الانتظام الذاتي

من الفيزياء إلى المجتمع

قراءة في أوراق لقاء سوريزي 1983

عن الانتظام الذاتي*

 

موسى ديب الخوري

نائب رئيس الجمعية الكونية السورية

 

يعبِّر الإنسان عن حقيقته من خلال الإبداع، ومن خلال هذا الإبداع يعود فيجد حقيقته في كمالها كلِّه.

ر. طاغور

 

لطالما تساءلت كيف يبدع الشاعر قصيدته، والموسيقي ألحانه، والفيزيائي نظريته، والحرفي صنعته. لعلَّ الإبداع في النهاية هو نظمٌ للعناصر في سياقات محددة؟ لكن كيف ينتقي الشاعر كلماته؟ وما الذي يجعلها تنتظم في شكلانية معيَّنة؟ وكيف يختار الموسيقي النغمات، فإذا بتتاليها يعبِّر عن صور حيَّة من الوجدان والفكر؟ ثم، لعلَّ في الإبداع درجات ومراتب، وفي الأنماط الإبداعية، من شعر وفن وفكر، مستويات متدرِّجة؟! وما الذي يجعل هذه الانتظامات جواذب متعددة الجوانب على المستويات الجسمية والنفسية والفكرية والروحية؟ وإلى أي حد يمكن لهذه التعددية الهائلة، المتطورة عبر التاريخ، أن تعكس حاجة أو حاجات متفتحة ومتحوِّلة ومتطورة لدى الإنسان؟

هذه الأسئلة لم أجد عليها إجابة إلا في نمط آخر من الأسئلة. فالإبداع البشري انعكاس لإبداع طبيعي وكوني، والحاجات الإنسانية تعبير عن حاجات كونية في الجوهر. لقد أبدع الكون منذ ولادته القوى الأساسية، وأبدع من خلالها العناصر وأنماط تشكُّلها، ثم أبدع البنى الكونية والمنظومات الهائلة من سُدُمه الأولى، وبعد ذلك أبدع الحياة وارتقاءها. والكون عبر صيرورته هذه إنما كان يطرح باستمرار الأسئلة العميقة ويحاول الوصول إلى إجابة عليها عبر تحقُّق نماذجها في كينونات.

فكيف يطرح الكون أسئلته، وكيف يحقق بالتالي إبداعاته؟!

لعلّ الكون لا يكتفي برصف العناصر جنباً إلى جنب، ممارساً عليها شتى القوى في عملية تجريبية، وصولاً إلى شكل قادر على بناء ذاته بذاته والتطور في سياقه الخاص؟ وبعد تحقق هذه الإبداعات، تُرى كيف تكون هذه البنى قادرة على التطور وعلى تحقيق مزيد من الإبداع في عملية ذاتية؟ ثم كيف تتراكم الخبرات الذاتية للعناصر؟ وكيف تُحفَظ وأين؟ وكيف تُعمَّم هذه الخبرات في السياق الكوني كلِّه؟ وضمن صيرورة الحفاظ على المعنى الجوهري للخبرات، خلال انبثاق العناصر وتحلُّلها، ما الذي يجعل لهذا المعنى بعداً واقعياً وقيمة حقيقية، رغم اندثار العناصر الفردية التي أبدعتها واختبرتها؟

هذه نماذج من أسئلة يمكن أن تُطرَح ما دمنا نفكر بالإبداع الكوني انطلاقاً من مسائل بسيطة جداً. وتشير تآلفات الحياة اللانهائية في أنساق ومجموعات متداخلة إلى الأمثلة التي لا تحصى على هذه النقطة. فهذه الأسئلة تشير ، في الجوهر، إلى نماذج أولية archetypes في طرحنا وفهمنا لإبداعاتنا وللإبداعات الكونية. وهذه النماذج تقوم على مبادئ ضمنية في نفسانيَّتنا ونفسانيَّة الكون، قد لا نتفق عليها مذهبياً أو منهجياً، لكنها تظل الموجِّه الأول لبحثنا، ويمكن اختصارها بكلمات بسيطة: الوحدة، الكلِّية، الصيرورة، الانفتاح...

كيف تؤثر بي قصيدة عبر الزمان والمكان؟ وكيف يجذبني لحن موسيقي وُضِع منذ قرون؟ وما السرُّ الكامن في لوحة من عصر النهضة يجعلني أقف أمامها متأملاً؟ ألا يشير ذلك إلى أنني أحمل خلاصة التجربة الكونية والإنسانية عبر الزمان والمكان؟ وعندما أتأمل نجوم السماء في ليلة صافية، أو أسير في الطبيعة مستأنساً، ألا أشعر بالصلة بيني وبين الكون والطبيعة؟

إن تاريخ الكون يخبرنا إنه لم يَبنِ منظومات معزولة كلياً. ولسنا نجد في الطبيعة مجموعة معزولة عن خلفيَّتها البيئية، مهما بلغ توازنها الداخلي. إن المؤثرات الطبيعية لا حدود لمجالاتها، ومعامِلات تأثُّر أية مجموعة محددة من العناصر بها لا يمكن أن تحصى. فنحن، مثلاً، لا نستطيع التنبؤ بالمناخ على فترات بعيدة، ويمكن لمعامِلات قد لا تخطر لنا ببال أن تكون سبباً رئيسياً في تحول مناخي كبير. إن اهتزازات جناحي فراشة يمكن أن تولِّد إعصاراً في مكان بعيد عنها ضمن شروط معينة، ويمكن لتغيُّرات تحصل على الشمس لا نعرف سببها أن تؤثر على بيئتنا وعلى حياتنا. ومن يدري، فلعلَّ انفجار نجم بعيد أو ولادة مجرة يحملان لنا الآن إلى الأرض حصيلة حادث جرى منذ ملايين السنين!

وضمن مجموعة المؤثرات اللانهائية التي يمكن أن تتعرَّض لها أية منظومة، بما فيها المتعضِّيات الحية living organisms والبشر، نتساءل من جديد عن تلك النماذج الأولية التي تمثل الموجِّه القادر على الخلاص بالمنظومة من نطاق الشواش، لا بل وعلى اختيار المؤثرات الإيجابية من بينها، القادرة على دفع صيرورة المنظومة قدماً إلى الأمام وعلى الحفاظ، بالدرجة الأولى، على توازنها. يعيدنا هذا التساؤل إلى السؤال الأبسط الذي طرحناه منذ البداية: كيف يبدع الشاعر قصيدته؟ فلعلَّه لا يرصف الكلمات بعضها إلى جانب بعض وحسب، بل ويستطيع، في لحظة الإشراق، إبعاد كافة المؤثرات الشواشية عن ذهنه وقلبه بحيث يبلغ تناغمه الداخلي ذروته؟ وفي الحقيقة، أليس ما يقوم به الشاعر هنا هو عينه ما قامت، وتقوم به، الحياة؟!

فيزياء الانتظام الذاتي

إن استمرارنا في طرح الأسئلة ينبِّهنا إلى الجانب الذاتي في معرفتنا. فما هو النظام – مثلاً؟ وهل تخضع الطبيعة لقوانين كونية بمعزل عن وعينا؟ هل النظام هو ما نخلقه في ذهننا من تجريدات رياضية وهندسية، أم أنه متصل في الطبيعة وفينا إلى ما وراء إدراكنا ومعرفتنا؟

كانت الهندسة توصَف بالجفاف لأنها لم تكن تستطيع وصف الغيوم أو الجبال أو الأشجار أو شلالات المياه. وحتى فترة قريبة كان يُنظَر إلى بعض مظاهر النظام في الطبيعة كحالات شاذة من الحالة الشواشية الشاملة، التي لابد لها في النهاية من العودة إلى الشواش chaos. ومنذ عام 1975، ومع أعمال الرياضي بنوا ماندلبروت المستلهَمة من الرياضيات المجردة، أصبح من الممكن وصف التشكيلات الطبيعية الشواشية، لا بل وحتى ظاهرات الفيزياء الميكروسكوبية. وسرعان ما تبينت أهمية هذه النظرية، التي تسمى بنظرية الفراكتالات fractals، في إعادة التوازن لمفهومي الشواش والنظام. وقد تطلَّب ذلك خلال ثمانينات وتسعينات القرن العشرين إعادة النظر إلى العالم إلى أبعد من الرؤية الكلاسيكية، سليلة المنظومة النيوتونية، حيث كل شيء قابل للتنبؤ ومُقدَّر، وإلى أبعد أيضاً من الرؤية الاحتمالية والعشوائية التي تطورت خلال القرن الماضي والتي تصرُّ على الفرادة الشواشية وعدم القدرة على التنبؤ بأي حادث. وبذلك أمكن العودة من جديد إلى طرح السؤال حول دور الوعي في إنشاء النظام من الفوضى، إنما هذه المرة على أسس علمية، بل وتجريبية أيضاً! فهذه النظرية، من وجهة نظر تطبيقية، تتألف من العديد من النظريات العلمية المختلفة التي تلعب فيها المجموعات الفراكتالية دوراً أساسياً. فدراسة أية منظومة، مثل الغيوم أو السواحل أو الجبال أو توزّع المجرَّات أو الدوَّامات المبدِّدة في سائل، كلها تركز على هذا المفهوم الجديد: تنجم البنى الشواشية لهذه المنظومات عن تفرعات bifurcations يمكن أن تكون كثيرة جداً، إنما محدَّدة في النهاية، بعكس ما تقول به النظريات التقليدية، بين حدين أدنى وأعلى، بحيث تكون هذه التفرعات نماذج متماثلة بحجوم وأبعاد متدرجة في الصغر أو الكبر عن نموذج بدئي أولي.

وفق هذه الرؤية لم يعد النظام شكلاً تحديديًّا وميكانيًّا، بل يقوم على ديناميَّة صيرورة التحول المستمر في الطبيعة، وعلى إبداع الأنماط الجديدة. إن الطبيعة لا تكرِّر أشكالها أبداً، لكنها تستنبط من نماذجها الأولية أنماطاً جديدة. وهذه الديناميَّة تقوم على حرية باطنة في الطبيعة، حرية نستلهم معناها اليوم من قدرتنا على استنباط العلاقات الرياضية المجردة، ثم إيجاد ما يعطيها المعنى في الطبيعة. أفلا يشير ذلك إلى أن إبداعنا هو إبداع طبيعي في جوهره، إبداع يترك الفرصة للإمكانات الجديدة وللنماذج الكامنة لكي تتفتح وتظهر؟!

لم تكن صعوبة إيجاد الإطار الوصفي الهندسي للظاهرات الطبيعية ناجمة من تعقيدها وحسب، بل ومن تحوُّلها المستمر أيضاً بتأثير معامِلات متعددة. لذا فإن الشكل الهندسي الشواشي يرتبط إلى حد كبير بمفهوم الشواش الفيزيائي. فالشواش الفيزيائي ليس ناجماً عن نقص معلوماتي، بل هو، كالهندسة الفراكتالية، باطن في الطبيعة. إن الصيرورة الكونية لا تخضع في النهاية لقوانين نيوتونية ميكانيَّة، لكنها لا تنمو أيضاً بشكل فوضوي. فكما أن هناك تشكُّلاً فراكتالياً هندسياً يمكن من خلاله بناء الشكل الشواشي ابتداءً من نموذج أولي، كذلك ثمة نواظم حدِّية أيضاً على مستوى تطور البنى عبر الزمان، هي نواظم ديناميَّة قابلة لتشكيل صيرورات منتظمة وفق إيقاعات شواشية، لا تكرِّر الحركة أو التشكيل نفسه، إنما تخضع مع ذلك لأنماط تطورية متناغمة ذاتياً وقادرة على الحفاظ على بنيتها وعلى تطويرها. وكما سنرى، فإن هذه النواظم هي القوانين الطبيعية الأساسية، إنما التي لم تعد تأخذ اليوم شكلاً فوضوياً مطلقاً أو عددياً صارماً.

العلوم في منحى الانتظام الذاتي

طرح تطور علوم الانتظام الذاتي auto-organization عوائق منطقية وإبستمولوجية تعيدنا إلى التعارضات التي نجدها في الرياضيات مثلاً. وقد انعكس ذلك على كافة علومنا. فإلى أي حدٍّ يمكن لمنظومة مغلقة، مثلاً، أن تتضمن كافة براهينها؟ وإلى أي حد يمكن لمنظومة أن تكون معزولة عن المنظومات الأخرى، أو حتى عن البنى الهرمية الأوسع والأعلى منها؟ إن هذا السؤال يمكن أن ينطبق على أية مجموعة فيزيائية أو كيميائية أو بيولوجية أو حتى اجتماعية أو اقتصادية...

ففي الفيزياء والكيمياء والترموديناميكا، مثلاً، تبيَّن أن المادة قادرة على الانتظام ذاتياً، كما في الصيرورات البعيدة عن التوازن التي تؤدي إلى تخلُّق مفاجئ لبنى منتظمة، كما في الديناميكا الغريبة التي دعيت ديناميكا الجواذب الغريبة، أو الجواذب الفراكتالية attractor، حيث تشكِّل هذه الجواذب حالات ناظمة لبنى معقدة جداً وغريبة جداً. ونموُّ أو تغير هذه البنى لا يعني مجرد انتقال أو تبدل يمكن حساب التغيرات الناجمة عنه، بل تحول كلِّي للمنظومة ضمن سياقها، إنما بحيث لا يمكن التنبؤ بها إلا ضمن أفق زمني معين.

وفي البيولوجيا، بعد أن ظن العلماء أن الحقل الجيني قدم لهم الحل النهائي الحاسم لمسائل التشكل والنمو، طُرِحت مسائل جديدة لم تكن متوقعة، بعيدة تماماً عن الإطار التقليدي. فإلى أيِّ حدٍّ يمكن للمنظومة الحيوية أن تملك تناغماً ذاتياً ليس قادراً فقط على تشكيل المنظومة نفسها، بل وعلى وعي وتوجيه صيرورتها.

لقد نجمت هذه التساؤلات، بالدرجة الأولى، عن خلع مصطلحات المعلوماتية (مثل الشيفرة والبرنامج والمعلومة والنسخ والرسوم والترجمة وغيرها) على مصطلحات البيولوجيا وغيرها. فهل تستوعب هذه العلوم مصطلحات المعلوماتية، أم أنها حقاً كامنة فيها؟ وهل يمكن حقاً مقارنة طرائق البحث في البرمجة والذكاء الصنعي artificial intelligence، مثلاً، بالمنظومات الطبيعية والاجتماعية؟

إن الإنسان الذي يعامل الآلات على أنه خالقها لا يستطيع النظر إلى المنظومات الطبيعية على هذا النحو. فعليه، قبل كل شيء، أن يتخلَّى عن النظر إلى الكون كآلة ضخمة. وعليه أن يحمِّل مصطلحاته دائماً إمكانية الانفتاح على الجديد. وهكذا فإن بحثه اليوم عن القوانين الطبيعية ينطلق من فهم جديد للنظام، لا يتم فقط عبر خلع المفاهيم المجردة على الظاهرات، بل على نحو لا تكون الآلية الجامدة وفقاً له هي العلَّة الكامنة لنشوء الحياة وتطورها. وهكذا فقد أُجبِرت الفيزياء مؤخراً على التخلِّي عن نمط البحث السببي الجامد في العلاقات بين عناصر المنظومة، واضطرت البيولوجيا إلى الإقرار بأن البرنامج الجيني genetic program هو برنامج بحاجة إلى قراءة وتنفيذ حتى يُقرأ ويُنفَّذ!

هكذا تعود علوم الانتظام الذاتي لتطرح، كما أسلفنا، التعارض القديم نفسه: "طرح مجموعة تشكل كلاً، وتكون عناصرها مفترضة مسبقاً، لكي تكون قادرة على معرفة وجود كلٍّ على هذا النحو."

كان موضوعا الفيزياء الكلاسية الأكثر أهمية هما: الديناميكا التي توصَف بصيغة التكافؤات العكوسة تماماً، والموضوع الترمودينامي المتميز دائماً بالتوازن. الأولى تتصف بذاكرة مطلقة، إذ لا يُكتسَب شيء فيها لا يكون متضمناً في حالاتها السابقة؛ والثاني، على العكس، يشهد تطوراً يتم خلاله نسيان حالته البدئية. لقد تم الانتقال اليوم، كما تقول إيزابيل ستنغرس، "من هذه الفيزياء الوصفية إلى فيزياء الصيرورة، من فيزياء تضع النماذج والجداول إلى فيزياء بدأت تحاول سبر التاريخ وروايته". فمع ظهور "البنى المبدِّدة" (المصطلح لإيليا بريغوجين) تحولت الديناميكا إلى دراسة تخلُّق البنى عبر صيرورة لاعكوسة irreversible، بينما أعطت الترموديناميكا الأمثلة على تخلُّق المنظومات الذاتية الانتظام من الشواش.

وهكذا علينا في هذا المنظور الجديد ألا نأخذ بتفسير ظاهرة ما على مستوى واحد. مثال ذلك مفهوم الزمن في منظومات الانتظام الذاتي. إن المبدأ الثاني في الترموديناميكا يشير إلى أن الإنتروبيا entropy تزداد مع الزمن في المنظومات المعزولة. فهل علينا تعريف الزمن باتجاه متراجع مع تشكل وانتظام منظومة ما؟ إن الانتظام في البنية المبدِّدة بمفهوم بريغوجين، المرصود على المستوى الماكروسكوبي، يوافق تبديداً كبيراً للطاقة، وبالتالي زيادة في الإنتروبيا تحرض بدورها درجات الحرية الداخلية للجزيئات. وتكون محصلة الإنتروبيا النهائية متزايدة لأن درجات الحرية الميكروسكوبية ذات أثر نسبي أهم بكثير من التموُّجات المركزة المرصودة على المستوى الماكروسكوبي. فاتجاه الزمن واحد على المستويين، لكن محصلة الإنتروبيا تزداد في النهاية. ولهذا يجب الانتباه إلى سلَّم قياس الظاهرة، وإلى أن الحدود المهمة في قياس الإنتروبيا هي الحدود الميكروسكوبية. وهذا يوضح لنا، إلى حد بعيد، الفرق بين الشواش الهندسي على المستوى الماكروسكوبي، والشواش الميكروسكوبي الذي تقيسه زيادة الإنتروبيا. ضمن هذا المنظور لا يكون ثمة تعارض بين المبدأ الثاني وإبداع النظام في الكون. ولكن، ألا تعكس هذه التراتبية hierarchy التعارض نفسه حول تضمُّن الشواش للنظام؟!

الحياة والقانون الثاني للترموديناميكا

تتميز الحياة بالنظام. فالأيض metabolism الخلوي، مثلاً، يتطلب تآلف آلاف التفاعلات الكيميائية؛ وهو ما يدعى بالنظام الوظيفي. والشيفرة الوراثية تحدّد تنظيماً للجزيئات يسمح مثلاً بتخصص الإنزيمات؛ وهو ما يدعى بالنظام الهندسي أو البنائي.

إن المبدأ الثاني في الترموديناميكا يؤكد أن حالة النمو والتطور الأكثر احتمالاً لأية منظومة معزولة هي حالة التوازن الشواشي أو الإنتروبيا العظمى. ولهذا كان يبدو حتى الآن أنه يوجد تعارض بين هذا المبدأ وظهور الحياة المنظَّمة. لكن بريغوجين ومدرسة بروكسل عدَّلا هذا الفهم. فالبنى البيولوجية ليست سوى حالات خاصة من اللاتوازن، وتتطلب، بالتالي، تبديداً مستمراً للطاقة؛ ومن هنا جاءت تسميتها بالبنى المبدِّدة dissipative structures. يقول بريغوجين: "لقد ظهرت الحياة عبر تتالي اللاإستقرارات. فالضرورة، أي البناء الفيزيائي–الكيميائي للمنظومة والضغوط القسرية التي يفرضها عليها الوسط، هي التي تحدِّد عتبة لااستقرارية منظومة. والمصادفة هي التي تحدد أي تموُّج سيتوسع وينمو بعد أن تبلغ المنظومة هذه العتبة، ونحو أية بنية وأي نمط عمل سيتَّجه من بين كافة التموُّجات والاضطرابات التي تجعل الضغوط على الوسط ممكنة." وهكذا فإن دور المصادفة في ظهور الحياة هو دور محدود جداً بالنسبة لبريغوجين؛ فهو يتقلص إلى خيار من مجموعة إمكانيات، في حين أن الخيار بنظر جاك مونو يكون عشوائياً تماماً.

قد يمكننا أن نطبق رؤية بريغوجين هذه لنشوء الحياة على نشوء الكون أيضاً. فلقد انبثق النظام في الكون منذ البدء عبر غلبة الاحتمال الأقل؛ الأمر الذي دعى ستيفن هوكنغ إلى التساؤل عن كيفية انبثاق النظام من شواش ولااستقرار البدء الغالبين آنذاك. لاشك أن ظهور الاضطراب الناظم الأولي (الذي يمكننا أن ندعوه بالجاذب الفراكتالي الأولي) هو الذي سمح بتوسع ونمو تفرعات الانتظام الذاتي "من بين كافة الاضطرابات التي تجعل الضغوط على الوسط ممكنة".

إن النظرية الكمية للبنى غير المتوازنة لا تزال في بدايتها. ومع ذلك نرى منذ الآن أن الحياة تشتمل في آن معاً على منظومات إيقاعية، من نمط الإيقاع القلبي، وعلى بنى أكثر شواشية، من نمط الصيرورات العصبية في الدماغ. لكن مما لاشك فيه أن كافة هذه البنى تعبِّر عن تدرُّجات مختلفة للانتظام الذاتي. ويبدو من المعقول أمام عمومية هذه الصيرورات الاعتقاد أن منظومات تمثل ديناميَّة مرتبطة بجواذب غريبة من النمط الفراكتالي أمكن لها أن تلعب دوراً هاماً في ولادة الظاهرات الحية. فنحن نعلم أن بنية ندفة الثلج تشتمل على أثر بعض مميزات الشروط البدئية التي تمت تحتها صيرورة التبلُّر. وهذا هو بالضبط برنامج عمل فريق بروكسل. وشيئاً فشيئاً ندرك بعداً جديداً للمبدأ الثاني في الترموديناميكا. ففي المنظومات المعزولة كان هذا المبدأ يرتبط بفكرة التحلُّل؛ وبالنسبة للكائنات الحية فإنه، على العكس، يفتح إمكانية صيرورات ذاتية التشكل والنمو.

ترى ما هي أبعاد هذا الفهم الجديد للمبدأ الثاني؟ إننا عندما نأخذ الكون بكلِّيته علينا أن نأخذ بعين الاعتبار في آن واحد الإنتروبيا والجاذبية. لكن الصلة بين الجاذبية والترموديناميكا لا تزال غامضة. فهل أن الكون، مأخوذاً بكلِّيته، مفتوح على تطور دوري أم أنه معرض لتحلُّل لاعكوس؟ وفي هذه الحالة الأخيرة هل ستتفق مفاهيم الزمان والمكان والطاقة مع نمط إدراكنا الحالي لها؟ أم أن كوناً آخر لا نعرف عنه شيئاً ضمن مقاييسنا الحالية سيكون قد تشكل؟ تلكم بالضبط التساؤلات الكبرى التي تنتهي إليها كافة الطروحات الحالية. وفيما يخص المبدأ الثاني في الترموديناميكا تحديداً، وعلى أي مستوى يطبَّق، ألا ينبغي أن نتذكر بأن تطور أية منظومة ديناميَّة لا يمكن أن يُعطى سلفاً، إلا ضمن أفق زمني معين؟

المعلومات والانتظام الذاتي

يذكِّرنا هنري أتلان أن تطبيق نظرية المعلومات التي طرحها شانون على انتقال المعلومات البيولوجية يجب أن يترافق بتوضيح هام جداً، وهو أن انتقاء المعلومات عملية احتمالية بحتة، حيث لا تهتم المعلوماتية بترتيب هذه المعلومات وأهميتها. لذا فإن تطبيق مفاهيم معلوماتية في حقل الجينات، مثلاً، يتطلب دراسة معمقة للنتائج السببية التي يقدمها البرنامج الجيني. وهذا ينطبق بالأحرى على عمل الخلية برمتها. فبهذا العمل بالذات إنما تتعلق آلية نقل وترجمة الـ DNA. لذا فإن وضع البرنامج الجيني في الخلية يتعرض لصعوبات جمَّة؛ إذ إن الخلية تتحول على هذا النحو إلى البرنامج وقارئ البرنامج والمستفيد منه في آن واحد. فقراءة ونقل وترجمة رسالة الـ DNA مماثلة لقراءة وتنفيذ البرنامج المعلوماتي؛ لكنها، بيولوجياً، تتطلب تحريض الإنزيمات الناجمة هي نفسها عن هذه الترجمة. من هنا فكرة أن الأمر يتعلق ببرنامج من نمط خاص يحرِّض نتاج قراءته وتشغيله لكي يُقرَأ ويُشغَّل! ومن جهة أخرى فإن الـ DNA وحده غير كافٍ لاحتواء كافة خصائص برنامج جيني أو معلوماتي، حيث يجب أن تضاف له الآليات الخلوية في التنظيم الجيني، وهي الآليات التي تُطلِق عملية القراءة لهذه المتتالية تحديداً أو تلك في هذه اللحظة من النمو. وهذه الآليات لا يزال معظمها مجهولاً.

وهكذا يتطابق البرنامج المعلوماتي، برأي أتلان، مع الوظيفة العامة للخلية ضمن هذا المنظور الجديد، بل ومع المتعضِّية كلِّها, حيث يتحول مفهوم البرنامج المعلوماتي بيولوجياً إلى برنامج ذاتي التنظيم، وهو برنامج لم يُعرَف قبلاً. إنه برنامج يتواحد مع آليته المبرمِجة، ويحدِّد نفسه بنفسه!

ضمن هذا الإطار تتحول الخلية إلى منظومة ذاتية متكاملة، حيث لا يمكن تحديد آلية عمل معلوماتي فيها بقدر ما يمكن رصد محور جاذب يشكِّل إطار نموها. إن صيرورة الانتظام الذاتي يمكن أن تُفهَم كازدياد في كمية المعلومات (أي في التعقيد) بغياب فعل مبرمِج من الخارج. ويكمن الإبداع أو التجدُّد في الاضطرابات العشوائية الخارجية أو الداخلية التي تَرِد عليها المنظومة بازدياد في التنوع. وهكذا يتم اكتساب المعلومات والتعدد والتعقيد – وهي كلُّها محرضات للاستمرار – مقابل فقدان الطاقة وزيادة الإنتروبيا. إن الاضطرابات أو التخلخلات تلعب دور "الضجيج الطبيعي" الماثل في طرق الاتصال. ويؤدي ازدياد الضغوط التنظيمية بسببها إلى الكثرة والتنوع داخل المنظومة. لكنها، ضمن حدٍّ معين، تعود لتقلل من هذه الضغوط. ومع ذلك يستمر عمل المنظومة على الرغم من تناقص كثرتها وازدياد معلوماتها. وهذا النمط من الدورة، القائمة على ازدياد النظام ثم تراجعه، يدعى بمبدأ "النظام بواسطة الضجيج" الذي وضعه فورستر. ويفسر أتلان ذلك بأن الكثرة هي كمون الانتظام الذاتي، مادام التعقيد والتنوع يتمَّان عبر تراجعها التدريجي. وهكذا فإن أثر الضجيج، الذي يُنظَر له على أحد المستويات كأثر محلِّل للنظام، يُنظَر له على مستوى أعلى كأثر منظِّم. فخلق الموانع عبر طرقات نقل المعلومة داخل الخلية يُنظَر له في الخلية كأثر سلبي ومحلِّل للنظام. ولكن مادامت الخلية مستمرة بالعمل فإن هذه الموانع تساهم في تنويع هذه الخلية بالنسبة لجاراتها، وبالتالي يُنظَر لها، على مستوى المتعضِّية، كخلق ممكن للتنوع وللتعقيد المنظِّم الذي يسمح لها بالتأقلم مع وضع جديد بالنسبة للوضع القديم. وهذا غير ممكن بالتأكيد إلا إذا كان من الممكن إدراك الشواش بشكل وظيفي على مستوى آخر من التنظيم.

إن الوصول إلى النمط الشكلي phenotype عبر النمط الجيني genotype يُعَدُّ بسيطاً وخطِّياً وفق التصور الكلاسكي لنقل المعلومة من الجينة، إلى الإنزيم، إلى الشكل والخصائص. ويرى العلماء اليوم ضرورة استبدال أنماط تفاعل أكثر تعقيداً به، أي أكثر طبيعية بالتالي وانسجاماً مع أنماط الجواذب الفراكتالية، حيث تساهم عدة مورثات في تحديد عدة خصائص؛ إذ تطرح التشكيلات اللاخطِّية مسائل أصعب بكثير وتؤدي لظهور ظاهرات لا يمكن التنبؤ بها مسبقاً؛ بعكس المفهوم الكلاسكي للبيولوجيا الجزيئية والجينية. إن كافة الطرق الحديثة المطروحة في دراسة التشكُّل والانتظام الذاتيين والظهور الآني للأشكال وتعقيداتها المتنامية (على الأقل في نظر الراصد) هي في النهاية نتيجة تراكب نتائج نوعين من المعامِلات: فمن جهة، هناك الأفعال التحديدية التي يُعبَّر عنها بمعادلات حركية (مثل التفاعلات الكيميائية أو نقل المواد أو الشحنات الكهربائية والطاقة إلخ)؛ وهي تقبل عادة عدة حلول مختلفة تعبِّر عن عدة حالات، قابلة للتحقق وللتنبؤ بها مسبقاً، يمكن أن تتطور هذه المنظومات باتجاهها لتستقر عندها. ومن جهة أخرى، ثمة تشويشات عشوائية لا يمكن التنبؤ بها توجَّه بأشكال مختلفة، ابتداءً من شروط ابتدائية مختلفة تُطوَّر هذه المنظومات باتجاه تحقيق هذا أو ذاك من الحالات المستقرة أو الجواذب الممكنة مسبقاً.

إن الأمر يتعلق في نهاية المطاف بالمراقِب أيضاً. فالمراقِب الذي لا يستطيع التنبؤ بالحالة النهائية للمنظومة عبر دراسة حالتها البدئية فقط يرى أن التعقيد لا ينفك يزداد في الشبكة المعلوماتية، المقيسة بكمية المعلومات، منذ بدايتها الشواشية حتى النهاية ذات البنية الشكلية المنتظمة. لكن ذلك لا يصحُّ إلا بالنسبة لراصد خارجي لا يعرف ما هي الضغوط الداخلية التي تحدد تطور المنظومة؛ وهذا الجهل هو سبب عدم توقع ظهور الانتظام في نهاية الأمر.

وبالمقابل، من المؤكد بالنسبة لمراقِب داخلي أن البنية النهائية تكون متضمَّنة كمونياً في البنية البدئية. والمراقِب الذي يستطيع أن يرى إلى الحالتين البدئية والنهائية معاً يلاحظ أن الحالة النهائية أقل تعقيداً من البدئية بسبب انتظام العناصر في تجمعات كبرى ضمن الشبكة المعلوماتية. وهذه الحالة نفسها تظهر للمراقِب الخارجي كزيادة في التعقيد والمعلومات لأنه يرى ابتداءً من مجال وحيد يُحدَّد بالتوزُّعات العشوائية التي تشكل العديد من الانتظامات والأشكال المختلفة. والفرق بين الراصدين أن الراصد الداخلي يلغي الزمن، ويغيِّب عنصر المفاجأة، ولا يدرك التحولات بين حدَّين؛ فكأن الحالتين حالة واحدة – وهو أمر صحيح من وجهة أن الأخيرة متضمَّنة في الأولى وليست سوى تعبير مختلف عنها. وبالمقابل فإن المراقِب الخارجي لا يستطيع تحقيق هذا التنبؤ، وخوارزمية حساباته هي نفسها التي تفرض عليه رؤية هذين الحدَّين والمرور بينهما.

الدماغ البشري كمثال

يكتسب مفهوم الانتظام الذاتي أهمية خاصة بالنسبة للحياة والوعي. وقد تبين أنه ينطبق على كافة المنظومات البيولوجية التي يحقق لها هامشاً من "الحرية" و"الإبداع". وهذا الهامش المتغير من نوع لآخر ضروري لاستمرار أي نوع حياة. ويتحدث أتلان عن الانتظام الذاتي بوجود أية منظومة "لها القدرة على استخدام الظاهرات العشوائية بدمجها في المنظومة لتصبح معامِلات إيجابية، خالقة للنظام، وللبنى والعلاقات والوظائف".

إن صيرورات الانتظام الذاتي (في البيولوجيا تحديداً، وبخاصة بالنسبة للمنظومة العصبية المركزية) هي، بالتعريف، الصيرورات التي لا تخضع لسلسلة شكلية من التعليمات ذات المصدر الداخلي (كالبرنامج الجيني)، ولا لمتتاليات من المنبِّهات والحوافز الخارجية التي يُعتقَد بأنها ضرورية، ولا إلى تعليم مفروض وفق مستوى نمو الجهاز العصبي المركزي، بل تنشأ (أي هذه الصيرورات في الانتظام الذاتي) عن خصائص جوهرية في المنظومة نفسها. وهي تتلخص بالمفاهيم الجديدة التي دخلت العلم، من نحو الانفتاح، التعقيد، الكثرة، إمكانية الفعل، الجدارة أو الأهلية، إلخ.

وفي حالة الجهاز العصبي المركزي يمثَّل للكثرة، مثلاً، بوجود عناصر كثيرة متطابقة في البنية الوظيفة، إنما غير متطابقة فيما بينها وغير متجمعة في مكان واحد. وتسمح هذه الخصائص للدماغ، حين يتعرض للتخلخلات العشوائية، بتعويض فقدان الانتظام الذاتي، بل وخلق نظام جديد بزيادة التعقيد، أي بتقليل الكثرة وبزيادة التخصُّصات العصبية.

إن تميُّز الإنسان يكمن في كمونيَّته القادرة على تطوير مجالات لا تنتمي إلا له، وبخاصة التجريد والترميز. ولاشك أنه ينبغي عدم التقليل من أهمية الوراثة أو الاكتساب البيئي أو التعليمي؛ ولكن يبدو أن الانتظام الذاتي لأية منظومة، وبخاصة بالنسبة للقدرة على التجريد، هو الذي يحقق الإبداع الحق. إن الدماغ البشري هو وحده بين الأدمغة الحيوانية القادر على تمثل التكرار والتغيُّر. وتكرار التعليمات الجينية يجعله قادراً على تأمين استقراره واستمراره. لكنه يعتمد، بالمقابل، على حريته بمواجهة التصورات الإدراكية، وهي أساس تطور معرفته وقدرته. فالانتظام الذاتي هو الانضباط الأكثر تأثيراً على تطوره الخاص. ولاشك أن جزءاً كبيراً من هذا العمل الإبداعي يتم خارج نطاق الوعي consciousness، وبتحديد أكبر، في لُجَّة اللاوعي unconscious الذي يمكن أن يشير إلى المعنى الأعمق للشواش واللاتمايز البدئيين.

آلية الانتظام الذاتي

طرحنا حتى الآن الكثير من المفاهيم، كالتعقيد، والضجيج، والتفرع، وغيرها. وربما ألِفنا هذه المصطلحات بحيث نستطيع أن نلج إلى نظريات الانتظام الذاتي التي يمكنها، بدورها، أن تلقي ضوءاً على هذه المفاهيم.

كان فرانشسكو فاريلا يرى أن الانتظام الذاتي ليس ظاهرة بحدِّ ذاته، بل هو ظاهرة انتقالية تنجم عن شيء أكثر جوهرية يميز رصف المنظومات بعامة، ألا وهو الآلية التي تحدد هذه المنظومات وتعرِّف بها كصفوف. ويفترض الانتظام الذاتي، بحسب فاريلا، التمييز بين وحدات المنظومة وعمقها وخلفيَّتها، بحيث يكون هذان العنصران متصلين بعلاقة كسلسلتين من الأحداث تتميزان بدرجة من الاستقلالية. وتلتقي عناصر أو واحدات المنظومة مع خلفيَّتها في نقاط التقاء يدعوها فاريلا بحدود التزاوج النقطية coupling points. وعليه، يمكن بناء فضاء I يحوي المعلومات، وفضاء للمنظومات S، وديناميَّة F تبيَّن مصير المنظومة. ويكون الفرق واضحاً بين نقاط التزاوج والواحدات والمحيط. والعلاقة بين هذه الأطراف تدعى بالتزاوج بالمعلومات information coupling.

إن مفهوم الذاتية يمكن أن يتبدل هنا كمنظومة ذات تحديدات داخلية واضحة. إن دراسة المنظومة تتم عبر دراسة تزاوجات المعلومات بين صيرورتي الأحداث بالنسبة للواحدات والخلفية، وبالنسبة للمنظومات الذاتية، حيث تكون التحولات الداخلية في المنظومة هي التي تسمح بفهم ديناميَّتها. أما نقاط التزاوج فلا تظهر أهميتها إلا في حالات أحداث غير متوقعة. وتشير البيولوجيا، مثلاً، إلى أنه يجب الاهتمام بالتحولات الداخلية حيث تظهر نقاط التزاوج كمؤثرات شواشية على ديناميَّة المنظومة. فما هو الفرق إذن بين المعلومة والتشويش؟ إن المعلومة تشكل جزءاً لا يتجزأ من تعريف الواحدة في المنظومة، في حين أن التشويش يمكن أن يتزاوج مع الواحدة بدون أن يشكل جزءاً من تعريفها. كذلك يمكن للتشويشات أن تتدخل بطرق لانهائية، في حين أن المعلومة لا تتدخل إلا بطريقتها الخاصة. وهكذا يمكننا أن نعرِّف بموازاة المنظومات المعلوماتية المنظومات الذاتية التي تكون قادرة على مقاومة سلسلة من التشويشات.

وهكذا فإن الذاتية ترتبط بالقدرة على تعريف منظومة بواسطة تناغمها الداخلي الذي يعطي هويَّتها وتاريخ العلاقات فيها. وهذا التناغم الداخلي يمكن أن ندعوه بالسياج الوظيفي functional fence. وبالتالي يمكننا الحديث بالنسبة للمنظومة الذاتية عن تزاوج بواسطة الأسيجة.

كيف يمكن إذن اكتشاف أنماط التجانس أو التناغم الداخلي التي تُمثِّل الواحدات المنتمية لهذا الصف أو ذاك من المنظومات؟

يمكن أن ندعو هذه التناغمات الداخلية بالسلوك الخاص. ويمكن وصف غنى منظومة (أو صفها)، وبالتالي تعقيدها، بالصلات بين كافة أشكال السلوك الخاصة الممكنة فيها. وترتبط الآلية الداخلية لهذا المشهد بوظيفة المنظومة؛ أما الطرق الخاصة التي تسلكها فتتعلق بتاريخ التشويشات.

إن وجود أكثر من حالة رصدية ضمن المنظومة الواحدة يؤدي إلى ظهور صفوف تكافؤ لكل من هذه الحالات. وتدعى مجموعة الصفوف لإحدى حالات الرصد بالنسبة لمجموعة ثانية بمجموعة تفرعات الأولى بالنسبة للثانية. ويسمح تعريف التفرعات هذا بتمييز اختلاف المنظومة بالنسبة لمنظورين. وهذا يعني أن إحدى طرق قياس تشابك وغنى التناغم الداخلي لعناصر منظومة هو حساب عدد الحالات الرصدية المختلفة التي تعطي مظهراً لا يمكن اختزاله أو تبسيطه للمنظومة. ويبسِّط ذلك إلى حد كبير مفهوم التعقيد بالنسبة لمنظومة ما.

إذا أخذنا سلوك منظومة ذاتية يمكننا التساؤل: هل إن سلوك هذه المنظومة سيبقى هو نفسه إذا تعرضت لتشويش في أحد معامِلاتها بمقدار طفيف؟ إن الجواب شديد التعقيد، لأن مجموعة التفرعات الناشئة ستكون غنية جداً. وهي، ضمن فترة زمنية معينة، تظهر كتفرع شجري مع تزايدات من الرتبة 2 n ، ويمكن ضمن تفرع معين أن يظهر تغير كبير في سلوك المنظومة. ويمكن لبعض هذه التفرعات أن تتخذ أدواراً لانهائية وتصبح مماثلة تماماً للضجيج أو للشواش. وهذا يعني أن منظومة ذات واحدات ذاتية، محددة تماماً بسياج دينامي بسيط جداً، يمكن أن تصير بسهولة معقدة جداً بمعنى الغنى والتنوع. وعند هذا الحد يمكننا أن نعبِّر عن آلية الانتظام الذاتي بأن "كل سلوك منتظم ذاتياً يولد من تنوع التناغم الداخلي لمنظومة مغلقة عملياتياً".

إن تمييز منظومة عن إطارها ومحيطها، باعتبار هذا المحيط مصدراً للشواش، يشير إلى تغير في المنظور من المزاوجة بالمعلومات إلى المزاوجة بالسياج، أي بالتناغم الداخلي. ويسمح ذلك بتوضيح أثر الضجيج أو التشويش. فالتشويش يبدو أحياناً كقاعدة أساسية للمنظومات المنتظمة ذاتياً. فهي تقتات عليه وتهضمه لإنتاج النظام. لكن فاريلا يرى أن الضجيج لا يتدخل إلا في حال اهتمامنا كراصدين بجوانب ومظاهر المنظومة، وهي جوانب مرتبطة بتناغمها الداخلي. فمادمنا لا نحدد بنية المحيط فهي تبدو لنا عشوائية دائماً. لكن هذا لا يعني أن الضجيج يحوي شيئاً يغذي المنظومة دائماً، لأن ذلك يكون على مستوى التزاوج المعلوماتي فقط. ويختفي هذا الغموض إذا عرفنا أن سياج منظومة معطاة يسمح بتنوُّع كبير من أشكال السلوك الخاص.

يمكن توضيح ذلك بالعودة إلى مثال الدماغ البشري. فالتزاوج بالمعلومات يعتبر أن النظام العصبي مُعرَّف به أساساً بالمعلومات. وتعكس هذه المعلومات عموماً مميزات أو صفات للبيئة تمَّ تحصيلها بواسطة الأعصاب وعولجت داخلياً. وهذا يعني أن المنظومة العصبية تعمل اعتماداً على تعليمات خارجية وتقوم بتشكيل تمثيل وظيفي لهذا المحيط.

وبالعكس، فإن التزاوج بالأسيجة يعرِّف بالنظام العصبي بمختلف أنماط تجانسه الداخلية الناجمة عن الاتِّصالية المتبادلة داخلياً بين الأعصاب. ومن هذا المنظور تكون النشاطات الحسية–الحركية صلات سياج وظيفي متصل. وهذا يعني، مثلاً، أن الرؤية ليست المعلومات التي تأتينا عن طريق الخارج، بل هي تتعلق جوهرياً بطريقة الرؤية التي نحن مجبولون عليها ومنتظمون وفقاً لها.

يمكننا أن نأخذ تطور الكائنات الحية كمثال. فالتزاوج بالمعلومات يكافئ اعتبار المحيط والتغيرات الجينية الناجمة عن الاحتكاك به الموَجِّهَ الذي يسمح بفهم ديناميَّة التحولات من جيل إلى جيل، الأمر الذي يُظهِر هذه التحولات كصفوف أفضل انتظاماً، والانتقاء الطبيعي كنموذج خوارزمي أمثل. أما المزاوجة بالأسيجة فتكافئ اعتبار أن مختلف أنماط التجانس الداخلي لمجموعة حيوانية هي الموجِّه الذي يسمح بفهم الطفرات الجينية لدى أنسالها. ويؤدي هذا إلى ظهور التنوع الظاهر في الطبيعة، على العكس تماماً من أمثلية الانتقاء الطبيعي التي لا تفسِّر تنوع الأنواع بحق.

إن فكرة الاصطفاء الطبيعي تهيمن على العلم منذ أكثر من نصف قرن. ومع ذلك فإن علوم الانتظام الذاتي تطرح رؤيا جديدة اليوم. فالتأقلم الطبيعي الذي أكسب الأسماك زعانفها، مثلاً، يجب ألا ينسينا الجانب الأهم من ناحية فسيولوجيا ونمو المتعضِّية. فالواحدة لا تعمل كمجموعة من الصفات، بل ككلٍّ متجانس. إن موضع عضو في جنين غير متمايز لا يمكن أن يُفهَم انطلاقاً من تقدير ما سيؤول إليه مستقبلاً، بل يجب فهمه، على العكس، كنتيجة للاستقلالية المتبادلة والتعريف المتبادل داخلياً لكل ما يوجد في كل نقطة من المتعضِّية. وعلى هذا الأساس يرى شيرلاشر أن الأشكال المعقدة والجميلة للقواقع، مثلاً، تُفسَّر كنتائج متبدلة لنمط ثابت من النمو البنائي الذي يعتمد "مبدأ الجهد الأقل"، وأن هذه الأشكال المختلفة لا تتعلق، من قريب أو بعيد، بما يُدعى الاصطفاء أو التأقلم مع الطبيعة.

يمكن تلخيص آلية الانتظام الذاتي بما يلي:

-       الانتظام الذاتي هو سلوك مميَّز للواحدات الذاتية.

-       يمكننا وصف واحدة ذاتية بالمرور من وجهة نظر التزاوج المعلوماتي إلى وجهة نظر تزاوج الأسيجة، أو بالتناغمات الداخلية.

-       التزاوج بالأسيجة يقتضي فهم التناغم الداخلي للواحدة، أي سلوكها الخاص.

-       لكل واحدة مزوَّدة بليونة كافية تناغم ذاتي معقد ومتنوع.

-       يظهر التناغم الداخلي المحدَّد ذاتياً، والملاحَظ كسلوك خاص ضمن شروط التفاعل، كجِدَّة غير متوقعة وتأكيد للذاتية، وباختصار، كسلوك لواحدة ذاتية التنظيم.

خاتمة حول المجتمع

منذ البدء، أي منذ لحظة ولادة كوننا، ولدت حرية باطنة في الطبيعة، حرية إبداعية تعطي الكون معناه. لقد تمخض الانفجار الكبير Big Bang منذ اللحظة الأولى عن شواش هائل. وكانت التشكيلات الشواشية التي يمكن أن يتخذ العالم أحد أنماطها أكثر بكثير من عدد الحالات المنتظمة، كما يقول هوكنغ. ومع ذلك، يخضع عالمنا اليوم لقدر كبير من الانتظام. ويتساءل هوكنغ عن سبب كون عالمنا منتظماً إلى هذا الحد، عن سبب اختيار الاحتمال الأقل منذ البداية، والإصرار عليه حتى اليوم؟!

إن إبداع الشاعر لقصيدته لا يختلف في جوهره عن تحقيق خلق مماثل. بل هو في الحق استمرار للإبداع الأولي، وتكريس لتلك الحرية الباطنة في الكون التي تعطي الوجود معناه. وقد استطاعت هذه الحرية، عبر ارتقاء الحياة على الأرض، أن تتجاوز المعيقات الشواشية، لا بل وأن تسخِّرها، محوِّلة الضجيج والكوارث إلى خلفية دافعة للتطور إلى الأمام. كيف لا، والحياة على الأرض تشكل كلاً متناغماً داخلياً؟! كيف لا، والحياة هي بنت الانتظام الذاتي الكوني؟!

إن مفاهيمنا الثابتة حول الكون والحياة بدأت تأخذ معنى جديداً. وهذا لعمري يتفق مع ديناميَّة الكون والحياة وحريتهما! فالنظام لم يعد مجرد شكل نهائي، جامد وخطِِّّي، لعناصر مجموعة ما؛ بل إنه تعبير عن حرية الإبداع والتجدد، حيث يتم تآلف العناصر وفق تآلف دينامي قابل للنمو، وحتى وفق أشكال متزايدة من التعقيد والتنوع. كذلك فإن الشواش الشكلي يُعَدُّ تعبيراً عن هذا التنوع اللانهائي. وهو، من جهة أخرى، إنما يتحقق ويتشكل ضمن أنماط جواذب ناظمة ومبدعة لكينونات غير متوقعة، دائمة التغير والتبدل ضمن أنساقها، ولها قدرة لانهائية على إعادة إبداع معناها عبر تفرعات وأشكال لا تنتهي...

وهكذا، لا يتعارض الشواش مع النظام. كلاهما، على المستوى الماكروسكوبي، درجات في التعبير عن ديناميَّة الانتظام الذاتي. وعلى المستوى الميكروسكوبي يكتسب الشواش أهمية خاصة، من حيث هو تعبير عن زيادة الإنتروبيا، من جهة، وبوتقة تشكُّل التناغم الداخلي في المنظومات، من جهة ثانية. وعلى المستوى الكوني، يمثل ازدياد الإنتروبيا تساؤلاً كونياً تتم الإجابة عليه ضمن الأفق الزمني الذي نستطيع الرؤية عبره بمزيد من التعقيد والمعلومات والانتظامات الذاتية؛ وهو بذلك يعيد فتح باب الأسئلة على مصراعيه من جديد، حيث سيلوح بالتأكيد، عبر عتبة أفقنا الزمني، تساؤلٌ جديد من نمط سؤال هوكنغ، عن لماذا اختار الكون الاحتمال الأقل بين احتمالات الشواش اللانهائية في البدء؟!

كذا فإن فهمنا اليوم للانتظام في أية مجموعة، فيزيائية كانت أم بيولوجية أم اجتماعية، يرتكز على قدرتنا على رؤية تناغمها الداخلي؛ وفي الجوهر، على رؤية قدرتها على الاستمرار في طرح سؤال البدء هذا بأشكال جديدة كل الجدة. إن العلاقات التي نرصدها بين عناصر المجموعات ضمن رؤية معلوماتية خطِّية تتبدى لنا اليوم على خلفية عمق الصلات والتناغمات الداخلية في كل مجموعة ذاتية. ونحن، من خلال لاخطِّية العلاقات الناشئة والمتمحورة حول جواذب من النمط الفراكتالي، نجد أنفسنا عنصراً ذاتياً أساسياً في نسيج التفرعات الكونية من الأسئلة والأجوبة.

إن تناغم مجتمعاتنا يقوم على هذا المبدأ: الحرية الباطنة في وجودنا هي الشكل الأنقى لمعنى الانتظام الذاتي. فمجتمعاتنا الإنسانية هي منظومات متطورة باستمرار على خلفية التطور الطبيعي والكوني، وليست مجتمعات سكونية بأية حال من الأحوال. وديناميَّة المجتمع لا تُفهَم من خلال وصف معلوماتي لنقاط التزاوج بين المجتمع والبيئة، بل من خلال رؤية التناغمات الداخلية للصلات القائمة بين أفراد المجتمع. وبطبيعة الحال فإن هذه الصلات بدورها لا تقوم على فهم الروابط الاقتصادية أو السياسية أو الاجتماعية في نطاقات الأسرة والعمل ومختلف النشاطات، بل بالدرجة الأولى على التآلف النفسي والعقلي والروحي الذي نما وتطوَّر عبر تاريخ المجتمع. ومن هذا المنظور لا تقدم لنا الدراسات الإحصائية أجوبة شافية على سؤال من نمط سؤال هوكنغ: "لماذا ولدت المجتمعات الذاتية الانتظام على خلفية بزوغ بشريات ضعيفة البنى وشواشية في تفاعلاتها وصراعاتها عبر التاريخ؟"

لاشك أن ما ينظِّم مجتمعاتنا أبعد من مفاهيمنا الاعتيادية عن التطور التاريخي والمادي، وعن مختلف الظروف التي أدَّت إلى ولادة البنى الاجتماعية كإجابة على تحدِّيات تاريخية، وإلى ظهور الأنظمة والقوانين والشرائع والأعراف والمعتقدات كنواظم لضبط المجتمعات في أُطُر نهائية. ومن هذا الباب فإن المدينة الفاضلة utopia تُعَدُّ تصوراً مثالياً لفهم التناغمات الداخلية لأنها اعتمدت على التزاوجات المعلوماتية فقط. ويسايرها في ذلك أيُّ حلٍّ تشريعي أو تنظيمي اعتمده الإنسان منذ أن وجد على الكرة الأرضية.

كيف يمكننا، من خلال أي منهج مسبق، أو عقيدة جاهزة، أو نظام محدود ونهائي، أن نحدد انتظاماً مستقبلياً للمجتمع؟ إن أي نمط من هذه الشرائع أو القوانين يتناسى أن المجتمع لا يمكن أن يبلغ يوماً شكلاً موحَّداً في أنماطه؛ إذ إنه، على العكس تماماً، سيعمل دائماً على زيادة تنوُّعه وتعقيده. والمثال البسيط على ذلك أننا لا نجد في أي مذهب واحد على الإطلاق فهماً ذاتياً متطابقاً بين أنصار هذا المذهب!

تفيدنا علوم الانتظام الذاتي أن القوانين والشرائع متبدلة على الدوام. ونحن، ضمن أفق زمني معين، لا يمكننا حساب تنوع أي قانون نضعه، ولا التنبؤ بأبعاد أية شريعة ننظمها. والحق أن المجتمع مبدع بحريته من الأعراف الجامدة، وفي الوقت نفسه بخضوعه لانتظام ذاتي قادر دائماً على قبول الجديد والانفتاح والتعديل. وعلى العكس تماماً مما نتوقع، فإن إضافة أي منهج أو عقيدة أو قانون أو شريعة إلى المجتمع ستؤدي إلى إبداعه لمزيد من التفرعات والتعقيد والتنوع في أنماطه، وذلك وفق الجواذب الفراكتالية التي هي جواذب الكون نفسها، الجواذب التي اختارت منذ البدء الاحتمال الأقل على الشواش الكثير.

إن ديناميَّة التجربة الكونية تفوق بما لا يقاس سكونية معلوماتنا الحالية. ونحن ندرك، للمرة الأولى، عبر رؤيا انتظامنا الذاتي، أن إبداعنا يتفتح في حرية أعماقنا الداخلية، وأن معلوماتنا ومعارفنا وشرائعنا كلها متبدِّلة ومتغيرة. وهنا بالضبط يكمن سرُّ وجودنا، سر انتظامنا الذاتي.

*** *** ***


* L’auto-organisation de la physique au politique, Colloque de Cerisy, sous la direction de P. Dumouchel et J.-P. Dupuy, Éditions du Seuil, 1983.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود