الأزمة الراهنة للعلم

 

موسى ديب الخوري

 

ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟

يسوع الناصري

 

أطهر ما يعتمل في قلب الإنسان حبُّ المعرفة، وأقدس ما يملأ قلبه محبة الحقيقة. لذا فإن أعظم ما يسمو بالإنسان هو الإخلاص في حبه والانصراف إلى الحقيقة دون أي شيء سواها. كذا فإن أي منهج، أو فكر، أو علم، أو عقيدة، أو مذهب، لا يسمو إلا بقدر إخلاصه للحقيقة. فإذا ادَّعى منهج ما أنه مالك الحقيقة وحده، أو أنه يستطيع، دون غيره، إيصالنا إليها، فمعنى ذلك أن إخلاصه للحقيقة إخلاص ظاهري، بل إخلاص كاذب! ومثل هذا الإدعاء هو النخر الأولي الذي سيسبب تفتت المركب وغرقه، إنْ عاجلاً أو آجلاً. ذلك أن الحقيقة لا تُقيَّد ولا تُشرَط. والإخلاص لها يعني المقدرة على الانفتاح على كل الأفكار والتواصل مع كل المناهج.

ذلكم هو المعيار الذي أقيس به أصالة كل تجربة معرفية والذي أردت أن أرى إلى العلم بمنظوره. فالأزمة الراهنة للعلم لا تُحَدُّ باعتقادي بما تسببه نتائج العلم التطبيقية من أذى للطبيعة وللإنسان ولا بالصعوبات التقنية والمادية التي تعاني منها الأبحاث، ولا بطغيان العلم التطبيقي التابع للمؤسسات، ولا حتى بالمسائل الشائكة التي تواجه العلماء في شتى الفروع، والتي تتطلب طرح نظريات جديدة، لا بل ومفاهيم وفلسفات جديدة. إنما الأزمة الراهنة للعلم هي أزمة أخلاقية–معرفية بجوهرها. فنحن لا يمكننا، إبستمولوجياً، فصل المعرفة عن الأخلاق، لأن علينا دائماً إقصاء أية فرصة لاختلاق حقيقة ذرائعية، واستبعاد أية إمكانية لتجيير المعرفة إلى خطة مسبقة الوضع. فمعرفة الحقيقة تتطلب، أخلاقياً، إخلاصاً لا حدود له. كذا فإن المعرفة، بحد ذاتها، أخلاق وليست منهجاً. فهي معرفة أخلاقية، من حيث إيمانها بانفتاح غير مشروط، وهي أخلاق معرفية من حيث قدرتها على الحفاظ على هذا الإيمان وعلى تحقيقه.

لقد قلَّص العلم مفهوم الحقيقة، فأشرط المعرفة، منذ إعلانه أن لا حقيقة غير الحقيقة العلمية. لذا فقد كرس العلم منذ بداياته إخلاصاً مشروطاً، وبالتالي إخلاصاً كاذباً. وعليه، فإننا لا نستطيع إلا أن نحمِّله مسؤولية الأزمة البيئية الراهنة (وإنْ جزئياً) – هذا فضلاً عن أزمات أخرى تحيق بنا، لعل أخطرها تراجع الشعور بالمسؤولية تجاه الحقيقة لصالح استنزاف القوى الطبيعية والبشرية في تيار الاتِّكالية والاستهلاك. بذلك غدت الحقيقة العلمية تتمثل بالاختراعات الاستهلاكية، لا بل وبالقيم الاستهلاكية التي باتت تسود مدنيَّتنا المعاصرة. هكذا قادنا العلم إلى الاستهتار بالقيم الأخلاقية، وثبَّت في لاوعينا صورة مشوهة عن المعرفة، ولم يهتم إلا نادراً بطرح أسئلة تتعلق بمسؤوليات العالِم وبأخلاقيات العلم.

غير أن مصطلح "الأزمة" لا يشير بالضرورة إلى عقبة كَأْداء أو خلل لا يمكن معالجته. فالأزمة موقف يجب أن يُتَّخذ قرارٌ حاسم بشأنه. وهي شواش في الرؤية ينجم عن سلسلة من الانحرافات عن الاتجاه الأصيل. ولست أعني بالأزمة الراهنة للعلم أنها لم تكن موجودة، لكنها كانت مستترة ولم نتنبه إليها فعلياً إلا منذ فترة وجيزة. وقد بدأنا اليوم نلمس أبعادها ونتائجها القريبة فقط. لذا فهي راهنة بما هي مستمرة دونما معالجة ومتفاقمة دون مداراة. فالأزمة بجوهرها تتعلق بالإنسان وبطريقة فهمه للطبيعة وتعامله معها. لذا فإنني أهدف إلى رؤية العلم من منظور الواقع بمستوياته التاريخية والنفسية والكلِّية، وليس إلى خلق أزمة لا حلَّ لها. وبالتالي يجب علينا أن نطرح الأزمة لنرى إلى أسبابها العميقة، ونهتدي من بعدُ إلى البوصلة التي لابد أن تعيدنا إلى المسار الأصيل.

إحصاءات حول العلم

أحب، بادئ ذي بدء، أن أعرض لنتائج استفتاء هام قامت به مجلة البحث الفرنسية.* وتعطينا هذه النتائج صورة شاملة لمفهوم العلم ولنتائجه عند شريحة مثقفة من العلماء والأساتذة والأطباء والمهندسين والطلاب والمطلعين على العلوم الحديثة والمتابعين لها. ولما كانت المجلة رصينة وجادة في موادها وأسلوبها، فقد رأيت في نشرها لهذا الاستفتاء وما تضمنه من أسئلة ونتائج وإشارة واضحة لشعور عام بالأزمة الراهنة للعلم بدأ يظهر وينتشر. ولعل أهم الأسئلة التي طُرِحَت كان السؤال الذي يتعلق بجوهر عمل العالِم. وقد رأى 57% أن العالِم شخص يعمل من أجل خير الإنسانية، بينما عارض ذلك 35% من المستفتين. ونلاحظ أن 57% لا تشكل نسبة راجحة بما فيه الكفاية، مما يعني أن عمل العالِم لا يشكل إطاراً مقنعاً ومطلقاً، كما يمكن أن نظن. ومما يدعم رأينا أن سؤالاً آخر يُظهِر أن 60% يرون أن العلماء يعملون إرضاء لفضولهم الخاص، وليس خدمة للإنسانية، بينما لا يرى ذلك 27% فقط. وهذا يعكس تناقضاً واقعياً بين ما يريده الناس من العالِم والصورة التي يرونه من خلالها، من جهة، وصورة العالِم وما يقوم به في الواقع، من جهة ثانية. ومع أن الاستفتاء لم يُشِرْ، مثلاً، في نمط أسئلته إلى تمييز صريح بين العالِم المعرفي والعالِم التقني التطبيقي، إلا أن معاني بعض الأسئلة ونتائجها تشير بوضوح إلى أن سبب هذا التناقض في صورة العالِم كامن في عدم التفريق بين العالِمين، عالِم المعرفة وعالِم الصناعة. ومن جهة أخرى، نجد أن 29% فقط يرون أن العلماء الذين ساهموا في اكتشاف القنبلة الذرية كانوا مسؤولين عن استخدامها، ويرفض ذلك 68%. والحق أن هذه النسبة متأثرة باعتقادي إلى حدٍّ كبير بالإعلام الغربي، لكنها مع ذلك تعكس واقعاً لا يمكن تجاهله، وهو أن العامة ترفع العلماء إلى مصاف القديسين وتتقبل بسهولة الحجج التي تبرِّرهم. وعلينا أن نتذكر أن المستفتين أفراد غربيون يرون في العلم وسيلة أساسية للسيطرة وللحفاظ على التفوق والقوة. وهذا السؤال لم يُطرَح أبداً في الاستفتاء، لكننا ندرك ذلك لأن هذا المفهوم الغربي للعلم بات شائعاً في العالم كله.

لكننا نجد أن النسبة تنقلب تماماً في سؤال آخر يحمل في جوهره معنى السؤال السابق نفسه. إذ إن 64% يؤيدون أن العلم نما بسرعة أكبر بكثير من الحس الأخلاقي عند الإنسان، بينما لا يوافق على ذلك 32%. وهكذا نرى أن الحس الأخلاقي لا يزال يلعب دوراً أساسياً لدى الرأي العام. لكن النسبة الأقل غير الموافِقة – 32% – تشكل، بالمقابل، نسبة خطيرة لفقدان هذا الحس السليم. ولاشك أن هذه النسبة يمكن أن تكون أكبر بكثير في مجتمع نامٍ ضمن شريحة واسعة من العامة. وفي سؤال حول ما إذا تمكَّن العلم خلال السنوات القادمة من اختيار جنس الجنين، ذكراً أم أنثى، رأى 72% منهم أن ذلك كريه وغير مرغوب فيه، بينما رأى 18% فقط أن ذلك مقبول! لكننا نتساءل، من جهة أخرى، أنه فيما لو توصل العلم فعلاً إلى اختيار جنس الجنين، ألن يُعمَّم ذلك كما تُعمَّم اليوم كافة الإنجازات التقنية؟! ألن تُستَغَلَّ النفس الإنسانية أقبح استغلال في سبيل بناء مجد العلم، هذا المجد الذي بات يُستمَدُّ من إخضاع الإنسان نفسياً لحقيقة زائفة؟!

إن التناقض الذي لمسناه حول دور العالِم يتكرر بصورة أوضح في سؤال حول ما إذا توصل عالِم إلى اكتشاف يشكل خطراً على المجتمع، ماذا عليه أن يفعل. فقد رأى 59% أن عليه إطلاع مساعديه وزملائه، ورأى 20% أن عليه أيضاً إيصال الخبر إلى وسائل الإعلام والمجتمع، بينما رأى 7% فقط أن عليه متابعة عمله دون إطلاع أحد عليه. لكننا نجد أن هذه النِسَب تتغير على المستوى الواقعي. فقد رأى 37% (مقابل 79%) أنه سيُطلِع فعلاً زملاءه على اكتشافه، بينما رأى 41% (مقابل 7%) أنه سيُتِمُّ بحثه دون إخبار أحد. ويعكس هذا التفاوت في الإجابتين موقفاً واضحاً تجاه العلم الذي يجازف بالإنسان وبالطبيعة. ونجد هذا الموقف أكثر وضوحاً في الإجماع الذي حققته إجابات السؤال التالي، والذي قد لا يخطر لنا أنه سيلقى مثل هذا التأييد، وخاصة من قراء علميين في إحدى دول الشمال المتقدمة صناعياً: هل ترون أنه بات من الضروري طرح قواعد سلوك تحدُّ من النشاط العلمي فيما يخص بعض تطورات علم البيولوجيا حالياً؟ فكانت نسبة الموافقة 81% ونسبة المعارضة 17%! أفلا يشير هذا الإجماع إلى شعور ضمني بخطر العلم إذا لم يُضبَط في المستقبل القريب؟

غير أن هذا لا ينفي قيمة العلم. فنسبة كبيرة من القراء (63%) ترى أن المثقف يجب أن يكون على اطلاع على العلوم، وإلا ما عُدَّ مثقفاً، بينما لم يوافق على ذلك 33%. بل إن الإيمان بالعلم كبير جداً. فقد رأى 88% من القراء أن العلم سيتمكن دائماً من شق طريقه، ولن تقف في وجهه مسائل لن يستطيع حلَّها، أو ظواهر لن يستطيع تفسيرها. ولم يعارض ذلك سوى 6%. وهذا يكشف لنا بوضوح إلى أي حدٍّ بات الإنسان، وخاصة في دول الشمال، يؤلِّه العلم ويجعل منه ديناً له طقوسه ومعابده وكهنته. لكن لنلاحظ أن هذا الإيمان شبه المطلق بالعلم هو في الحقيقة، على الصعيد النفسي، تعبير عن إرادة المعرفة والإخلاص (شبه الأعمى) لطريق يُعتقَد أنه الصحيح. ومما يؤيِّد ذلك هو أن الحاجة الجسمية للعلاج والحاجة النفسية للمعرفة احتلتا المراتب الأولى من اهتمامات القراء بالعلوم، حيث جاءت الأبحاث الطبية بالمرتبة الأولى بنسبة 67%، وتلتها الأبحاث حول المادة (65%)، ثم الاكتشافات الكبرى والفضاء، بينما نالت الأبحاث التقنية العلمية أقل نسبة من الاهتمام، (44%). ومع ذلك، وكما كنا أشرنا، فإن هذا الشعور الطاغي باستمرارية العلم يشوبه قلق خفي. ففي سؤال حول إذا ما كانت زيادة تكاليف البحث ستشكل تهديداً للعلم أجاب 64% بالإيجاب ولم يعارض سوى 23%.

إضافة إلى ذلك، نجد أن مفهوم العلم لم يعد ذلك المفهوم الصارم، حتى عند نخبة من القراء العلميين. ذلك أن 34% منهم يعتقدون بالتخاطر telepathy، و43% بإمكانية اكتشاف المياه الجوفية بواسطة العصِّي، و13% بالقدرة على تحريك الأشياء بقوة الإرادة دون لمسها telekinesis. وفي حالة المرض، تبين أن 63% منهم يمكن أن يلجؤوا إلى المعالجة بالوخز بالإبر acupuncture، و37% منهم إلى معالجة المرض بطريقة تقويم العمود الفقري يدوياً، بينما رفض هذه الطريقة 38%، وعبَّر 72% منهم عن قبولهم للاستطباب بالمياه المعدنية. وعلى الرغم من أن الطب الكلاسي حاز على أعلى نسبة من حيث اللجوء إليه (77%)، إلا أنن نسبة 22% لا تفضل الركون إليه في عدة حالات. بينما كان هناك شخص واحد من عدد المستفتين (4500 شخص) لا يلجأ إليه أبداً.

ويمكننا أن نلاحظ بسهولة أن أعلى نسب من الإجماع كانت تتعلق بالأخلاق العلمية، وبقيمة العلم كمعرفة. وفي خاتمة هذا الاستفتاء كان السؤال الكبير حول وجود الله. وبحسب هذه العينة من القراء (العلميين الغربيين) فإن وجود الله أكيد عند 18%، محتمل عند 16%، وغير محتمل عند 22%، ومستبعَد عند 28%، بينما لم يكن لـ 16% أي رأي في ذلك. وعدم وجود نسبة راجحة بين هذه النسب المتقاربة يعني أن النظرة العلمية لم تستطع تقديم شيء حول هذه النقطة، مما يجعلنا نطرح سؤالاً مقابلاً: هل يتعلق الإيمان بوجود الله بالمنطق العلمي وبالمعرفة العلمية، أم أن الحقيقة الذاتية تظل أساس كل تصور فردي؟!

الأزمة اجتماعياً

لقد سيطر العلم على حياتنا اليومية سيطرة شبه مطلقة. فهو يُعَدُّ باني مدنيتنا الحديثة. لذا فإن له في منظورنا الاجتماعي مكانة خاصة. فقد تحوَّل الإيمان الشعبي بالعلم إلى ما يشبه الإيمان بالآلهة عند القدماء. فما لم يكتشفه العلم اليوم سيكتشفه غداً لا محالة، وما لم ينجزه اليوم سينجزه لاحقاً. وهذا الدعم الاجتماعي للعلم هو الركيزة الحقيقية التي تقوم عليها أسطورة العلم الحديث. ويرتبط مفهوم العلم عند العامة، ارتباطاً أساسياً، بتحقيق اختراعات عملية تطبيقية، مهما بدت هذه الاختراعات بسيطة، أو تبيَّن لنا أنها كانت غير ضرورية أو مؤذية. وهذا المفهوم الشعبي يرى أن العالِم يعمل من أجل خير الإنسانية إذ يؤمِّن لها الدواء والعلاج والغذاء والمواصلات والاتصالات والرفاهية المثلى. وهكذا فإن الدعم الاجتماعي للعلم يرتكز على منجزات تقنية لا تحصى يحمل معظمها الطابع الاستهلاكي. فالعامة لا تدرِك أهمية اكتشاف قٌسيْم أولي elementary particle جديد أو نجم بعيد، ولا تقدِّر أهمية بناء مسرِّع هائل أو تلسكوب عملاق. وتؤدي هشاشة هذا المفهوم العلمي إلى أزمة حقيقية على المستوى الاجتماعي، وهي تتبدى في تعميق الهوة بين الشعوب المتقدمة والشعوب النامية، وبين الأفراد في المجتمع الواحد، من متعلِّمين ومن حرفيين وعمال ومزارعين وغيرهم. كما وتتجلى هذه الأزمة في تسطيح قيمة المعرفة اجتماعياً لصالح قيمة مثالية لعلم استهلاكي. كذا فإن صورة العلم المعرفي في المجتمع هي صورة هزيلة جداً، الأمر الذي يدعِّم تفاقم مختلف الأزمات الاجتماعية الأخرى.

المعرفة الطبيعية

إذا كان العلم قد وُجِد من أجل المعرفة، فهذا يعني أن معرفتنا الحقة تطورت تطوراً ملموساً مع تقدم العلوم. لكن علينا أن نميز بين معرفتين، الأولى نظرية والثانية طبيعية، الأولى تُبنَى فكرياً فقط، بينما تُبنَى الثانية على مستوى فسيولوجي–نفسي عبر تطور طويل. ولاشك أن التأثير المتبادل بين المعرفتين يكون داعماً إذا كان نموهما متساوقاً؛ أما إذا اختل هذا التساوق فيجب عندها على المعرفة العقلية أن تضبط نتائج تطبيقاتها المباشرة لئلا يتحول التأثير إلى تدمير.

ففي الحالة الأولى تكون المعرفة نظرية، يمكن أن تطبَّق على مستوى الظاهرة الطبيعية؛ ويمكن باستمرار تطوير هذه النظرية لتعطينا وصفاً أقرب إلى الدقة لطبيعة وجودنا. وفي كل الأحوال لا يمكن لهذه المعرفة أن تتغاضى لحظة عن السياق الطبيعي للتطور. لكن العلم استهتر بالمعرفة التطورية، وقام بتطبيق معارفه بشكل عشوائي. وأبسط انعكاسات ذلك علينا ما بدأنا نلاحظه من ضمور في قوانا الجسدية والمناعية، ومن شواش عقلي ونفسي، إضافة إلى تلوث البيئة وتدمير الطبيعة.

أما في الحالة الثانية فتكون المعرفة حالة يعيشها الإنسان بكل أبعادها، ويتقبلها تدريجياً عبر العصور، فتشدد من مقدراته الجسمانية والنفسية والعقلية. وباختصار فإن الإنسان يحقق بها الوعي الذي يناسب تطوره والمعرفة التي يحتاجها في عصره.

ولهذا يمكنني القول إن معارفنا الحقيقية لم تتقدم قيد أنملة منذ بدأ العلم مسيرته حتى الآن إلا بقدر ما سمح بذلك التطور الطبيعي. وعلينا ألا ننسى أن البدايات العلمية الحقيقية كانت متساوقة مع التطور الطبيعي. أما إنجازات العلم واختراعاته فلا تقاس إلى الاكتشافات الرائعة التي تمت بتناغم عظيم مع التطور الطبيعي خلال عصور طويلة. بل يمكننا القول إن التخلخلات الطفيفة التي كان يسببها الإنسان في الطبيعة، والتي كانت الطبيعة ترمِّمها خلال فترات معقولة، كانت في نهاية الأمر تساهم في رفع وتيرة التكامل الطبيعي بين الإنسان وبيئته. لقد استطاع الإنسان خلال العصور الحجرية القديمة أن يعيش ويستمر اعتماداً على أدوات صَوَّانية بسيطة. وأدى هذا التطور خلال أكثر من مليون سنة إلى ظهور إنسان كرومانيون الذي تميز بقدرات أكبر على التناغم مع الطبيعة. ولاشك أن هذا الإنسان يعد حلقة في سلسلة تطور الإنسان نحو إنسان أكثر مقدرة على فهم الطبيعة والتناغم معها. وقد حقق إنسان كرومانيون إنجازات رائعة بحق. فقد عرف الفنون، وراقب النجوم وبنى المراصد الحجرية، واكتشف الزراعة، ودجَّن العديد من النباتات والحبوب والحيوانات، وأنشأ أولى القرى، وشوى الفخار وصنع الآنية والأدوات منه ومن مواد طبيعية أخرى، ثم اخترع الحساب والتدوين وطور اللغة والكتابة، وتوصل، من بعدُ، إلى اختراع الأبجدية. وهكذا فقد طوَّر هذا الإنسان، عبر آلاف السنين، الفنون والعمارة والأدوات والحرف. وقد اخترع أدوات عظيمة لا نزال ندين له بها حتى اليوم، كالإبرة والمِعْوَل والمحراث والعجلة والصابون والقلم والرق. وفي حين أثبتت هذه الأدوات أهميتها عبر آلاف السنين، نجد أن اختراعاتنا الحديثة أظهرت أذاها وخطرها خلال عقود قليلة. فهل ترانا نجرؤ على مقارنة إبداعاته العظيمة بأهم اختراعاتنا، حاجاته الطبيعية بحاجاتنا الاستهلاكية؟ لاشك أن الصابون لا يقارن بمزيلات التعرُّق التي ساهمت في تخريب طبقة الأوزون، ولاشك أن المحراث لا يُقارَن بالقنبلة الذرية. ومع ذلك، لابد من الاعتراف بأن العلم قدَّم إنجازات هامة، لكنه، على المستوى الجوهري، أبعدنا كثيراً عن السياق الطبيعي. والأزمة الراهنة للعلم، بما هي موقف تاريخي، تتمثل في ضرورة اتخاذ قرار واعٍ وحاسم فيما يتعلق بموقعنا من الطبيعة.

الأزمة أخلاقياً

لقد أقصى العلم منذ بدايته أية قيمة أخلاقية تقف في طريق تقدمه، فأجاز لنفسه بذلك استباحة كل قيمة إنسانية وطبيعية. وتجاهل أن كل معرفة حقة تتكامل مع الطبيعة ولا تتعارض معها. وهكذا فقد أهمل العلم ما يمكن أن تؤدي إليه تراكماتُه المعلوماتية من نتائج. ذلك أنه بليد أخلاقياً تجاه الحقيقة. فمعرفة الذرة أدت إلى القنبلة الذرية. ومع ذلك فهو يتملص من مسئوليته في إنجازها! وقِسْ على ذلك... بل قل إن ما خَفِي من نتائج علمية متراكمة، لم يُكشَف عن نتائجها المباشرة بعدُ، لهو أخطر بكثير مما نعلمه. كذا فإن العلم يتجه اليوم في بعض فروعه نحو مسائل تُعتبَر فاصلة في أخلاق الإنسان. وقد تم تجاوز مسألة الحمل الصناعي مثلاً إلى مسائل أخطر بكثير. فالهندسة الجينية تؤمِّل الإنسان اليوم بأوهام رهيبة. ذلك أن الهدف العلمي في أبحاثها لم يعد معرفة البنية المعلوماتية عند الكائنات الحية، بل التدخل فيها بشكل مباشر وإجراء التجارب عليها واستنباط كائنات جديدة، ناهيك عن أخطار الاستنساخ cloning الذي صار الشغل الشاغل للكثيرين منذ إعلان ولادة النعجة دولِّي! إنه تحوُّل مروِّع دون شك، تحوُّل لا يهدف إلى المعرفة، بل إلى التدخل في سياق التطور الطبيعي، أي إلى التدخل غير المسؤول في سياق التطور المعرفي الطبيعي. إن ما يعرض على التلفزيون أحياناً من مشاهد لكائنات تم التدخل في مورثاتها يُعَدُّ دعماً خفياً لهذه الأبحاث، بحيث يصير تقبُّلها عند إعلانه سهلاً لدى العامة. غير أن أحداً لم يجرؤ على طرح السؤال الحقيقي: ما الذي نريد معرفته، ما الذي نبتغي الوصول إليه عن طريق العلم؟! هل نتعلم لنتدخل، أم لنعرف ولنعي موقفنا ومسؤولياتنا؟! هل التعلُّم تدخل أعمى أم وعي؟! لقد فقدنا بالتأكيد حكمة ذلك العجوز الذي كان يزرع غرسة الزيتون لأبنائه. فنحن نريد أن نأكل من ثمار لم تنضج بعد، بل وفي بعض الأحيان، حتى قبل أن نزرع غراسها. إننا نتناسى أنه من المنطق العلمي، عند اكتشاف دواء جديد، أن يُجرَّب قبل تعميمه. فما بالنا باكتشافات عظيمة تتعلق مثلاً بطبيعة المادة أو ببنية الكائن الحي. أفلا يجب أن يكون ثمة رادع علمي–أخلاقي لا يجيز تطبيق أي معرفة قبل مرور وقت كافٍ من دراستها واختبارها؟! ذلكم هو الموقف الأخلاقي الذي على العلم أن يتخذ بشأنه قراراً حاسماً – الآن وليس غداً!

الأزمة تاريخياً ونفسياً

يمثل العلم اليوم في اللاوعي الجمعي للإنسانية collective unconscious ما كان يمثله النهج الأسطوري قديماً فيه. فالأسطورة كانت تشكل الموروث الذي تُبنى عليه وتنتظم باتجاهه كافة المعارف والتصورات. وكان كافة أفراد المجتمع يشكلون خيوطاً متداخلة في نسيج الأسطورة الذي لا حدود لاتساعه. بل إن الآلهة نفسها كانت تخضع لسحر هذا العالم الأساطيري. وهكذا كانت الأسطورة بكل ما يرفدها من أعراف وطقوس وعبادات تمثل بحد ذاتها ذلك البطل الكامن في أعماق كل إنسان، القادر على تحدي الكائنات – بل والآلهة – للوصول إلى هدفه. بل إنها كانت تصوِّر بكل تفاصيلها ذلك الصراع المتفجر في أعماق الإنسانية بين الظاهر والباطن، بين ما يُدرَك وما لا يُدرَك. وفي اللاوعي المشترك للإنسانية كانت الأسطورة تثبت باستمرار إيماناً متعاظماً بقدرة الإنسان، وبقوى كلِّية تحكم وجوده وتسيِّر الطبيعة من حوله. لقد كانت الأسطورة والعبادات القديمة وكافة معارف وعلوم الإنسان القديم عبارة عن انعكاسات نفسية ناجمة عن توترات بين العقل والنفس، لكنها كانت نذيرة ولادة منظور جديد للإدراك يتفتح فيه العقل عن مقدرات شمولية متناغمة ومقدرات النفس. كذا فقد كانت الأسطورة نموذجاً نفسياً في جوهره، لا تتعدى نسبة تدخل العقل فيه حدود التفسير الذي كانت تتقبَّله النفس آنذاك.

وكما الأسطورة قديماً كذلك هو العلم اليوم... فهو ركيزة، أي منهج معرفي جديد. وفي حين بات يشمل بأبحاثه وبنتائجه كافة مظاهر الطبيعة والكائنات، فإنه لا يزال يعكس ذلك التوق المعرفي وإرادة كسر حاجز المجهول. ولهذا فقد حل العلم بجدارة محل الأسطورة في تمثيله للبطولة المعرفية. فهو منقِّب في كل شيء، وطامح إلى كل شيء، وواطئ لكل أرض. ولهذا فهو يتحدى الطبيعة بدوره، لكنه يتحدى أيضاً الإنسان نفسه بكل تراثه الأخلاقي والنفسي والتاريخي. ذلك أن أخلاق العلم تختلف عن أخلاق الأسطورة! فالعلم هو أيضاً ردُّ فعل على التوترات المتأججة في الإنسان، لكنه ردٌّ طغى فيه العقل على النفس، بدلاً من نموهما معاً بشكل متوازن. وهكذا، على الرغم من البنيان الشاهق الذي شمخت به المعرفة النفسية عبر القرون، تجاهل العلم أهمية النفس الإنسانية، بل وعمل على إخضاعها. فليس من عارف في الإنسان سوى عقله، وليس من قادر على بناء أسطورة حقيقية – أسطورة تدعمها المنجزات المحسوسة – سوى العلم. لكن الأسطورة كانت تسجيلاً نقياً لصراع الإنسان مع ذاته ومع الطبيعة، وكانت غالباً ما تستخلص التناغم من هذا الصراع. فكانت، في جوهرها، أسطورة داخلية يعيشها الإنسان وتعبِّر عن صراع حقيقي فيه لتحقيق تفتح الوعي. ولهذا كانت الأسطورة تهبه حرية داخلية، هي حرية أخلاقية، تدعم وجوده النفسي بالدرجة الأولى وتوازن هذا الوجود مع البيئة التي تكتنفه. أما العلم فلم يشأ أن يترك لغير العقل أن يخط على صفحات النفس الإنسانية أسطورته. فإذا به يتحول إلى مارد يتسلط على النفس ويقهرها. فهو القادر على السيطرة على الطبيعة وعلى استخلاص ثرواتها وعلى فهم ألغازها واستغلالها، لا بل وعلى فهم النفس الإنسانية أيضاً بحصر المعنى. وهكذا تحول صراع الإنسان المعرفي مع الطبيعة إلى حرب ضَروس، وتحول تناغمه مع نفسه إلى تنافر بغيض.

إن الإنسان لا يستطيع أن يشعر بالتوازن وهو يرى أنه أُشرِط معرفياً باتجاه وحيد. فطبيعة الإنسان طبيعة تعددية، ولهذا فهو يريد أن يرى الوحدة من خلال عالم الكثرة. لكن العلم يمنعه من تمثل هذه الوحدة فيه، إذ ينهج به عن طريق العقل فقط إلى رؤية الكثرة في الكثرة. وبذلك فإنه يخل بالتوازن الأساسي في الإنسان بين عقله ونفسه.

ولاشك أن المعرفة النفسية كانت تمر كذلك عبر العصور بأزمات مختلفة، لكنها كانت تؤدي دوماً إلى تجدد الأسطورة. بل إن الهزيمة في حرب مثلاً كانت كثيراً ما تتحول إلى نصر أسطوري يداوي جراح النفس. وهكذا كانت هذه الأزمات تتحول إلى أسطورة إيجابية داعمة، وتنتهي إلى بذر بذار جديد في حقل النفس، وإلى تفتح براعم جديدة على صعيد العقل. إن القرون الطويلة التي عرفتها الصين مثلاً من الازدهار المعرفي كانت تصعيداً مستمراً لأسطورة نفسية دائمة التجدد في مدارسها الروحية، وانتهت بالوصول إلى توازن نفسي–عقلي نجم عنه إنجاز علمي–معرفي متميز تاخم القرن العشرين. ولم يكن التقليد الفلسفي–الميتافيزيائي ليشكل عائقاً أمام التقدم المعرفي العقلي، بل كانت كل خطوة علمية جديدة تشكل فرصة لتصعيد ذلك التوتر الداخلي ولإيجاد علاقة تناغمية إبداعية جديدة بين العقل والنفس. وقد استمرت الحضارة الصينية على هذا النحو دون انقطاع ثقافي يُذكَر، حتى غزَتَْها مدنيَّتنا المعاصرة. وينطبق الأمر نفسه على الهند وفارس والشرق القديم ومصر واليونان وعلى حضارات أمريكا القديمة، إنما ضمن انقطاعات ثقافية واسعة. كذلك تُعَدُّ الحضارة العربية نموذجاً فريداً على ذلك التناغم بين العقل والنفس في علومها وإبداعاتها. ونحن عندما نقرأ، مثلاً، في أساطير المايا والأزتيك لا يحق لنا النظر إليها كخرافات شعوب بدائية لا تستحق المقارنة بإنجازاتنا العلمية. فهذه الأساطير كانت تشكل على المستوى النفسي ركيزة حقيقية للتفاعل مع الطبيعة والوجود ولفهم الإنسان والكون. ولم يكن تطوير هذه الأساطير ليشكل عائقاً على الصعيد النفسي، بل إغناء ضروري. إننا نهزأ مثلاً من الأضاحي البشرية التي كان يقدِّمها الهنود أو المصريون أو الأزتيك، لكنْ يفوتنا أن ندرك معاناة تلك الشعوب والتحفز النفسي الذي كان يلازمها ويتصعَّد فيها لتحقيق قفزة جريئة على مستوى إدراك حقيقة العلاقة بين الإنسان والطبيعة. كذلك نتناسى اليوم ملايين الضحايا البشرية التي نقدِّمها في سبيل العلم، ونغفل ذكرها باسم المعرفة والتقدم التقني. حتى الصرخة المدوية للبيئة يجري التكتم عليها ومداراتها.

لقد حَرَمَنا العلمُ من روح المشاركة، ومن شفافية أسطورتنا النفسية. لقد حَرَمَنا من المشاركة في همٍّ وجودي يجمعنا كلنا، وفي شعور إنساني عام، وفي معرفة الحقيقة بمنظورها النفسي العقلي المتوازن. فهمنا الوجودي قُلِّص إلى حاجة استهلاكية، والمشاركة في المعرفة تحولت إلى تخصصات وفروع متباينة تزيد من تباعد الإنسان عن الإنسان. وحتى الشعور الإنساني بات خبراً إعلامياً. فعندما نسمع عن كارثة أو مجاعة، وحتى عندما نرى أخباراً مصورة في التلفزيون عن تفاقم خطر بيئي يمسُّنا، ترانا لا نكترث ولا نهتم إلا للحظة، ونادراً ما يمسُّنا الشعور الإنساني في أعماقنا.

لقد شق العلم لنفسه طريقاً مختلفاً في فهم الطبيعة. إنه طريق من يريد أن يستغل الطبيعة ويسيطر عليها، لا من يريد فهمها والتناغم معها. ولهذا فقد أهمل القيمة النفيسة والأخلاقية، وسعى إلى بسط سيادته الفظة. فمن منظور نفسي–تاريخي، نرى كيف أن العلم – وهو ابن البارحة – لا ينفكُّ يستعجل الإنجاز تلو الإنجاز، متبجحاً بمقدرته الفائقة على تحقيق المعجزات. وليس استعجاله ذاك سوى تعويض نفسي لشعور متزايد بنقص معارفه أمام الزخم الهائل من التساؤلات التي تؤدي أبحاثُه إلى الكشف عنها، والتي تطرح مسائل أكثر فأكثر عمقاً وتعقيداً. لقد استهتر العلم بالزمن كمرشد حقيقي إلى لمعرفة وأراد تخطيه. فالمعرفة الأصيلة كانت دائماً معرفة بطيئة في تسارعها لأن هذا التسارع كان موكَلاً للطبيعة، أو بالأحرى، كان جزءاً منها. فالتناغم النفسي مع الطبيعة، وعدم الشعور بالفوقية في التعامل معها، كان يوفر للإنسان شرطاً دقيقاً وجوهرياً لاتباع إيقاعها الخاص في التطور. لقد خرج العلم الحديث عن هذا الإيقاع، وبذا فَقَد اللحن الأساسي تدريجياً، وباتت جملته اللحنية عبارة عن تراكم معلوماتي لا تصوغه أية أسطورة على الإطلاق. ولئن لم يعِ العلم في بداياته تسارع خطواته وعدم اتساقها مع التطور النفسي والكلِّي وعدم تناغمها ضمن حد أدنى مع الطبيعة، فإن عليه اليوم أن يعي ذلك، لا بل وأن يتخذ موقفاً حاسماً تجاهه. بلى، على العلم أن يعود إلى كنف الأسطورة الداخلية.

الأزمة معرفياً

إذا كان العلم على المستويات السابقة – اجتماعياً وأخلاقياً ونفسياً – لا يستطيع تمييز تقدُّمه المعرفي عن تقدُّمه التقني، فلاشك أنه سيقع في مشكلة معرفية كبرى، بدأت بوادرها تلوح في الأفق. فالإنسان إما أن يكون العارف وموضوع المعرفة في آن معاً، أو أن يكون مجرد أداة اختبار. وبين الحالة الأولى التي تُطرَح نظرياً، والحالة الثانية التي تُطبَّق عملياً، تتسع المسافة ويزداد الشقاق. فالعلم ينحو اليوم إلى تصنيع الإنسان وفق مقاييس مفترضة؛ كما يسعى إلى تشكيل حقيقة علمية تتآلف فيها المعلومات والنظريات والقوى المعروفة. فمعرفة الجوهر لم تعد تشكل بالنسبة له المرشد الحقيقي في بحثه، أو قل إن هذه المعرفة تتلاشى تدريجياً لتحل محلها معرفة اختبارية إحصائية صرف. وبالتالي فإن القيمة المعرفية بذاتها تتضاءل، في حين تنمو مكانها قيمة اختبارية. وهذه الأخيرة لا تكون بالضرورة محرضاً معرفياً. بل إن لجوء العالم بشكل متزايد إلى قواعد الاختبار والإحصاء يزيد من إضعاف مقدرته الحدسية. ومن ناحية أخرى، فإن البرهان في الإطار التجريبي لا يحتم تقدماً حقيقياً في الإطار المعرفي. ومع أن التجربة يمكن أن تظل باعثاً حقيقياً لنظريات جديدة، لكن التجربة بذاتها لا تكفي لبناء أية نظرية ما لم يدعمها حدس ورؤيا العالِم. إضافة إلى ذلك، فإن التجربة، كبرهان معرفي، تفقد قيمتها الفعلية عندما يتعلق الأمر بأسئلة جوهرية حول المادة أو الطاقة أو الحياة. ثم أليس أن جلاء مفهوم ما يتطلب تطوراً على الصعيد الإنساني نفسه، نفسياً ومنطقياً، لا بل وفسيولوجياً أحياناً، قبل أية محاولة لفهم تجريبي له؟

إن آفاق المعرفة الإنسانية لا تُحَدُّ بإطار نظري أو تجريبي. بل يعوزها باعث داخلي أهم بما لا يقاس من أي محرض خارجي، كالتجربة أو الظاهرة. والحق إن العالِم اليوم يفقد شيئاً فشيئاً روح المغامرة إزاء الكون، والهاجس المعرفي في داخله سرعان ما يُقلَّص بعد تخصصات متلاحقة إلى مجرد فضول اختصاصي أو وظيفي. وهكذا تحل المبادرة الضعيفة، المحكومة بمنهجيات آلية وإحصائية قاتلة، محلَّ روح المغامرة التي كانت سبباً مباشراً من أسباب انطلاقة العلم. ويكمن سبب هذا التحول في انعدام النظرة الشمولية لدى العالِم، أو غيابها إلى حد كبير. والمغامرة المعرفية لا تتأتى عن نظرة ضيقة ولا تولد من تربية منهجية محددة بعوامل صارمة. بل هي صراع مستمر من أجل تخطي الحواجز؛ وهي بحاجة دائماً إلى عامل نفسي مشجع على تدفقها واستمرارها. والوضع الحالي للعلم ومناهجه في العالم لا يشجع كثيراً على ذلك. والسبب الجوهري الذي أدى إلى هذا الوضع هو تخلخل البنية النفسية–العقلية لدى العالِم. فالبحث العلمي لم يعد تعبيراً عن ارتقاء متوازن للنفس وللعقل في صيرورة تطورهما، بل مجرد انعكاس باهت في معظم الأحيان للغليان النفسي والجموح العقلي ضمن إطار تجزيئي محدود للموضوع المدروس. ولئن كانت ثمة استثناءات قليلة فإنما هي التي كان يعوَّل عليها دائماً في فتح الآفاق المعرفية الجديدة. ولسنا بحاجة لنشدد هنا على روح المغامرة عند عظماء المعرفيين من رجال العلم الذين قادونا إلى عوالم لم نكن نعرفها. كما أننا لسنا بحاجة إلى التذكير بأن روح المغامرة هذه كانت تكمن دوماً في البحث عن حلول شمولية وكلِّية.

لقد كانت البنية النفسية–العقلية للعالِم حتى مطلع القرن العشرين تقريباً بنية شمولية تبحث عن صيغ كلِّية، وتعتمد، بالتالي، على حدس حاذق ناجم بالتأكيد عن توازن نفسي–عقلي. إن هذا التوازن هو شرط أساسي لحث روح المغامرة المعرفية، وبالتالي، لتحقيق أي إنجاز معرفي. وغني عن القول إن هذا التوازن ينبض بإيقاع الطبيعة، ولا يمكن، بالتالي، أن يولِّد معرفة تزيغ في جوهرها عن هذا الإيقاع. وهذا يفسر لنا إلى حد كبير تواتُر الإنجازات المعرفية الكبرى مع تحولات أساسية في صيرورة التطور الإنساني.

كان كبلر، على سبيل المثال، منجماً، أي أنه كان منسجماً في بنيته الداخلية مع رؤية كلِّية للوجود. وقد استطاع صوغ قوانينه في حركة الأجسام السماوية، ليس فقط بسبب تمحيصه ودراسته لكواكب المجموعة الشمسية، بل لأنه ارتكز أصلاً على يقين الرائي في حدسه للقانون المختبئ خلف قناع الظاهرة. وكل من يقرأ كتب كبلر اليوم سيندهش حتماً من أسلوبه الذي لا يمتُّ بصلة إلى لغتنا العلمية الحالية. كذلك كان نيوتن – الباحث في الخيمياء – يرى أن الكون علاقات متبادلة ومتداخلة بين كافة عناصره، الأمر الذي وفَّر له أن يحدس قانون الجاذبية. والأمر نفسه ينطبق على أينشتاين الذي أبحر في مغامرته حتى حدودها القصوى وطرح نظرية أقل ما يقال فيها إنها لبست الكون كله. أما هايزنبرغ فقد أراد منذ بدء تعلقه بالفيزياء أن يعرف الجوهر، ولم يحبِّذ في البداية اقتراح أستاذه عليه البدء بتجارب جزئية لم يكن يعرف أنها يمكن أن تساهم في بناء نظرية كونية.** وعلى هذا المستوى من البحث نجد أن أعمال بلانك وبور وديراك وباولي وغيرهم كانت أعمالاً جوهرية وكلِّية في مضمونها، بما اشتقته من التجارب الجزئية من نظريات كلِّية. ولئن بلغ العلم يوماً مرحلة أبعد بكثير من هذه النظريات، لكنه سيظل يلتفت دون شك إلى ما قدمه بناة النظرية الكوانتية من تصورات تشمل الوجود كلَّه.

ومع أن العقود الأخيرة تفتقر إلى علماء حاولوا تقديم نظريات شاملة تتمتع بروح المغامرة، لكن بعض الأعمال الجريئة تركت بصمتها دون شك على مسيرة العلم، مثل أعمال عبد السلام وغلاشو وواينبرغ في إطار توحيد القوتين النووية الضعيفة والكهرطيسية. ومع أن عبد السلام وواينبرغ اعتمدا اعتماداً أساسياً على الدراسات الإحصائية، ولم يطرحا تصوراً شاملاً لتوحيد القوى الأربع في الطبيعة، لكنهما خاضا مع ذلك ميداناً شائكاً وكان هدفهما في النهاية كبيراً. ونحن لا يسعنا إلا أن نعترف بضرورة استمرار الأعمال التجريبية والإحصائية والرصدية إذا كان الهدف الرئيسي منها في نهاية الأمر طرح تصور كلِّي. ونستطيع مثلاً أن نستشف أهمية ذلك من الدراسات الإيكولوجية المتخصصة التي تعطينا في مجملها تصوراً كلِّياً عن دينامية الأرض.

ومع ذلك، نعود لنؤكد أننا نحتاج في المسيرة المعرفية إلى المغامرة أولاً، ولعلنا نجد في نظرية الأوتار الفائقة Superstrings التي طُرِحت مؤخراً كتفسير محتمل لوجودنا مغامرةً كبرى قد تقودنا إلى مجاهيل لم نكن نحلم بها. لكن ثمة فروعاً كثيرة لا تزال بحاجة إلى مغامرات من هذا الضرب، وأخَصُّها، ربما، علوم الحياة والتاريخ. فنحن نلاحظ في الطب، مثلاً، انحساراً رهيباً لروح البحث الشامل ولفهم الإنسان ككل، لصالح عمليات دقيقة وأبحاث آلية وتفسيرات لا تخلو من السذاجة عندما ترتكز على المنظور المادي الفظ وحده لفهم الحياة بكلِّيتها.

إننا لنجد في بعض العلوم كلِّية الطابع، مثل الرياضيات النظرية وعلم نشأة الكون، تعويضاً هاماً عن نقص هذه الروح الكلِّية في العلوم الأخرى، ومحوراً حقيقياً لأي تقدم حقيقي على المستوى المعرفي. كذلك فإن علم النفس التكاملي يشكل معلماً بارزاً في إطار نظرتنا المعرفية. ولا شك أن ك. غ. يونغ وضع مدماكاً أساسياً في بنائنا المعرفي عندما بلور نظرتنا الكلِّية للتاريخ وللتطور النفسي للإنسان عندما أشار إلى العلاقة بين العقلية القديمة والإلحاح النفسي الذي يدعوه باللاوعي الجمعي. إن هذا "اللاوعي الجمعي" هو الذي يحتفظ لنا بالأمل الكبير بأن يوم المعرفة الأشمل قادم لا محالة. ذلك أن لاوعينا الجمعي هو تاريخنا الحقيقي، وهو أسطورتنا العتيقة التي لا تنفكُّ تتجدد مع كل علم أو فلسفة، وهو مغامرتنا المعرفية الكبرى.

كذلك نجد اليوم تياراً واعياً من العلماء بات يلاحظ هذا الشقاق بين العلم المعرفي والعلم التجزيئي والتصنيعي والتجريبي. ولسنا نغالي إذا قلنا إن هذا التيار يشكل بذرة المعرفة المستقبلية للإنسان. ونذكر من ممثليه د. بوهم وإ. برغوجين و ف. كابرا ور. شيلدريك وغيرهم. ولا يفصل هذا التيار المعرفة القديمة عن المعرفة الجديدة، بل يغذي الثانية بالأولى، ويفهم الأولى في ضوء الثانية. إنه تيار يحمل لنا الأمل بإمكانية النهوض وتصحيح المسار. ومع ذلك فإن العلم مطالب معرفياً باتخاذ قرار حاسم وصريح تجاه منهجه ككل، وتجاه كافة جوانب تأثيره. وبذلك يعبِّر العلم عن مستوى وعي جدير بمنهج باحث عن الحقيقة.

خاتمة

إن أطهر ما يعتمل في قلب الإنسان حب المعرفة، وأقدس ما يملأ قلبه محبة الحقيقة. فحب المعرفة هو الذي يبعث فيه الإيمان بعلاقته الجوهرية والكلِّية بكل ما في الوجود وبالحقيقة المتضمنة والمتجلِّية فيه. ولولا حب المعرفة الذي لم ينفك ينمو فيه عبر العصور ليجعل منه كائناً أكثر وعياً لوحدته مع الطبيعة والكائنات، لكان الألم يتأكَّل قلب الإنسان الفارغ، لأن شعورنا بالوحشة وبالعزلة كان سيسيطر عليه، ولكان صراعه مع حيوانيَّته سينتهي إلى انكفائه على نفسه في دائرة مغلقة لا سبيل إلى الفكاك منها ولا إلى الانفتاح والتطور فيها. لكن دراستنا لظهور الإنسان ولتطوره على الصعيدين الفسيولوجي والنفسي، بل ولتفتح وعيه منذ ملايين السنين ولتطور مقدرته العقلية على طرح الأسئلة والإجابة عليها، تقدم لنا برهاناً حاسماً على أن إمكانية الانغلاق تلك لم تكن واردة أبداً. فالتطور كان يقود باتجاه وحيد كافة الإمكانات الظاهرة والباطنة؛ وهذا التطور هو الوجه الآخر لذلك الشعور بالوحدة مع الكون. إن الحياة الواحدة هي مبعث حب المعرفة فينا... إنها في الجوهر حب الحياة والوجود الذي يتجلى على مستوى الطبيعة بالتناغم والتفتح وعلى مستوى الإنسان بالفهم والوعي.

إن أطهر ما يعتمل في قلب الإنسان حب المعرفة، وأقدس ما يملأ قلبه محبة الحقيقة. وما محبة الحقيقة إلا الإيمان نفسه بالوحدة معها، لأنه الإيمان بمحبة الحقيقة نفسها الفاعلة فيه وفي الكون. كذا فإن هذا الإيمان يريه نفسه في كل ذرة ومجرة، وفي كل رعشة وهمسة، وفي كل لون وصوت وكيان وإنسان. إن محبة الحقيقة هي مركب الإنسان ومهمازه، ودربه ووسيلته، ومعياره ودافعه... ذلك أن الحقيقة أرفع من أي تصور أو تفسير أو علم أو نظرية، وذلك أن الحقيقة أسمى من أي مذهب أو عقيدة أو طريقة، وذلك أن الحقيقة لا تُحَدُّ بشكل أو منظور؛ ولهذا فمحبة الحقيقة بذاتها تمثل أعلى درجات الحرية وأرفع مراتب الوعي.

*** *** ***


* La Recherche, N° 225, Octobre 1990.

** Werner Heisenberg, La partie et le Tout, Coll. Champs Flammarion, Paris, 1990.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود