|
الثقافة والسلطة
في
ظل العولمة
يوسف سلامة
من
غير الممكن فهم حركة التاريخ الإنساني إلا
باعتبارها "أفكاراً حضارية" أو "كلِّيات"
تتحقق أو تزول أو تنطفىء أو تتراجع أمام غيرها
من الكلِّيات، فتنتقل – على العموم – من نمط
للوجود إلى نمط آخر من الوجود الحيّ والقوي،
وربما تسيطر على رقعة جغرافية واسعة وعلى
حقبة تاريخية مديدة، فتطبع كل شيء يكون واقعاً في نطاقها بطابعها
المميز، طابع الشعب
أو الأمة التي تنتجها وتحملها وتبدع في
التعبير عنها، فلسفةً وديناً وأدباً وفناً
وصناعة وزراعة وتجارة وملاحة. ثم لا تلبث هذه
الفكرة التي تبلغ أوجها في حياة من الأمم أن
تبسط أوسع ظل لها على العالم بأسره. ولكن ذلك
لا يكون إلا لحين، ولحين فقط. إذ إن للأفكار
أعماراً هي أشبه ما تكون بأعمار الإنسان.
فحياة "الفكرة" هي حياة الشعب أو الأمة.
إذ حالما لا يعود الشعب قادراً على الإبداع
والخلق في ظل هذه الفكرة وبها فإنه يكون قد
خرج من التاريخ وإلى الأبد. ومعنى الخروج من
التاريخ هنا ليس الموت أو الفناء الذي هو
المصير المؤكد لكل فرد من الناحية العضوية
والبيولوجية. فموت الأمم هو وصولها إلى حال
تكون فيها عاجزة عن الإبداع، وغير قادرة على
إضافة الجديد إلى حياة العالم، فتتحول بذلك
إلى أمة مستهلكة ليس فقط لما هو مادي، وإنما
أيضاً لكل ما هو فكري وروحي. و"الفكرة"
ذاتها بناء متناقص وليست كياناً بسيطاً
متطابقاً مع ذاته في كل نقاطه. فلو كانت كذلك
لما كانت حيّة ولما استطاعت أن تلعب دوراً في
إنتاج الحياة وخلقها جديدة في كل حين، ومبدعة
في حياة الأمة طوال فترة صعود الأمة وتوسّعها
في هذا العالم من خلال نشر ثقافتها وأدبها
وفنها ودينها وفلسفتها، بل وأنماط الإنتاج
الاقتصادي، وعلائق الوجود الاجتماعي، وطرز
العيش المختلفة، فضلاً عن نشر طريقتها في
الحياة ورؤيتها إلى العالم، المندمجة في
ثقافتها بنظر الأمم الأخرى التي تكون قد خضعت
لتأثيرها. إن
البناء المتناقص للـ"الفكرة" هو جوهر
حياة الشعب أو الأمة بحيث يجب علينا ألا نبحث
عن "الفكرة" خارج حياة الشعب أو الأمة،
أي خارج الفعل الذي يوجِّه الفكرة وينتجها في
الوقت نفسه. وعلى ذلك، لا يصح أن يتوقع أحد منا
أن تتصوَّر له "الفكرة" على أنها "كيان
مفارق" مستقل بذاته، أو على أنها كيان
موجود خارج العالم أو الطبيعة أو الإنسان. فـ
"الفكرة" هي النفس الحيّة التي تبث
الحياة في الواقع من خلال فعل الإنسان، فعل
الشعب. وهذا الفعل في الوقت نفسه لا قيمة له
خارج "الكلِّي". إذ إن كل ما له معنى إنما
يفسر بالكلِّي الذي يمثِّله، وبالكلِّي الذي
يستهدفه في الوقت نفسه. لذا
فإن الفكرة، في خصوصيتها، أو تعيُّنها في أمة
من الأمم، هي ما نطلق عليه "روح الشعب" أو
"روح الأمة" الذي لا يدل على شيء أكثر أو
أقل من مجموع المكوِّنات الأساسية التي تشكل
طابعاً عاماً يسم حضارة ما بطابعه، بحيث إن
نظرة واحدة تكفي لكي يتبيَّن المرء أن هذا
المعمار والشعر والأدب والفلسفة والدين
والثقافة الشعبية والثقافة العالمة إنما
تنتمي كلها إلى روح واحد يوجدها ويضمُّها
ويخلع عليها الوحدة ويمنحها ما هو كلي فيها؛
فيكون من الممكن وصف هذه المنجزات مثلاً
بأنها تعبر عن حضارة بعينها هي الحضارة
الإسلامية أو المسيحية أو اليونانية أو
المصرية القديمة إلخ. قلنا
– إذن – حضارة إسلامية أو يونانية أو مسيحية
أو مصرية. فما مغزى ذلك وما معناه؟ إن
ما نعنيه بأمرنا هذا أمران: الأول:
هو أن لكل حضارة فكرتها المميِّزة لها التي
تطبع الحضارة بأكملها بطابعها المميَّز. وقد
بسطنا هذا الأمر ههنا –
وإنْ بشيء من الإيجاز. والثاني:
هو أن "الفكرة" الواحدة لا تنهض عليها
ولا تقوم إلا حضارة واحدة. فإذا ما ضعفت هذه
"الفكرة" أو تصدعت أو ماتت، لا يمكن
بعثها من جديد في صورتها الجوهرية والأساسية
أبداً. وهذا يعني أن أية حضارة سبق لها أن
تحققت وأينعت – لابد لها في ذلك
من أن تكون مستندة إلى فكرتها بالضبط – لم يعد
من الممكن لها أن تحقق حضارة جديدة بحالٍ من
الأحوال. إن "الفكرة" الواحدة تنشىء
حضارة واحدة؛ وفي هذه الحالة تكون الحضارة
خصبة وحيّة ومستحدثة، أي جديدة في كثير من
وجوهها. وعندما تتحقق هذه الحضارة مستندة إلى
فكرتها، وعندما يكتمل هذا التحقيق، فإن "الفكرة"
لا تعود قادرة على استحداث حضارة جديدة في
أزمنة لاحقة. ذلك أن "الفكرة" مقترنة
بدرجة من درجات التقدم. وبما أن الحضارة
اللاحقة تكون قد تجاوزت هذه الدرجة، فإنه
يكون من المتعذر على "الفكرة الحضارية"
التي تحققت في حضارة ما سابقة أن تنتج حضارة
جديدة. إن كل ما بوسعها هو أن تنتج شكلاً
حضارياً قديماً هو أقرب إلى التكرار المملّ
منه إلى الإبداع والتجدد. ليس
بوسعنا – والحال كذلك – أن نعيد الحضارة
المصرية القديمة إلى الوجود. وكذا الأمر
بالنسبة للحضارة اليونانية، والحضارة
المسيحية، وغيرها من الحضارات التي سبق لها
أن تحققت. صحيح أن بوسعنا بفعل التقدم التقني
الذي تتميز به الحضارة الراهنة أن نعيد –
وبكفاءة عظيمة – إنتاج بعض الجوانب من هذه
الحضارة أو تلك. بوسعنا على سبيل المثال، أن
نشيد هرماً أضخم من الأهرامات التي شيدها
المصريون القدماء، ولكن هرماً كهذا سيكون
هيكلاً عظمياً لا روح فيه؛ إذ سيعكس روح
الحضارة المعاصرة أكثر مما يعكس روح الحضارة
المصرية القديمة وقيمها، ولن يعكس أبداً فكرة
المصريين القدماء عن الحياة والموت، عن البعث
والخلود، أي أنه لن يكون مصرياً أبداً. وبوسعنا
كذلك أن نعيد إنتاج الأكروبوليس والبارثينون، ولكنهما لن يكونا منتمين إلى
الحضارة اليونانية أو الرومانية. سيكونان
خاليين من الآلهة ومن رموزها ومن الأوثان
التي كانت تبعث الغبطة في نفوس المؤمنين من
اليونان والرومان. وبوسعنا كذلك أن ننتج
ضروباً لا حصر لها من الفن الإسلامي في
العمارة والزخرفة والشعر العمودي. لكن هذه
المنجزات ستكون في حقيقتها مادة لا روح فيها
أو أجساماً هجرتها الحياة أو بيوتاً غادرتها
الأرواح إلى غير عودة، إذ لم تعد محتوية على
أي ثراء روحي، لأن ثراءها قد احتجب احتجاب
الأرواح التي أبدعتها. وإذا وقفنا أمامها
اليوم، فإننا سنقف أمامها وقفة الإجلال أمام
هذا الإبداع الحضاري العظيم والإنتاج الفني
الرائع، ولكن لن يشعر المرء منا برعشة الغيب
الكامنة من وراء ما هو ظاهر، ولا بسر الوثبة
الحية التي يفترض أنها قائمة من وراء هذا
الأثر الذي أصبح مجرد مادة بعد أن فقد سرّه
الروحي العميق. إن
"الفكرة" الواحدة لا تقوم عليها إلا
حضارة واحدة، وأية محاولة لاستدعاء هذه "الفكرة"
من جديد لن تؤدي إلا إلى أحد أمرين: إما تكرار
لا قيمة له، وإما إبداع فكرة جديدة تنهض عليها
أمة وحضارة جديدة لا علاقة لها بالفكرة
السابقة إلا كعلاقة الفكرة الجديدة بكل
الأفكار الحضارية الأخرى التي سبق للبشر أن
أنتجوها عبر تاريخهم المديد. أما
أن تعود "الفكرة" ذاتها – أي "الفكرة"
القديمة التي سبق أن قامت عليها حضارة ما –
وأن تنهض عليها حضارة جديدة، فذلك ما نراه
متعذراً تعذراً تاماً وذلك لسببين: أولهما
استقرائي، يتمثل في أن استعراض تاريخ
الحضارات الإنسانية يكشف عن تعاقب دائم لتيار
الحضارة الإنساني، ولا يكشف أبداً عن حضارة
معينة قد اندثرت ثم عادت إلى الوجود من رقدتها
أو من موتها لتنتج لنا حضارة جديدة. والسبب
الثاني يتعلق ببنية "الفكرة" من ناحية،
وببنية الحضارة من ناحية أخرى. فإن "الفكرة"
مجموعة من الممكنات قابلة للتحقق في مستوى
معين، وآفاق الاحتمال فيها مقيدة بدرجات
معينة لا تنفك أبداً عن اللحظة التاريخية
التي وجدت فيها الحضارة موضع البحث. ومن ثم
فإن القول بأن "الفكرة" الواحدة يمكنها
أن تنتج حضارتين مختلفتين قول لا يخلو من
التناقض، حتى على المستوى الصوري البحت،
ناهيك عن المستوى التاريخي المعاش ذاته. والأمر
الجوهري الذي يجب ملاحظته في كل فكرة حضارية
هو أن كل واحدة منها – مهما كانت طبيعتها (دينية،
إنسانية، جماعية، أخلاقية، حربية، عسكرية،
إلخ) تتسم، بوضوح، وبشكل لا يقبل الاستثناء،
بميلها القوي إلى الانتشار والشمول والغزو.
ومقدرتها على الغزو – الذي لا يتخذ شكلاً
واحداً في كل الحالات التي تحقق "الفكرة"
الحضارية لنفسها فيها الشمول والانتشار – لا
تكتمل إلا عندما تنجح فئة من المثقفين في
تحويلها إلى "دعوة" أو في صياغتها في "بناء
إيديولوجي" يكون من شأنه أن يكشف عن الفئة
الاجتماعية التي اقترنت مصالحها ووعيها بهذه
الرؤية إلى العالم وارتبطت بها ارتباطاً
وثيقاً يسمح لنا أن نقرر إمكان وجود ارتباط
عضوي بين فئة اجتماعية محددة وبين رؤية إلى
العالم قد صيغت في قالب إيديولوجي محدد. ومن
ذلك نستخلص أن كل إيديولوجيا فهي بطبيعتها
تمثل السلاح الفكري والأخلاقي والثقافي الذي
تستخدمه الفكرة الحضارية في مسعاها إلى غزو
العالم من حولها وتطويعه لمقتضيات محددة هي
تعبير عن تطلعات الفئة الاجتماعية التي يكون
قد حدث اقتران بين وعيها بمصالحها ووعيها
بالتطابق بينها وبين هذه الفكرة بوساطة بناء
إيديولوجي محدد. وعلى
ذلك فليس ثمة "فكرة حضارية" أو رؤية
إيديولوجية يمكن استثناؤها من الوصف بأنها
ميالة إلى الشمول والانتشار عن طريق الغزو.
فالميل إلى الهيمنة والسيطرة هو التعبير عن
بناء القوة الكامنة في صميم الأرواح التي
تنتج الأفكار الحضارية المختلفة. إن "الفكرة"
– مهما بلغ سموُّها ورقيُّها – هي لا شيء
بمعزل عن القوة الباطنة فيها وفي أرواح
وعزائم من تعبِّر عن مصالحهم وعن رؤيتهم إلى
العالم. فالفكر بطبيعته قوة، يميل إلى فرض
نفسه على صميم الواقع ليرتقي به إلى مستوى
ذاته. لقد عبر هيغل عن هذه الصيغة مرة وهو
يعرِّف المنطق بقوله: "المنطق هو الاستيلاء
على العالم بالعقل." وهذا صحيح بصورة لا شك
فيها. ولكن استيلاء "الفكرة الحضارية"
على الحقبة التاريخية والمساحة الجغرافية لا
يتحقق إلا عندما تتم صياغة "الفكرة" في
قالب إيديولوجي مناسب وملائم للزمان والمكان
والفئة الاجتماعية التي يقترن وعيها بهذه "الفكرة
الحضارية" على وجه التحديد. إننا
في الواقع عندما نتحدث عن "الإيديولوجيا"
فإننا في الحقيقة لا نتحدث إلا عن الفعل
السياسي. ذلك أن الفعل السياسي متعذر دون
قاعدة إيديولوجية تحمله عبر الممارسة
الاجتماعية داخل الحياة الإنسانية. وبهذا
المعنى، يكون الفعل السياسي هو الثمرة
النهائية التي تقاس بها ثروة الأمة من التقدم
والتحضر والتحرر. فلا يمكن للأمة التي يتجسد
فعلها السياسي في "الاستبداد" أن ينظر
إليها بالطريقة نفسها التي ينظر بها إلى
الأمة التي يتجسد فعلها السياسي في
الديمقراطية وحرية الأفراد واحترام حقوق
الإنسان والاعتراف بحق المجتمع، وفي التداول
السلمي للسلطة فيما بين فئاته المختلفة. صحيح
أن كل "فكرة حضارية" تميل إلى الانتشار
والشمول عن طريق غزو العالم، غير أنه بوسعنا
أن ننظر إلى هذا الميل نفسه نظرتين مختلفتين:
فجميع الأفكار الحضارية التي سادت فيما قبل
الحضارة الرأسمالية تختلف اختلافاً شديداً
عن "الفكرة الحضارية" للرأسمالية أو
حضارة العصر الحديث على وجه الحصر. فلو
عدنا إلى الحضارات السابقة على حضارة العصر
الحديث –
حضارة العصر الرأسمالي –
لوجدنا أن جميع الأفكار الحضارية السابقة
كانت تنطوي على الاتجاهات نفسها إلى الانتشار
والشمول والإلحاق عن طريق فعل الغزو بمختلف
صوره وأشكاله، سواء كانت فكرية أو عسكرية، أو
حتى عن طريق التبادل التجاري، إلى غير ذلك من
أساليب الانتشار والشمول التي تحقق الهيمنة
للأمة التي تنجح في بسط سيطرتها على الأمم
الأخرى. غير أن الحضارات السابقة على الحضارة
الرأسمالية كانت تتمتع بقدر أقل من الشمول
والكلية، إن جاز التعبير، بالقياس إلى
الحضارة الرأسمالية؛ وذلك لأن تلك الحضارات،
أو تلك الأفكار الحضارية، لم تكن لتستطيع أن
تبسط هيمنتها بسطاً تاماً على الثقافات
والحضارات والشعوب الأخرى لأن تلك الحضارات
لم تكن قد أصبحت بعد عقلانية وتكنولوجية بما
يكفي ومسلحة بمقدرة لا حد لها على توصيل
رسالتها الإعلامية والثقافية والاجتماعية
والسياسية من خلال مجموعة من وسائل الاتصال،
التي شكلت بمجملها ما يمكن تسميته بثورة
الاتصالات، المدعومة في الوقت نفسه بثورة
المعلوماتية التي يسَّرت الاتصالات بين
أصقاع العالم فجعلته أصغر مما هو بكثير،
وخلقت في الوقت نفسه كل الظروف الضرورية
لهيمنة الأفكار والأخلاق والمعتقدات التي
يود القوي نشرها وضمان السيطرة لها على عقول
كثير من سكان العالم، خدمة لمصالحه وتحقيقاً
لهيمنته على أكبر عدد ممكن من سكان العالم. لقد
كانت الحضارات السابقة على الحضارات
الرأسمالية أقل كلية من الحضارات الرأسمالية
لأن تلك الحضارات كانت تنتسب إلى كل محدد. فهي
إما حضارة إسلامية أو عربية أو عربية إسلامية
أو يونانية أو هلنستية. وهذا يعني في النهاية
أنها تبشر بثقافة أمة من الأمم، أو بحضارة هي
مزيج من ثقافات مختلفة، كالحضارة العربية
الإسلامية، وهي تضفي على الثقافة التي
أنتجتها بنية إثنية محددة، كالثقافة
اليونانية مثلاً. وبالتالي فالكلِّيان
الأساسيان اللذان سيطرا على الأفكار
الحضارية السابقة على الرأسمالية هما الدين
والقومية بمعنى ما من المعاني. أما الدين
فيمكن أن يرد عليه دين آخر وينقضه ويصدّه ويحل
محله. وأما القومية فيمكن أن تتصدى لها هي
الأخرى قومية أخرى وتحل محلها وتنتزع منها
سيطرتها وسيادتها التي تكون قد حققتها في هذا
الجزء أو ذاك من العالم. وبخلاف
ذلك، فإن الحضارة الرأسمالية أصبحت تتمتع
بقدر أكبر من الكلية بعد أن حلّ فيها "العقل"
محل "العاطفة"، و"الإنسان" محل "الله"،
والعالمية أو الدولية أو الأممية محل القومية.
فالقومية الأوروبية لم تكن إلا مرحلة ضرورية
في صراع البرجوازية مع الإقطاع والإكليروس.
وحالما تم الانتصار عليهما وإقصائهما
وتجريدهما من كل قوة ظهرت النزعة الدولية أو
العالمية باعتبارها صميمية في الثقافة
الرأسمالية، وظهر الإنسان باعتباره مركز
العالم، وظهرت الحرية والمساواة والإخاء على
أنها القيم الإنسانية الأساسية التي تضمن
للإنسان الفرد مركز الصدارة في هذا العالم.
والليبرالية هي الأداة والوسيلة التي يتمكن
بها الإنسان، وفقاً للإيديولوجية الرأسمالية، من التعبير عن حريته وكونه مركز
العالم من الناحية الفكرية والعقلية من جهة؛
ومن جهة أخرى، هو مركز العالم استناداً إلى
المشروع الاقتصادي الفردي الذي يتمكن
بوساطته من إشباع حاجاته المادية من ناحية،
ومن إشباع حاجاته إلى القوة والسيطرة نفسياً
من جهة أخرى. وهكذا
سرعان ما تكشفت حدود الإيديولوجيا
الرأسمالية عندما ظهر التناقض في صميمها بين
عدوانيتها وإنسانيتها، وبين عناصر التنوير
فيها التي لا تنفك عن الحرية وبين الحرية
الاقتصادية والسياسية على حد سواء. سرعان ما
تبدى أن حرية العالم الرأسمالي لا تتحقق إلا
على حساب حرية الشعوب الأخرى، وسرعان ما تبين
أن نجاح المشروع الاقتصادي الخاص بإشباع
الحاجات المادية من ناحية، والرغبة في
السيطرة وفي الهيمنة من ناحية أخرى، لا يكون
ممكناً إلا إذا تحول هذا المشروع إلى مشروع
عالمي عابر للقارات ومتجاوز للدول وللحدود
القومية بحيث يمد سلطانه إلى ما وراء كل
الحدود الجغرافية والسياسية، لكنه يظل مع ذلك
على ارتباط وثيق بالمركز الذي نشأ منه وتأسس
فيه. هكذا يمكن تشبيه الفعالية الرأسمالية
بمجموعة هائلة من العلل التي تسير على نفس
خطوط الطول من الغرب إلى الشرق، وعلى نفس خطوط
العرض من الشمال إلى الجنوب، مع المحاولة
المستمرة لأن يظل التأثير العِلِّي أو السببي
يسير في اتجاه واحد من الغرب إلى الشرق ومن
الشمال إلى الجنوب، من غير أن ينعكس هذا
التأثير بدوره انعكاساً عكسياً، عملاً بمبدأ
التفاعل بين العلّة والمعلول. وهذه هي "العولمة"
بالمعنى الحديث للكلمة. ومن ذلك يفهم أن "العولمة"
ليست بالأمر الجديد على حياة العالم. فكل فكرة
حضارية على امتداد التاريخ الإنساني كانت
عالمية أو تتطلع إلى أن تبسط ظلها على العالم
بأسره ثقافياً وسياسياً واقتصادياً. ولكن
مقولة "التفاعل" كانت هي المقولة
المسيطرة على العلاقة القائمة بين "الفكرة
الحضارية" المسيطرة وبين العالم والثقافات
والشعوب التي تحاول هذه "الفكرة" أن تبسط
سلطانها عليها. ولذلك كانت الحضارات السابقة
على الرأسمالية حضارات متعددة الأبعاد، في
حين أن الحضارة الرأسمالية الحالية هي حضارة
أو ثقافة ذات بعد واحد. كما أن الإنسان الذي
يبنيها ويعيش في ظلها قد أصبح هو أيضاً إنساناً ذا بعد واحد. والرأسمالية
تحاول أن تعمم أحادية البعد هذه على الكون
بأسره من خلال مقدرتها التي لا حد لها التي
تستمدها من وسائل الإعلام وتقنيات الاتصال
فتحاول بواسطتها نشر ثقافة أحادية البعد في
العالم بأكمله هي الثقافة الاستهلاكية التي
تسطِّح الفرد والمجتمع على حد سواء. والرأسمالية
تحقق هذا الأمر من خلال القواعد المادية التي
أرستها للنظام العالمي الجديد أو لما يسمى
اليوم بالعمومية. وهذه القواعد المادية تتمثل
في تعميم نمط الإنتاج الرأسمالي على الكون
بأكمله. وبمقتضى ذلك تشير العولمة إلى "وصول
نمط الإنتاج الرأسمالي عند منتصف هذا القرن
تقريباً إلى نقطة الانتقال من عالمية دائرة
التبادل والتوزيع والسوق والتجارة والتداول
إلى عالمية دائرة الإنتاج وإعادة الإنتاج
ذاتها." أي أن ظاهرة العولمة التي نشهدها هي
بداية عولمة الرأسمال الإنتاجي وقوى الإنتاج
الرأسمالية، وبالتالي علاقات الإنتاج
الرأسمالية أيضاً، ونشرها في كل مكان مناسب
وملائم خارج مجتمعات المركز الأصلي ودوله.
العولمة، بهذا المعنى، هي رسملة العالم على
المستوى العميق بعد أن كانت عولمته على مستوى
سطح النمط ومظاهره قد تمت. بعبارة أخرى، إن
ظاهرة العولمة التي نعيشها الآن طليعة نقل
دائرة الإنتاج الرأسمالي – إلى هذا الحد أو
ذاك – إلى الأطراف بعد حصرها هذه المدة كلياً
في مجتمعات المركز ودوله. ولما كانت عالمية
دائرة التبادل والتوزيع والسوق قد بلغت حد
الإشباع بوصولها إلى أقصى حدود التوسع الأفقي
الممكنة وشمولها مجتمعات الكرة الأرضية لها
– باستثناء جيوب هنا وهناك –، كان لابد
لحركية نمط الإنتاج وديناميّته أن تفتح أفقاً
جديداً لنفسها وأن تتجاوز حدوداً بدت ثابتة
سابقاً عن طريق نقلة نوعية جديدة تأخذ الآن
الشكل المزدوج لعولمة دائرة الإنتاج ذاتها
ونثرها في كل مكان مناسب تقريباً على سطح
الكرة الأرضية من ناحية، وإعادة صياغة
مجتمعات الأطراف مجدداً في عمقها الإنتاجي
هذه المرة وليس على سطحها التبادلي التجاري
الظاهر فقط، من ناحية ثانية، أي إعادة
صياغتها وتشكيلها على الصورة الملائمة
لعمليات التراكم المستحدثة في المركز ذاته."[1] والنتيجة
الطبيعية المترتِّبة على ذلك هي الضعف
التدريجي الذي أصبحت الدولة تعاني منه في ظل
نظام العولمة الجديد. ومن غير شك فإن المستفيد
من هذا الضعف والمتسبب به في الوقت نفسه هو
الشركات المتعددة الجنسيات أو متعدِّية
الجنسيات التي لم تعد محتاجة إلى القوات
المسلحة نفسها، وذلك لأن ما تتمتع به من قوة
هو في الحقيقة نتاج لمقدرتها على إضعاف الدول، ليس في العالم الثالث فقط وإنما في دول
المركز الرأسمالي أيضاً. يقول إسماعيل صبري
عبد الله: "إن الرأسمالية الكوكبية لم تعد
بحاجة إلى القوات المسلحة إلا كسوق تورد له
الأسلحة، وكمصدر لتمويل بعض أعمال البحث
والتطوير. وكلنا نعلم ونرى حتى في مصر
الاستغناء عن الشرطة اعتماداً على وحدات
الأمن الخاصة التابعة للشركات أو المتعاقدة
معها. ووصل شيوع بطاقات الائتمان في دفع ثمن
المشتريات حتى في بلادنا أوسع من الدفع
بالشيك. وفي الحالين نحن نتعامل مع نقود
مصرفية تصدرها البنوك دون رجوع إلى سلطات
الدولة في أي شيء. وقد استغنت الشركات الكبيرة
بصفة عامة عن القضاء في المسائل المدنية
التجارية بالالتزام سلفاً بإجراءات التحكيم.
والشركات الآن ليست بحاجة إلى هيئة البريد
لأنها تستخدم الفاكس أو شركات البريد السريع.
والأمر في بلدان العالم الثالث أخطر من ذلك
لأن ضعف البرجوازية المحلية – الثقافي
والإداري والمالي والإنتاجي – يجعلها تجر
الحكومة جراً لمساعدتها ودعمها وحمايتها
وإعفائها من الضرائب إلخ. وكثيراً ما تستخدم
إفساد ممثلي الدولة وسيلة لاستبعاد المنافس
أو خطف عقد على غير أساس من التفوق على العروض
الأخرى."[2] وعلى
كل حال فإن ضعف الدولة سمة مسيطرة حتى على
الدولة في البلدان الصناعية في مقابل الشركات
متعددة الجنسيات، وإن كان هذا الضعف لا يمكن
مقارنته بالضعف الذي ينتاب الدولة في العالم
الثالث. إذ "لاشك في تراجع الدولة في
البلدان الصناعية المتقدمة وضعفها أمام
الشركات متعدِّية الجنسية. والاتجاه الغالب
لتخفيض الإنفاق العام، ولاسيما في مجال
الضمان الاجتماعي وتصغير حجم الدولة وتسريح
الآلاف من موظفيها."[3] وعلى ذلك فمصير
الدولة في ظل العولمة هو الضعف في دول المركز
والزوال والاضمحلال – إذا ما اقتضت ذلك مصالح
دول المركز والشركات المتعدِّية الجنسيات –
في بلدان العالم الثالث. والظروف الموضوعية
في العالم الثالث مناسبة تماماً لتفتيت الدول
القائمة وشرذمة المجتمعات الراهنة، نتيجة
لما يحفل به هذا العالم من صراعات بين قلة
غنية وأغلبية فقيرة، ونتيجة لما يشتمل عليه
من جهل ونقص في التعليم والثقافة والوعي
يترتب عليه بروز التناقضات الثانوية وتحولها
إلى تناقضات رئيسية، مثل الصراعات القبلية
والإثنية والطائفية والدينية وغيرها. وبناء
على ما تقدم، يقرر سمير أمين (ندوة العرب
والنظام العالمي الجديد) أن "هذا النوع
من العولمة لا يمكن أن ينتج أي نوع من السلام
أو القبول الاجتماعي. فهو نظام قائم على
الانفجار المستمر، على انفجارات وانتفاضات
مستمرة. فسياسة إدارة الأزمات [تتم] إما من
خلال التدخل العسكري المباشر، كما حدث في حرب
الخليج الثانية، أو من خلال تحريك القوة التي
تؤدي إلى التخلص من نظم الدولة باسم الإثنية
والدين واللامركزية، لدرجة أن الهدف هو "إدارة
الأزمة" من خلال ضرب النظم الحكومية، نظم
الدولة وكسرها نهائياً، وتفتيت المجتمعات
إلى مجتمعات لا نهاية لها على أسس إثنية
ودينية وغيرها. وسياسة إدارة الأزمة لها
جانبان: جانب اقتصادي يتمثل في أسعار الفائدة
والديون الخارجية، وجانب سياسي يتمثل في
الاستغلال الواعي للقوى التي تؤدي إلى تفتيت
النظم، نظم الدولة."[4]
ولعل هذه الحقيقة هي التي دفعت بباحث آخر في
الندوة نفسها إلى أن يقرر أنه "من المتوقع
أن يخرج العالم العربي في
النصف الأول من القرن الحادي والعشرين من
المنظومة العالمية، إلا إذا حدثت تغييرات
جوهرية، من بينها النجاح في إحداث عملية
تحرير استراتيجي قطاعي."[5] وعلى
كل حال، فإن منطق الرأسمالية المعاصرة سيؤدي
إلى "بلورة آليات العولمة وإعادة استقطاب
العالم على أسس جديدة […]
تسمى بالاحتكارات الخمسة الجديدة.[6]
وحتى نواجه الاحتكارات الخمسة [فإنه يكون هنا]
للأقلمة وزن كبير. إذ من المستحيل على بلد
صغير، بل متوسط، أن يواجه هذه الاحتكارات […]
ولحسن الحظ فالوطن العربي يتمتع بإطار
يمكِّنه من أن يكون عنصراً إيجابياً في تكوين
الأقلمة وإن كان هذا الأمر يتطلب عناصر كثيرة."[7] ومن
ذلك يتبين أن الدولة العربية القطرية، في ظل
العولمة، لا تملك إلا أن تختار بين بديلين:
أولهما أن تتفكك إلى كتل أو ذرات صغيرة لا
قيمة لأي منها، أي أن تتفكك إلى مجموعات إثنية
وقبلية وطائفية ودينية إلخ، وذلك لتعذر إمكان
صمود هذا الكيان أكثر من ذلك أمام ضغط العولمة
الوارد من المركز نحو الأطراف؛ وإما أن تعيد
النظر في ماهيتها وكيانها بحيث ترتقي بنفسها
إلى شكل من أشكال الكيان القومي الذي يرتقي
بها إلى نوع من "الكلية" التي يمكنها
الصمود في مواجهة آليات العولمة التي هي
بطبيعتها آليات قادرة على تفكيك كل ما
يواجهها من مقاومة هنا وهناك. ومصطلح
"قومي" الذي نستخدمه ههنا لا يشير إلى
دولة اندماجية بحيث يصحو العرب في يوم قريب
فإذا هم دولة واحدة. إنما المقصود بذلك اكتشاف
إطار تنسيقي يوفر للعرب مجتمعين المقدرة على
الدفاع عن مصالحهم بوصفهم كتلة اجتماعية
وسياسية واقتصادية لها مجموعة من المصالح لن
يدافع عنها غيرها. ومن
المؤكد أنه في غيبة هذا الإطار التنسيقي
القومي ستتوفر لبعض الجهات والأشخاص، نتيجة
العولمة، امتيازات على حساب الأمة العربية
بأسرها، لكن هذه الامتيازات ذاتها ستفقد
حالما تفقد هذه الجهة العربية أو تلك الوظيفة
التي تؤديها في الإطار العولمي الكبير – وهي هنا وظيفة
التفكيك والشرذمة، أو على الأقل الإبقاء على
الذرات مفككة منفصلة في أطرها القطرية
القائمة اليوم. ومن ثم فالجميع خاسرون في غيبة
هذا الإطار التنسيقي الوحدوي. وبالتالي، فإن
تفكك الدولة القطرية سيمكِّن آليات العولمة
من بلوغ مداها السياسي والاقتصادي في المجال
العربي الكبير. وإذن،
فالتناقض الأول الذي يهدد الدولة العربية
القطرية بالتفكك والتحلل إلى عواملها
الأولية هو التناقض بينها وبين آليات العولمة
التي تميل إلى دمج الأطراف وتكييفها مع
مصالحها، حتى ولو أدى ذلك إلى تفتيت الأطراف
وتفكيكها. والدولة العربية ليست قادرة على
الصمود في هذه المواجهة. أما
التناقض الثاني الذي تواجهه الدولة القطرية
العربية، فهو التناقض بينها وبين الثقافة
التي أنتجتها الأمة العربية، تلك الثقافة
التي أنتجها العرب على مدى قرنين من الزمن. وحتى
يكون التحليل فاعلاً، فإننا سننظر إلى
الثقافة هنا من خلال الأطر الإيديولوجية
الرئيسية التي عبّرت عن هذه الثقافة، بدلاً
من النظر في الثقافة بوصفها مجموعة من الرموز
والعادات والتقاليد، وبوصفها إنتاجاً فنياً
وأدبياً، إضافة إلى كل ما من شأنه أن ينتج
رؤية الأمة إلى العالم التي تنعكس في طرز
حياتها وأساليب معيشتها. الملاحظ
أن العرب منذ بدء احتكاكهم مع أوروبا، أي منذ
الحملة الفرنسية على مصر عام 1798، قد انخرطوا
في سلسلة من ردود الفعل على التأثيرات
الأوروبية في ظل خضوعهم للعثمانيين أولاً، ثم
في ظل أشكال الانتداب والاحتلال الأوروبية في
القرن العشرين ثانياً، وأخيراً في ظل الدولة
المستقلة أو شبه المستقلة التي تحققت لكثير
من الأقطار العربية بعد الحرب العالمية
الثانية. وانطلاقاً
من ذلك، بوسعنا القول إن الثقافة العربية قد
أنتجت مجموعة هائلة ومتنوعة من الأفكار التي
ليس من اهتمامنا الحالي تتبع أصولها وجذورها،
ولكنها كانت بالفعل مجموعة متنوعة من الأفكار
التي يمكن تصنيفها في أربع اتجاهات أساسية،
مع الاعتراف بوجود انحرافات محدودة عن هذه
الاتجاهات الأربعة القريبة من هذا التيار
الإيديولوجي الرئيسي أو ذاك. وهذه الاتجاهات
هي: الإيديولوجيا الإسلامية والإيديولوجية
الليبرالية والإيديولوجية الاشتراكية
والإيديولوجيا القومية. من
الواضح أن هذه التيارات الأربعة تشترك في
كونها اتجاهات كلية، أي أفكاراً كلية تقدم
لجميع العالم العربي وليس لهذا الجزء أو ذاك
من أجزائه. وبهذا المعنى فإنها جميعاً –
بمعنى ما – تشكل تيارات قومية على اختلاف
رؤية كل منها لمعنى القومية وحدودها. ووصفنا
لها بـ "الكلِّية" يقصد به أنها أفكار
تتمتع بقيمة نظرية وعملية لا شك فيها. وهي
تعني أيضاً أنها أطر منطقية وسياسية
واقتصادية واجتماعية قادرة على المشاركة في
تفسير المتناقضات الأساسية التي تسيطر على
حياة الأمة، كما أنها قادرة على المشاركة في
اقتراح حلول لها بصورة أو بأخرى. لقد
سيطر الاتجاه "الكلِّي" على الثقافة
العربية، مع الاعتراف بوجود استثناءات قليلة
وضعيفة تمثلت في النظرة الفرعونية إلى ماضي
مصر، وفي النظرة السورية القومية إلى ماضي
بلاد الشام. ولكن الاتجاه الأساسي ظل هو الميل
نحو الثقافة القومية والكلِّية.
فالإيديولوجيا الإسلامية لن تطمح إلى خلق
عالم عربي موحَّد في ظل الإسلام فقط، وإنما هي
قد تطلعت أيضاً إلى إضفاء الفكرة الإسلامية
على العالم بأسره، فتحول العرب بذلك إلى لحظة
جزئية داخل هذا المشروع الثقافي الكوني. كذلك
فإن الليبرالية العربية لم يكن مما يتعارض مع
مصالحها التفكير في خلق عالم عربي موحَّد في
ظل الحرية السياسية والاقتصادية للفرد، بل إن
المشروع الليبرالي، بطبيعته، يفقد كل ما له
من معنى إذا ما كانت رقعته السياسية
والجغرافية صغيرة محدودة، مما جعل
الإيديولوجيا الرأسمالية تعتبر العالم بأسره
مسرح لنشاطها الاقتصادي والسياسي والتعبير
عن مقدرتها على هيمنته فيه. وبالمثل، فإن
الإيديولوجيا الاشتراكية، مثلها كمثل
الإيديولوجيا الإسلامية والإيديولوجيا
الليبرالية، تتطلع هي الأخرى إلى نشر فكرتها
في العالم بأسره. وبالتالي، فليس مما يتناقض
مع تصوراتها أن تتخيل وجود عالم عربي موحد في
ظل الفكرة الاشتراكية. وأخيراً، فإن الفكر
القومي كان أقل الأفكار كلِّية في الثقافة
العربية المعاصرة. ولهذا السبب فقد انفرد
برسم حدود محددة لميدان تحققه، وهو الميدان
الذي تتمتع الثقافة العربية بالهيمنة عليه
بصورة أساسية. ومن ثم فإن هذه الثقافة بجملتها
ثقافة كلِّية تجنبت في خطوطها الرئيسية
التجزئة والتفكك، على الرغم من أن النقص في
الوعي هنا أو هناك كان يظهر بعض الممارسات،
داخل هذا التيار أو ذاك، على أنها ممارسات
جزئية وقطرية وتفككية. ذلك أن الميل الباطن
والجوهري في هذه الثقافة ظل ميلاً كلِّياً
توحيدياً، حتى لو كان هذا الأمر ضمنياً فيها
أحياناً وبصورة لاشعورية أو غير واعية
أحياناً أخرى. وهكذا
فإن الثقافة العربية في خطوطها الرئيسية
ثقافة كلِّية قومية، في حين أن الإنجاز الذي
تمكَّن العرب من تحقيقه تحقيقاً واقعياً هو
"الدولة القطرية" التي أوجدتها
المعاهدات الدولية بعد الحرب العالمية
الأولى في المشرق العربي، بينما ظلت الولايات
العربية العثمانية في شمال إفريقيا خاضعة
لنفس التقسيم في ظل الاستعمار الغربي الذي
ورث ممتلكات الدولة العثمانية في تلك النقطة
من العالم. ومن
هنا ظهر التناقض الثاني التي تخضع له الدولة
العربية القطرية، وهو التناقض بين كلِّية
الثقافة أو قوميتها وبين جزئية الإنجاز أو
قطرية الدولة. وبالتالي أصبحت الدولة العربية
القطرية خاضعة لتناقضين، كلاهما يعمل على
تفكيك كيانها –
وإن كان ذلك الأمر يتم في اتجاهين متناقضين
تماماً. أولهما،
التناقض بين الدولة القطرية وآليات العولمة.
وهذا التناقض المفضي إلى تفكك الدولة القطرية
إلى مجموعات إثنية ودينية وقبلية وطائفية، أي
إلى ذرات صغيرة يسهل إخضاعها وتكييفها مع
متطلبات العولمة ومقتضيات الرأسمالية
العالمية التي تتخذ من العالم مسرحاً لنشاطها. وثانيهما،
التناقض مع الثقافة العربية التي تمتاز
أساساً بأنها ثقافة قومية أو كلِّية. ومطلب
الثقافة العربية، بحكم طبيعتها، مطلب متناقض
تماماً مع وجود الدولة القطرية. فهو الآخر
يريد تفكيكها ولكن في اتجاه معاكس. إنه يريد
تجاوزها في اتجاه الدولة العربية الشاملة.
وبهذا المعنى فإن الثقافة العربية تلعب دوراً
بناءاً في اتجاه تجاوز الدولة العربية
القطرية، لا تفكيكها. إن هذه الثقافة تعلم
جيداً أن البديل عن إيجاد أطر تنسيق تخلق
نوعاً من الاتجاهات الإيجابية نحو العمل
الوحدوي إنما هو تفكك هذه الدولة، وعودة
العرب إلى حياة البربرية والهمجية،
وانخراطهم في سلسلة من الحروب الأهلية التي
لن تنتهي إلا بالقضاء على كل دور استراتيجي
للعرب في هذه المنطقة، وتحولهم بالتالي إلى
مجموعة من القبائل والطوائف والإثنيات التي
ستكون إسرائيل – الكيان الدخيل – أقواها
جميعاً. 1-
وعلى ذلك، فإننا
مضطرون، في ضوء هذا التحليل، إلى أن ننعى
الدولة العربية القطرية لأن شروط إمكان
وجودها أصبحت ممتنعة سواء من حيث أثر آليات
العولمة على هذه الدولة، أو من حيث عجز هذه
الدولة عن تلبية متطلبات الثقافة العربية
التي تشترطها في الدولة العربية إن كانت هذه
الثقافة تريد أن تظل أمينة لنفسها، أي أن تبقى
كلِّية وقومية. وعلى ذلك أيضاً، فإن الثقافة
في هذه الظروف هي التي يجب أن تطرح المثل
العليا التي تسترشد بها السياسة. وهذا يكشف عن
الأهمية المتزايدة لدور المثقف في الحياة
العربية الراهنة، ذلك لأنه المؤتمن على
المستقبل العربي. وما لم يصدق السياسي هذه
الحقيقة ويسترشد بها في إدارة الدولة، فإن
سياسته وإدارته ستنتهي إلى التناقض مع نفسها.
وهو ما سيتمثل أخيراً في انهيار الدولة
وفقدان السياسي لكل دور له، وذلك لأنه سيتحول
في هذه الحالة إلى شيخ قبيلة أو زعيم طائفة أو
لاجىء سياسي يتخفى من أمته بعد أن يكون قد هرب
من الحقيقة التي تضمن له وجوده الإنساني، أي
وجوده بوصفه مواطناً في دولة أولاً وفي أمة
ثانياً. [1]
صادق جلال العظم: "ما هي العولمة؟"
العدد الرابع، 1997م، بيروت، ص30. [2]
إسماعيل صبري عبد الله: "الكوكبة:
الرأسمالية العالمية في مرحلة ما بعد
الإمبريالية"، الطريق، العدد
الرابع، السنة السادسة والخمسون، بيروت،
1997م، ص63. [3]
المرجع نفسه، ص63. [4]
سمير أمين: ندوة العرب والنظام العالمي
الجديد في الكتاب الصادر عن الأسبوع
الثقافي الثالث لقسم الفلسفة بكلية الآداب
جامعة دمشق، دمشق 1998م، ص 34. [5]
عصام الزعيم: ندوة العرب والنظام العالمي
الجديد في الكتاب الصادر عن الأسبوع
الثقافي الثالث لقسم الفلسفة بكلية الآداب
جامعة دمشق، دمشق 1998، ص 39-41. [6]
الاحتكارات
الخمسة الجديدة هي:الاحتكار على
التكنولوجيا، السيطرة على السوق العالمية،
الاحتكارات على وسائل الإعلام والاتصال،
الاحتكار على المواد الطبيعية، الاحتكار
على أسلحة الدمار الشامل. (المرجع نفسه ص44-45) [7]
المرجع نفسه، ص45.
|
|
|