية ليست آتية من الطبيعة لتُنقَش في العقل الإنساني. كما أنها ليست منعكسة من العقل على العالم المعروف كبصمة معدَّة لجعله عاقلاً أكثر. هذه الأشكال تتعارف من طرف إلى طرف وتتوافق مع واقع يشملها كلها." إذاً:

الذات الإنسانية، بالبدائي الحسي الذي فيها، بمخزونها الشعوري الجمالي اللاواعي، بما يُحْدِثه العقل فيها من وجدانيات معجونة بما اكتشفه من حقائق وقوانين الجمال الخارجي هذه الذات يتواحد فيها، عند الجمالي المبُدِع، عالمها الجَوَّاني وعالم العقل. في هذا التواحد تتوالد، فلا يميت العقل فعل الفن فيها ولا تفرِّقه هي في غموضها وشواشها. وهكذا هي من تَتَهَرْمَن بالعقل وفيه، وهو يتجدد بقواها الصاخبة كما بالنظام واكتشافه في الكون المدهش.

ذاك ما بدأت تحاول بلورته نظرية "التحاسُس" الألمانية تحت عنوانEinfuhlung  كما جاءت في دراسات فكتور باش Victor Basch. وهذه فقرة منها جاءت في مقالة في الجماليةTraité d’esthétique  لمؤلفها ريمون باير Raymond Bayer، ص 40، تقول:

 

إن الخط الذي نراه، والذي تجعله رؤيتنا الجمالية حياً، ينتمي إلى المكان الواقعي. وهو ذاته ننعكس أيضاً نحن فيه، فهو مَحييٌّ بنا، مُرَوحَنٌ ومشخصن [] فالحجر يميل باتجاه الأرض. وجسم ما يتحرك في اتجاه ما، وصخرة ترتفع [] وفي كل مكان ندرك جهوداً، قوى، نشاطاً [] أي أنني أدرك جهدي، قوتي، نشاطي. وأنا أعكس، في الطبيعة، قوتي، فإنني أعكس، في نفس الوقت، الأحاسيس التي ترافق، فيَّ، تصرُّفها: كبريائي، جرأتي، عنادي، خفتي، يقيني الضاحك، سعادتي المطمئنَّة [] إن المهمة الحقيقية والصعبة هي إظهار كيف يبرز هذا المبدأ، كيف يتقطع، كيف يتشعب ويتطور؛ هي أن يُحلَّل، لمعونته، عالم أشكال المكان والزمان اللامحدودة [] ذاك ما حاوله، في ذلك العالم، ليبس Lipps بدقة وتحليل، بقوة ورهافة نفاذٍ وفضيلة صبر مثيرة للإعجاب حقاً. لقد خلق بإواليَّتِهِ الجمالية مدرسة جديدة: فهو، منطلِقاً من الخط البسيط، استطاع أن يميز أشكالاً معمارية أساسية بلغت الخمسمئة وأربعين شكلاً.

 

وهكذا:

الجمالية الموصوفة بالموضوعية، والجمالية المتَّسمة بالذاتية، في "التحاسُسية" بدأتا
اللقاء. فهل العقل الجمالي الذي يحبل به العصر سيقدر على المخاض بلغة تكمِّل لغة الفقرة التي عرَّبناها فتصبح الكلمة الواحدة عجينَ العقل والذات وهرمونيا الذات المتكاملة في خلاق يخلق ذاته وهذه الأبعاد، ويصعد كونياً صوب ما هو أبعد؟

خلاصة: أيسعنا قراءة مسيرة الكون جمالياً؟

فلنحاول تحت هذا العنوان: "الفن والتوق نحو الأزل".

 

      ·             حتى في الشواش الأول كان التوق إلى الجمال.

      ·             وبلور التوق نفسه شكلاً تتناغم عناصره، وحركة تتآلف إيقاعاتها.

      ·             وكان الشكل نغماً في داخله، والنغم لحن الكون وغايته.

      ·             وتواحد في جسد "الراقصة" الشكلُ الذي يولَد من النغم، والنغم الذي يوقِّع الجسد لحناً.

      ·             وكانت الكلمة إيقاعاً وحَّد ارتعاشات الحركة في صورة الصوت.

      ·             وانفرجت الكلمة عن الشعر في اقتران الصورة الصوتية بنغميَّة إيقاع الكون.

      ·             والشعر والإيقاع الكوني، في اتحادهما، انعتقا من الشكل فاقتصر على إيحاء الحركة؛ أما هما المتواحدان فانتهيا زمناً صرفاً.

      ·             وبالموسيقى والشعر عرفت الحياة مناخاً أشمل يغمرها، يشعل الساكن في قلبها، ويوقظ النوم في عينيها كما يوقِّع ما لايزال شواشاً فيها.

      ·             والوعي الشعري الموسيقي، في انعكاسه على الحياة، يحملها نحو هواها العالي فتولد من الفن هذه المرة.

      ·             والفن الغامر الحياة يوقظ فيها التوق، يرسِّخ النظام المتسامي عبر "هَرْمَنَة " الحركة باتجاه الجمال الأرقى.

      ·             والوعي الخلاق، في استلهامه روح الفن، واختصاره حركة الكون في صورة الشعر، واستناده إلى النغمية الإيقاعية، يفتح للحياة، في حضورها الزمني الذي انتهت إليه، النافذة على الكائن الذي هو أبعد من الزمن.

     ·            فالرائعة الفنية الشعرية الموسيقية، في انبثاقها عن هذه الأبعاد، في وعي مبدعها، هي وحدها التي، بلُغَتِها الداخلية والعامة، تقرِّب الشعوب، توحِّدُهم وتُخرِجُهُم، شاملةً كل كيانهم، من فوضى صراعهم... فيتوقون إلى الانسجام... وتتفتح عينُ عينهم على الأزل...

 

بشرِّي، أواسط كانون الأول 1993

 

 

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود