|
قراءة
في كتاب
دين
الإنسان
محمود
منقذ الهاشمي
إن
كتاب دين الإنسان*
للكاتب السوري المعروف فراس السوّاح هو، كما
يشير عنوانه الفرعي، "بحث في ماهيّة الدين
ومنشأ الدافع الديني". يتزامن
صدور هذا الكتاب مع كتاب آخر مهم صدر في العام
نفسه (1994) عنوانه المقدمة في فلسفة الدين لمؤلِّفه
أديب صعب، المختص بالفلسفة وبالدراسات
الدينية، الذي أصدر قبله كتابين هما الدين
والمجتمع و الأديان الحيّة. ولعل
المقارنة بين كتاب دين الإنسان و المقدمة
في فلسفة الدين توضّح لنا جانب الدقة
والتقصِّي العلمي في عمل السوّاح.
يقول
أديب صعب في الفصل الثالث من المقدمة: "الموضوع
الأساسي، المحوري، الأول في الدين هو الله.
ومنه يأتي ويتفرع كل شيء آخر. والله، ليس كما
يظن بعضهم، محور دين واحد أو مجموعة معينة من
الأديان، لكنه محور كل دين. وهو ما يجعل الدين
ديناً أي يعطيه صفته المميَّزة." هنا نجد
الخطأ المنهجي الذي يرتكبه المرء بإسقاطه
المفهوم الذي يتبناه على المفهومات الأخرى،
بمحاولة المرء فهم كل الأنظمة المعرفية
بتلبيسها نظامه المعرفي الخاص. وهكذا إذا كان
مفهوم الله يمثل غير المحدود فليس كل مفهوم عن
غير المحدود هو مفهوم عن الله. وإذا كان لدى
الإنسان، كما يذكر الدكتور صعب مستشهداً
بالفيلسوف الألماني
فريدريش
شلايرماخر، شعوراً بالاتكال على اللامحدود،
فلا يعني ذلك أن المقصود هو الله حصراً، لأن
الله تعالى لا يقتصر على عدم المحدودية، وله
صفات كثيرة. فكما قال
عمانوئيل
كانت: "لئن كان مستحيلاً أن نفرض مثلثاً من
غير أن نفرض وجود زواياه الثلاث، فمن المكن
إنكار المثلث والزوايا معاً. هكذا يستحيل
افتراض الله مع نفي قدرته الكلِّية أو صفة من
صفاته، ولكن لا يستحيل إنكار وجوده وصفاته
معاً." ومن
الممكن للمرء أن يستخدم مصطلح "الواقع
النهائي" the
Ultimate Reality
كما استخدمه هانس كونغ حين قال: "إن كل
الأديان تقدم الإجابة عن سؤال عن معنى
الكلِّية والحياة والتاريخ بلغة الواقع
النهائي الذي يجد نفسه محسوساً في الدنيا
سواء جرى تصوُّره على أنه البعث في (اليهودية)،
أم الحياة الأبدية (المسيحية) أم الفردوس (الإسلام)،
أم موكشة (الهندوسية)، أم الـنرفانا (البوذية)،
أم الخلود (الطاوية)." ولكن ليس بإمكان
المرء أن يقول بأن الموضوع المشترك في كل هذه
الأديان هو النرفانا، أو الفردوس، أو موكشة
أو ما إلى ذلك. بل إن الدقة التمييزية تقتضي
التفريق، لا بين برهمن والله والطاو حين
تختلف المصطلحات وحسب، بل بين المفهومات
المتعدِّدة التي يستخدم لها مصطلح الله نفسه.
فالله بمعنى العِلَّة الأولى عند بعض
الفلاسفة هو غير الله عند المسلمين
والمسيحيين واليهود. وهذا ما أدركه الفيلسوف
المسيحي الفرنسي بليز باسكال حين قال: "أريد
إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب لا إله الفلاسفة." أما
مع فراس السوّاح فحن مع باحث عربي متميِّز
يعمل على دراسة الظاهرة الدينية كما هي، ولا
يحاول أن يخلع على أي دين المعتقدات التي عاش
في رحابها. وإذا كان أديب صعب قد حاول أن جعل
كل دين من أديان العالم شيئاً شبيهاً
بالمسيحية، وحاول أن يقضي على الاختلافات
الأساسية بين الأديان لكي يتسامح معها، فإن
فراس السوّاح يمثل خطوة متقدمة لأنه حاول أن
يدرسها كما هي عليه، لا كما يريدها أن تكون،
واحترم حق كل دين في الاختلاف. وهو، إذ أبرز
جوانب الاختلاف في الأديان، لم يحاول أن
يشوهها. وتلكم هي المهمة العسيرة لأي باحث في
الدين: التقصي الدقيق واجتناب التشويه
واحترام حق كل دين بالاختلاف. والسوّاح يوضح
في مقدمة الكتاب ما يهدف إليه: "إن ما أهدف
إليه هو التعرف على الظاهرة الدينية كما هي،
وعلى حقيقتها، وذلك عن طريق وصفها وصفاً
دقيقاً، وعزلها عن بقية ظواهر الثقافة
الإنسانية الأخرى المتعددة، وهو أمر على قدر
كبير من الصعوبة والتعقيد." ويشير
الكاتب في فاتحة كتابه إلى أنه في محاولته
الابتعاد عن فلسفة الدين، وتاريخ الدين، وجد
نفسه مع أصحاب المنهج الفينومينولوجي، أي
الظاهراتي. ويقول إن الفينومينولوجيا، كما
وضعها، إدموند هوسرل (1859- 1938)، هي طريقة وصفية
في البحث، تبتعد عن النظريات الفلسفية،
وتحاول حدس الظاهرة، كما تبدو لتجربتنا
المباشرة؛ أي وصف طبيعتها وطرق تبدِّياتها
وتعبيراتها عن نفسها. والمؤلّف
تدعيماً لموقفه الفينومينولوجي (الظاهراتي)
يستشهد بفقرة من كتاب علم النفس والدين
للمحلِّل النفسي السويسري كارل غوستاف يونغ.
ويونغ يعلن في بداية كتابه: "إنني أقتصر على
ملاحظة الظواهر وأحجم عن أي استخدام للآراء
الميتافيزيقية والفلسفية." ثم يمضي بشرح
كيف يستطيع، بصفته عالماً نفسياً، أن يحلِّل
الدين من دون استخدام الاعتبارات الفلسفية.
ويدعو وجهة نظره "فينومينولوجية" (ظاهراتية).
أي أنها مَعْنِيَّة بالمجريات والأحداث
والتجارب، وبكلمة، بالوقائع. وحقيقتها واقعة
وليست حكماً. فعلم النفس عندما يتحدث عن
الولادة البتولية، مثلاً، ليس معنياً إلا بأن
هذه الفكرة موجودة؛ لكنه ليس معنياً بمسألة
أن هذه الفكرة حقيقية أم باطلة بأي معنى آخر.
فهي "حقيقية سيكولوجياً بمقدار ما توجد".
و"الوجود السيكولوجي ذاتي بقدر ما تخطر
الفكرة لفرد واحد فقط. ولكنه موضوعي بمقدار ما
يرسِّخه المجتمع – بالإجماع في الرأي". والامتحان
النقدي لهذه المقدمات المنهجية يجعلنا نرى أن
استخدام يونغ لمفهوم الحقيقة لا يمكن الدفاع
عنه. فهو يعلن أن "الحقيقة واقعة وليست حكماً" وأن "الفيل حقيقي لأنه موجود".
ولكنه ينسى بأن الحقيقة تشير على الدوام،
وبالضرورة، إلى حكم لا إلى وصف لظاهرة ندركها
بحواسنا ونرمز إليها برمز كلامي. ثم يعلن يونغ
أن الفكرة "حقيقية سيكولوجياً بقدر ما توجد".
ولكن الفكرة توجد بقطع النظر عن كونها وهماً
أو تنسجم مع الواقع. ووجود فكرة لا يجعلها "حقيقية"
بأي معنى. وحتى الطبيب النفسي الممارس ما كان
له أن يعمل إذا لم يكن معنياً بحقيقة الفكرة،
أي بارتباطها بالظاهرة التي تميل إلى تصويرها، وإلا لما استطاع أن يتحدث عن الوهم
أو النظام البارانويدي paranoid. والذاتية
المتداخلة لا تضمن الحقيقة على الإطلاق.
فهناك الأخطاء الجماعية والهلوسات الجماعية
والأوهام الحسية الذاتية المتداخلة. وعلى
سبيل المثال، كان في بعض الأزمان واضحاً لكل
امرئ أن الأرض مسطَّحة وثابتة، ورغم ذلك كان
هؤلاء الناس على خطأ. إن
مقاربة يونغ غير ممكن قبولها من وجهة النظر
النفسية وحسب؛ فهو يدافع عن وجهة نظر "النسبوية" relativism، التي، وإن
كانت في الظاهر أكثر ودية مع الدين من مقاربة
فرويد، فهي في روحها تتعارض جوهرياً مع أديان
مثل الإسلام والمسيحية والبوذية. فهذه
الأديان تعد الكفاح من أجل الحقيقة فضيلة من
فضائل الإنسان وواجباته الرئيسية وتصر أن
تعاليمها، سواء جاء بها الوحي أم قدرة العقل
خاضعة لمعيار الحقيقة. ولا
يفوت يونغ أن يرى مصاعب موقفه، ولكن الطريقة
التي يحاول بها تذليلها هي لسوء الحظ لا يمكن
الدفاع عنها على حد سواء. فهو يحاول أن يفرق
بين الوجود "الذاتي" و"الموضوعي"
على الرغم من الخاصية الغامضة لهذين
المصطلحين. ويبدو أن يونغ يقصد أن الشيء
الموضوعي أكثر صحة وحقيقية من الشيء الذي هو
ذاتي وحسب. ومعياره لتحديد لفارق بين الذاتي
والموضوعي يعتمد على مسألة هل الفكرة لا تخطر
إلا لفرد واحد أم يؤسِّسها المجتمع. ولكن ألم
نكن نشهد بأنفسنا "الجنون في الملايين"،
جنون جماعات كاملة في عصرنا؟ ألم نرَ أن
ملايين الناس، المقنَّعين بعواطفهم
اللامعقولة، يمكن أن يؤمنوا بأفكار لا تقل
وهماً وانعدام عاقلية عن منتجات فرد مفرد؟ أي
معنى للقول إنهم "موضوعيون"؟ إن روح هذا
المعيار للذاتية والموضوعية هي روح النسبوية
التي أشرت إليها آنفاً. وعلى نحو أكثر تخصُّصاً، إنها النسبوية السوسيولوجية التي
تجعل القبول الاجتماعي لفكرة هو معيار صحتها
أو حقيقيتها أو"موضوعيتها". والحقيقة
هي أن فراس السوّاح، على الرغم من استشهاده
هنا بيونغ، هو أقرب هنا إلى نسبيّة أينشتاين
منه إلى الفلسفة النسبوية التي تميِّع مفهوم
الحقيقة بإنكارها المطلق للموضوعية
الإبستمولوجية، وتخلّيها عن الكفاح لجعل
رؤيتنا أوضح وأشمل وأدق بالتدريج، وريائها
الاجتماعي بقبولها المؤقّت الانتهازي للفكرة
التي تحظى برضى المجتمع. ولعل الدرس المهم
بهذا الصدد الذي استخلصه المؤلف من دراسته
للفيزياء الحديثة هو أن "القوانين كما
يلمسها الفيزيائيون اليوم، ليست إلا ابتكاراً
ذهنياً يساعد على رسم خريطة للحقيقة
ولكنها لا ترسم الحقيقة نفسها". وهذا الدرس
قد يساعد المرء على التخلص من الدوغمائية،
ومن التفاؤلية الساذجة التي تعتقد بامتلاكها
للحقيقة المطلقة، وهي في الواقع لا تعبِّر عن
غير خضوعها للنماذج السائدة المتخندقة أو الـ"باراديغمات"
Paradigms. والكاتب
يميز، متَّبعاً وليم جيمس، بين "حكم الوجود"
و"حكم القيمة"، ويعلن أنه يتبنى في كتابه
حكم الوجود، ويترك حكم القيمة (ص12)،
ويقول إنه "في المناهج الحديثة لدراسة أي
موضوع، هناك تمييز بين ثلاث مراحل للتقصي؛
ففي المرحلة الأولى نبحث في طبيعة الموضوع،
وفي الثانية في كيفية نشأته وعن ماذا، وفي
الثالثة في معناه وأهميته ودوره" (ص 312). وهو
يعلن أنه ملتزم بالمرحلتين الأولى والثانية
ولكنه غير عابئ بالثالثة، ويقول: " أما
التقييم وإصدار الأحكام فأمر لا يعنى به
منهجنا الذي التزمناه" (ص 312). وسنرى بعد
قليل هل كان وفياً لمنهجه أم لا؟ ويقر
المؤلف بفضل بعض العلماء عليه في توسيع آفاق
البحث في الدين. وأود أن أذكر منهم في هذا
الصدد عالم الاجتماع إميل دوركهايم
الذي
يرى أن "أي تعريف للدين يجب أن ينطبق على
جميع الديانات، من أكثرها بدائية إلى أكثرها
تطوراً وتعقيداً. ولكي نستطيع صياغة مثل هذا
التعريف، ينبغي لنا أن نبحث عما هو مشترك بين
الديانات المعروفة جميعاً، ونسقط من حسابنا
تلك الأفكار والمعتقدات التي يختص بها دين
دون آخر". ويورد المؤلف نقد دوركهايم
لتعريف فريزر للدين لأنه يقصر الدين على
الممارسات التي تتضمن توسُّلاً لكائنات
ماورائية تسمو على الإنسان ويقول: "ويرى
دوركهايم أن أمثال هذا التعريف تلقى قبولاً
في الغرب، بسبب مطابقتها من حيث الأساس
لمفهوم الدين المسيحي، ولكنها لا تنطبق على
أديان عدة واسعة الانتشار لا تدور معتقداتها
حول أرواح آلهة من أي نوع، أو أن هذه الكائنات
لا تلعب فيها إلا دوراً ثانوياً جداً.
فالبوذية مثلاً قد شقت لنفسها طريقاً مستقلاً
عن البرهمانية في الهند، انطلاقاً من رفض
فكرة الإله. فهي نظام أخلاقي من دون مشرِّع،
وإيمان من دون إله". وأوضح
مؤلف دين الإنسان من خلال الأدلة
الأركيولوجية أسبقية فكرة القوة السارية في
الكون لفكرة الألوهة المشخَّصة (ص 219-220).
والقوة وفق فهم الإنسان الأول لها ليست
كائناً ذا إرادة وتدبير، بل سيَّالة غفلة
تسري في الطبيعة، وتفعل فيها دونما حسن
أخلاقي بالخير والشر بمفهومهما الإنساني
المعتاد (ص 157). وقد تولدت أولى الأفكار
الدينية عند الإنسان الأول من إحساسه بحضور
بعد آخر للوجود يتخلَّل عالمنا ويفارقه في
الآن نفسه (ص 152). وقد برهن السوّاح أن صورة
الإله المشخَّص لم تكن أبداً بديهية من
بديهيات العقل الإنساني، بل تكوَّنت عن أفكار
دينية أسبق منها، ومعتقدات تدور حول الألوهة
غير المشخَّصة؛ حول القوى الغفلة التي تكمن
في جذور الدين (ص 227- 228). ويحذرنا
المؤلف من آفة إسقاط معتقدنا وأفكارنا على
معتقدات الآخرين قائلاً: "علينا منذ الآن
أيضاً أن نتخلى عن أطر تفكيرنا الحالية
والطريقة التي نرى بها إلى الدين من خلال
ثقافتنا الخاصة، لنكون أقدر على فهم واستيعاب
ثقافات بعيدة ومغايرة دون أن نسقط ما نعرفه
على كثير مما لا نعرف، وهي آفة يتصف بها الفكر
الحديث إجمالاً." ويسوق المؤلف أمثلة كثيرة
على هذا الضلال الذي ينجم عن هذه الآفة، ومن
أبرزها أن أول سؤال يطرحه الأنثروبولوجيون
التقليديون على أنفسهم وهم يشرعون في دراسة
شعب ما، هو "ما هي الآلهة التي يعبدونها؟"
فإن لم يجدوا آلهة بالمعنى الذي يفهمونه،
ابتكروا آلهة تتفق مع مفاهيمهم الخاصة عن
الدين والآلهة. ومن ذلك مثلاً ما وجده
الدارسون الأوائل لدين الهنود الحمر في
أمريكا الشمالية من مفاهيم غريبة عنهم مثل
مفهوم الواكوندا، وهي قوة كونية كبرى لا
تتمثل في شخصية إلهية من أي نوع، بل تنبت في
الكون وتفعل في داخله، فأطلقوا عليه مصطلح
"الروح الكبرى" واعتبروها بمثابة كبير
الآلهة (ص 130). وعندما
يتحدث عن الطاو – وهو المبدأ
الكلي المجرَّد عند طائفة من الصينيين –
يميز بينه وبين مفهوم الله ويقول: "إن
الفارق الجوهري بين الطاو والمفهوم الغربي أو
الشرق-أوسطي عن الإله الخالق، هو أن الإله
يبدع الكون ويصنعه وفق إرادة وخطة مسبقة. أما
الطاو فيبدعه تلقائياً دونما تدبير وتخطيط،
والكون ينشأ عنه كما تنشأ النبتة من الأرض". ولا
يتوقف المؤلف عند لفظة المصطلح، بل ينقِّب عن
دلالتها في هذه الثقافة أو تلك. ومن ذلك مثلاً
أنه وجد أن المفهوم "الذي صنعه الأفريقيون
لأنفسهم عن الله مختلف تماماً عن المفاهيم
السائدة في أكثر الحضارات الكبرى. فهم لا يرون
فيه صانعاً للأخلاق ولا يعتبرونه الخير المحض
في مقابل الشر، ولذا فإنه لا يجزي ولا يعاقب
ولا يمتلك مفاتيح جنة أو نار". ويلتفت
المؤلف إلى نقطة هي برأي بالغة الأهمية لأن
عدم الالتفات إليها قد يفصل المرء كثيراً عن
الحقيقة. وهذه النقطة هي إمكانية تأثير
الديانات الأحدث بالديانة الأقدم، لا أن
يعميه قدم القديمة عن رؤية سير التاريخ
فيتوهم العكس. فاليهودية والمسيحية قد ظهرتا
قبل الإسلام، لكن ذلك لا يمنع أن تكونا قد
تأثرتا ببعض أفكاره في بعض مراحل التاريخ.
والدارس لتاريخ الفكر الهندي يجد أن البوذية
قد تركت آثارها في الهندوسية على الرغم من
أنها قد ظهرت بعدها. والمثال الذي يسوقه
المؤلف هو أن "الشعوب التي تسكن القسم
الغربي من النيجر والقسم الشمالي من نيجيريا،
لها ديانة أفريقية ضاربة في أعماق التاريخ
الأفريقي،
تدور حول الجن والأرواح والأسلاف
المؤلَّهين، إلا أنهم يعتقدون بإله خالق يقيم
في السماء السابعة ويدعونه باسمه العربي:
الله. كما توجد لديهم عبادة سرية تدور حول
كائن شيطاني اسمه إبليس، باللفظ العربي
أيضاً، وكذلك عبادة للملائكة بالاسم العربي
ذاته. إلا أن كل هذه العبادات قد احتفظت بطابع
زنجي أفريقي ودخلت في نسيج الديانة المحلية
إلى درجة لا تلفت النظر إلى مصدرها الحقيقي،
لولا احتفاظها بالأسماء العربية الإسلامية.
من هنا، فإن أي دارس مزوَّد بوجهات نظر مسبقة
حول التوحيد لأصلي "سوف يحاول إرجاع هذه
الأفكار شبه التوحيدية إلى معتقدات قديمة
متجذِّرة في الدين الأفريقي، من دون أن يتقصى
مصادرها وأصولها التاريخية" (ص 233). وبينما
يعتقد أديب صعب في المقدمة في فلسفة الدين
أنه "ليس هناك أي دين من دون أخلاق" يرى
فراس السوّاح أن الأخلاق والدين من حيث
المبدأ "مفهومان متمايزان كل التمايز
بالرغم من ما يبدو من صلتهما الوطيدة. فالدين
عبارة عن معتقدات وممارسات تنظِّم سلوك
الإنسان تجاه عالم المقدَّسات وتزوِّده
برؤية شمولية للكون وموضع الإنسان في هذا
العالم. أما الأخلاق فهي قواعد وممارسات تنظم
سلوك الأفراد بعضهم تجاه بعض وتجاه الجماعة
التي يشكِّلون أعضاءها" (ص 71). و"الأصل في
الأخلاق استقلالها عن الدين" (ص 72). وإذا
ارتبطت الأخلاق ببعض الأديان، فهذا الارتباط
برأيه ليس مسألة حتمية في تاريخ الدين. "ففي
المجتمعات التي تعطينا صورة عن المراحل
المبكرة من تطور الحضارات الكبرى، نجد في
الأخلاق شأناً دنيوياً تنظمه الأعراف
السائدة دونما مؤيِّد من قوة قدسية ما. ففي
أفريقيا السوداء على سبيل المثال تقوم
الأخلاق في المجتمعات الزنجية كشأن ملحق
بالتنظيم الاجتماعي دونما رابط يلحقها
بالدين أو مؤيِّد يأتي من قبل الآلهة" (ص 72).
غير أن المؤلف يذكر أنه يمكن العثور لدى
المجتمعات البدائية على ما يشبه الأخلاق
الدينية، وذلك في مؤسسة "التابو" التي
يمكن أن تشكل نقطة اتصال فيما بين الأخلاق
الاجتماعية والأخلاق الدينية، ونستطيع أن
نتبيَّن فيها الأخلاق الدينية بشكلها
الجنيني (ص 73). ويفترض ببعض الثقة أنه "عند
مرحلة معينة من تطور المجتمعات القديمة،
اتسعت دائرة التابو لتستوعب تدريجياً بعض
الأخلاق التي كانت حتى ذلك الوقت شأناً
دنيوياً تنظمه الأعراف القبلية، في الوقت
الذي أخذت فيه التحريمات القديمة تفقد سطوتها
مع تغيُّر المفاهيم الدينية" (ص 75). ولكن
المؤلف، على الرغم من هذا الجذر التاريخي
العميق للأخلاق الدينية، يصر على أن الأخلاق
والتشريع – الذي هو جزء من الأخلاق العامة
وقد تم تأييده بالعقوبات التي تفرضها السلطة
السياسية – إنما هما عاملان ثانويان في الدين
وليس لهما دور أساسي في تكوينه (ص 70). ولا يخفي
المؤلف تفضيله لانفصال الأخلاق عن الدين،
ولأنْ تكون الأخلاق نابعة عن الفهم السليم
للعلاقات المتبادلة بدلاً من المعتقد الديني
المشترك. يقول: "إلا أن العلاقة المعقدة بين
الدين والأخلاق تبدأ عندما تتعلق المشروعية
الخلقية بمؤيِّدات تنبع عن المعتقد الديني
المشترك، بدل أن تتعلق بالفهم السليم
للعلاقات الإنسانية المتبادلة" (ص 72). وبنية
الدين عنده تتألف من "مكونات أساسية هي
المعتقد، والطقس، والأسطورة، وأخرى ثانوية
هي الأخلاق والشرائع" (ص 311). والأخلاق برأيه
ثانوية، لا لأنها قليلة الشأن بل لأن وجودها
لم يكن في أصل الدين. وهناك أديان لا توجد فيها
أخلاق. والمثال البارز على انفصال الأخلاق عن
الدين يقدمه المؤلف من الصين. يقول: "أكد
المفكرون الصينيون الطابع الدنيوي للأخلاق
والشرائع، ونشأ في الصين فكر أخلاقي دنيوي
وضع أسسه عدد من المفكرين الكبار وعلى رأسهم
كونفوشيوس" (ص 83). وإن
المرء ليتساءل: هل ضاق تعريف فراس السوّاح
للدين إلى حد لا يتسع للكونفوشيوسية، وقد
اتسع حتى لأقدم أشكال الدين وأبعدها عن
الحضارة؟ إن كونفوشيوس رجل فكر حقاً، ولكنه
رجل دين في الوقت نفسه، وتعاليمه تعاليم
دينية تطالب بالمحافظة على النظام الكوني
ومعه على عالم القيم الإنسانية. و"الإنسان
المثالي" في الكونفوشيوسية يتمثل بأنه
السيد الكونفوشيوسي الذي يدرك طريق السماء.
وإذا كانت الأخلاق الدينية عند كونفوشيوس لا
تتخذ طابع الأوامر الإلهية كالأديان
الإبراهيمية فهذا لا يعني أن النظام الأخلاقي
عنده نظام دنيوي غير مرتبط بالدين والرؤية
الكونية. إن الرد على هذا المثال موجود في
موضع آخر من كتاب فراس السوّاح نفسه. يقول: يرى
كونفوشيوس، وهو أكثر العقول تأثيراً في الصين
القديمة، أن إرادة السماء إنما تعمل من خلال
عناية متضمنة في صلب نظام الطبيعة. يقابل هذا
النظام الطبيعي عنده نظام آخر يسود على
المستوى الإنساني المجتمعي هو القانون
الأخلاقي. من هنا فإن انسجام الفرد مع إرادة
السماء الفاعلة في الطبيعة لن يتحقق إلا
بمراعاة النظام الأخلاقي الذي يشكل انتهاكه
خطيئة بحق السماء. (ص 237) إنني
هنا أختلف مع المؤلف وأرى أن الأخلاق أساسية
في الدين، وليست ثانوية. إن الأخلاق هي حقل
الواجبات. فقد تضيق الواجبات فتقتصر على أن
تكون تجاه المعبود، وقد تتسع لتشمل المجتمع،
وقد تتسع أكثر لتشمل العالم والكون بأسره،
بحيث يصبح الإنسان مسؤولاً عن عمله تجاه
الطبيعة وكل شيء. وقد تكون الواجبات
الأخلاقية استبدادية متعسفة، وقد تكون
إنسانية تؤيدها الدراسات العلمية لحاجات
الفرد والمجتمع والحياة. ولكن ليس ثمة دين إلا
ويستثير "عاطفة ما ينبغي فعله". وقد كانت
للأديان أجوبتها حول كيف يجب أن تكون علاقة
الإنسان بينه وبين نفسه، وبينه وبين المجتمع،
وبينه وبين الطبيعة والكون. وتفضي
بنا هذه المناقشة إلى مناقشة ديانة أخرى من
ديانات الشرق الأقصى وعلاقتها بالأخلاق هي
ديانة الشينتو في اليابان. يذكر المؤلف أهمية
الطبيعة والطقس في الشينتو، ويشير إلى أن
مفهوم "الكامي" الذي يرى فيه "الياباني
المبدأ الكلي الأقدس المحيط بظواهر الكون
جميعها، ليس ألوهة مفارقة متمايزة عن خلقها،
بل هو الخميرة الفاعلة في صميم الكون".
ولكنه لا يقدم إلا نظرة أحادية الجانب إلى
الشينتو لا يظهر فيها غير الوجه الإيجابي.
يقول: "من هنا تأتي قدسية حياة الإنسان،
والاحترام الكبير الذي يكنُّه كل ياباني
لحياة الفرد الآخر وشخصه وحقوقه الأساسية.
فكل عضو في الجنس البشري، بصرف النظر عن عرقه
وقوميته ومواطنيَّته، يحمل قبساً من القداسة
المستمدة من الكامي" (ص 235). ومن المعروف أن
الشينتو هي إحدى ديانات اليابان وليست ديانة
كل ياباني. ففيها إلى جانب الشينتو البوذية
والطاوية وبعض الكونفوشيوسيين والمسلمين
والمسيحيين. وينبهنا الباحث الياباني
دايساكو إكيدا إلى أن للشينتو وجهين: فالنزعة
الصريحة في أحد الوجهين هي التوافق مع
الطبيعة؛ والنزعة الضمنية هي على العكس
الانعزال والاستبعادية. لقد تعايشت
الشينتوية مع البوذية لا سلمياً وحسب بل
تعاونياً كذلك. صحيح أنها افترضت أصلاً وجود
كرامة لكل موجود في الطبيعة، لكنها افتقرت
إلى مجموعة فلسفية من المفهومات التي تعلل
تلك الكرامة. ولافتقارها هذا داخَلَتْها
نزعات قومية شوفينية. فهي قائمة على الارتباط
الانفعالي بالطبيعة التي كان أسلاف الشعب
الياباني في حالة ألفة معها؛ والأسلاف يصبحون
الوسطاء بين الإنسان والطبيعة. وكان التجلي
المتطرف للإيديولوجيا الشينتوية هو الإيمان
بما يسمى "الأمة الإلهية". ويقول إكيدا:
"وأوضح مثال على ما أقصده هو التأييد
السيكولوجي الذي أعطاه الشينتو لفكرة
الإمبريالية اليابانية من أواخر القرن
التاسع عشر حتى نهاية الحرب العالمية الثانية.
ورغم أن العلاقات الرسمية قد انتهت والرمزية
الروحية للشينتو قد فقدت قوتها بعد الهزيمة
اليابانية، فإن تأثيرها لم يزل كلياً". إن
هذه الملاحظات وغيرها يجب ألا تقلل من قيمة
الجهود الكبيرة التي قدم بها المؤلف تحليلاته
لمختلف الأديان والمعتقدات، بدءاً من العصر
الحجري وانتهاء بعدد من الديانات الكبرى،
والتي اتسمت بالوضوح وحسن المقارنات والرجوع
إلى المظانّ الأصلية والدراسات التخصصية ما
أمكن ذلك، بفكر هادئ رصين. على أن ذلك لا
يجعلها فوق النقد البتة. وبما أن البحث في
الظاهرة الدينية لايزال جديداً في ثقافتنا
العربية، فليس بالمدهش أن يعثر المرء على
تقصير أو خطأ هنا أو هناك. وإن المرء ليشعر
بالإعجاب في بعض الأحيان، ولاسيما في تحليله
للهندوسية ومقارنتها بالتصوف الإسلامي. وفي
فصل "إله المتصوفة" يتحدث المؤلف فيما
يتحدث عن تشخيص الألوهة وتجريدها في فكر ابن
عربي، أو، بالمصطلح الصوفي، تشبيهها
وتنزيهها، وكيف أنهما يتلازمان عنده. ويورد
أن ابن عربي وجد في القرآن الكريم الكثير من
الآيات التي تقرن التنزيه بالتشبيه، ومنها:
"ليس كمثله شيء وهو السميع البصير".
ويعلق بقوله: "ففي قوله تعالى "ليس كمثله
شيء" تشبيه، وفي قوله "وهو السميع البصير"
تنزيه". وواضح أن الأمر هو على النقيض
تماماً –
اللهم إلا أن يكون الأمر نتيجة خطأ مطبعي. إذ
في قوله "ليس كمثله شيء" تنزيه لأنه
ينزِّهه عن الشبه بأي شيء، وفي قوله "وهو
السميع البصير" تشبيه لأنه يشبِّهه بشخص له
حاسة السمع وحاسة البصر! على
أن المؤلف يستحق الثناء للدرس الثمين الذي
استخلصه من الفكر الصوفي في الإسلام وهو "أن
تصور الله في صورة ما، وصنع منحوتات له ورسوم،
ليس الفيصل في التفريق بين التنزيه والتشبيه،
لأن الصورة الفكرية لله قد ترفع في بعض
الأحيان وثناً ذهنياً يفوق في صلابته أي وثن
مصنوع من الجلمود. بل ربما فتحت الصورة
الحجرية آفاق الذهن والروح إلى ما وراء الحجر
الذي قد يشف عن أكثر المعتقدات تنزيهاً، في
الوقت الذي تصير فيه الصورة الذهنية لله إلى
ما هو أقسى من الصخر..." (ص 292). وأهم
ما في تحليله للبوذية شرحه للاختلاف بين
مفهوم "الكارما" في الهندوسية ومفهومها
في البوذية. فالهندوسية ترى في كل فرد جوهراً
ثابتاً هو النفس، وهذا الجوهر الثابت هو الذي
ينتقل من جسم إلى آخر. أما البوذية فلا ترى "في
الفرد، إلا تجمعاً مؤقتاً لعدد من المسببات
التي يدعوه اجتماعها إلى الوجود في هذا
العالم مدة ما، والتي تجعله يشعر بأناه
وشخصيته المتميزة". أما بعد الموت، على ما
جاء في الكتاب، فلا يبقى من الإنسان سوى
أعماله، في حين أن الفرد يفنى تماماً، ولا
يمكن القول بأنه يستمر. وهذا غير صحيح، لأن
البوذية، على الرغم من تركيزها على الأعمال
ونقدها لانتقال الجوهر الثابت بعد الموت من
دون الأخذ في الحسبان العوامل التي تؤثر في
تكوين الشخصية، تعترف ببقاء شيء من الثبات
النسبي للذات. أما
الخطأ الكبير الذي ارتكبه المؤلف في شرحه
طريق الخلاص البوذي فهو قوله إن "طريق
الخلاص يسير في اتجاه مغاير لاتجاه العقل،
إنه طريق اللاعقل أو اللافكر على حد تعبير
الطاوية". إن النظرية البوذية تؤكد أن
السبيل إلى النرفانا يمر بعدة مراحل هي: مرحلة
شومون (وتعني حرفياً سماع الأصوات)، وتدل
على اكتساب المعرفة العقلية لإدراك الحقائق؛
ثم مرحلة إنفاكو، وتعني أن يكون المرء
متنوِّراً بالظواهر المحيطة. وهذا يشمل حالة
الحياة التي يجد فيها المرء السرور في الحصول
على نوع من التنوُّر بملاحظة الظواهر الكونية
والطبيعية. إلا أن أفراح شومون و إنفاكو
متمركزة حول الذات. وبعدهما مرحلة بوساتسو
أو حالة الـبودهيساتفا هي حالة الإيثار –
الفرح بسعادة الآخرين. والمرحلة الأخيرة هي بوتسو
أو الحالة "البوذوية": هي حالة النرفانا
التي لا يتم الوصول إليها إلا نتيجة الممارسة
في الـبودهيساتفا. والبوذوية تُعرَّف
بأنها "السعادة المطلقة التي لا تتيسّر إلا
للفرد الذي ينفذ إلى الحقائق الجوهرية
الكامنة في الحياة والكون ذات الشمول الكلي (فالحقائق
التي يتم الوصول إليها في الـشومون والـإنفاكو
لا تكون إلا جزئية) والذي يحقق الوحدة مع
الكون والحياة ذات الشمول الكلي". وواضح
في الكتاب أن المؤلف يود أن يترك القارئ حراً
في اتخاذ أحكام القيمة التي يريدها، متجنباً
الخوض في هذه المسألة الشائكة المرهقة التي
قد تسبب الكثير من المتاعب بالنظر إلى اختلاف
مشارب الناس وتعدد مواقفهم الفكرية. على أن
البحث في القيمة يظل ضرورياً للغاية. فقيمة أي
دين هي علَّة وجود، والمرحلتان الأولى
والثانية من البحث مهمتان بمقدار ما تمهدان
للمرحلة الثالثة. ويبدو لي أنه قبل البحث في
القيم لابد من البحث في الأساس المشترك لها،
وهو أمر يخرج عن غاية الكتاب. ولكن المؤلف لا
يتقيد بما ألزم نفسه به من عدم إصدار أحكام
القيمة. ولعل أبرز هذه الأحكام هو حكم القيمة
الذي يبدأ منذ العنوان "دين الإنسان"
والذي يذهب إلى أن أديان الإنسان من العصر
الحجري إلى أحدثها دين واحد لأنها متساوية في
الحقيقة والقيمة. وعنده أن "دين الإنسان"
لا ينقسم إلى أديان دنيا وأديان عليا، بل
يطالعنا، أنَّى بحثنا عنه، بتنوع وغنى
الثقافات المختلفة وخصوصيتها. ويقول: "من
هنا، فإن الأديان كلها تقف على قدم المساواة،
وتتمتع بدرجة واحدة من المشروعية، حيث لا
وجود لأديان حقيقية وأخرى زائفة، لأديان
راقية وأخرى منحطة، لأنها جميعاً نتاج تلك
التجربة الحقيقية الصلبة، والشرط المعطى
للوجود الإنساني". وهو ينفي أي جديد قدَّمه
أي دين على المفاهيم الدينية للعصر الحجري
قائلاً: "المعتقد الديني الإنساني واحد في
أساسه وأصوله. إن بضعة الآلاف من السنين التي
قضاها الإنسان المتحضر وهو يفلسف معتقده
الديني فيصبه في هذا القالب النظري أو ذاك، لم
يؤدِّ به إلا إلى قول الأشياء القديمة نفسها
وفق صيغ جديدة ظن بها تقديم الجديد، وما هو
بالجديد". وهو يناقش القيمة في ردِّه على
واليس بدج حول تقويمه للاعتقاد بقوة غفلة
سارية فيقول: "وإنني لأتساءل، أمام استغراب
هذا الباحث اللامع، عن الفرق بين الإيحاء
لقوة قدسية شمولية غير مشخَّصة بإحداث
النتائج التي يرجوها "الإنسان" وبين
استجداء كائن إلهي شخصي ذي إرادة وأهواء
ورغبات من أجل إحداث النتائج نفسها! ولماذا
يكون الاعتقاد بالآلهة التي ليست إلا صورة
متفوقة عن البشر اعتقاداً حضارياً راقياً؟"
وفي موضع آخر نجد المؤلف الذي ساوى بين كل
الأديان من حيث القيمة قد خالف نفسه حين عبَّر
عن تفضيله للأديان البدائية بتسامحها
وسلميَّتها على الأديان المتأخرة باضطهادها
للمعتقدات التي تخالفها ومحاربتها الهراطقة،
وحروبها الشاملة ضد الشعوب الأخرى، وتساءل
عمَّن يستطيع القول "إن الأديان المتأخرة
التي يمتلئ تاريخها بالاضطهاد وملاحقة
الهراطقة والحروب الشاملة ضد الشعوب الأخرى
هي أكثر تطوراً من الأديان "البدائية"
التي تتسم بالتسامح مع كل المعتقدات؟" وهنا
يتيح المؤلف المجال للمفاضلة بين الأديان على
أساس القيم؛ والسبيل هو دراسة تاريخ الأديان.
إلا أنه في موضع آخر يشير إلى تجارب دينية
أنضج من تجارب "البدائيين" وذلك حين
يعتبر أن الدين، الذي نتج حسب رأيه عن وعي
الإنسان الأول، قد وصل إلى أنضج أشكاله في
أديان الهند والشرق الأقصى. هو ذا يقول: "ولقد
أنتج هذا الوعي الغيبي الكلاني معتقدات
المجال القدسي والقوة السارية في ثقافات
العصر الحجري، والثقافات البدائية وكل
أشكالها الأنضج في الحضارات الكبرى للهند
والشرق الأقصى". ويبدو أنه علينا أن ندرس
تاريخ الأديان في هذه الحضارات للتحقق من حكم
القيمة هذا. وكيف يوفِّق بين حكم القيمة هذا
ونفيه للتطور الديني في كل الكتاب؟ إن
المؤلف يقرر أن الدين ظاهرة "لا تخضع لتطور
ولا تسري عليها قوانين الارتقاء"، ولذلك
"يجب أن نعثر على هذه الأفكار والمفاهيم في
صلب وأساس كل المعتقدات الدينية للإنسان،
بصرف النظر عن الزمان والبيئة والمكان" (ص
177). وهو في موضع آخر يقول: "الدين ظاهرة
ثقافية لا تخضع لمعايير التطور، شأنه في ذلك
شأن الفن." ولكن لماذا ينفي التطور عن
الثقافة والفن والدين؟ يبدو أن المؤلف يخلط
بين التطور و"النزعة التطورية" التي
ظهرت في القرن التاسع عشر والتي "حاولت
تفسير الظواهر الاجتماعية والبيولوجية
باعتبارها ارتقاءً في خط مستقيم من الأدنى
إلى الأعلى، بحيث يفضي الشكل الأدنى السابق
إلى شكل أرقى لاحق". فالسبب الوحيد الذي
رأيته في الكتاب لرفضه مفهوم التطور وشجبه له
هو سوء الفهم هذا. ولكن التطور لا يعني
بالضرورة الانتقال إلى الأحسن، سواء
بالمفهوم الأخلاقي أم الجمالي. فالتطور يعني
التغير النشوئي عبر الزمن، وهو يتأثر
بالعوامل الداخلية والخارجية. والأحكام
الأخلاقية والجمالية التي نطلقها على
التغيرات التي هي خاضعة للتطور أيضاً. فما كنا
نعدُّه ضاراً قد نكتشف بعدئذ أنه نافع؛ وما لم
يكن يعجبنا من الفنون في زمن مضى قد يصبح محط
إعجابنا في زمن آخر؛ وأي تغير نشوئي نوعي يكون
تدريجياً، يحدث قليلاً كل مرة. ولا يمكن أن
تظهر التغيرات الرئيسية إلا بتجمع الخطوات
الصغيرة. ومن المعروف للمشتغلين بالتاريخ
الفني أن قضية التطور بالغة الأهمية عندهم. ويبدو
أنه على الرغم من رفضه الحاسم لمفهوم التطور
الديني – لأنه اختلط عنده مع "النزعة
التطورية" – لم يسلم من التناقض في بعض
مراحل الكتاب. ولنلاحظ، مثلاً، هذه الفكرة
التي عبر عنها بقوله: "إن كل ما أستطيع قوله
هنا هو أن الحياة الروحية المتطورة نسبياً
لإنسان النياندرتال اللاحق لا يمكن أن تكون
انبثقت فجأة من العدم، بل لابد من وجود جذور
لها في ذلك القاع السحيق للثقافة الإنسانية."
أي لم يكن لهذا التغير الرئيسي أن ينبثق إلا
بتجمع الخطوات الصغيرة. وإذا كان تطور الدين
قد حدث مرة فإن هذا ينفي استحالة حدوثه فيما
بعد. بل إن المؤلف نفسه قد ناقض نفسه مرة أخرى.
والمثال الذي سأذكره هو تعليله لنشوء القواعد
الأخلاقية الدينية متطورة عن "التابو":
"من هنا أستطيع أن أفترض، ببعض الثقة،
بأنه، عند مرحلة معينة من تطور المجتمعات
القديمة، اتسعت دائرة التابو لتستوعب
تدريجياً بعض القواعد الأخلاقية التي كانت
حتى ذلك الوقت شأناً دنيوياً تنظمه الأعراف
القبلية" (ص 75). وأود
أن ألفت النظر إلى مسألة جديرة بالاهتمام هي
أن الدين لا يتوقف عن التطور بمجرد ظهوره.
فنصوصه القديمة تتجدد بالنصوص الجديدة.
والأعمال والنصوص، وإن تناقلها الناس اليوم
كما تناقلوها بالأمس، تتغير معانيها
بالتفسيرات الجديدة. وكثيراً ما تبدو مسألة
الدين الأقدم والدين الأحدث مضلِّلة إلى أبعد
الحدود. فالإسلام، مثلاً، قد ظهر بعد
المسيحية، ولكن الإسلامين السُنِّي والشيعي
أقدم بكثير من حركتي الإصلاح البروتستانتية
والكاثوليكية. كما أن التطور في هاتين
الديانتين لم يتوقف بعد ذلك، وحركة "الحداثة"
modernism في الكثلكة
مثال واضح عليه. ولقد
هاجم المؤلف، مقتدياً بهوسرل، الإرجاعية reductionism
السيكولوجية، التي يحاول علماء النفس من
خلالها إرجاع كثير من الظواهر (ومنها الظاهرة
الدينية) إلى الظاهرة النفسية (ص 13). والمؤلف
لا يرفض الإرجاعية السيكولوجية وحسب، بل
ويرفض أي شكل من أشكال الإرجاعية، برفضه
تفسير الدين بإرجاعه إلى نظام معرفي آخر، أو
تقليصه إلى ظاهرة أدنى منه، يقول: "ويستخدم
هذا الموقف الإرجاعي، عادة، صيغة تقريرية
تقول: "إن الدين ليس إلا... كذا. بذلك تنتهي
مشكلة الدين لتبدأ مشكلة الكذا الذي تم إرجاع
الدين إليه، وتغيب الظاهرة الدينية في ركام
النظام الآخر الذي أحلنا الظاهرة الدينية
إليه، باعتبارها ناتجاً ثانوياً من نواتجه،
لا يتمتع بخاصية متفردة". وانطلاقاً من هذا
الموقف القطعي الحاسم يرفض المؤلف إرجاع
الدين إلى أية حاجة نفسية، سواء أكان دافعها
الخوف أم الرغبة. لذلك فهو يرفض موقف فرويد
الذي أعاد الدين إلى حاجة الإنسان إلى الأب.
فمن المعروف أن للدين عند فرويد أصله في ضعف
الإنسان في مواجهة قوى الطبيعة خارجه والقوى
الغريزية في داخله. وهو، في مواجهته للقوى
الخطرة التي لا يمكن له التحكم بها وفهمها في
داخل نفسه وخارجها، يتذكر، إن صح القول،
وينكص إلى الخبرة التي عاشها وهو طفل، حين كان
يشعر بحماية الأب الذي يعتقد أنه ذو حكمة وقوة
متفوقتين، والذي يستطيع أن يكسب محبته
وحمايته بطاعة أوامره وتجنب مخالفة نواهيه.
كما يرفض المؤلف النظرية العاطفية في نشوء
الدين التي تُرجِع الدين إلى خوف الإنسان من
الموت، الذي هو منتهى مخاوفه، وإلى طمعه في
الخلود، الذي هو منتهى أطماعه. إلا
أن القارئ يفاجأ في خاتمة الكتاب بأن المؤلف
قام هو نفسه بتلك الإرجاعية السيكولوجية التي
رفضها، بإرجاع الدين إلى حاجة نفسية، إلى
التوازن بين ما أسماهما "وعي الصحو" و"وعي
الغيب"، وذلك "لكي يشعر باستقلال كاف
يساعده على التعامل بكفاية مع محيطه وبيئته
وتنمية تقنياته المختلفة، ولكي يؤمِّن في
الوقت نفسه حالة توازن نفسي وروحي مع الكون"
(ص 390). والدين، كما يرى المؤلف، هو "الحالة
المثلى للتوازن مع الكون". بل إن المؤلف
يُرجِع مفهوم الله، أو الإله المشخَّص، إلى
عملية سيكولوجية من تلك العمليات التي رفض
بشدة إرجاع الدين إليها –
وهذه العملية هي التسوية السيكولوجية بين
شطري الوعي. ويقول: "غير أن نمو وعي الصحو
على حساب وعي الغيب، ومقابلة الكلانية
الوجودية بموقف تجزيئي، وفكر تجزيئي يصدر عن
وعي الصحو أكثر من صدوره عن وعي الغيب، قد أدى
إلى الظهور التدريجي للإله المشخّص، الذي كان
بمثابة تسوية سيكولوجية بين شطري الوعي". (ص
391). ماذا
يقصد المؤلف بوعي الغيب ووعي الصحو؟ إن وعي
الغيب عنده هو اللاشعور؛ فإذا كان فردياً
سماه وعي الغيب الفردي وإن كان جماعياً سماه
وعي الغيب الجماعي. ويقترح السوّاح مصطلحاً
آخر هو "الوعي الكوني" الذي "يوحِّد
الفرد والجنس البشري بالكون". وما يقترحه
هو فرضية للطبيب النفسي ريتشارد بَك في كتابه الوعي
الكوني: دراسة في تطور الذهن البشري، وقد لا
يكون المؤلف على علم بها. والإنسان، حسب فرضية
بَك، قد تقدم من "الوعي البسيط" الحيواني
إلى "الوعي الذاتي" الإنساني، وهو الآن
على عتبة إظهار "الوعي الكوني"، وهو حدث
ثوري سبق أن وقع في عدد من الشخصيات الخارقة
للعادة في السنوات الماضية. وما يصفه بَك بأنه
وعي كوني هو، برأي إريك فروم، التجربة التي
تُدعى ساتوري في بوذية الزن بالضبط. نحن،
إذن، نرى أن المؤلف لم يجد مناصاً من
الإرجاعية السيكولوجية في دراسة الدين. وإذا
كان على دارس الدين أن يهتدي بعلم النفس، فإنه
بحاجة إلى قدر من الدراسة والتمحيص لمختلف
الفرضيات والنظريات ومناقشتها في ضوء
التجارب أكثر بكثير مما تضمَّنه وأوحى به هذا
الكتاب. والأجدر
بالنظر من هذه الإرجاعية السيكولوجية أن
المؤلف قام بنوع آخر من الإرجاعية أقام عليه
كل كتابه، وهذا النوع هو الإرجاعية
الاختزالية. فقد أرجع الدين إلى "الحد
الأدنى الاعتقادي"، الذي يصفه بأنه "تصور
إنساني واحد يقوم عليه الدين برمته" (ص 112).
ويقول: "أرجعنا الدين إلى بنية الحد الأدنى
التي وجدناها في المعتقد، ثم قلنا إن
بالإمكان إرجاع الدين ذاته إلى حد أدنى
سميناه بالحد الأدنى الاعتقادي، وهو الصفة
البسيطة الأساسية التي تقوم عليها المعتقدات
الدينية في كل عصر وفي كل مكان" (ص 228). وقد
ارتكز أساساً في تحديده لبنية الحد الأدنى
الاعتقادي على أديان الثقافات البدائية
الأصلية، موغلاً "في الزمن الماضي إلى أبعد
نقطة استطاع عندها علم الآثار وعلم
الأنثروبولوجيا العثور على شواهد مادية
لمعتقدات دينية عند الإنسان العاقل أو عند
أسلافه النياندرتاليين". وهو يقول: "إن
مايبدو بحثاً في الزمن الماضي هو في حقيقة
الأمر حفريات في البنية الفكرية الدينية
الراهنة، من أجل الكشف عن ذلك الأساس الذي لم
يمسّه تبدل أو تغيّر والذي يشكل جوهر الدين
عند الإنسان" (ص 112). وبعد البحث يحدد هذا
الجوهر بقوله: "يقوم المعتقد الديني على
الإحساس بانقسام الوجود إلى مستويين، أو
مجالين: المستوى الطبيعاني، وهو عالم الظواهر
المحسوسة الذي يعانيه ويتحرك ضمنه الإنسان،
والمستوى القدسي، وهو الغيب الذي صدرت عنه
هذه الظواهر المحسوسة بما فيها الإنسان
وأشكال الحياة الأخرى. ويتصل المستوى القدسي
بالكون من خلال حالة فعالة، هي قوته السارية
التي تجمع بين المستويين في دار واحدة،
باطنها الألوهة وظاهرها ما لا يحصى من
الظواهر الحية والجامدة" (ص 312). وهكذا
نجد أنفسنا أمام تقسيم بعض الفلاسفة للعالم
إلى عالمين: عالم الطبيعة وعالم ما وراء
الطبيعة. والرأي عندي أن السبب الذي جعل
باحثاً معاصراً كفراس السوّاح يغض النظر عن
الاختلافات الكبيرة بين الأديان ويساوي
بينها وينفي الجدة عن أي دين ظهر بعد العصر
الحجري ليس باعثه العقل العلمي بقدر ما كان
باعثه النزوع الأخلاقي المتصل بضرورة
التحلِّي بفضيلة التسامح والتخلِّي عن
التنابذ الديني. وقد كان التسامح سبباً
رئيسياً لإعجابه بالبدائيين. فالتعصب الديني
الحديث ينذر بأفدح العواقب. وحين يشارك المرء
المؤلف إيمانه بأن كل الأديان دين واحد برغم
تبدِّياتها المختلفة لن تكون لنار العداوة
الدينية ما يسوِّغها. وهذه فكرة قديمة
يجدِّدها المؤلف. وإنني، وإن كنت أقدِّر
فضيلة التسامح، لا أرى أن التسامح يمكن أن يتم
بقبول المرء للآخرين لأنه لا يعتقد بأن فيهم
اختلافات جوهرية عنه. بل إن التسامح tolerance هو قبول
اختلاف الآخرين – سواء في الدين أم العرق أم
السياسة – أو عدم منع الآخرين، أو إكراههم
على التخلي عن آخريَّتهم otherness. والتسامح
الآن نوعان: التسامح النسبوي الذي يمكن أن يتم
بتجاهل الآخرين، والتسامح التعددي الذي
ينطلق من الاعتقاد بأن الحقيقة والقيم متعددة
الأبعاد بحيث لا يمكن لأي فرد أو جماعة
الادعاء الواعي بامتلاك أكثر من بضعة وجوه
لأي منها، وعليه أن يحترم المزاعم المشابهة
للأشخاص والجماعات المسؤولة الأخرى. وتتطلب
التعدُّدية الجهد الفعال لإدراك حقائق
الآخرين وقيمهم وتقويمها والاستفادة منها
حين تدعو الحاجة. وقبل
سنوات قليلة دعا الباحث اللاهوتي السويسري
هانس كونغ في دراسته الأديان العالمية
والروح العالمية إلى البحث عن المشترك بين
الأديان العالمية لإظهار الروح التي تميِّز
هذه الأديان ومن أجل التواصل والتفاهم بين
البشر. وكان جُلّ ما أظهره من أمور مشتركة
يندرج تحت حقل الأخلاق، من نحو "القاعدة
الذهبية"، حيث يقول كونفوشيوس: "لا تعامل
الآخرين بما لا تريد أن يعاملوك به." وفي
اليهودية: "لا تعامل الآخرين بما لا تريد أن
يضطروا إلى معاملتك به." وفي المسيحية: "عامل
الناس بما تحب أن يعاملوك به." ويمكن لي أن
أضيف إلى أمثلة كونغ قول النبي العربي: "لا
يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه."
ولكن كونغ لم يقل إن هذه الأمور المشتركة تنفي
الاختلافات بين الأديان، وإنه لم يأت أي دين
عالمي بأي جديد. ومع ذلك لايزال اقتراح كونغ
يحظى بالردود المختلفة، التي ربما كان أقواها
رد فولفغانغ هوبر الذي خالفه الرأي فيما
يتعلق بضرورة الوحدة الأخلاقية بين الأديان،
وإن كان يقر بوجود مجال للتقاطع تلتقي فيه
القناعات الأخلاقية من مختلف الثقافات، ويرى
وجوب توسيع مجال التقاطع وتقويته. فقد كتب
كونغ يقول: "إن العالم الواحد الذي نعيش فيه
ليست لديه فرصة البقاء على قيد الحياة إلا إذا
لم تعد هناك مجالات للأخلاقيات المختلفة
والمتناقضة والتي يعادي بعضها بعضاً." وردّ
عليه هوبر بأنه لا يعتقد أن خلاص البشرية يمكن
أن يوجد في الأخلاقيات الخالية من النزاع،
وأوضح هوبر أن مشروع الروح العالمية عند كونغ
يتّبع موروث الإيمان بالقانون الطبيعي الذي
يفترض أن للقانون والأخلاق مصدراً واحداً
مشتركاً، هو القدرة على فهم الخير بوساطة
العقل الطبيعي. وعلى النقيض من هذا الموروث
يعكس التنوير أنه ضمن المجتمع، ولاسيما
المجتمع العالمي، تتعايش التوجُّهات
الأخلاقية والدينية المتنوعة، وإنها لمهمة
القانون أن تتيح للتنوُّع أن يتعايش. ومما
وجَّهه هوبر من نقد ينطبق تمام الانطباق على
ما حاول فراس السوّاح قوله: "وكل من يود أن
يضغط تنوع الأديان على سرير بروكرست للفهم
الواحد المشترك يحرم الحوار بين الأديان من
بعده الحاسم." إن
أي دين هو أكبر بكثير من اختزاله إلى الحد
الأدنى الاعتقادي. وقد تكون للأمور غير
المشتركة بين كل الأديان أهمية في هذا الدين
أو ذلك تفوق أهمية الأمور المشتركة.
فالمسلمون، مثلاً، على اختلاف مذاهبهم
ومشاربهم، يؤمنون بأن القرآن الكريم كلام
الله لفظاً ومعنى. وهذا الإيمان أساسي في
الإسلام، وهو أمر مختلف عن كل الديانات –
ربما باستثناء الزرادشتية التي تنسب الـأبساتاق
أو الـأفستازند إلى الخالق. أما في
المسيحية إذا قال أحدهم بأن الكتاب المقدس
كلام الله اتُّهم بالأصولية على الفور، ذلك
أن المسيحيين يؤمنون بأن للكتاب المقدس كتبة
بشريين. وفي ذلك تقول البروفسورة آنِّه ماري
شِمِّل: "لقد صاغ هاري وولفسن الكلمة
الجميلة Inlibiration [الكف عن
الميسان]. وكما يؤمن المسيحيون أن كلمة الله
أصبحت جسداً في يسوع فتجسَّدت، يؤمن المسلمون
أن كلمات الله أصبحت كتاباً في القرآن، فكفت
عن الميسان. وهذه عقيدة تحوِّل كل مسلم إلى
"أصولي" بالمعنى الكلاسيكي للكلمة. أي أن
المسلمين يؤمنون بالوحي الحرفي، وكل كلمة في
القرآن ذات أصل إلهي." والجهاد أمر إلهي في
الإسلام، ولا وجود له في تلك الديانات التي
تحدث عنها المؤلف. والإسلام دين تحتل
المعاملات فيه مكان الصدارة، ولا رهبانية في
الإسلام. وإنه ليتعذَّر فهم الإسلام بمصطلحات
المعتقد والطقس والأسطورة من دون معاملات.
وقول النبي: "إنما الدين المعاملة" قد
جرى تفسيره دائماً بأن المعاملة تشمل
المعاملة مع الخالق والمعاملة مع المخلوقات.
وليست الصلاة والصوم في الإسلام مجرد عبادتين
طقسيتين، بل لهما وظيفتان أخلاقيتان. ففي
القرآن الكريم: "إن الصلاة تنهى عن الفحشاء
والمنكر"، وفي الحديث الشريف "رب مصلٍّ
ليس له من صلاته إلا القيام والقعود، ورب صائم
ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش". ومن ثم،
لعل القارئ، بدلاً من أن تسري في نفسه دعوة
المؤلف الضمنية إلى التسامح، سيصاب بخيبة أمل
كبيرة حين يجد أن الأديان التي كانت ينبوع
الحيوية للحضارات الكبيرة تتساوى في هذا
الكتاب مع أديان آكلي لحوم البشر، لأن كل
الأديان ككل الأديان. من
الواضح إذن أن أكثر الأحكام العامة في الكتاب
لا يمكن الدفاع عنها ولا تصمد أمام النقد،
ناهيك عن أنها تتناقض كثيراً كما مر بنا.
والكتاب مثال ناصع على عيوب المنهج
الاستقرائي المتقادم الذي تبيَّن إخفاقه في
إمكانية الوصول إلى الاستدلالات العامة من
خلال ملاحظة الظواهر الخاصة. فحقيقة القوانين
العلمية لا يمكن أن يؤسِّسها عدد محدود من
الظواهر. ولسوء الحظ أخفق كل المرشحين
للاستدلالات الاستقرائية. وديفيد هيوم،
بنقده للاستقراء كله، قد أظهر أنه كان على حق
قبل 250سنة. وفي هذا القرن كان الاقتراح الثوري
لكارل بوبر هو أن قضايا "مشكلة الاستقراء"
عديمة الصلة بقضايا المعرفة العلمية. وقد شك
بوبر في أن يكون العلماء قد توصَّلوا في أي
وقت "إلى النظريات بـ "استقراء"
القوانين العامة من الملاحظات الخاصة"،
ولكنه كان يحاجج أنه مهما يكن الأمر فمسألة
كيف يفلح العلماء في الوصول إلى نظرياتهم هي
مسألة تخصّ علم النفس لا المنطق. فليس هناك
سبيل منطقي يسير من الملاحظة إلى القوانين
العلمية. فقد يصل العلماء إلى نظرياتهم بطرق
متباينة، وربما بوثبة من التبصر الإبداعي لا
يمكن تنظيمها منطقياً، كما افترض أينشتاين.
أما ما هو مهم فليس كيف وصلت النظريات وإنما
هو مسألة كيف تُختبَر النظريات التي جرى
افتراضها ذات حين. فالنظرية، لكي تكون
إسهاماً أصيلاً في المعرفة، يجب، عند بوبر،
أن "تبرز عنقها" وتعرِّض نفسها لخطر
الدحض التجريبي. وليس بمستطاع ملاحظتنا أن
تضمن حقيقة النظريات العلمية، بل بوسعها أن
تدحضها، وأية نظرية لا تُعرِّض نفسها لخطر
الدحض التجريبي لا تستحق أن تدعى إسهاماً في
العلم. إن
المؤلف لم يُسقِط معتقدات عصره على معتقدات
البدائيين، ولكنه، نتيجة الاستقراء، أسقط
معتقدات البدائيين على معتقدات عصره. وهو،
حين حاول التمييز بين ما سماه "دين القوم"
و"الدين الشمولي"، لم يميز بين الأديان
ذات العقلية الاستبعادية التي ترفض معتقدات
الآخرين وعباداتهم، كاليهودية، والأديان ذات
العقلية التعدُّدية التي تعايشت فعلاً مع
الديانات الأخرى. لقد كانت الكونفوشيوسية
ديانة الإمبراطور في الصين القديمة، لكنها لم
تمنع دخول البوذية فيها. ولم يحاول البوذيون
أن يطالبوا بالحكم بعد أن أصبحوا الأكثرية في
الصين بل تعايشوا مع الكونفوشيوسية والطاوية
تعايشاً ودياً مثمراً. ولكن استقراء المؤلف
أوصله إلى أن مؤسِّسي الأديان الشمولية
كلهم
يعتقدون "بامتلاك الحقيقة المطلقة
والنهائية من دون بقية العبادات، الداني منها
والنائي"، وأن أتباع الديانة الشمولية
يرفضون "سواء في حياة مؤسِّسها أم بعده
التعايش مع بقية العبادات". وهنا لا أستطيع
أن أرد فساد هذا الخلط إلى ضعف المنهج
الاستقرائي وحده، بل إلى نقص المعرفة أيضاً. أما
الباب السادس من الكتاب، وقد تناول فيه
المؤلف كلانية الوجود في الفيزياء الحديثة،
فهو محاولة تبسيطية لتقديم بعض الآراء
الفلسفية لعدد من الفيزيائيين الحديثين لا
تفي بالحاجة إلى عرض ما قدَّمته فلسفة
الفيزياء الحديثة من آراء كونية. وكان الأجدى
أن يُدرَس هذا الموضوع في كتاب مستقل. ولم
يسهم هذا الباب إلا في زيادة التفكير الدائري
الذي أوصل الكتاب إليه منهجُه الاستقرائي
وأحكامه القاطعة على الرغم من أهمية القدر
الكبير من مجهولاته. وواضح
أن المؤلف لم يُخضِع فروضه للامتحان النقدي،
وكان عليه، بدلاً من أن يبحث عن إثبات فروضه،
أن يُخضِعها لأقسى اختبار ممكن ليرى هل
ستجتاز الامتحان؛ وكان عليه أن ينظر إلى
النظريات المتنافسة على نحو أكثر إيجابية
بدلاً من أن ينحاز إلى بعضها انحيازاً تاماً
ويرفض بعضها رفضاً مطلقاً، فلا يرى حتى
صوابها الجزئي، ثم في موضع آخر يناقض نفسه.
وكان يمكن له، إذا كان يدرك الطابع المؤقت لكل
معارفنا، أن يكون أكثر تساؤلاً وتبياناً
للمشكلات التي لم يستطع أن يحلها بدلاً من
حرصه الشديد على الإجابة عن كل الأسئلة، ولو
كانت شديدة البعد عن خبرته، كما فعل في مجال
علم النفس. إن
طرح الأسئلة المهمة قد لا يقل دلالة على النضج
والألمعية من تقديم الإجابات المناسبة. ففي
المؤتمر الرياضي الدولي الذي انعقد في باريس
سنة 1900، قدم عالم الرياضيات الموهوب دافيد
هيلبرت ثلاثاً وعشرين مشكلة رياضية غير
محلولة. فانكب منذ ذلك الحين أجيال الرياضيين
على هذه المشكلات وحلوا معظمها؛ ولكن المهم
هو أنها أدَّت بهم إلى نشوء أفكار ومناهج
رياضية جديدة. وفي عالم الرياضيات اليوم لا
تقل شهرة "مشكلات هيلبرت" عن شهرة
إسهاماته الإيجابية، إذا لم تتفوق عليها.
وعلينا أن نتعلم من هذه القصة. *
فراس سوّاح، دين الإنسان: بحث في ماهيّة
الدين ومنشأ الدافع الديني، دار علاء
الدين، دمشق، 199، 400 ص.
|
|
|