الإسلام وملحمة الخلق والأسطورة

قراءة ونقد

 

هفال يوسف

  الفصل الأول: ظاهرة القرابين البشرية

يختار الباحث تركي علي الربيعو[1] ظاهرة القرابين البشرية مدخلاً لدراسة الأسطورة والموت في كتابه ليتساءل فيما بعد إن كانت الأسطورة تقدم الجواب.

يبدأ المؤلف بدراسة هذه الظاهرة من المعطيات الآثارية والتاريخية فيؤكد على عالمية هذه الظاهرة من الصين شرقاً إلى حضارة الأزتك غرباً، ثم يورد في السياق رأياً لفريزر يذهب فيه إلى أن هذه الظاهرة بربرية شرقية، وآخر لديورانت الذي يقول بأنها من ميزات الشعوب الآرية. ثم يتحدث عن التضحية عند العرب قبل الإسلام، لينطلق إلى دراسة هذه الظاهرة في الميثولوجيا: في العهد القديم (قصة إبراهيم واسحق، سفر صموئيل، سفر القضاة)، وفي الميثولوجيا الإغريقية (هرقل والإلياذة)، مبيناً مواصفات الضحية وسلوك القربان.

ثم ينتقل المؤلف إلى البديل الحيواني عن التضحية البشرية ورفض البديل النباتي: هابيل الراعي وقايين المزارع، تموز الراعي وإيكيميدو الفلاح، وذلك لأن الدم هو ما كان يخصص للآلهة بحسب فرويد. ومع اكتشاف النار حدث تطور على الأضحية (جلجامش). والتعديلات التي حدثت على الأضحية الحيوانية من خلال الختان اليهودي، واستبدال النبيذ والخبز في المسيحية بالدم واللحم. ثم يسأل: « لماذا كُتِب على الإنسان أن يضحي بأحد أولاده إرضاءً لآلهته المتعطشة للدم واللحم البشري؟ » (ص 19) ويجيب: قدرية لامعقولة.. الاستسلام والخضوع والنكوص على الذات. لأن الكاتب يرى أن الخطاب الديني لايشجع على الحوار، وإنما إلى الإخضاع (ص 20).

أما التفسير الذي يراه المؤلف مناسباً لظاهرة القرابين البشرية فهو التفسير الفرويدي: جريمة قتل الأب، عقدة أوديب (الشعور بالذنب بلاذنب)، مما أورده فرويد في كتابه الطوطم والتابو، حيث ظهر الطوطم كبديل مقدس عن الأب تعبيراً عن الندم. وذلك لأن فرويد يرى بأن الحضارة تقوم على نكران الغرائز وهدفها: حماية الناس من الطبيعة، وتنظيم العلاقات بينهم على أساس عقدة أوديبية.

ثم يتطرق المؤلف لبعض الآراء المخالفة، كاعتراضات مالينوفسكي الذي يرى أن اهتمام البدائي بالطوطم هو وليد حاجة اقتصادية. وكذلك اعتراضات دولوز وكاتاري من المدرسة الفرنسية، ورأي رينيه جيرار في كون طقس التضحية هو محاولة لتجنب العنف. ومن المعلوم أن المدرسة الغشتالتية في علم النفس قامت على آراء مشابهة. ثم يتساءل المؤلف إن كانت الأسطورة تقدم الجواب.

يرى الباحث الربيعو أن الدارس لأساطير الشرق القديم « يجد أن الظلال الطبشورية لعقدة أوديب - عقدة الذنب بلاذنب - ترسم ملامحها على النتاج الأسطوري في معظمه. فالموت يأتي كعقوبة على الذنب بلاذنب. مثال آدم وجلجامش، لأنهما عصيا أوامر الإله الأب الأكبر وخرجا عليه، وكذلك الطوفان. » (ص 25) ويلاحظ أن فكرة الخطيئة تشكل القاع التاريخي لفكرة الأضحية.

وهنا يحق لنا نحن القراء أن نتساءل: إن كان الإنسان البدائي لايرى في الموت فناءً وإنما عبوراً أو تحولاً، فكيف نفسر أنه كان عقوبة، خاصةً وأن « الاعتراف بالقيمة العليا للموت بوصفه جزءاً لايتجزأ من الحياة سمة أساسية من سمات الثقافة القديمة كافة. »[2] وفي العودة إلى سلوك القربان، نجد الدليل على هذا القول، حيث كانت التضحية ترفع الضحية إلى مصاف الخالدين، لأن مفهوم القربان البشري لاينفصل عن رؤية الأقدمين لعالم ما بعد الموت أو الانبعاث من جديد.

في سياق سرد المؤلف لملحمة الخليقة البابلية يستنتج بأنها تحوي جميع عناصر الفعل الأوديبي: قتل الأب ثم قتل الأم وانتهاك حرمتها، فاتحة لنظام جديد ينهض به الإنسان على قاعدة الذنب بلاذنب. وبذلك تصبح فكرة الخطيئة القاع الذي تنبثق منه حضارة الإنسان. (ص 30) وقد نتساءل ثانية: لِمَ تجاهل حقيقة التطور؟ ألايبدو الأمر وكأن المؤلف يقيس الملحمة بما يتناسب ورأيه القائم على أصول علم النفس الفرويدي؟ وهو نفس الاستنتاج الذي يصل إليه المؤلف من قراءته لملحمة أتراحاسيس، حيث يرى أن الإنسان هو الشاهد العياني والأزلي على جريمة قتل الأب، قائد الثلة الأولى، وتحميل وزر الخطيئة له وفرض الكدح والشقاء والعذاب عليه ليخدم الآلهة تكفيراً عن الجريمة، عن الخطيئة الأصلية والأزلية، ليصل في النهاية إلى رأي فرويد في خاتمة الطوطم والتابو على أنه في البداية كان الفعل (ص 32-3). وهو افتراض ظني مبني وفقاً للزاوية التي ينظر منها المرء.

 

الفصل الثاني: الموت في الفكر الميثي

في دراسته للموت في الفكر الميثي يرتكب المؤلف جملة من الأخطاء المنهجية والتقويمية يبدأها بحكم شامل يقول فيه إن الثقافة العربية برمتها - والإنسانية بعامة - منذ ما يزيد عن أربعة آلاف عام قبل الميلاد، هي ثقافة موت، أي ثقافة تقوم على مواجهة الموت. (ص 38) ثم يليه حكم آخر يقول: إن النسق الفكري للثقافة العربية لها خصوصية في كونها »بقيت مغايرة في مواجهتها لظاهرة الموت بالمقارنة مع أنساق ثقافية مجاورة« ... وبأن الشعوب الهندو-أوربية »كانت تقدم موتاها قرباناً لإله النار إلى أن تم تعميدها غرباً بالمسيحية وشرقاً بالدين الإسلامي الحنيف.« (ص 38) وهذا الإجحاف الواضح بحق الشعوب الهندو-أوربية له دلالتان: الأولى، جهل المؤلف بأديان ومعتقدات هذه الشعوب، وهذا أمر يشكُّ فيه. والثانية، تعصب مبعثه نزعة قوموية ضيقة. كما أن الخلط الآخر يكمن في كون المجتمعات كانت دائماً تضم تنويعات ثقافية وأنساقاً فكرية مختلفة، بحيث لايمكن الحديث عن نسق فكري وحيد أو ثقافة وحيدة. بمزاجية كهذه يصل المؤلف إلى أقوال مثل: »الثقافة العربية كمصطلح بديل عن مصطلح الثقافة السامية« (ص 40)؛ وهو قول يدل على لاعلمية في المنهج يقلل من قيمة الدراسة.

ثم ينتقل إلى حكم ثالث يقول: »إن الموت كظاهرة طبيعية ملازمة لوجودنا ونتيجة له«، اقتراناً بما أسماه فرويد "غريزة الموت" حين قال: »إن هدف الحياة هو الموت.« ثم يتحدث عن عملية الدفن كسلوك ثقافي وشاهد على تطور فكرة الموت في أذهان الناس ليصل إلى أن المدينة هي نتيجة من نتائج المعبد مستشهداً برأي لبيتر فارب من كتابه بنو الإنسان، يقول فيه: »إن مدن الأموات قد سبقت مدن الإنسان.« (ص 39) في حين يرى برونوفسكي أن الاستقرار قد ولّد علاقة خاصة مع الموت (ص 39). ليصل المؤلف إلى نتيجة غير مقنعة ولايمكن استنتاجها مما سبق فيقول: »إن كافة أشكال الإبداع والتنظيم في تاريخ هذه المؤسسات كانت رد فعل جماعي على ظاهرة الموت لتجاوزها وذلك من خلال البحث عن الخلود.« (ص 40) كذا؟!

من هذه الزاوية يرى المؤلف أن »الإنسان مخلوق متناهٍ وعابر« (ص 40) وأن عظمته تتمثل »في تقبله لوضعه الإنساني بحس المسئولية وبقوة عارمة للشخصية في مواجهة الموت. ويكمن وجه العظمة أيضاً في فرز أنساق حضارية تتجاوز الموت: الأبناء، العشيرة، القبيلة، الأمة [].« (ص 40-1) ونسأل هنا: هل تقبل الإنسان الموت كحل نهائي؟ وهل نستطيع أن نعتبر بأنه قد تجاوز الموت بفرز الأنساق الآنفة الذكر؟ أم أنها ليست سوى بديل تعويضي كدلالة على العجز؟! وعلى الرغم من الهجوم الحاد الذي يشنه المؤلف على الماديين الماركسيين نراه يلجأ إلى مادية فرويد مرة أخرى ليقول: »إن أنبياء العهد القديم والجديد هم أولاد بالتبني لآباء اجتماعيين، تشهد على ذلك ولادتهم المتأخرة بالنسبة لأعمار آبائهم [].« (ص 41) دون أن يبرهن على قوله. وهكذا يتلمس المؤلف »الجذور التاريخية بين الحرية والموت لأن الإنسان اختار الشهادة في سبيل حريته: انكيدو وجلجامش، آدم وحواء، أدابا وذريته. »وبذلك يضرب مثلاً أعلى في خروجه على كل أشكال الضعف والاستكانة«. (ص 41) ولاريب أن استنتاجه سطحي جداً، قد تم استخلاصه من المعاني الظاهرية للكلمات دون التعمق في رمزية الأساطير ودلالاتها.

في دراسته للموت في النصوص الأسطورية يميز المؤلف بين مرحلتين: الأولى تتميز بانعدام تام لأي تصور عن حياة ما بعد الموت (آثار كيش). والثانية مرحلة التعرف على الموت ثم تجاوزه من خلال نسق حضاري شامل. وبذلك تؤكد الحضارة تفوقها على الطبيعة. وهي تتميز بنفي عودة الميت إلى الحياة، ويبدأ التأكيد على حياة ما بعد الموت. يقول: »فالموت يشكل رحلة طويلة الأمد قد تكون شاقة وقد تكون ميسرة.« (ص 42) ثم يضيف: »من آدابا إلى محمد (ص) هناك ثورة على الموت.« (ص 43) ولاندري مفهوم المؤلف عن الثورة، إلا إن كان يعتبر محاولة تفسير هذا اللغز-الموت "ثورة".

المرحلة الأولى: ويرى المؤلف أن النص البابلي يعاكس النص السومري ليبقى شاهداً على تحول حضاري في مواجهة مشكلة الموت. ثم يقابل هذين النصين بالعهدين القديم والجديد ليصل إلى أن »برهان الألوهية الوحيد والعظيم في تاريخ الشرق هو إحياء الموتى.« (ص 45) ولعلّ البرهان الأقوى هو "الخلق".

أما في قصة أنانا وأريشكيجال فيصل المؤلف إلى نتيجة مفادها أن »الموت يتجلى للآلهة والإنسان كقوة طبيعية مستقلة عن حضارة الإنسان« (ص 45)، مع العلم أن القصة توحي بأن الموت هو انتقال إلى عالم له نظمه وقوانينه التي تختلف عن نظم وقوانين عالم الأحياء. ثم يقارب بين نهوض أنانا بعد ثلاثة أيام وقيامة السيد المسيح وبين مظاهر الموت التي تبدو لدموزي على هيئة مخلوقات غريبة عجيبة والتي نلاحظها في الميثولوجيا الإسلامية. وعلى الرغم من كون الأسطورة غالباً ما تتجاوز مفهوم الزمن إلا أنه كان من الواجب على المؤلف في مقارباته هذه أخذ هذا العامل بعين الاعتبار.

المرحلة الثانية (جلجامش): تتميز برفض فكرة البعث بعد الموت. ويردّ المؤلف هذا التطور إلى نشوء علاقات اجتماعية وأخلاقية جديدة كانت غريبة عن الديانة السومرية والأكادية (والقول لمورتكات)، ويؤكد على أن »الوعي بضرورة الموت لايستيقظ إلا من خلال المشاركة« (ص 49) - أي أننا نخوض تجربة الموت عبر موت الآخرين. موت جلجامش ومن قبله أنكيدو كان نتيجة لقتلهما ثور السماء، وبسبب رفض جلجامش لإغواء عشتار التي يماثلها المؤلف مع الحياة الدنيا في مقاربة مع قصة المعراج الإسلامية. وهكذا يمضي جلجامش في رحلته باحثاً عن الخلود، ليلتقي بصاحبة الحانة سيدوري التي تحرضه على العودة والتلذذ بمباهج الحياة، اللذة التي هي هاوية. لكنه يواصل رحلته ليلتقي أوتونبشتم الذي يدلّ حديثه على قدرية قاهرة والذي يوضح لجلجامش بأن سرّ خلوده يكمن في إنقاذه للنوع البشري من الطوفان (ص 56).

من هذه الملحمة يصل المؤلف إلى جملة نتائج منها:

»إن شرط الخلود الأول هو الإبداع« (ص 56) - إبداع السفينة وإتقان صنعها. وهنا نرى المؤلف ينحو منحى مادياً صرفاً حين يقول: »العمل أخلد من الإنسان. وعبر هذا نستطيع أن نفهم سر الخلود من أول زيقورة بُنيت في أرض الرافدين إلى برج بابل إلى قرطبة مروراً بالأهرامات.« (ص 56) - وهي وجهة نظر مستمدة من العقلانية المادية الغربية خصوصاً تدل على نفعية تعويضية، وتفصل بين الإنسان وعمله، على خلاف الفكر الهندوسي في الـبهاجافاد غيتا مثلاً التي تدل على خلود الإنسان عبر العمل.

الشرط الثاني للخلود »يتمثل في بقاء النوع والحفاظ عليه« (ص 57). وهذه نتيجة أخرى غير دقيقة مستمدة من ظاهر المعاني في كلام أوتونبشتم الذي لايدل على نفعية وإنما يدل على أخلاقية عميقة. فالإنجاب للحفاظ على النوع يدل على الخلود الذاتي في الصيرورة وليس الخلود النوعي في الآخرين. وهكذا يرى المؤلف أن »الرد العملي على الموت هو بزخم الحياة، بالكثرة [].« (ص 58) وهو ما يسمى بوفرة الوجود وغزارة الحياة، وهو حل إرضائي معنوي وليس حقيقياً، ينطلق من اعتبار الموت فناءً مطلقاً. فهذا بالتالي » مطلق جديد يواجه الموت المطلق« (ص 58). وهو أيضاً ردّ فرويد حين يصف ما أسماه »غريزة الحياة« بكونها »دافعاً داخلياً في الكائنات الحية يستهدف النمو بل وزيادة في تعقيد التركيب العضوي.«[3] وفي معرض حديثه عن الإبداع يقول المؤلف: »كل أشكال الحياة الأخرى هي اجترار وحالة من الغيبوبة، تنحو بالمرء باتجاه العادية. والعادية هي حالة من اللاوعي، حالة خروج الإنسان عن ملكاته الإبداعية.«  (ص 56) هنا يبدو الخلط المصطلحاتي اللغوي عند المؤلف واضحاً. فهو يقصد بـ"العادية" حالة رد فعل لاشعوري، بينما الإبداع هو فعل واعٍ. وحين يقول المؤلف بأن »الفردية [] هي خطوة باتجاه الاضمحلال والموت« (ص 58)، ندرك أن الفكرة، أي علاقة التناسب العكسي بين الإبداع والفردية، وإن كانت صحيحة من حيث الجوهر، ليست متبلورة عند المؤلف. ويؤخذ أيضاً على المؤلف تصديه لوضع تعريف للنبوة بأنها »طموح لتجاوز الواقع في أبعاده. في بعده الحضاري في السعي للسيطرة على الطبيعة وترويضها. وفي بعده المستقبلي من خلال التأكيد على الاستمرار في الدنيا والآخرة« (ص 59). ولاريب أن "النبوة" مفهوم من الشمول بمكان بحيث لايمكن حصره وتضييقه بهذا الشكل.

في نهاية الفصل يصل الكاتب إلى نتيجة نهائية تقول بأن الرد على الموت يكمن في زخم الحياة ووفرتها. وهذا كلام مردود، حيث ظهر هذا المفهوم في مقولة »اللذة هي السعادة« وفي فلسفة »وفرة وغزارة الحياة«. لكنه لايصمد أمام الحقائق واختبارات العقل.

 

القسم الثاني: في الميثولوجيا الإسلامية

في الفصل الأول من هذا القسم، وتحت عنوان "حدود العلاقة بين الأسطورة والتاريخ في المصادر التاريخية العربية الإسلامية"، يحاول المؤلف تفسير تحول الحدث التاريخي إلى حدث أسطوري عبر عملية التآكل، وذلك بالاعتماد على فكرة مرسيا إلياد في أسطورة العود الأبدي حول رفض الإنسان البدائي للتاريخ بما هو تاريخ من خلال: 1- رفضه أن يجعل من نفسه كائناً تاريخياً. 2- رفض منح الذاكرة قيمة. 3 رفض الحوادث التي ليس لها نموذج مثالي، والتي تشكل الزمان الحسي في الواقع. (ص 68) ثم ينتقل إلى هاجس الثورة الشمولية عند النخبة المثقفة العربية بهدف إيجاد موقع لها في التاريخ العالمي المعاصر، وعن الاتجاهات التي حاولت أن تقدم الإجابة عن أسباب الهزيمة، وعن فشل وتعثر المشروع القومي العربي وعجزه عن بلوغ أهدافه، وهذه الاتجاهات هي:

أولاً- الاتجاه الإسلامي الذي يؤكد على القطيعة بين الحقبة الجاهلية والحقبة الإسلامية ويستبطن في خطابه تمجيدوية تسهم في عملية تجييش واسعة للجماهير من خلال عملية الأسطرة.

ثانياً- الاتجاه الوضعي الذي لم يتوقف عنده المؤلف رغم أهميته.

ثالثاً- الاتجاه الماركسوي التبسيطوي المحكوم بسلف.

رابعاً- الاتجاه التاريخاني الذي يؤكد على الصيرورة وإيجابية الحدث التاريخي، ويدعو إلى مركسة الواقع والتاريخ العربي، ويدعو إلى إحداث قطيعة مع الفكر التقليدي الذي تمثل الأسطرة أحد وجوهه. ويورد قولاً للعروي يقول فيه: العرب وحدهم شعب تاريخ، والشعوب الأخرى ليس لها إلا حكايات لايجد اليقين إليها سبيلاً.« (ص 70)، وهو قول عليه ما عليه، ومن الحكمة عدم الردّ عليه.

خامساً- الاتجاه القومي. ويرى المؤلف أن هذا الاتجاه ذو نزعة انتقائية، مُؤَدْلَج، ينزع إلى تمجيد الماضي القومي، يلتقي بالعقلانوية الإسلامية وبالاتجاه التاريخانوي. ولذلك »فهو مدعو أكثر للتحدث عن دور الإسلام في تكوين الوعي القومي العربي على مسار التاريخ في مواجهة وعي شعوبي مضاد وتحت وطأته.« (ص 71) (كذا!)

ولأن الدراسة تسعى »إلى طرح إشكالية العلاقة بين التاريخ والأسطورة في المصادر التاريخية العربية الإسلامية« (ص 71-2)، ولأن »التاريخ هو المدى الذي يجري فيه تهذيب الشعوب« (فروخ)، فإن »الاتجاهات السالفة الذكر تضفي أهمية كبيرة على إعادة كتابة التاريخ وعلى إيجابية الحدث التاريخي، وتلتقي جميعاً في إطار يستبعد العامل الأسطوري ودوره في التاريخ، بحجة انتمائه إلى حيز اللامعقول.« (ص 71) ولكن المؤلف يعود فيؤكد على دور الأسطورة في صنع التاريخ بالاعتماد على العلم الحديث والدراسات الإناسية الحديثة. ويبقى السؤال عن كيفية إعادة تقييم التاريخ وما هي المرجعيات التي يمكن الاستناد إليها؟ وللأسف لم يوضح لنا المؤلف التعريف الذي يتبناه للأسطورة: هل هي أباطيل وأكاذيب وخرافة؛ أم هي »معتقدات الناس بإزاء القوى العليا والسماوية«، كما يراها شوقي عبد الحكيم في موسوعة الفلكلور والأساطير العربية؛ أم أنها »حكاية مقدسة يلعب أدوارها الآلهة وأنصاف الآلهة، أحداثها ليست مصنوعة ومتخيلة، بل وقائع حصلت في الأزمنة الأولى المقدسة«، كما عرّفها فراس السواح في مغامرة العقل الأولى؛ أم أنها »الدين والتاريخ والفلسفة جميعاً عند القدماء«، وأنها »فكرة بدوية تاريخية«، كما يذهب محمد عبد المعين خان في كتابه الأساطير والخرافات عند العرب، أم أنها »خطاب الجد والحقيقة والقداسة«، بحسب محمد عجينة في موسوعة الأساطير العربية ("عن الجاهلية ودلالاتها"، ج2)[4]. ويؤكد المؤلف على »أن الأسطورة ملكة ثابتة في الإنسان« (ص 72)، وانطلاقاً من رأي إلياد بأن »الأسطورة كانت تمثل تاريخاً مقدساً«، فإنه يرى أن »إعادة الاعتبار للعامل الأسطوري في إعادة كتابة التاريخ تتزامن مع إعادة الاعتبار للمقدس ولمسألة الهوية والخصوصية«، ويوضح أيضاً أن هذه الدراسة »التي تطال إشكالية العلاقة بين التاريخ والنص المقدس، تهدف إلى إعادة طرح الأسئلة عن كيفية تحول الحدث التاريخي إلى حدث أسطوري [] وهل يمثل هذا الفكر المنتج لعملية الأسطرة قطيعة معرفية مع الفكر السابق عليه [].« (ص 72-3) حيث يشير المؤلف إلى منظور مختلف لما هو سائد في الأدبيات الفكرية في دراسة الميثولوجيا الإسلامية. وهو طبعاً هنا لايحاول إخفاء توجُّهه القومي، وعداءه للفكر الماركسي العربي.

 

أولاً- ملحمة الخليقة كما سطّرها ابن الأثير: دراسة مقارنة

يعود المؤلف إلى مفهوم الخطيئة التي أخرجت آدم من المقدس إلى الدنيوي، ومن الخلود إلى الفناء (ص 74)، حاملاً أمانته لتعمير الأرض، مستشهداً بالآية 72 من سورة الأحزاب، مستفيداً من إحدى تفسيرات كلمة "الأمانة" التي دارت حولها اجتهادات عديدة ، لعلّ أكثرها توفيقاً كان قول ابن عربي في أنها صفات الربوبية التي وضعها الله في الإنسان. وفي محاولة للتقريب بين ملحمة الخلق البابلية والملاحم الأخرى وبين قصة الخلق في القرآن يقول المؤلف: »في جميع الأساطير، الخطيئة الأولى يقوم بها إله، يتمرد []، يقتله [الإله الأكبر] ويصنع منه أشياء مبدعة، أو يمسخه ويجعله شيطاناً.« (ص 75) والجملة الأخيرة هي من توليفات المؤلف لإحكام المقاربة، حيث أخذ برواية أبي صالح المتّهم بالكذب عند علماء الحديث، وبرواية شهر بن حوشب وهو فارسي الأصل، وغضّ الطرف عن رواية الضحاك عن ابن عباس. كما أن هناك روايات عدة في قصة الخلق كرواية كعب الأحبار ورواية علي بن أبي طالب. ولذلك فإننا نرى أن المؤلف يحاول إنجاز المقاربة رغم أنف النصوص، فيقبل إبليس ملكاً على الأرض، ويقارب فعل القتل الذي يعني إفناء المعارضة والقضاء على الشر مع فعل المسخ الذي يعني خلق المعارض الشرير. كما أننا نلاحظ أن شرط الكاتب في أن لكل نص مقدس نصاً ثقافياً يوازيه لايتحقق في الكثير من روايات ابن الأثير، المستمدة أكثرها من المجاور الثقافي وليس من النص المقدس، مما يدل أن النصوص الثقافية الموازية لنص مقدس ما هي ليست من نتاج هذا النص فقط، بل هي من تمازج مفرزات النص المقصود مع ثقافات الشعوب المجاورة.؛ هذا بغضّ النظر عن تدخل المؤلف في تفسير النصوص الثقافية لتجييرها وتحميلها ما لاتقبل. فأين التقارب مع الملاحم السابقة في فقرة »وفيما سطّر ابن عباس [] وكان إبليس أشدهم منه خوفاً« (ص 79)؟ وأين الطابع الأدلوجي في الفقرة التي تليها؟ نستنتج من دراسة المؤلف أنه لايختلف كثيراً عمن اتهمهم هو بذاته بتهمة "البروكوستية"  (نسبة إلى سرير بروكوست)، وذلك لأن : 1- في رواية ابن الأثير لادلالة على ألوهية إبليس. 2- لم توجه الحرب ضد الإله كما في الملاحم الأخرى. 3- لم يُحمَّل الإنسان خطيئة إبليس، بل هي خطيئة الإنسان ذاته. 4- لم توضح الملحمة أن الأمانة = الخطيئة فيما ذهب إليه المؤلف. فأين التقارب؟ ثم يصل المؤلف إلى نتيجة من الملاحم في أن دراما الكون الأزلية هي صراع بين الله أو من ينوب عنه وبين الشيطان (ص 80)، دون الولوج إلى الأعماق الرمزية للكلمات والأحداث، مما حدا به إلى تفسير مفهوم الحجّ على هذا الأساس، وهو تفسير يفتقر إلى العمق.

 

ثانياً- غزوة بدر التاريخ والأسطورة عند الواقدي:

بما أن عملية التآكل التي تقوم بها الأسطرة على حساب الحدث التاريخي، هي التي تحول الحدث التاريخي إلى حدث أسطوري (ص 68)، يعود المؤلف إلى الإلحاح على ضرورة إعادة كتابة التاريخ، ويتساءل: »كيف نكتب تاريخنا بموضوعية؟« ونحن أيضاً نتساءل: ألم تخضع عملية كتابة التاريخ دائماً لاعتبارات أدلوجية؟ فكيف يمكن تجنب ذلك؟ أليست الاعتبارات الأدلوجية هي الدافع وراء ضرورة إعادة كتابة التاريخ؟ وما هي المعايير والمقاييس التي يجب توفرها لضمان مصداقية هذه العملية؟ أليست الدعوة إلى إعادة قراءة التاريخ على ضوء المكتشفات الحديثة هي أكثر دقة، بحيث يكون الهدف من ورائها تكوين وجهات نظر جديدة في عملية دراسة التاريخ؟

في الفصل الثاني ("الطوفان في الميثولوجيا الإسلامية: دراسة مقارنة")، يتمسك المؤلف بالرأي الفرويدي القائل بأن مبرر الحضارة الأول هو حماية الناس من الطبيعة واستئناسها، ومن بعدُ تنظيم العلاقات بين الناس على أساس من قاعدة الذنب بلاذنب، ويرى أنه لامبرر للفصل بين الثقافة والحضارة!

يقدم المؤلف شهادة أخرى لأرنولد هاوزر من كتابه الفن والمجتمع عبر التاريخ تقول إن أعظم الأعمال الفنية تبحث دائماً عن إجابة لهذين السؤالين: كيف يمكن للبشرية أن تحقق لنفسها هدفها؟ وكيف يمكننا أن نشارك في تحقيق هذا الهدف؟ (ص 92) ولكنه لايوضح ماهية هذا الهدف إلا من خلال مقارعة الطبيعة، واعتماداً على ذلك يؤكد أن الحضارة »تقوم على نكران الغرائز«، وذلك لأن الطبيعة »لاتطلب منا أن نحدّ من غرائزنا، بل ترخي لها حبل الحرية كاملاً« (ص 93). وهنا أيضاً نجد أن المؤلف لايميز بين الطبيعتين الحيوانية والإنسانية في الإنسان، وهو مفهوم شديد المادية.

في دراسته للطوفان يرى المؤلف أن »السؤال الجدير بالطرح ليس القائل بحقيقة الظواهر ومدى صحتها. بل ما المقصود منها؟« (ص 93) وهو كلام سليم، ولكنه يقود المؤلف إلى حكم وحيد القيمة وفقير في اعتماداً على مقولة ماركوز في أن »أهمية الأدب العظيم [] تكمن في أنه يحدثنا عن عقدة بالذنب بلا ذنب« (ص 94). ومن خلال بحثه في الطوفان يلاحظ وجود تيارين:

الأول: يحاول الوصول علمياً إلى صحة الطوفان. لكن هذه الجهود ظلت أسيرة لهوس عشاق العهد القديم.

الثاني: يرى أن ميثولوجيا الطوفان لاتزيد عن كونها جزءاً من ميثولوجيا الشعوب القديمة، وهي أقرب إلى الخيال منها إلى الحقيقة.

هنا يتناقض المؤلف مع مقولته السابقة. فهو ينفي حدوث الطوفان كظاهرة، مع تأكيده أن »محتوى الأسطورة ليس عرضياً بسبب تشابه الأساطير« (ستراوس)، ويبين أن تشابه الأساطير »لاينم عن سرقة، بمقدار ما يكشف ويساهم في الكشف عن إعادة تأويل النص القديم، أي القيام بحرتقة تخدم سياقاً فكرياً وحضارياً جديداً.« (ص 94) ثم يقوم بدراسة قصص الطوفان في كل من الميثولوجيا السومرية والبابلية (جلجامش) وفي العهد القديم والقرآن الكريم، ليصل إلى أن:

أسباب الطوفان تمر من خلال عقدة أوديبية تتمثل في الفوضى الجنسية، مما حدا بالخطاب الديني (الطوفان) أن »يطالب بإحداث تحول جذري في وعي غرائز الرجال والنساء، تحول من شأنه أن يرسي الأسس لحضارة جديدة، تقوم على قاعدة الذنب بلا ذنب« (ص 108)، حضارة »تقوم على نكران الغرائز [] وتقييدها بقواعد معينة« (ص 108-9)، لأن »أسس التضامن الجديدة لن تكون متينة مل لم تُرسَ جذورها في بنية الأفراد الغرائزية.« (ص 109، عن ماركيوز البعد الجمالي) مرة أخرى نرى أن فكر المؤلف معتمد على التراث الفرويدي كتفسير وحيد لكامل التراث الإنساني، على الرغم من الردود والاعتراضات عليه، وعلى الرغم من الحيرة التي وقع فيها فرويد نفسه في كثير من مفاهيمه.

يرى المؤلف أن الخطاب الميثي هو محايث وموازي للخطاب العلمي، لأن »الخطاب الميثي يلعب دور عامل تحريض لإزاحة الواقعي المقاوم واستبداله بالواقعي المختلف.« ويدلل على رأيه في أن »الثقافة في مواجهتها للطبيعة [] تلجأ إلى الأسطرة [] كملكة ثابتة عند الإنسان، لتجعل منها إمكاناً حقيقياً في المستقبل.« (ص 110) هنا يتم تشبيه الأسطورة بروايات الخيال العلمي؛ فـ »حلم الإنسان ببناء السفينة الأسطورية في يوم ما قد تحقق في الواقع، وأصبحت سفينة نوح لاتعادل شيئاً أمام السفن العملاقة الحديثة.« (ص 110) وهكذا نصل إلى أن النبي نوح شديد الشبه بجول فيرن. وعند الجملة الأخيرة للمؤلف لايبقى أمامنا إلا أن نقول: يا للفقر!!

 

الفصل الثالث: الإخوة الأعداء في الميثولوجيا الإسلامية

انتهى ستراوس في النيء والمطبوخ إلى نتيجة مفادها:

أولاً- لاوجود لأسطورة مرجعية.

ثانياً- لاوجود لوحدة أو لمصدر مطلق للأسطورة. ويرى المؤلف أن:

1- كل محاولة لإرجاع هذه الأسطورة (الأخوة الأعداء) إلى أسطورة مرجعية سرعان ما تبوء بالفشل.

2- إن النسق الثقافي الإسلامي بمعالجته لميثولوجيا "الأخوة الأعداء" لم يعكس بتأويلاته ظلالاً باهتة لأساطير الأولين، بل تمكن من الوصول إلى نتائج باهرة تخدم النسق الثقافي الإسلامي في سياقه الحضاري الشامل.

يقوم المؤلف بسرد بعضاً مما جاء في أساطير ما قبل الإسلام مثل:

-                صراع الأخوة إيميش وإينتين من الأسطورة السومرية.

-                الإلهان لهار وإنشان.

-                انكيميدو ودموزي.

-                قايين وهابيل من سفر التكوين.

ثم يتحول إلى النص القرآني من سورة المائدة (الآيات: 27-35)، فيرى أن الأسطرة تمت عن الكيفية التي نشأت منها فكرة الحرام؛ ومن خلال ما أورده ابن الأثير لتفسير الآيات يستنتج أن الهدف منها كان تنظيم الدافع الجنسي والتمييز بين الحلال والحرام. وخلاصة ما يتوصل إليه هو:

-                يقوم الخطاب الإسلامي على التشريع لحضارة تتأسس على نكران الغرائز وإعادة توجيهها ضمن قواعد معينة.

-                تتوجه الحكاية إلى اليهود وأمثالهم من الذين استباحوا الجنس.

-                إدانة اقتتال الأخوة.

-                الفعل الجنسي هو فعل مقدس.

وهكذا يتم الربط بين طقوس الجنس المقدس وقصة هابيل وقايين. ويورد المؤلف أمثلة عن هذه الطقوس في الجاهلية، ويرى في هذه المحاكاة »التعبير الحي عن الحنين الأزلي لأسطورة العود الأبدي.« (ص 129)

 

الفصل الرابع: الرؤيا المقدسة والتاريخ (دراسة في غزوة أحد كما جاءت في مغازي الواقدي)

يبدأ المؤلف بتبيان الفرق بين نظرة الإنسان البدائي والحديث إلى التاريخ. فالإنسان القديم يرى في التاريخ مجالاً مفتوحاً لتجليات القدسي، »لحضوره الرهيب في المكان والزمان، حضور من شأنه أن يضفي صفة القداسة على كل قوة أو حركة.« (ص 133) ثم يبحث في قدسية المكان والزمان بتجلي المقدس عبر دراسة لغزوة أحد في المغازي، ويدلل على رأيه في الحديث عن قدسية الكعبة وقصة بنائها. أما عن الرؤيا فإنه يستشهد برؤيا الرسول محمد عليه الصلاة والسلام قبل غزوة أحد، ورؤيا عبد المطلب في حفر زمزم. يؤخذ على المؤلف إهماله لآليات علم النفس اليونغي في دراسته، ولربما كان قد توصل إلى نتائج أكثر دقة لو أنه لم يكتف بتوجهه الفرويدي في علم النفس.

 

الفصل الخامس: مفهوم الألوهية في الفكر الإسلامي والفكر الأسطوري القديم

من خلال بحثه في مفهوم الألوهية، يرى المؤلف أن هذا المفهوم في غاية التجريد في الإسلام. ففي الأسطورة السومرية والتكوين البابلي والتكوين المصري نرى أن الإله مسبوق بوجود سابق، بينما الإسلام يقول بأزلية الله. لكن المؤلف لم ينتبه إلى اختلاف مفهوم الألوهة، حيث نرى أن الإله في الأساطير القديمة هو على الأغلب إله الحكمة المسبوق والمولود من آلهة ترمز إلى الماء. وبالعودة إلى فلسفة كل من الفارابي وابن سينا، ومن خلال شروحاتهما للفيض الأفلوطيني، نلاحظ أن آلهة الحكمة القديمة لاتوازي الله، وإنما العقل الفعّال، ذلك العقل المسمى عند الهرامسة اليهود بالعقل الأسمى. وهو أيضاً مسبوق بالوجود الإلهي.

وفي معرض حديثه عن التوحيد يرى المؤلف أن التوحيد في النصوص الأسطورية نتيجة وليس غاية، وذلك لأن الوحدانية يمنحها للإله مجمع للآلهة بعد عمل دؤوب. بينما في الإسلام نجد سلفاً تنزيهاً لله عن كل أشكال الشرك الأخرى. ولذلك فإن تحطيم الأصنام كان ميزة أساسية في أنبياء الإسلام.

أما في موضوع الخلق فيميز المؤلف بين مفهومي الخلق من عدم كما جاء في الإسلام، على خلاف الأساطير التي تفترض مادة سابقة (هي الماء في التكوينين السومري والبابلي). ولو تعمق المؤلف أكثر لوجد أن السومريين والبابليين يتحدثون عن خلق السماء والأرض. وهو مذكور في القرآن بأن الله سبحانه وتعالى خلق السموات والأرض وكان عرشه على الماء، أي بعد الماء. وكذلك بأنه خلق السماء وهي دخان.

 

القسم الثالث: نقد الاتجاهات المعاصرة في دراسة الأسطورة

الفصل الأول: هل تصلح الأسطورة لأن تكون شاهداً على وجود نمط إنتاج آسيوي؟

يلاحظ المؤلف ظهور تيارين فيما يتعلق بنمط الإنتاج الآسيوي بعد وفاة ماركس: التيار السوفييتي والتيار الأوربي الفرنسي تحديداً. أما الفكر العربي فيما يخص هذه المسألة فإنه أيضاً تميز بظهور تيارين: الأول، يتجاهل نمط الإنتاج الآسيوي باعتباره نمطاً نوعياً من النمط العبودي. والثاني، يعتمد على فرضية مفادها أنه يمكن استنتاج الاقتصادي من الإيديولوجي (النصوص الأسطورية).

ويعتمد المؤلف نماذج ثلاثة لمحاورة التيار الثاني المقصود بالدراسة:

1- "قراءة في التكوين البابلي" ليوسف اليوسف (ص 166-8)، الذي توصل إلى أن:

-                الاستبداد الآسيوي يبدو وثيق الصلة بالوحدانية.

-                السلطة الفردية المطلقة للحاكم أدت إلى إنجاز مشاريع الري الكبرى.

-                انتصار الذكر على الأنثى هو إسقاط للنظام السابق القائم على الرعي وإحلال نظام آخر محله يقوم على الري.

-                خلق الإنسان: رمز لخلق طبقة تحتانية تعمل لصالح أرستقراط كسول.

2- تاريخ مصر الاجتماعي الاقتصادي لأحمد صادق سعد (ص 168-70)، الذي ربط أيضاً الاستبداد بالتوحيد (الحكم الفردي المطلق)، واعتبر الإله رع مستبداً آسيوياً وبأنه الوجه الآخر لمردوك، وتحدث عن أهمية تنظيم الري في بلدان الشرق.

3- الفكر العربي في بواكيره وآفاقه الأولى لطيب تيزيني (ص 170-4)، الذي عدَّ الأسطورة إيديولوجيا تكرّس مصالح النظام الاجتماعي-الاقتصادي الجديد، وتحدث عن الحق الإلهي المقدس لملوك الشرق، واعتبر أنه بانتصار الذكر تمّ الانتقال من الرعي إلى الري والزراعة، أما مفهوم خلق الإنسان فيعني:

-                اقتران العمل بشعور الذنب (الخطيئة).

-                تصور العمل من حيث هو تحرير للآلهة وعبودية للإنسان.

-                تأليه مفهوم العمل.

-                تقسيم العمل.

-                تكريس علاقات الأبوة في المشاعات القروية الجديدة.

ثم ينتقل المؤلف إلى دراسة هذه الآراء، فيسأل: لماذا نمط الإنتاج الآسيوي، وما الغاية من دراسته وأبعادها؟ وللإجابة عن السؤال يبحث المؤلف الخلفية التاريخية والإيديولوجية لنمط الإنتاج الآسيوي، فيرى أن هذه المقولة لاتصمد أمام البحث العلمي، لأن التزامن بين المركزية والري لايجد ما يدعمه في تاريخ الشرق. بل إن نظام الري لايتطلب المركزية التي بقيت شأناً من شؤون الدولة القومية. ويرى أيضاً أن تفسير الاستبداد المرادف للانحطاط والركود التاريخي يخدم هدفين: تبرير الاستعمار، وإيجاد نظم ثابتة.

تحت عنوان "الأسطورة بين الفن والأدلوجة" (ص 177) يسأل المؤلف: ما هي الأسطورة؟

الخطاب الماركسي يعرف الأسطورة بكونها مرادفة للبدائية والتخلف والسذاجة، مرادفة للدين ووريثة للسحر، سذاجة الطفل، باختصار ماركس نفسه.

للنعوت السابقة، برأي المؤلف، منحى إيديولوجي صرف لأسباب عدة:

إن محاكاة الطبيعة ليست فناً: الطبيعة »لاتغدو موضوعاً فنياً لأن ظواهرها تتميز بالتماثل والتطابق إلى درجة التكرار« (دوركهايم). كما أن »أردأ فكرة تخترق فكر إنسان أفضل وأرفع من أعظم إنتاج للطبيعة« (ص 178). وفي محاولة للإجابة يرفض المؤلف بدائية وظرفية الأسطورة (الأسطورة أدب عظيم). ويعود إلى رأي ماركيوز في الأدب العظيم وإلى شرح عقدة الحضارة الأوديبية، ويقوم بتكرار تفسيراته للأساطير: فالطوفان فوضى جنسية قام بها أبناء الرب، وهاجس الخلود عند جلجامش هاجس كوني وليس طبقياً، وميثولوجيا الأخوة الأعداء بعيدة عن إشكالية الصراع الطبقي، إلخ.

أما عن الهدف من دراسة نمط الإنتاج الآسيوي فإن المؤلف يرى أن »التأكيدات التي تسعى للقول إن حضارة الشرق القديم [] تصلح لأن تكون شاهداً عيانياً على وجود نمط إنتاج آسيوي، تسعى للتأكيد في الوقت نفسه على أن التخلف الاقتصادي-الاجتماعي الراهن يرتد إلى "وجود عنصر تاريخي أبدي" [] وبذلك تتأكد الإدانة للتاريخ العربي من جذوره إلى ذروته« (ص 183). طبعاً لاتخفى هنا مزاجية المؤلف في كيل الاتهامات بلامبرر. وياحبذا لو لم يجرّ نفسه إلى مماحكات من هذا النوع، لاتدلّ إلا على عصبية وضيق مساحة الرؤيا. وهذا يتأكد أكثر في طرحه لدوغمائية المشروع الفكري العربي المذكور مقابل الدوغمائية الماركسية، ليصل إلى نتيجة مفادها أن »الفكر العربي يرث بتواضع التركة الأوربية المثقلة بمدلولات ذات صيغ إدلوجية وليست علمية، ليفسر بها تاريخه ومشروعه الحضاري الفاوستي الجديد« (ص 184). فالفكر العربي الماركسي يرى أن »تاريخ الشرق هو تأريخ للترابط بين المقدس والدنيوي. وهذا الترابط هو عامل آخر في تفسير تخلفه.« (ص 184) ثم يحاول المؤلف تدارك عدم تبلور أفكاره الواضح بطرحه لدراسة توركلد جاكوبسون التي تميز بين نمطين سائدين للدولة: نمط مدني-اقتصادي، ونمط قومي-سياسي. لكنه لايلبث أن يعود إلى أن المقولات السابقة تخفي نفسها في لغة الأنتروبولوجيا بدلاً من الفلسفة، وبأنها تضع نفسها على مستوى المقولات التي تدعي العلمية، وأنها تستخدم المصطلحات دون وعي بمحتواها ومدلولها، إلى آخره من سلسلة الاتهامات البعيدة عن روح الحوار والبحث العلمي.

ثم يتطرق المؤلف إلى مفهوم الدولة والمشاعة البدائية ليقول، بعد شرح بسيط، بأن »المشروع الثقافي العربي الذي قام بتفصيل الأسطورة لتنطبق على حالة المشاعة وحالة الدولة المركزية يبقى أسيراً لوجهات نظر بقيت حسيرة.« (ص 189) ثم يتحول إلى مفهوم الأمة ورؤيته حول الموضوع منهياً بذلك دراسته.

وفي الختام فإننا نرى أن المادة قيد الدراسة، رغم غناها وثرائها، تمحورت حول بعض النقاط الأساسية، وهي:

-                تفسير الأسطورة انطلاقاً من المعطيات الفرويدية حصراً (الطوطم، أوديب، عقدة الذنب الدافع الجنسي، إلخ).

-                انطلاق المؤلف من خلفية أدلوجية أو فكرية مسبقة تلتقي مع التيارات القومية والتاريخانية، مما أوقعه في نفس الفخّ الذي وقع فيه أصحاب الخطاب الماركسي ودفعه إلى مواقف لايُحسد عليها.

-                افتقار الدراسة إلى الانفتاح والنظرة الشمولية وانغلاقها على جملة من الأحكام القيمية لم تلبث أن أفقرتها.

-                افتقار الدراسة إلى الدقة المنهجية في توضيح المفاهيم المصطلحاتية وتحديد التعاريف والمنطلقات التي بنى وفقها المؤلف أراءه.

-                الابتعاد عن روح الحوار البناء في كثير من المواقف، وعدم إدراك أن الحوار يتم بين أفكار وآراء، وليس بين حقائق يجب على الآخرين التسليم بها. وبالتالي فآراء المؤلف هي من جملة الآراء التي يبقى إمكان الظن فيها قائماً. فنحن في الحقيقة ليس بإمكاننا تقديم إجابات نهائية، وإنما نقدم كإجابات أسئلة جديدة. وهنا تكمن حقيقة سيرورة الفكر وتطور المعارف الإنسانية.


[1] الإسلام وملحمة الخلق والأسطورة، المركز الثقافي العربي، بيروت والدار البيضاء، 1992.

[2] ديمتري أفييرينوس، "خبرات على تخوم الموت"، مجلة المعرفة، العدد 401، شباط 1997، ص50.

[3] جيمس ب. كارس، الموت والوجود، ت: بدر الديب، منشورات المشروع القومي للترجمة / 29، المجلس الأعلى للثقافة، ص 123.

[4] الاستشهادات الواردة أعلاه عن مقالة لـ سمية الجندي، "الأسطورة في الفكر العربي الحديث الاتجاهات والمناهج"، المعرفة، العدد 405، حزيران 1997، ص 48-51.

 

 

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود