|
الانسجام
مع الطاقة الكونية
من
أجل حياة أفضل
قيصر
زحكا*
لم
تتوقف الاجتهادات المستمرة التي قامت بها
الإنسانية من أجل فهم أفضل للكون المحيط بنا،
ولن تتوقف. إن محاولة الانسجام مع الكون، ومع
هذا الكوكب الثمين جداً المدعو بالأرض، لا
تقتصر على شعب معين أو على معتقدات بعينها، بل
نرى آثارها في كافة الأزمنة وكافة الأوطان
وكافة الأديان، ما انقرض منها وما بقي إلى
يومنا هذا. سأخصُّ بالذكر هاهنا بعض
المعتقدات الصينية التاوية المدعوة بالـتشي
كونغ qi gung،
لجهة غناها بالمعتقدات القائمة على مبدأ
الانسجام مع الكون وتوضيحها لها توضيحاً
عملياً، ولأنها أبدت استمرارية زمنية كبيرة
تقارب حوالى 12000 سنة، ناهيكم عن بساطتها
المتناهية. يأتي تعبير تشي كونغ من
مقطعين صينيين: الأول هو تشي، ويعني
الطاقة، التنفس، الهواء، الحيوية، والثاني
هو كونغ، ويعني العمل، الجهد،
التمرين. وبالتالي تدلُّ كلمة تشي كونغ
على تمارين التنفس أو أعمال الطاقة. والحق أنه
قد ثبتت لممارسي التشي الكونغ، لليوغا الهندي، وللعديد من الممارسات الروحية
والبدنية، الأهميةُ البالغة التي يلعبها، في
حياة الإنسان الداخلية، التنفسُ والقدرة
الماهرة على ضبطه، وعلى التحكم بسيلان الطاقة
وتوازنها داخل الجسم، وعلى إحداث انسجام بين
طاقة الإنسان والطاقة الطبيعية والكونية. والآن، ماذا يعني التشي
كونغ بحدِّ ذاته؟ إن التشي كونغ هو منهاج قديم
جداً من أجل تطوير النفس، يعتمد – بعكس
الكونفوشية (والحق أن الاختلاف بينهما ظاهري
أكثر منه حقيقي) – على الإمكانية والمسؤولية
الفرديتين للحفاظ على الصحة وتطوير الحيوية
وإطالة الحياة، في الوقت نفسه الذي يقوم به
الفرد بتطوير الوعي الروحي والبصيرة. يعتمد
التشي كونغ في هذا على: 1.
تمارين
بدنية سكونية وحركية بالوضعيات المختلفة
للاستلقاء والجلوس والوقوف والمشي. 2.
ضبط
التنفس والقيام بحركات تنفسية متناغمة مع
الحركات البدنية. 3. بعد تهيئة البدن وإعطائه الاسترخاء المطلوب عن طريق التمارين والتنفس، يُعمَد إلى اتخاذ وضعيات معينة، تأملية وروحية، مستقاة من مراقبة الطبيعة وحركات الحيوانات والأجرام السماوية (شكل 1). شكل
1
شكل
1:
تستلهم غالبية تمارين التشي كونغ محاكاة
الطبيعة (هنا حركة "الشجرة الواقفة") 4.
يدخل
في بعض الممارسات استعمال الأصوات والروائح
وترداد مقاطع صوتية معينة، وخاصة في التشي
كونغ البوذي. 5.
يركِّز
التشي كونغ التاوي على الخيمياء (الكيمياء
القديمة) الداخلية التي سأذكرها لاحقاً.
والغاية منها أن يصل الإنسان إلى وحدة تامة مع
الطبيعة في كل عمل يقوم به ويمارسه، وأن
يُحدِث تغييراً كاملاً في سيلان الطاقة داخل
الجسم لتصير أكثر انسجاماً مع الطبيعة، الأمر
الذي يغير التفاعلات الكيميائية داخل الجسم
لتصبح أكثر عطاء للطاقة واستفادة منها،
فتُغلِّب في الجملة العصبية نشاط الجملة
نظيرة الودية parasympathetic
nervous system التي
تتميز بالاسترخاء وعدم التوتر، بعكس الجملة
الودية sympathetic
nervous system التي ترهق الجسم
من خلال منعكس الصراع أو الهرب fight or flight. فلنبدأ
بلمحة تاريخية عن هذه المدرسة. 1.
تاريخ التشي كونغ
تضرب جذور التشي كونغ في
عصور ما قبل التاريخ عندما كانت بعض القبائل
في الصين تقوم برقصات احتفالية تدعى بالـ da-wu
(الرقصة الكبرى) التي لوحظ أنها
أعطت فوائد علاجية للذين قاموا بها. تم هذا
الاكتشاف حوالى 10000 ق م. في تلك الأيام كان
التشي كونغ وجميع أشكال التطبيب حكراً على
الأطباء السحرة المعروفين بالشَمَنيَّة Chamans
الذين كان يتمثَّل دورهم في التعامل مع قوى
السماء والأرض من أجل فائدة الإنسانية. إن
أوائل الكتابات عن التشي كونغ تعود إلى قبل 4000
سنة، عندما طُوِّرت رقصة أخرى من أجل إبعاد
المرض، أُسُّها تنظيم التنفس وتوازن الطاقة،
وكانت تمارَس كنوع من العلاج الوقائي في
المناطق الشمالية من الصين (حيث حوض النهر
الأصفر) التي كانت تُبتلى بالفيضانات وتشتد
فيها الرطوبة، مما يؤهِّب للإصابة
بالروماتيزم والدوالي وبطء الدوران و"ركود
الطاقة"، بحسب تعبير الصينيين. في القرن الثالث ق م كان
التشي كونغ قد بلغ درجة متطورة وأصبح له الدور
الأساسي في الحقول الثلاثة المعروفة: الطب،
التأمل والفنون القتالية. وفي الحقيقة، ما
تزال كل مدارس التشي كونغ، على تنوعها الكبير
في الصين وكوريا واليابان وماليزيا
وسنغافورة وتايلاند وغيرها، تندرج تحت ثلاثة
حقول أساسية: طبية، تأملية، قتالية، وتهدف
كلها في النهاية إلى الحصول على صحة أفضل،
وعمر أطول، وتوازن فسيولوجي ونفسي، وذهن صافٍ
متوقد، وانسجام روحي. كتب Fu Yi
حوالى 2000 ق م: "إن التشي كونغ فن يرضي الروح،
يبطئ الشيخوخة ويطيل الحياة." وفي الأدب
التاوي ما يزال الإمبراطور الأصفر Huang-Ti
هو المرجع الأساسي الذي نُسِب به
التشي كونغ – هو الذي عاش حتى عمر 111 سنة، وحكم
مجموعة من القبائل في شمال الصين حوالى 2700 ق
م، ويقال إنه مارس التأمل وتمارين التنفس
بشكل يومي منتظم، وطور الخيمياء alchemy
الداخلية لليوغا الجنسي التاوي من خلال
ممارسته لهذه الرياضة الجنسية دون قذف مع
حريمه البالغ 1200 امرأة! إن مناقشات
الإمبراطور الأصفر مع رئيس أطبائه مدوَّنة في
الكتاب الطبي الصيني المعروف بـكتاب
الإمبراطور الأصفر الكلاسي في الطب الداخلي Huang-Ti nei Ching. يمكننا أن نؤرِّخ لتاريخ
التشي كونغ عبر الحقب التاريخية من تاريخ
الصين كما يلي: أولاً. التشي كونغ
خلال حقبة الين والتشو Chou
(القرن 18 – القرن الرابع ق م): من أبرز الشخصيات في هذه
الفترة شخصية Peng
Tzu
الأسطورية الذي يقال إنه عاش ما يقرب من 800 سنة
نتيجة فوائد التشي كونغ. يعتبر Peng Tzu
بحق مؤسِّس الـ dao-yin،
إحدى طرق التشي كونغ المعروفة. وهي تستند على
إجراء حركات بَسْط ودوران بطيئة للأطراف
بالمشاركة مع تنفس بطني عميق. كان Peng Tzu
يستيقظ يومياً في الساعة الثالثة صباحاً،
يجلس في وضعية تأمل صامت حتى الفجر، ثم يقوم
بتمارينه المفضلة التي تتضمن أيضا تدليك
العينين والمناطق الأخرى من الجسم وتحريك
اللسان في كل الاتجاهات داخل الفم لتحريض
إفراز اللعاب المفيد المدعو بـ"العصارة
الحلوة" gan-lu. في تلك الحقبة كان يمارس
التشي كونغ بشكل أساسي الأطباءُ السحرة أو
الشَمَنيَّة الذين يصفون العقاقير المختلفة
لأفراد القبائل، والطبقات الحاكمة والملكية
والأرستقراطية. وبقيت الحال كما هي طوال
التاريخ الصيني حتى القرن العشرين الذي صار
فيه هذا العلم والفن شعبياً يمارس في الحدائق
والمنازل والمدارس بشكل واسع. في تلك الحقبة
أيضاً تم تأليف كتاب التحولات I-Ching
الذي يعتمد على نظام مكوَّن من ثمانية مثلثات، ينشأ عنها أربعة وستون
مسدساً،
وتُدرَس بواسطتها احتمالات الحوادث
المستقبلية، وتُستعمَل من خلالها قوى السماء
والأرض كحلول لمشاكل الإنسانية. يتم هذا عن
طريق قراءة الأنماط الغالبة والتحولات
الدورية للطبيعة والكون من خلال قراءة الخطوط
المتكونة من المسدَّسات hexagrams
كجواب على أسئلة معينة (شكل 2). وبذلك صار مبدأ
استعمال قوانين الطبيعة والكون من أجل خير
الإنسانية جزءاً أساسيا من التفكير الفلسفي
التاوي ومن ممارسات التشي كونغ. وقد نتج عن
هذا ما يلي: 1.
تتبع
صحة الإنسان ومرضه، سعادته وحزنه، تغيرات
دورية في السماء والأرض. 2.
عندما
تصل أفكار ومشاعر وأعمال الإنسان درجة مستقرة
من التوازن الداخلي والانسجام الفسيولوجي،
يصل الإنسان إلى أفضل الحالات الحياتية
الممكنة. 3.
عندما
يقع الشخص ضحية للمرض فإن أفضل طريقة للشفاء
هي تسكين العقل، تهدئة المشاعر، إحداث انسجام
في الفعاليات البدنية، وخلق حالة توازن. تعيد
هذه الطرق إلى الشخص الصحة المفقودة، كما
تعيد إليه الحيوية وتضعه في حالة توازن مع قوى
السماء والأرض. 4. الحركة والسكون قطبان نسبيان في وجود كلِّي واحد، وليسا ظاهرتين مستقلتين، كما هي حال الـينغ والـين، كونها أقطاب متكاملة في نفس الطاقة الكونية الأساسية (شكل 3). شكل
2
شكل 2: مسدَّسات كتاب التحوُّلات الـ 64 شكل
3
شكل
3:
الين والينغ قطبان متكاملان لطاقة
مبدأ التاو الأولية ثانياً. حقبة الممالك
المتحاربة – حقبة الـ Chin
والـ Han
(403 ق م – 220 م): مع أفول شمس سلالة التشو
بدأت مرحلة اضطرابات اجتماعية وسياسية
عُرِفَت بحقبة الممالك المتحاربة. ولكن
لغرابة الأمر، كانت هذه المرحلة مليئة
بالإبداعات العقلية والفلسفية. فقد ظهر
كونفوشيوس (شكل 5) ولاو تسه (شكل 4) والعديد من
الحكماء الآخرين خلال تلك الفترة. ألَّف لاو تسه الكتاب الشهير Tao Teh Ching ("كتاب الطريق والفضيلة") وعرف باسم "الحكيم القديم". من أقوال لاو تسه في التاو تِهْ تشينغ: "القساوة والصلابة هما طريق الموت، أما اللين والطراوة فهما طريق الحياة." أكد لاو تسه دائماً على وجود التحول المستمر في كل شيء، على أهمية الليونة والانسياق مع تغيرات الحياة، وعلى أن القساوة والتصلُّب في الفكر والمشاعر وحركات الجسم لا تتوافق مع مبادئ الحياة. فالشيء الوحيد الذي لا يتغير هو التاو. شكل
4
شكل
4:
لاو تسه كذلك كونفوشيوس أدرك أهمية الحركات الانسيابية الناعمة. ففي كتابه المعروف بـحوليات الربيع والخريف يقول: "الماء المنساب لا يصاب بالركود، وحواف الباب المتحرك لا يطالها صدأ، وهذا بفضل الحركة. نفس المبادئ تنطبق على الإنسان. إذا لم يتحرك البدن، لا ينساب الجوهر، وعندما لا ينساب الجوهر، تركد الطاقة." يذكِّر هذا – لعمري – بقول النفَّري: "العلم المستقر هو الجهل المستقر." شكل
5
شكل
5:
كونفوشيوس في عام 221 ق م استطاعت مملكة
التشِن الهجوم على الصين من الناحية الشمالية
الشرقية وتوحيد الممالك ضمن إمبراطورية
واحدة لأول مرة في تاريخ الصين (أتى الاسم
الغربي للصين من اسم هذه الإمبراطورية: تشن).
كان الإمبراطور المؤسس Chin Shi-huang
شديد الاهتمام بالخيمياء كطريقة لإطالة
الحياة، وقد أبقى على عدد كبير من
الخيميائيين في قصره. ولكنه اتَّبع – لسوء
الحظ – المدرسة الخارجية في الخيمياء التي
تشبه مثيلتها في عصر الانحطاط عند العرب وفي
أواخر العصور الوسطى في أوروبا في محاولتها
الوصول للجوهر النفيس أو العقار الذهبي من
معادن أقل قيمة ومن أعشاب سامة. وهذا يشبه،
إلى حدٍّ ما، المنهج الغربي الحالي باستعمال
المواد الكيماوية لمعالجة المرض. استمر هذا
النهج إلى عصر سلالة الهَنْ. وفي الحقيقة، فقد
توفي العديد من أمراء التشِن والهَنْ بسبب
ابتلاعهم مركبات معدنية سامة، سواء كان ذلك
من جراء فكرة مجنونة خطرت ببالهم أو دسيسة كادَ لهم بها غيرهم. في نفس تلك الفترة ظهرت قلة
من الخيميائيين العباقرة الذين أبقوا على
تعاليم الإمبراطور الأصفر حية، ومنهم Lu
Pu-wei
الذي صنَّف كتابين هامين هما: كتاب لو في
الربيع والخريف الذي يتناول الانسجام بين
السماء والإنسانية، وخاصة تنظيم فعاليات
الإنسان مع دورات الطبيعة، وكتاب طريقة
تهذيب الحياة الذي يشمل معلومات قيِّمة عن
التغذية المتوازنة والتنفس العميق، بالإضافة
إلى تمارين الـ dao-
yin واليوغا الجنسي. في حقبة الهَنْ المتأخرة
ظهر الطبيب Hua
To
الذي يعتبر من أشهر أعلام الطب الصيني
التقليدي والخيمياء الداخلية؛ وهو مؤسس
التمرين المعروف بـ"لعبة الوحوش الخمسة"
Wu-
chin-shi التي ما تزال تستعمل
على نطاق واسع لمعالجة الأمراض، ومنها
السرطان. كذلك ظهر العالم الشهير Wei
Po-yang الذي ألف كتاباً
هاماً في الخيمياء التاوية عنوانه اتحاد
المعادلة الثلاثية، شرح فيه الخيمياء
الداخلية للتنفس العميق ولتحول الطاقة
ولليوغا الجنسي. كشفت الحفريات الأثرية
الحديثة في مقاطعة هونان عن عديد من الوثائق
والملفات التي يعود بعضها إلى 2000 ق م والتي
نجد فيها مخططات متعددة لنظام الطاقة داخل
الإنسان وتمارين مختلفة للـ dao-
yin
والـ qi-gung
والعديد من المخططات التشريحية الأخرى. وتوجد
دلائل واضحة على أن المدرسة الداخلية في
الخيمياء حلَّت محل المدرسة الخارجية منذ
القرن الثاني الميلادي، بينما لم يقم العرب،
ومن بعدهم الأوروبيون، بهذه القفزة إلا بعد
800-1400 سنة على الأقل على ما يبدو. وكان لهذا
نتيجتان أساسيتان: أولهما أن إكسير الحياة
الحقيقي هو إكسير الطاقة الداخلية اللامادي،
والطريقة الوحيدة للحصول عليه هي الممارسة
الشخصية المنهجية الصادقة، وليست عن طريق
ابتلاع مركبات معدنية وسُمِّية خارجية؛
والنتيجة الثانية هي إتاحة هذه الفرصة من
الصحة وطول العمر لكل الناس، وليس فقط لطبقة
معينة من الأثرياء والحكام. ثالثاً.
الممالك الثلاثة والسلالات الشمالية
والجنوبية (200 – 580 م) مع انحلال مملكة الهَنْ،
ظهرت فترة أخرى من الاضطرابات السياسية،
لكنها شجعت على التطور في أمور أخرى. ظهر
آنذاك كتاب هام عُرِف بـكلاسيات البلاط
الأصفر Huang Ting Ching
الذي
ركَّز من جديد على نظرية الإكسير الداخلي،
واعتبر الدماغ والضفيرة الشمسية والقسم
السفلي من البطن مراكز تحويل الطاقة الأساسية.
ظهر في القرن الرابع الميلادي فيلسوف وطبيب
وممارس للتشي كونغ يدعى Ko Hung ألف
كتاب ذاك الذي عانق العقبة الكأداء الذي
طُرِح من خلاله (لأول مرة) التمييز بين مفهومي
طول العمر البدني والأبدية الروحية اللذين
ظلا ملتبسين لفترة طويلة، مما جعل بعض
الممارسين يعتقدون أن خلود البدن أمر ممكن.
أوضح Ko
Hung
أنه بالممارسة المنهجية يمكن تخفيف المرض
وإطالة الحياة، ولكن الهدف في النهاية يجب
ألا يكون الخلود الجسماني، بل الأبدية
الروحية التي لا يمكن أن تتم إلا بالانعتاق من
البدن. إلا أنه يمكن للإنسان أن يحاول الوصول
إلى الهدفين معاً لأن العنصر المشترك في
كليهما هو الطاقة. لذا يمكن للإنسان، عبر
تطوير التعامل مع الطاقة الداخلية، أن يعيش
حياة مديدة، صحية وسعيدة، في هذا العالم،
ويكتسب، بنفس الوقت، الوقت الكافي والطاقة
الملائمة من أجل حضور روحي أبدي في العالم
الآخر بعد زوال البدن. أكَّد Ko Hung
من جديد على أهمية التنفس، واعتبر
التنفس التجلِّي بعد الولادة للطاقة قبل
الولادة؛ لذا فهو المفتاح الأساسي لتطوير
الطاقة الداخلية. جمع كو هونغ تنظيم التنفس مع
الحركات البطيئة الناعمة للـ dao-yin
ليؤسس ما سمي لاحقاً بـ"التأمل الحركي"moving
meditation (الذي
ما يزال يشكل قسماً رئيسياً من ممارسة التشي
كونغ اليوم)، بالإضافة إلى تأكيده على
الممارسة اليومية للـ"تأمل قعوداً" sitting
meditation من
خلال طرق ثلاثة تعتمد على تنظيم الطاقة
بواسطة الفكر (شكل 20): 1.
مركز
انتباه داخلي tsun-she 2.
الوعي
الموجه نقطياً shou-yi 3.
التذهُّن
guan-siang بالإضافة لما ذُكِر، أسهب
كو هونغ في شرح فوائد اليوغا الجنسي
المطوَّرة مثنى dual cultivation sexual yoga
كطريقة سريعة نسبياً لحشد الطاقة الداخلية من
أجل الممارسة الروحية المتقدمة. تتضمن هذه
الطريقة جِماعاً طويلاً دون قذف ذكري مع بلوغ
إنعاظ متكرر عند المرأة، بحيث تحصل قطبية
قوية بين الرجل والمرأة. وفي لحظة النشوة عند
المرأة يحدث التحام بين طاقتي اليِنْ
السالبة واليَنْغ الموجبة في نفس الوقت
عند الذكر والأنثى، بما يُحدِث توازناً
للطاقة الحيوية أو التشي، بما يوازي صعود
طاقة الـ kundalini
عند الهنود إلى المراكز العليا (راجع في
الإصدار الخامس من معابر بحث د. نبيل محسن
"مراكز الطاقة في الإنسان"). خلال مرحلة السلالة الجنوبية (502-557 م)، بدأ يظهر تأثير الأفكار الآتية من الهند، مع قدوم الراهب البوذي الغريب الأطوار Bodhidharma الذي يسميه الصينيون Ta Mo الذي كان يلبس ملابس مهلهلة وكان يمارس طريقة مبتدعة عن البوذية التانترية tantric yoga، حتى اعتزاله في معبد Shao-Lin الشهير في الصين، حيث اختلى في غرفة شديدة البرودة مدة تسع سنوات (شكل 6). وقد قيل إن أحد الرهبان الصينيين كان يرغب كثيراً بالتعلُّم من تا مو، وأراد لفت نظره إليه، فقطع يده أمامه وقدَّمها له على طبق، ولكن تا مو لم يحرِّك ساكناً. شكل
6
شكل
6:
بودهيدهارما، تا مو عندما فرغ تا مو من تأمله
بدأ يعلم الرهبان كيفية تقوية أبدانهم من أجل
الممارسات الروحية العليا، وبنفس الوقت
علَّم ممارسي الفنون القتالية كيفية إدخال
المعاني الروحية على ممارساتهم. فقبل وصول تا
مو كان الرهبان التاويون يجلسون لفترات طويلة
من التأمل السكوني قعوداً، وبالتالي يصابون
بالعديد من المشاكل البدنية؛ أما المقاتلون
فكانوا يقاتلون بوحشية دون أي اهتمام
بالمعاني الروحية. أما تا مو فقد استطاع الجمع
بين المنهجين في نظام واحد، وبالتالي إحداث
ثورة روحية في الصين. أدخل تا مو تمارين
التنفس الهندية المعروفة بالـ pranayama
مع تمارين التمطُّط الهندية، وجمعها مع
التمارين البطيئة للـ dao-yin
ولعبة الوحوش الخمسة، فكانت النتيجة التشي
كونغ والفنون القتالية كما نعرفها اليوم. وقد
أصبح تا مو من بعدها المؤسس الحقيقي لبوذية
التشان التي جمعت عناصر من التاوية الصينية
مع عناصر من البوذية التانترية الهندية.
وبوذية التشان هذه انتقلت إلى كوريا واليابان
وصارت تدعى هناك ببوذية الزن Zen. يُنسَب إلى تا مو كتابان
طبيان أساسيان هما: كلاسيات تغيير الأوتار
Yi Chin Ching Changing-tendon Classic
وكلاسيكيات تطهير النقي
Hsi
Sui Ching Cleansing-marrow Classic
اللذين يتضمنان أساسيات التمطُّط والتليين
التي تهيئ الجسم للتأمل أو لممارسة الفنون
القتالية، حتى المراحل المتقدمة من الخيمياء
الداخلية، بالإضافة إلى تحويل الجوهر
والطاقة الجنسية إلى الحيوية الروحية. إن أهم ثورة قام بها تا مو هي
عدم الفصل بين البدن والعقل، بين الداخل
والخارج، بين الحركة والسكون، بين القوة
والوعي، بين الذكر والأنثى، أو بين طرفي أي
تقاطب ثنائي ضدِّي مما يقسم المجتمعات
الغربية ومجتمعاتنا، سواء في الفلسفة أو
الدين أو العلم، فيجعلها أقطاب متناوئة. فعند
تا مو أن أعلى درجات الوعي هي الوصول لمرحلة
عدم تمييز وتضادٍّ بين هذا وذاك، وعلى تجاوز
التضادِّ بالوصول إلى القاسم المشترك بينهما.
يقول تا مو في كتابه الأول: "من الأهمية
بمكان أن نبحث عن الحركة داخل السكون، وعن
السكون داخل الحركة، وأن نتحرك بنعومة
وباستمرار إلى أن ندخل الحالة العليا." رابعاً.
سلالة التانغ (618-906 م): يُعتبَر هذا العهد العصر
الذهبي للحضارة الصينية، وهو مرحلة مثمرة جداً للتاوية بصورة
خاصة؛ إذ اعتبر أفراد هذه
السلالة أنفسهم منحدرين مباشرة من الحكيم
التاوي لاو تسه. ظهر فيها الطبيب Sun Ssu-miao
الذي بلغ 101 سنة من العمر، متجاوزاً بذلك عدداًً من الأباطرة الذين خدمهم. ألف كتاب
الوصفات القيمة Chian
Chin Fang الذي شرح من خلاله
عدة طرق لشفاء الجسم بواسطة التشي كونغ. ركز
كثيراً على العلاج بالصوت وشرح بالتفصيل
طريقة "سر المقاطع الستة" Six
Syllable Secret. وقد أكد عالم آخر هو Ssu-ma
Cheng Chen على ضرورة التركيز
على الروح الأصلية الساكنة، الواردة في نصوص
لا وتسه، وأن الطريق لإنعاش الطاقة الروحية ling-chi
تمر من تسكين عقل ما بعد الولادة،
وبمعنى آخر تعليق التفكير. فما دام الذهن (وخاصة
قشر الدماغ) يعمل بأفكار عديدة مبعثرة تبقى
الروح الأصلية للوعي الأعلى نائمة؛ ولكن
عندما نسكِّن الذهن نسمح للروح الأصلية
بالاستيقاظ وتحويل طاقتنا الذهنية إلى وعي
أساسي صرف. حاول بعض الخيميائيين من
جديد اللجوء إلى طرق خارجية للحصول على
الجوهر الثمين، مما أدى إلى وفاة الإمبراطور Hsien
Tsung
في مقتبل العمر بعد تناوله أقراصاً تم
إعدادها من معادن ثقيلة. ومنذئذٍ تم إبعاد
الطرق الخارجية إلى الأبد. ظهر في هذه الحقبة أيضا أحد
الوجوه الهامة جداً للحكمة الصينية، اعتُبِر
واحداً من الثمانية الأزليين في التاوية، هو Lu
Tung-ping. وقد أسهب في الكتابة
عن الإكسير الداخلي وأهمية الخيمياء
الداخلية. يقول لو تونغ بينغ: "يتألف الجسم
البشري من جوهر وطاقة وروح، وتسمى هذه
بالكنوز الثلاثة، لأن الاستنارة والتلقائية
تأتي منها. ولكن للأسف قلة قليلة فقط من الناس
تدرك هذه الكنوز الثلاثة. يتركز الجوهر فقط من
خلال الطاقة، وينضبط كلا الجوهر والطاقة فقط
من خلال الروح. إنعاش الطاقة هو حفظ للروح،
وحفظ الروح يتم فقط من خلال إيقاف التفكير." خامساً.
سلالات السونغ واليو وان (960- 1368 م): استمر تطور التشي كونغ في
مرحلة السونغ، ونشأت مدرسة الواقعية الكاملة
في التاوية، التي كان من أهم مؤسسيها Chang
Po-tuan
الذي أكَّد على الخيمياء الداخلية للكنوز
الثلاثة، وعلى أنها السبيل الأساسي لطول
العمر والصحة الممتازة والاستنارة الروحية؛
ولكنه أكَّد أيضاً على التغذية والأعشاب
والتمارين الفيزيائية، وأخذ بنهج جنسي معين
من أجل دعم الإكسير الداخلي. من أهم كتبه أسرار
فتح المساري و الخواص الأربعمائة للإكسير
الذهبي. وكان أهم كتبه على الإطلاق كتاب
فهم الحقيقة. يقول تشانغ بو توان: "عندما
لا تنظر العينان، ولا تسمع الأذنان، ولا
يتكلم اللسان، ولا يشم المنخران، ولا تتحرك
الأطراف، عندئذٍ نقول إن الطاقات الخمسة قد
عادت إلى المصدر. عندما يتحول الجوهر إلى طاقة، والطاقة إلى
روح، وتذوب الروح في الفضاء، نسمي هذا بتجمع الأزهار الثلاثة على
قمة الجبل." من الشخصيات الأخرى أيضاً الطبيب Wang Wei-yi الذي عالج الإمبراطور من داء خطير ألمَّ به بواسطة التشي كونغ والتأبير acupuncture، كان نتيجته أن الإمبراطور نفسه بدأ بممارسة التأبير، وبنى مركزاً امبرطورياً للبحث والتمرين. صنع وانغ وِيْ يي دمية النحاس التي حدَّد عليها نقاط التأبير والمساري الصينية كلَّها، وهي التي ما تزال مستعملة حتى يومنا هذا (شكل 7). شكل
7
شكل
7:
دميتان لرجل وامرأة تُستخدمان في تعليم مواضع
نقاط التأبير خلال حقبة السونغ الجنوبية
قام المحارب الشهير Yueh
Fei بتأسيس سلسلة جديدة
من تمارين التشي كونغ، أشهرها ما يدعى اليوم
بـ"قطع البروكار الثمانية" التي تعتبر
كثيرة الاستعمال والشيوع اليوم في العالم
بأكمله، ومن أكثرها فائدة وعملية لتحريض مرور
الطاقة في الجسم كلِّه، مع تقوية العضلات،
تمطيط الأوتار وتليين المفاصل. خلال عهد سلالة يو وان
المنغولية ظهر المعلِّم الكبير Chang
San-feng، مؤسس نمط من التشي
كونغ الحركي المسيري، الذي يُعتبَر بحق أكثر
الطرق استعمالاً وشيوعاً في العالم أجمع، ألا
وهو الـ Tai Chi Chuan.
يقول تشانغ سان فِنغ: "يقال إنه عندما تزفر،
تلامس السماء وتشعر بالانفتاح، وعندما تشهق
تلامس الأرض وتشعر بالثبات. يرتبط الزفير
بليونة التنين، ويرتبط الشهيق بقوة النمر. من
المهم جداً ألا يتغير مركز انتباهك وتركيزك
وأنت تنتقل بين الشهيق والزفير، بين الحركة
والسكون. اضبط التنفس حتى تصل لحالة التنفس
دون تنفس، أي تصير واحداً مع التنفس، وعندها
يمكن للروح أن تتركز وللإكسير الداخلي أن
يتكَّون." سادساً.
سلالات المينغ والتشينغ (1368- 1912 م): كانت هذه الحقبة فترة تثبيت
وجمع لكافة فروع التشي كونغ، من الفروع
الطبية إلى الفروع القتالية إلى الفروع
الدينية والتأملية. بدأت الاختلافات
التطبيقية للتشي كونغ بين الفروع البوذية
والتاوية والكونفوشية بالذوبان خلال تلك
الفترة، بعد أن كانت النزاعات قد وصلت أحياناً إلى نزاعات
حقيقية، وأصبح التشي كونغ
طريقة أو منهجاً بحدِّ ذاته، متجاوزاً
التقسيمات العشوائية. أكَّد معلُّمو التشي
كونغ خلال حقبة المينغ والتشينغ على الوحدة
الأساسية بين الأزلي والمؤقت، التنفس
والطاقة، البدن والعقل، الحركة والسكون،
وعلى ضرورة البحث عن الحقائق من خلال التجربة
الشخصية، وليس التعصُّب لطريقة معينة ورفض كل
الطرق والمناهج الأخرى، وبذلك وضعوا لتعاليم
تا مو المذكور سابقاً تطبيقات عملية للقرن
العشرين. وبهذا حقق التشي كونغ الانتشار
العالمي له في الربع الأخير من القرن العشرين. تأسَّس في هذه الحقبة أيضاً
النمط الداخلي الثالث من الفنون القتالية وهو
الـ pa kua chang، أو "راحة يد المثلثات
الثمانية"، الذي يعتمد على القيام
بمناورات دائرية مستمرة حول الشخص المقابل،
مع حركات إيقاعية بالأطراف والجذع ودورانات
رشيقة مبنية على التحويلات الدائرية
للمثلثات الثمانية المستعملة في علم الـ I-Ching. من هنا، أصبح الـ tai
chi chuan
والـ hsing yi
والـ pa kua chang
الثلاثي الحقيقي في الفنون القتالية
الداخلية التي يلعب التشي كونغ دوراً كبيراً
فيها. من أبرز وجوه التوحيد الذي
حصل في تلك الحقبة بين فروع التشي كونغ العالم
والكاتب Liu I-ming
الذي قضى حياته في تجربة طرق متعددة، محاولاً
تمييز الصحيح من الخاطئ، ومسهباً في كتابة
خبراته الداخلية (جمع توماس كليري منتخبات من
أعماله وترجمها للإنكليزية في كتاب اليقظة
على التاو). يقول: "التاو فريد من نوعه، لا
ثنوية فيه. فلماذا يقسمه الجاهلون إلى عالٍ
ومنخفض؟ عندما نكتشف أن مبادئ الحكماء هي
نفسها سنجد أن التاوية والبوذية متشابهتان.
إذا لم نفهم منهجاً معيناً، ولكن بنفس الوقت
بحثنا في المناهج الأخرى، سننحو إلى التطرف،
ونضيع حياتنا في خيالات وهمية." النتيجة الأخرى التي حصلت
في نهاية هذه الحقبة هي زوال السرية التي
أحاطت طوال الوقت بالتشي كونغ، بحيث صارت هذه
الرياضة متاحة لكل من يرغب بممارستها. لكن هذا
الانفتاح أتاح المجال طبعاً لبعض السلبيات
ولبعض النظريات الخاطئة التي وقع في فخها بعض
الناس. ومن الأمثلة عليها ما دعي بـ"ثورة
الملاكمين"، حيث أقنعت الإمبراطورة Dowager
وأتباعها المنشوريين مجموعة كبيرة من
الفلاحين والمعدمين أنه بواسطة ممارسة بعض
تمارين التشي كونغ والفنون القتالية تصير
أبدانهم مقاوِمة لرصاص ومدافع الإنكليز بفضل
الدرع الحديدي الذي تعطيهم إياه التشي أو
الطاقة. وكان نتيجتها، بالطبع، وفاة الآلاف
المؤلفة من هؤلاء البسطاء الحاملين للسيوف
والرماح في وجه المدافع والدبابات الغربية! سابعاً.
العصر الحديث (1912- الوقت الحالي): يتطور التشي كونغ اليوم بسرعة أكبر من أي وقت مضى، تدعمه البرامج العلمية في الصين والغرب. لقد ظلت فروع الفنون القتالية والتأمل تتطور، لكن التطور الواضح هو في مجال الطب. في نفس الوقت، ظهرت عدة صراعات بينه وبين الطب الغربي، كان أولها ما حدث في شنغهاي عام 1929، عندما عاد طلاب طب صينيين متمرِّنين على الطب الغربي في اليابان، وطالبوا بإزالة كل أثر للطب الصيني التقليدي من الوجود على أساس كونه خرافات من الماضي. تكونت بعدها لجنة من كبار أطباء الصين، وتقرر نتيجتها أن تستمر ممارسة الطب الصيني التقليدي، جنباً إلى جنب مع الطب الغربي. جاء الخطر الثاني بعد قيام الثورة الشيوعية وما دعي بـ"الثورة الثقافية" التي أرادت إلغاء كل ما يتعلق بالثقافة الصينية التقليدية، بما فيها الطب الصيني والتشي كونغ. ولكن، كما حدث سابقاً، حافظ الطب الصيني والتشي كونغ على وجودهما نتيجة دعم القواد الصينيين أنفسهم. لقد نُقِل عن ماو تسي تونغ قوله إن أهم هديتين قدَّمتْهما الصين للعالم هما المطبخ الصيني والطب الصيني! ويعتقد كثير من الغربيين أن طول العمر الذي يتميز به القادة الصينيون (على سبيل المثال: Deng Hsiao-ping الذي، رغم تدخينه اليومي المفرط للسجائر وعدم الاهتمام الجيد بالغذاء، عاش 92 عاماً من الصحة الممتازة) قد يكون سببه أن كل قائد صيني يعالَج يومياً، حتى بعد تقاعده، بطاقة أو تشي يصدرها أحد كبار معلمي التشي كونغ، بالإضافة إلى مستحضرات نباتية. يوجد الآن في الصين بعض المشافي التي يقدَّم فيها التشي كونغ كعلاج وحيد، سواء كممارسة شخصية أو تأثير ينبعث من معلمين اختصاصيين (شكل 8). وقد عالجت هذه المشافي عشرات آلاف المرضى، بما فيها أحياناً حالات متقدمة من السرطان، مع نسب نجاح تجاوزت أحياناً الطب الغربي أو العلاجات النباتية. شكل
8
شكل
8:
معالِج بالطاقة (تشي) يوازِن بطاقته
الشخصية طاقة إحدى المرضى 2. المبادئ الأساسية للتشي كونغ
والطب الصيني
يقول Chang San-feng:
"عندما تتحكم الحكمة بالرغبة نعيش طويلاً،
أما عندما تسيطر الرغبة على الحكمة نموت
سريعاً." أولاً: مبدأ التاوشكل
9
شكل
9:
المقطع الكتابي الصيني الدال على التاو لا يوجد بالحقيقة أي تعريف دقيق يستطيع وصف التاو؛ فهو يتجاوز كل التعاريف العادية. إنه اللامحدود، اللامنتهي، الأزلي، اللعبة الأبدية بين كل طاقات الطبيعة، الرقصة المتزامنة بين القوى الكونية الخارجية وبين انعكاساتها الداخلية في جسم الإنسان، الشعور المتجاوز للفردية خلال التأمل أو العمل الجنسي. والمقطع الكتابي الدالُّ على التاو في الصينية هو رمز الرأس، أو رمز "المشي" (شكل 9). كاسم، يدل على "طريق" أو "منهج"، بينما كفعل، يدلُّ على فعل "القول" أو "العلم". وباختصار فإن التاو، بحسب النصوص الصينية، هو مسيرة حياتية يصلها الإنسان عن طريق العقل وليس البدن، وهو مصدر كل معرفة حقيقية. يقول لاوتسه في كتاب التاو تِهْ تشينغ: "كان هناك شيء لا شكل له، ولكنه كامل، وُجِد قبل السماء والأرض. وبما أني لا أعرف له اسماً فقد أطلقت عليه اسم التاو." شكل
10
شكل
10:
دائرة التاي تشي، رمز التاو، محاطة بالمثلثات
الستة من كل العناصر الموجودة في الطبيعة الماء هو الأقرب إلى جوهر وصفات التاو، لذلك أصبح استعمال الماء في التمارين التخيُّلية بادياً بوضوح في التشي كونغ. فالطريقة التي يتحرك بها الجسم خلال التشي كونغ تشبه السباحة في الماء، والتنفس العميق البطني يشبه الحركة الدورية للأمواج. كذلك يعبِّر الماء عن العلاقة المتبادلة بين المادة والطاقة، بين السكون والحركة، وعن الخيمياء الداخلية: يتحول جوهر الين المائي المتركز في أسفل العجز ويسمو بواسطة هواء التنفس الذي يلعب دور المنفاخ من أجل تبخير هذا الماء وتنقيته وتحويله إلى طاقة ينغ (شكل 12). وهذه الطاقة ترتفع على مسار النخاع الشوكي، بقيادة العقل، إلى الرأس، حيث يتم تنقيتها أكثر لتغذي الروح. تقوم الروح بتكثيف البخار من جديد وتبريده ليسيل من جديد على القناة الأمامية كطاقة ماء ليتركز في حقل الإكسير السفلي dan tien أسفل السرَّة (شكل 11). شكل
11
شكل
11:
مراكز الطاقة بحسب الخيمياء الباطنية
التاوية التاوية Tao Chia
في الحقيقة منهج حياتي أكثر منها ديناً. ولكن
نشأ عنها شبه دين Tao
Chiao بين القرنين
الثالث والخامس كردٍّ على الاجتياح البوذي
القادم من الهند. أما التاوية الأصلية فهي
فلسفة غير إلهية (وغير أصولية) تستهدف فهم
الطبيعة والكون وعلاقتهما بالإنسان. والحق أن
التاوية هي، ربما، التنظيم الوحيد في العالم
حالياً الذي يهتم بالممارسة أكثر مما يهتم
بالتعليم والتبشير. فمن أهم مبادئ التاويين
أن يختبر الإنسان التاو، لا أن يتكلم عنه.
فكما يقول لاوتسه: "التاو الذي يمكن ذكره
ليس التاو الأزلي." ثانياً: مبدأ القطبية
polarity هناك مصدر أو طاقة إلهية
بدئية وهي مصدر كل شيء مرئي وغير مرئي في هذا
الكون. عندما تبدأ هذه الطاقة الخلاقة بأخذ
طابع ما، يظهر قطبان تعبيريان تنبثق عنهما كل
الثنائيات الموجودة في العالم. يُطلَق على
هذين القطبين أو الثنائية أسماء مختلفة فقد
نسميهما: الروح أو الأب، والمادة أو الأم.
ومن امتزاج الأب والأم يولد الابن أو
النفس. من الواحد نشأ الاثنان، ومن الاثنين
نشأت الثلاثة، والثلاثة معاً تمثِّل الواحد.
إن جوهر الأب أو الروح أو الينغ يتظاهر
بالإيجابية والذكورة والسيطرة والحركة
النابذة والمنطق، ويعبِّر عن رغبة التكوين،
وبالتالي النمو؛ بينما يتظاهر جوهر الأم أو
المادة أو الين بالسلبية والأنوثة
والاستقبال والحركة الجاذبة والإرهاف في
الإحساس والرعاية، ويعبِّر عن حكمة التركيز
والجمع بين الأضداد من أجل رعاية بذور الخالق
من أجل ولادة جديدة واستمرار الحياة (شكل 10).
يحصل اتحادهما من خلال قوة الانجذاب أو
المحبة، ويولد الابن أو النفس؛ والمحبة
توحِّد وتؤدي إلى زوال العزلة. إن طاقة
الإرادة طاقة كهربائية إيجابية أو سلبية؛ أما
المحبة فهي طاقة مغناطيسية تجذب الأب نحو
الأم، أو الذكورة نحو الأنوثة، أو الينغ نحو
الين، وبالعكس؛ ومن اجتماع المحبة مع الإرادة
تتولد طاقة كهرطيسية. الجانب المشمس من الجبل هو الينغ، والجانب الظليل هو الين؛ النهار ينغ والليل ين؛ الشمس ينغ والقمر ين؛ إلخ. والينغ والين ليسا وجهان للطاقة، بل هما متكاملان تماماً في أي عنصر يتظاهران فيه، ويمكن للواحد منهما أن يتحوَّل إلى الآخر بسهولة (شكل 12)، كما أن الأرض تدور باستمرار، وتتغير زاوية الشمس، فيصير الجزء المشمس ظليلاًَ، والجزء الين الظليل ينغ مشمساً. في الجسم، تُعتبَر الأقسام العلوية والخارجية والخلفية من الجسم ينغ، أما الأقسام السفلية والداخلية والأمامية ين؛ الرأس ينغ، بينما العَجُز ين؛ الدم ين بينما الطاقة ينغ، الشهيق ينغ، بينما الزفير ين؛ الأفكار ينغ، بينما المشاعر ين. شكل
12
شكل
12:
تحول الين والينغ كل منهما إلى الآخر ثالثاً:
مبدأ الثالوث يوجد مبدأ الثالوث، كما
نعلم، في عدة ديانات، كالديانة المسيحية،
ولكن تأثيره واضح بالأخص في الديانات الشرقية
التي تعتبر أن الصفات الأساسية للكون هي
الفراغ والضياء والطاقة، وهي التي تعطي
الفضائل الثلاث: الحكمة والمحبة والقوة. في
البوذية هناك الجواهر الثلاثة للبوذا
والدهرما والسنغها، وفي الهندوسية برهما
وفشنو وشيفا، وفي التاوية يظهر الثالوث كونياً، بشكل
مكبَّر، من خلال القوى الثلاث
للسماء والأرض والإنسانية، وبشكل مصغَّر، في
داخل الإنسان من خلال الكنوز الثلاثة للجوهر jing
والطاقة chi
والروح shen
التي تقابل التظاهرات ما بعد الولادية للبدن
والتنفس والعقل. تتوضع الجواهر الثلاثة في
حقول الإكسير الثلاثة San
dan-tien:
الجوهر الأساسي يتوضع في الإكسير السفلي،
أسفل السرَّة، ويرتبط بالغدد الجنسية؛ تتوضع
الطاقة الأساسية في الإكسير المتوسط في
الضفيرة الشمسية وترتبط بالغدد الكظرية؛
وتتوضع الروح الأساسية في الإكسير العلوي في
مركز الرأس وترتبط بالغدتين النخامية
والصنوبرية (شكل 11). يستعيض المنقول البوذي
التيبتي، من جانبه، عن التنفس بالكلام، فيسمي
التظاهرات الثلاثة البدن والكلام والعقل،
لأنه يعتبر الكلام أهم تعبير عن الطاقة في
الإنسان. من هنا الدور الكبير لترداد مقاطع
صوتية معينة أو ما يدعى بالـ mantra
في الرياضات التيبتية. هذا وتولي الطرق
التاوية أيضاً أهمية كبيرة للصوت، لذا يحوي
العديد من تمارين التشي كونغ طرقاً لاستعمال
الصوت، كما في "سر المقاطع الستة" six syllable secret
المستعمل في العلاج؛ وكذلك
لاستعمال ألحان معينة لتنشيط وإحداث توازن في
مراكز الطاقة الأساسية في الجسم المدعوة chakra
في
المنقول الهندي. تشكل القوى
الثلاث san
tsai
والكنوز الثلاثة san bao
أساس
الخيمياء الداخلية التاوية، حيث يتم تحويل
الجوهر إلى طاقة، والطاقة إلى روح، والروح
تنسجم مع الصفات الثلاث للكون من فراغ وضياء
وقوة. رابعاً: الطاقات الخمس العنصرية the five elemental energies شكل
13
شكل
13:
دائرة التاي تشي والمثلثات والعناصر الخمسة تنقسم الثنائية الموجودة في الكون، بحسب التاوية، إلى خمس طاقات هي: الخشب والنار والأرض والمعدن والماء، التي ينجم عن تداخلها وتجلِّياتها كل الظواهر الموجودة في الطبيعة. يساعد كل عنصر العنصر الذي يليه، وتسمى هذه الحلقة بالحلقة المكوِّنة أو الحاثَّة. على هذا، يكوِّن الماء الخشب، الذي يولِّد النار، التي تولِّد التراب، الذي يشكِّل المعدن؛ وتكتمل الحلقة بتوليد الماء من جديد. ولعدم السماح لأي عنصر بتجاوز حدوده والخروج عن التوازن المطلوب هناك حلقة أخرى تدعى بالحلقة الناهية أو المثبِّطة، حيث تقوم إحدى الطاقات بنهي أو تثبيط فعالية طاقة أخرى. فالماء يحدُّ من النار، التي تثبِّط المعدن، الذي يحدُّ من الخشب، الذي يقلل التراب، الذي يكمل الدورة من خلال إعاقة الماء (شكل 14). شكل
14
شكل
14:
الحلقتان الحاثَّة والناهية للعناصر الخمسة ترتبط هذه الطاقات مع أعضاء
مختلفة، بحيث يقابل عضو ينغ وعضو ين
كل طاقة من هذه الطاقات. لهذا نشأت تمارين تشي
كونغ مخصَّصة لكل عضو. فالقلب الضعيف يعطى
تمارين لتنشيط طاقة النار، والقلب المفرط
العمل، المتضخِّم، يعطى تمارين لتنشيط طاقة
الماء التي تطرد النار الزائدة من الجسم. كذلك
يمكن زيادة طاقة القلب بارتداء ملابس حمراء
وتناول أطعمة مُرَّة. أما الطاقة الأرضية
للطحال والمعدة فتُنشَّط بتناول أطعمة حلوة
وارتداء اللون الأصفر. والطاقة المعدنية
للرئتين والأمعاء الغليظة تنشَّط بترداد
المقطع shee
وارتداء الأبيض... إلخ. خامساً: الأقنية
الصينية meridians يرتبط بكل عضو قناة معينة
تسير فيها الطاقة، والطاقة تحكم الدم، وحيث
تسير الطاقة يسير الدم. تستجيب أمراض الجملة
العصبية بشكل ممتاز للإبر الصينية، لأن
التأبير يحرِّض أو ينقص سيلان الطاقة داخل
هذه الأقنية، وهذا يعيد التوازن للجملة
العصبية وللجسم بأكمله. هناك ستة أقنية ين تابعة للأعضاء، وستة ينغ؛ وهي التي تستخدم بشكل أساسي في التأبير (شكل 15). أما الأقنية الثمانية الأخرى المدعوة بـ"الأقنية الخارقة" extraordinary channels فهي التي تستعمل في التشي كونغ، وخاصة القناة الحاكمة التي تسير على الخط المتوسط للرأس والرقبة والظهر، وقناة الحمل التي تسير على الخط المتوسط الأمامي للوجه والصدر والبطن (شكل 16)، والقناة المركزية التي تسير داخل مركز الجسم من قمة الرأس وحتى العِجان. وهناك محطات أساسية على مسار هذه الأقنية يتم من خلالها تقوية الطاقة أو إضعافها، وفيما بينها تقع نقاط أقل تأثيراً، كما تتفرع عن القنوات العشرين شبكة متداخلة تتوزع في الجسم بكامله. شكل
15
شكل
15:
أقنية الطاقة في مخطوط صيني قديم 3. الطرق الأساسية
لتحريك الطاقة
هناك عدة أنواع للطاقة،
بحسب الصينيين. فهناك: أ.
الطاقة
الأولية
yuan-chi
التي تأتي مع الإنسان عند ولادته إلى هذا
العالم محفوظة في بلازما النطفة والبيضة
الآتيين من الأب والأم، وتُحفَظ بعد الولادة
في الغدد الكظرية والخصيتين عند الرجل أو
المبيضين عند المرأة، وتبقى كاحتياط يمكن
استعمالها في حال نفاد الطاقة ما بعد
الولادية الآتية من الغذاء والماء والهواء.
لكن ما دامت هذه الطاقة الأولية محدودة،
يَقصُر عمر الإنسان تبعاً للسرعة التي
يستهلكها بها من غذاء سيِّئ، إلى أمراض مزمنة، إلى إرهاق مزمن وحياة
سريعة، إلى سوء
العادات الإدمانية والجنسية. تُعتبَر الطاقة
الأولية في النهاية القاعدة الأساسية للصحة
الجيدة وطول العمر، لذا يشكِّل الحفاظ عليها
جزئاً أساسياً من ممارسة التشي كونغ. ب.
الطاقة
الحقيقية أو ما بعد
الولادية jen-chi
التي تأتي من الهضم والتنفس والاستقلاب. تبدأ
هذه الطاقة بالعمل عندما يُقطَع الحبل السري
للطفل ويصرخ صرخته الأولى. يعمل التشي كونغ
على تحسين قدرة الجسم على تكوين الطاقة ما بعد
الولادية. ت. الطاقة المغذية ying-chi التي تدور مع الدم داخل الأقنية لتغذي كامل الجسم. شكل
16
شكل
16:
قناة الحمل الخارقة ث.
الطاقة
الحامية
wei-chi
التي تتوزع على سطح الجسم
لتحميه من تقلبات الطقس والإشعاعات والطاقات
السلبية من الآخرين. ج.
الطاقة
الأساسية jing-chi
التي تأتي من تحويل أرقى وأنقى أشكال الجوهر،
وخاصة السوائل الجنسية والهرمونات والوسائط
العصبية، إلى هذه الطاقة عبر الخيمياء
الداخلية. ح. الطاقة الروحية ling-chi: وهي أكثر أشكال الطاقة سمواً ونقاوة، وتأتي في المراحل المتأخرة من ممارسة التشي كونغ وتساعد على الوعي الروحي وتحسين عمل الدماغ. وعند التقدم أكثر في ممارستها يحصل ما يسمى "ابتلاع الجنين الروحي" (شكل 17) من الأزلية والوصول إلى حالة الاستنارة العقلية وحالة جسم النور النقي المسمى بجسم قوس قزح الذي يساعد على دخول العالم الأثيري فوق مستوى العالم المادي. شكل
17
شكل
17:
مرحلة "ابتلاع الجنين الروحي" في
الخيمياء الباطنية التاوية هناك عدة طرق للتعامل مع
الطاقة: أ. جذب الطاقة نحو الداخل shi-chi، حيث يُعمَد إلى جلب الطاقة لداخل الإنسان من مصادر خارجية (شكل 18) عن طريق بوابات الطاقة الموجودة في الجسم، من خلال الشهيق وباستعمال القدرة الفكرية التركيزية النقطية والتخيُّلية لجلب الطاقة، كتخيُّلها مثلاً كضوء أبيض. وأكثر النقاط استعمالاً هي الموجودة على أخمصي القدمين وعلى راحتي اليدين وعلى قمة الرأس وفي الصدر والعجان. شكل
18
شكل
18:
تمرين يستهدف جذب الطاقة نحو الداخل
بامتصاصها من نسغ شجرة. ب.
دوران
الطاقة
shing-chi
عبر الأقنية الأساسية
والثانوية. ت.
طرد
الطاقة
غير
المرغوب بها أو الزائدة عن حدِّها أو الراكدة
أو السُمِّية pai-chi.
وهذه الطاقة، على
العكس من الأولى، يتم تخيُّلها كضباب أو دخان
داكن. ث. تبادل الطاقة huan-chi، حيث يتم الذهاب إلى أماكن جيدة الطاقة (مثل البحار والجبال والغابات) وتتم محاولة مزج طاقة الإنسان مع هذه الطاقات الطبيعية من أجل استعادة الحيوية والنشاط (شكل 19). من إحدى التطبيقات المصغرة لهذه الطريقة التنمية المزدوجة في اليوغا الجنسي التاوي، حيث يلتحم الذكر والأنثى ويتبادلان الطاقة من أجل دعم وتوازن حيوية كل منهما عن طريق الخيمياء الداخلية للجوهر والطاقة الجنسية. شكل
19
شكل
19:
ممارسة التشي كونغ في منطقة جبلية ج.
تخزين
الطاقة
yang-chi،
والمقصود هنا تركيز
الطاقة وخزنها في حقل الإكسير السفلي أسفل
السرَّة أو في مراكز وأعضاء أخرى. ح. تهذيب الطاقة lien-chi، أي زيادة نقاء وقوة الطاقة؛ وتتم عن طريق التأمل قعوداً (شكل 20) وإحداث اتحاد بين الفكر والتنفس، ومن بعدُ تنقية هذه الطاقة في حقل الإكسير السفلي وجلبها للأعلى على مسير النخاع الشوكي نحو الرأس. شكل
20
شكل
20:
التأمل قعوداً خ.
تحويل
الطاقة
hua-chi:
إن تحويل الجوهر إلى
طاقة، والطاقة إلى روح، هو واحد من أهم مبادئ
الخيمياء الداخلية. تشمل المرحلة الأولى
الحفاظ على الجوهر الحيوي وتركيزه وتنقيته،
وخاصة الهرمونات والسوائل الجنسية والنواقل
العصبية. ومن بعدُ يُعمَد إلى تبخير هذه
السوائل في مراكز الطاقة لتحويلها إلى ذبذبات
أعلى من الطاقة لنصل إلى الطاقة الروحية
أعلاها جميعاً. وأخيراً د.
إصدار
الطاقة
fa-chi:
وتعني قيام معلمي
التشي كونغ بإصدار طاقة علاجية من طاقتهم نحو
الآخرين (شكل 8). الخيمياء الداخلية nei-gung كما
ذكرت سابقاً، قضى الخيميائيون الضالُّون
حياتهم في البحث عن إكسير الحياة أو الجوهر
الثمين أو حجر الفلاسفة بدئاً من معادن
خسيسة، ومات من جراء ذلك العديدون. وهذا ما
جعل الخيمياء بكاملها تسقط من الاعتبار.
أخيراً شعر الصينيون وغيرهم أن إكسير الحياة
يقع داخل الإنسان، وليس من خلال معادن وأعشاب
ومختبر الخيميائي. تعتمد الخيمياء الداخلية
على الاتحاد الثلاثي للكنوز الثلاثة: الجوهر
والطاقة والروح، من خلال تطبيقات خارجية
تستهدف توازن الجسم والتنفس والعقل. وكما هي
الحال مع الطاقات الخمس، هناك حلقتان: الحلقة الداعمة
التحويلية، والحلقة المسيطرة. وإن كل
كنز من الكنوز الثلاثة يتوضع في إكسير من
الأكاسير الثلاثة. يصف Chao Pi-chen
الحلقة الداعمة للخيمياء الداخلية: "حقل
الإكسير السفلي أسفل السرَّة هو الذي يقوم
بتسامي الجوهر إلى طاقة، والحقل المتوسط في
الضفيرة الشمسية هو الذي يقوم بتسامي الطاقة
أو الحيوية إلى روح، والحقل العلوي في الدماغ
هو الذي يقوم بتسامي الروح وطيرانها نحو
الفضاء." (شكل 11) بعبارة أخرى فإن الجوهر
الأساسي من الهرمونات والإفرازات الجنسية
تتحول إلى طاقة في الشاكرا الثاني أسفل
السرَّة، ومن بعدُ تتصاعد نحو الشاكرا
الثالث في المنطقة الشرسوفية، حيث تُنقَّى
وتتحول إلى طاقة روحية، وتُرفَع من جديد إلى الشاكرا
السادس في الدماغ من أجل بلوغ أعلى مستويات
الممارسة، ليُعاد من جديد ربط العقل المنتهي
الإنساني بالحكمة اللانهائية الكونية
والمحيط الهائل للروح الأولية – تلك العلاقة
التي فُقِدت وقت الولادة. هذه الحلقة الداعمة
هي مظهر الين من الخيمياء الداخلية؛ أما
الحلقة المسيطرة التي تشكل مظهر الينغ
فتعبِّر عن سيطرة العقل على المادة من خلال
التحكم الواعي بالتنفس والطاقة. هاتان
الحلقتان متعاضدتان طبعاً؛ فلكي تتحكم الروح
بالجسم لابُدَّ أن تقتات الروح بالطاقة
الآتية من الجوهر؛ ولكي تقاد هذه الخيمياء
الدقيقة لابُدَّ للروح أن تقود الطاقة
والجوهر بحزم. أ.
الحفاظ على الجوهر: يعني
تجنب التوترات النفسية المستمرة والتقلبات
العاطفية والتعب البدني المتطاول والأفكار
الوسواسية، بالإضافة إلى عدم التفريط في
المني عند الرجل، وعدم التفريط في الدم أثناء
طمث المرأة. يقول مثل تاوي قديم: "عندما
ينفد زيت الشمعة تنطفئ." ب.
تنمية
الجوهر: أي
ليس فقط عدم التفريط فيه، بل أيضاً تنميته إلى
حالته الأصلية من النقاء والقوة عن طريق
أغذية معينة وأعشاب مقوية وتمارين رياضية
مناسبة وتنفس جيد وانتباه للعادات اليومية. ت.
تحويل
الجوهر: عندما
يمتلئ الجوهر ويصبح قوياً ونقياً بما يكفي
يبدأ تحوله إلى طاقة أساسية في حقل الإكسير
السفلي وبواسطة التنفس، يعمد إلى تبخير
الجوهر وتحويله إلى طاقة، ومن بعدُ، بمساعدة
العقل، يتم تصعيده عبر القناة الحاكمة إلى
الدماغ (شكل 11). ث.
تغذية
الطاقة: عن
طريق التنقية المستمرة للجوهر وتحسين
الوظائف الاستقلابية للجسم وجلب الطاقة من
مصادر خارجية. ج.
تحويل
الطاقة: أي
رفعها إلى الدماغ وتحويلها إلى طاقة روحية.
هذه الطاقة نيِّرة وتتَّخذ ذبذبات الضوء.
تعتمد القدرات الروحية الباطنية على هذه
الطاقة في التخاطر telepathy
والإدراك الحواسي الفائق extra-sensory
perception
والتحريك النفسي psychokinesis
والقدرة على رؤية الغيب clairvoyance.
ويجب ألا تُعتبَر هذه القدرات هدفاً بحد
ذاتها أو تستهدف المكسب شخصي، بل يجب أن
تكرَّس دائماً لخدمة الناس. فهناك الكثير من
الصينيين (وغيرهم) ممَّن أساؤوا استعمالها،
فانتهوا إلى فقدها والسقوط في أسفل الهاوية. ح.
تغذية
الروح: يحدث
تركيز للطاقة في هذه المرحلة في حقل الإكسير
العلوي في الدماغ، حيث يتم تنشيط وإيقاظ
للوجه الأوَّلي للروح. تتطلب هذه المرحلة من
الممارس سكون العقل ما بعد الولادي ومنع
الأفكار المعترضة باستمرار والتشويشات
الحسية الخارجية والمشاعر المتعارضة. خ.
تحويل
الروح: عندما
يتحول الفكر عن الوعي الثنائي المستمر الناجم
عن الأفكار المتزاحمة والرغبات الحسية إلى
الوعي المشعِّ والحكمة الكونية والقوة
اللامتناهية للروح الأوَّلي، عندئذ يتحول
الوعي المنتهي للعقل الإنساني العادي ويتوسع
تلقائياً نحو الوعي المتصاعد غير المحدود لـعقل
التاو الأزلي. هذا التحول يسمى
بالاستنارة والتسامي والتحرُّر واليقظة،
ويدعى في تعاليم بوذية زِنْ اليابانية باسم Satori،
وفي السنسكريتية باسم Nirvana،
وفي التاوية باسم Wu-dao
(أو الاستيقاظ للطريق)، ويحدث عادة فجأة، بدون
توقع، مع الممارسة الطويلة والمستمرة. د.
العودة
للمصدر: هذه
هي المرحلة الأخيرة من الممارسة التي يُطلَق
عليها مجازاً "الطيران في الفضاء"؛
ويقصَد بها أن الشخص الذي أذاب أناه واختبر
وعي الاستنارة يشعر أن الوقت قد حان ليرمي عنه
البدن، ويبدأ التحضير لمغادرة العالم
بإرادته الكاملة في حالة معينة من الطاقة
والروح يطلق عليها "جسم قوس قزح" أو "الجنين
الروحي" ling-tai.
يقوم جسم قوس قزح باستعادة الوحدة الأصلية
بين الجوهر والطاقة والروح، أي الكنوز
الثلاثة، وبإعادتها إلى المصدر الكوني
الخلاق، كقطرة الماء التي تعود إلى المحيط.
لكن الفارق هنا أن القطرة لا تذوب ضمن المحيط،
بل تتوسع لتشمل كامل المحيط! 4. المدارس الأساسية
في التشي كونغ
أولاً. المدرسة
التاوية: إن
الهدف الأساسي لهذه المدرسة هو تحقيق الأزلية
عن طريق الابتلاع التدريجي للـ"جنين
الروحي" كما أسلفت (شكل 17)، أي عن طريق
الخيمياء الداخلية وعودة الروح للفراغ أو
المصدر. أهم ما تعتمد عليه التصعيد المستمر
للطاقة والوعي من العَجُز باتجاه الدماغ، ومن
بعدُ الالتحام بالوعي الكوني. كما تعتمد على
القدرة التخيُّلية والتذهُّنية، وعلى أن
الإكسير الداخلي هو أساس تغذية الجنين
الروحي، وعلى تمارين سكونية وحركية، مثل
الداو ين (حركات بطيئة إيقاعية منسجمة مع
التنفس البطني) و"لعبة الوحوش الخمسة" (من
مراقبة حركة الحيوانات). وكذلك يعمد ممارسوها
إلى فترات صيام، لا يتناولون فيه أية مواد
مطبوخة أو فواكه أو حبوب، بل فقط أعشاب طبية. ثانياً. المدرسة
البوذية: قبل
مجيء Ta
Mo
كان الاهتمام البوذي دائماً بالوصول إلى
الاستنارة الروحية أو الحالة البوذاوية عن
طريق الممارسة المكثفة للتأمل السكوني. وبعكس
المدرسة التاوية فإن المدرسة البوذية اعتبرت
البدن معيقاً للممارسة الروحية ولم تُعِرْ
اهتماماً للصحة وطول العمر. ولكن مع مجيء Ta Mo
اعتُبِر
البدن القوي أساسياً من أجل ممارسة روحية
جيدة. ومع هذا ما يزال البوذيون يركزون
بالدرجة الأولى على الفضائل الروحية، خاصة
التعاطف واللاعنف وضبط الغرائز، كما لا
يهتمون باليوغا الجنسي على الإطلاق،
ويعتقدون أن الإنسان الذي يحصل على الكثير من
القوة من خلال ممارسة الفنون القتالية
واليوغا الجنسي، دون التغلب أولاً على أناه،
يحيد عن الطريق السليم ويستعمل هذه القوى
بطرق سيئة. ثالثاً. المدرسة الكونفوشية: اهتم كونفوشيوس كثيراً بالتاوية واحترم لا وتسه احتراماً جزيلاً. وقد اهتم كونفوشيوس وخليفته الفلسفي منشيوس بالتشي كونغ، ولكنهما نظرا له من وجهة نظر مختلفة تماماً، فاعتبرا التشي كونغ طريقة لتوازن وتنقية الفكر والتحكم بالعواطف، ليصبح الأشخاص أفراداً صالحين في المجتمع، ولم يهتما بالاستنارة أو ما شابه. يقول منشيوس: "لتطوير العقل لا بد من إزاحة الرغبات لتظهر الطاقة الأولية النقية للطبيعة." كما يقول: "يقوم القادة الاجتماعيون والسياسيون بدورهم بشكل جيد، فقط بعد فترة من تأمل النفس لإزالة الجشع والعنف والتكبر والأمراض الأخرى للنفس." شكل
21
شكل
21:
مشغل لممارسة التشي كونغ. تعكس هذه الممارسة
الجماعية نوعاً من الالتزام الاجتماعي الذي
نادت به الكونفوشية وفي أثناء حقبة السونغ،
ونتيجة لازدياد تأثير البوذية التي كانت
حينئذٍ تُعتبَر أجنبية، والتاوية التي كان
اهتمامها بالتحرر الفردي مصدر خطر على
الكونفوشية، انتعشت الكونفوشية مع أخذ
تعاليم عديدة من البوذية والتاوية،
وسُمِّيَت هذه الحركة بـ"الكونفوشية تولد
من جديد" أو "الحركة الكونفوشية الجديدة".
وكان أهم تعاليمها استعمال التطور الروحي
لخدمة المجتمع وليس الفرد، بعكس التاويين
والبوذيين الذين كانوا سابقاً أو لاحقاً
يتركون العائلة وينزوون في معبد أو جبل من أجل
الاستنارة. رابعاً.
المدرسة الطبية: وقد أشرنا إلى علومها. خامساً.
مدرسة الفنون القتالية:
وهذا مبحث يخرج عن مجال هذه العرض. كان هذا طبعاً عرضاً سريعاً مقتضباً لبعض هذه التعاليم الصينية التي كتبت فيها مجلدات ومجلدات ضخمة، والتي طالما خفيت عن الأنظار أو تم مارستها في أجواء سرية نخبة معينة. ولا أظنني أجانب الصواب إن قلت القول إن القرن العشرين (رغم الفواجع التي حدثت خلاله ووسائل التدمير الشامل والانتهاك المهين لحقوق الإنسان) جعل الكلام في عديد من الأمور – للمرة الأولى – مفتوحاً ومتاحاً للجميع. شكل
22
***
*** ***
*
د. قيصر زحكا طبيب اختصاصي بالأمراض
العصبية وبالطب الصيني، ومهتم بالطبابة
البديلة إجمالاً.
|
|
|