الفصل الثاني: أقاصيص الأهل - آ ) الخطوات الأولى الفصل الأول - الجزء الأول: على ضوء كتاب مقدّس وأيقونة

ب

رزّوق، فلادو، جورج و أريس ..

من اليمين إلى اليسار: عمّي جورج، جدّي لطف الله، والدي أريستيدي و عمّي رزق الله. لم يكن فلاديمير معهم حين أخذت هذه الصورة، ولم أستطع مع الأسف العثور على صورة تجمع الأبناء الأربعة ووالدهم.

   

طائر الليل: وزمانهم كان صعباً كزماننا. فتلك الأيام (كما يقول التاريخ الذي مضى)، كأيامنا (التي سيتحدث عنها التاريخ اللاحق)، كانت أيام حروب ومجازر وانهيارات كبرى...

ففيها انهارت إمبرطوريات ودول كبرى، وانهارت معها مفاهيمها وقيمها...

لكن البشر يبقون بشراً، يعيشون زمانهم وأيامهم وأحلامهم الخائبة، كما نعيش نحن اليوم زماننا وأيامنا وأحلامنا الخائبة. ولكن...

مع فارق صغير ومؤلم قد يتلمسه بعضهم فيقول: إن أبناء ذلك الزمان كانوا ربما أصدق مما نحن الآن، حين نجد أنفسنا مضطرين أن نعود، في أواخر هذا القرن، إلى مفاهيم التقية...

 

مرَّت البلاد قبل الانتداب بحقبة قصيرة، ولكن غنية جداً، من الحكم الوطني بقيادة الملك فيصل...

كانوا من جماعة المؤتمر السوري الأول الذي ضم جماعة فيصل (38) ووجهاء وأعيان البلد الذين كانوا ذات يوم مؤيِّدين للعثمانيين. ولكن هذا العهد لم يدم طويلاً، حيث كان الإنكليز والفرنسيون قد تقاسموا البلاد. وبالتالي، لم يستطع فيصل ضبط الأمور التي أفلتت من يده...  

المؤتمر السوري الأول -  1919 - 1920 والشخص الثاني من اليمين في أعلى هذه الصورة التذكارية هو...

"كان "ابن عمِّنا" تيودوري أنطاكي (39) من وجوه المؤتمر السوري الأول، وأحد مندوبيه عن مدينة حلب..."  

أبو نعيم، تيودوري أنطاكي، مندوب المؤتمر السوري الأول عن مدينة حلب

كان إبراهيم هنانو (40) على اتصال بأتاتورك (41). وكان أتاتورك   يهرِّب السلاح لهذا الأخير. وكان بعض من جماعة هنانو وآخرون يتحرَّشون بالقوات الفرنسية التي احتلَّت جبل لبنان والساحل، وباتت تخطط لاحتلال دمشق وما تبقى من سوريا...

كان الفرنسيون لا يثقون بفيصل (42)، لذلك رفضوا إجمالاً التعامل معه. حاول فيصل أن يسايرهم، رغم أن بعض جماعته كان يفضل المقاومة. فقبل بجميع طلباتهم ليحول دون احتلالهم للبلد...

أما يوسف العظمة (43)، وزير الدفاع آنذاك، فقد كان ابن عائلة محترمة، وعسكرياً خريج ألمانيا، ومع ساطع الحصري (44)، من الجماعة التي كانت تفضل مقاومة الفرنسيين. وكان هذا ما فعل، فاستشهد في ميسلون...

"... لم يكن الشعب الذي أيَّد يوسف العظمة (45) يعرف معنى القتال. تصوَّر أنهم ذهبوا معه لملاقاة الفرنسيين وكأنهم ذاهبون إلى سيران. بعضهم كان ذاهباً إلى المعركة ومعه النرجيلة. وعندما بدأ الصدام ووجد الناس أن القضية جَدْ انفضُّوا عنه، وبقي يوسف العظمة رحمه الله وحيداً..."

"شعبنا الذي جُرَّ إلى الحرب قسراً أيام سفر برلك هو شعب مسالم، لا يحب الحرب ولا يعرف ما هي..."

"ومفاهيمه كانت مختلفة عن مفاهيمنا، ووعيه لم يكن كوعينا. فنحن تفترض اليوم أن مفاهيمنا أفضل، وأن وعينا أكبر..."

"عندما انتقلت عائلتنا إلى دمشق، كان الفرنسيون قد أنتهوا من تمرُّد جبل الدروز الذي كان يدعمه الإنكليز. وانتهوا ممَّن كانوا يسمون بـ"الثوار" في الغوطة..."

-       لكن، من كان أولئك الذين قلت أنهم يسمون بالثوار؟

-       كان معظمهم، من وجهة نظري يا بابا، زعران وبلطجية وقطاع طرق...

-       لماذا أنت قاسٍ هكذا في تصنيفهم؟

-       لأنهم كانوا يعتدون على مواطنيهم، فيخطفون الأولاد ويطلبون الخُوَّة من أهاليهم حين كان هؤلاء يرفضون الدفع بشكل مباشر...

-       جميعهم؟!

-       أغلبهم يا بني...

"وفي دمشق استأجرنا منزلاً صغيراً في شارع العابد..."

"وسجَّلنا والدي في مدرسة الفرير ماريست [المريميين] حيث حصل عمُّك رزق الله (46) على البكلوريا بجزئيها. ثم درس الحقوق في دمشق قبل أن يذهب (على حساب عمِّي كريم (47)) إلى باريز للتخصص..."

"فقد كان عمُّنا كريماً تجاه عائلته ومن يحب..."

"ثم انتقلنا (باقي الأخوة) بعد فترة إلى مدرسة اللاييك، حيث حصل فلادو (48) وجورج (49) وأنا (50) على البكالوريا على التتالي. فلاديمير وجورج درسا الحقوق في جامعة دمشق. أما أنا فقد اكتفيت كما تعلم بالبكالوريا..."

 "واتخذ جدُّك (51) لنفسه خليلة جديدة. كانت هذه المرة الخدَّامة الجديدة التي جاءت لتعمل لدينا في المنزل، وكانت تدعى بهيجة التي..."

" طردتُها ذات يوم من المنزل حين كان أبي غائباً. وحين عاد وعلم بالأمر امتعض قليلاً ولكنه تمالك نفسه، ولم يخلق من الأمر مشكلة. كل ما فعله كان أن استأجر لها منزلاً في حيٍّ قريب واقتطع مصروفه من ميزانية منزلنا..."

لكن هذا الذي كان يبدو فاسقاً معلناً كان، في الوقت نفسه، أباً عطوفاً وحنوناً...

"وخاصة على أولاده الذين بات يرعاهم مباشرة – وإن كانت لديه بهذا الخصوص مفاهيم غريبة..."

"في تلك الأيام دخلت السينما إلى دمشق. وفي سينما اللونا بارك، كانوا يعرضون الفلم الصامت "تاراس بولبا" المأخوذ عن قصة غوغول الشهيرة. فذهبنا أنا وإخوتي لنحضر الفلم الذي أعجبنا كثيراً. وحين عدنا جلسنا لنقصَّ ما شاهدناه على جدِّك الذي استوقفنا فجأة وسألنا:

-       تقولون إن تاراس بولبا قتل ابنه الحبيب... لماذا قتله؟ أجبناه:

-       قتله من أجل الوطن... فصرخ جدك بنا قائلاً:

-       [...] أخت الوطن!! كيف يمكن لأب أن يقتل ابنه؟ هذا وحش وليس أباً!

لأنه لم يكن مؤمناً (ربما) بما آمن به أبناؤه، وبما آمنتم به لاحقاً، ودعوتموه بالوطن أو المبدأ أو الفكرة أو الإله. لم يكن الأمر يهمه... ولكن، هل نلومه، والأوطان والمفاهيم التي آمن بها كانت انهارت وذابت كقصور الرمل أمام ناظريه. لكن...

بقيت لديه كمعظم أبناء جيله مفاهيم وقيم أخرى تتحدث عن النبل والشهامة وحب الأب لأبنائه والابن لأخوته ولأهله... فهل كان ذلك خطأ؟

وهذا الحب هو الذي جعله ذات يوم يصيح بألم أمام أبنائه: "ملعون ذاك المفهوم أو تلك الفكرة أو حتى ذلك الإله، إن كان يفترض و/أو يؤدي إلى قتل الأب لابنه والأخ لأخيه أو الجار لجاره..."

 

 "ظلت حياتنا على منوالها في دمشق كما كانت في حلب. كان أبي يلعب القمار في "النادي العصري". كما كان عندنا طباخة وخدَّامة: صوفيا وشقيقتها وردة اللتين عادتا لخدمتنا. ودائماً كان عندنا زوار على الغذاء وزوار على العشاء..."

"وكان لطف الله (52) يسافر كل بضعة أشهر إلى حلب ليزور الأقارب وليلاحق دعوى قضائية حول أرض كانت لنا في منطقة السبيل وحصل خلاف على ملكيتها مع عائلة أخرى. يقضي هناك بضعة أيام ضيفاً على أخيه كريم (53)، ثم يعود إلينا محمَّلاً بالحلويات وتنك السمن والزيت والجبن..."

-       يبدو لي أن أحوالكم كانت جيدة. ولكن، ألم تكونوا تريدون الاستقلال؟

-       بلى، كنَّا، كالجميع، نريده ونتمناه. كان ابن عمِّنا نعيم (54) (ابن تيودوري (55)) من شباب "الكتلة الوطنية"، ومع إدمون ربَّاط (56)، كان أحد أبرز وجوهها الشابة. وكان أغلب جماعة الكتلة الوطنية من أصدقاء جدِّك يلعبون الورق عندنا في المنزل. أنظر ما كتبته بهذا الخصوص في حينه مجلة المضحك–المبكي..."

ونضحك ونحن نقرأ معاً ذلك العدد من مجلة المضحك–المبكي لعام 1925 تحت عنوان "طرائف" كيف "... أضحى السيد لطف الله أنطاكي (57) من أنصار الكتلة الوطنية، حيث يجتمع عدد من وجوهها البارزين في منزله كلَّ مساء ليلعبوا الشَدَّة..."

 "كانت غالبية وجوه البلد، أصدقاء جدِّك في تلك الأيام، من الكتلة الوطنية، ومن الفرمسون..."

-       هل كان جدِّي ماسونياً؟

-       قال لنا مرة إنهم عرضوا عليه الانتساب فوافق، ثم تراجع في آخر لحظة، حيث صدمته طقوسهم... ولكنه بقي صديقاً لهم...

"فقد كان الكثيرون في حينه، كما قلت لك يا بابا، ماسوناً..."

-       وهل كان أحد من عائلتنا ماسونياً؟

-       ربما... ولكنِّي لست متأكداً... 

وتخونني الذاكرة حين أعود اليوم لأتذكَّر تلك الوجوه التي غادرت. ولكني لم أنس أبداً ذلك المجلد الضخم لمجلة المضحك–المبكي لعامي 1925-1926 الذي كان أجمل ما قرأت في سني طفولتي. وأفكر اليوم بمرارة كم كانت مجلة "آل كحَّالة (58)" راقية وجميلة، وكم كانت لاذعة في نقدها للجميع، وكم كانت في الوقت نفسه متسامحة وإنسانية...

فها هو الشيخ تاج (59) يتحدى في أحد أعدادها كليمانصو (60) قائلاً: "لماذا لا تستعبرني؟! أنت رئيس وزراء وأنا رئيس وزراء. أنت لديك سيارة وأنا لدي اثنتان. أنت لديك منزل وأنا لدي أربعة. أنت معاشك 5000 فرنك أنا دخلي أكبر بكثير. فلماذا لا تستعبرني؟

وها هو الداماد أحمد نامي (61) واقف في حضرة المندوب السامي الفرنسي طالباً وظيفة وهذا الأخير يسأله: ماذا تشتغلون حضرتكم؟ فيجيبه الداماد: "ملوك..."

"لقد كانت المضحك–المبكي التعبير الأمثل عن العمق الثقافي والنقدي لذلك الزمان. كما كانت أيضاً التعبير الأمثل للتأثير الإيجابي للديموقراطية الفرنسية على بلادنا وإن في ظل الاحتلال..."

وحين لابد من بعض الحنين، أعود إلى صور العائلة. إلى ثلاث صور كان عمِّي جورج (62) يحتفظ بهما بحرص ومحبة زائدين. وكان مكتوب عليها من الخلف... 1936...

   

ليسقط الخونة...

والطاعة للكتلة الوطنية..

 

ولم يكن لأي منها، في ظاهرها، علاقة بالعائلة. كانت صور لمظاهرات عمَّت في حينه شوارع دمشق الرئيسية. الصورتان الأولى والثانية (وقد أُخِذَتا من الأعلى) كانتا لشباب يلبسون الطربوش ويحملون لافتات كبيرة كُتِب عليها "عاشت الوحدة الوطنية" و"نريد الاستقلال" و"فليسقط الخونة"... والصورة الثالثة التي كانت للشباب نفسهم ولنفس المظاهرة (والتي أخذت من الأمام) كانت تُبرِز شيوخاً من المسلمين وكهنةً من المسيحيين وحاخامين يهوداً، جميعهم متشابكي الأيدي. فقد كان هذا الإخاء المذهبي هو التعبير الأمثل للوحدة الوطنية لأبناء الشعب السوري في تلك الأيام...

وأتذكر كيف ضحك عمِّي جورج (63) حين سألته عن هذه الصور ولِمَ كان يحتفظ بها (بهذا الحرص) بين صور العائلة. وأشار بإصبعه إلى نقطة من إحداها لا يمكن لأحد تمييزها قائلاً: "أنظر... هذا هو أنا..."

 نعم... "هذا هو أنا..."، هذه النقطة التي لا يستطيع أحد تميزها سواه. هذه النقطة كانت عمِّي المسالم جورج الذي كان يخجل من ظله، عمِّي المحب لغاندي (64)، الذي بقي يتذكر، بكل فخر واعتزاز، المظاهرة اليتيمة التي شارك بها في حياته...

"هذا هو أنا..."، طالب الحقوق في حينه، جورج بن لطف الله أنطاكي، الذي شارك من كل قلبه، وبكل جوارحه، في إضراب الخمسين يوماً، وطالب ذات يوم باستقلال بلاده التي كان يحبها... عن فرنسا التي كان أيضاً يحبها...

وقد حدَّثني والدي عن تلك الأيام قائلاً:

"كنتُ ما أزال في حينه طالباً في مدرسة اللاييك في صف البكالوريا. وقد دخلنا ذات صباح إلى المدرسة لنجد الباحات مليئً بالعسكر الفرنسي والسنغالي المتمركز أيضاً فوق السطح حيث نصبوا الرشاشات. فاجأنا الوضع. ولكن رد فعلنا كطلاب كان هادئاً جداً. عدنا أدراجنا وخرجنا بهدوء من المدرسة تحت أنظار الأساتذة والعسكر، ولم نعد حتى انتهى الإضراب..."

-       ولكن كيف كانت أحوال ذلك الإضراب، وكيف كنتم تقضون أوقاتكم؟

-       كان الإضراب مهيباً حقاً. تصور أن البلد كلها ظلت مغلقة بشكل كامل لمدة خمسين يوماً. كانت الحوانيت الرئيسية في الأحياء تُفتَح في الليل فقط لتبيع الحاجات الأساسية والطحين للأهالي. لاشيء البتة كان يباع إلى الفرنسيين الذين كان عسكرهم غالباً ما يكسر أقفال المحلات التي سرعان ما كان يعاود أصحابها إصلاحها. أما نحن، كطلاب وكشباب، فقد كنا نقضي أوقاتنا متنقلين بين بيوت أصدقائنا، نلعب الورق ونقرأ ونتناقش...

"ثم حين أضحى الوضع غير محتمل بنظر للفرنسيين. اتصلوا بهاشم الأتاسي (65) وبشكري القوتلي (66)، وأبلغوهما بالرغبة في التفاوض، شريطة إنهاء الإضراب. فأعطى شكري القوتلي الإيعاز للتجار بفك الإضراب. وخلال أقل من ساعة، عادت الأمور في دمشق إلى مجاريها. وكانت اتفاقية 1936. لقد كان أبناء البلد يداً واحدة في تلك الأيام. آه... لو استمروا هكذا بعد الاستقلال..."

وتضيف والدتي التي كانت غالباً ما تشارك في الحديث أن:

-       في أواخر شهر تشرين الأول من عام 1935 عاد إلى حمص المطران أبيفانيوس (67) (زائد)، الذي كان يومها منشقاً عن "الكرسي الأنطاكي"، واتخذ مقراً له في منزلنا، حيث أقام له أنصاره (ومن بينهم والدي) كنيسة مؤقتة في الطابق السفلي من بنائنا. فقامت القيامة في البلد، حيث رشق أعداؤه الذين حاولوا منعه سيارته بالطين، لكنهم فشلوا. فالشعب الأرثوذوكسي في حمص كان يؤيده عامة...

-       لكن، لماذا كان منشقاً عن الكنيسة؟

"في أوائل عام 1926 عُيِّن أبيفانيوس الشاب مطراناً جديداً للروم الأرثوذوكس في حمص. وكان أبيفانيوس (68)، الذي تلقى تعليمه في روسيا، يحمل أفكاراً "شيوعية"، فقام بعدة مشاريع، وحاول أن يصلح وضع الكنيسة، ويحدَّ من صلاحيات "المجلس المِلِّي" للطائفة الذي كانت تسيطر عليه بعض العائلات المنتفعة. وقد بقي هناك تسع سنوات حاربه خلالها أعضاء "المجلس المِلَّي" بشراسة، لكن دون جدوى. حتى كان عام 1935حيث حاولوا بهدلته وإلحاق الأذى به، مستفيدين من خلاف كان نشب بينه وبين البطريرك الجديد للروم أليكسندروس (69) (طحَّان).

تصور أنهم حرضوا يومها امرأة تدعى أوفيليا جاسوس (70)، فهجمت عليه أثناء الذبيحة وهو يقيم قداساً في كنيسة الأربعين، وضربت الكأس المقدس الذي كان يحمله بيده. لكنه كان أسرع منها فتلقى الكأس باليد الأخرى ثم دفعها أرضاً وتابع قداسه. ثم حاولوا إزاحته بالتعاون مع البطريرك الذي أبعده إلى اللاذقية أولاً، ثم حاول عزله. فتمرد أبيفانيوس (71)، وانشق عن "الكرسي الأنطاكي"، وأعلن مع بعض مؤيديه قيام "الكنيسة الأرثوذكسية المستقلة" التي هو رئيسها. وقد أيَّده في ذلك معظم الأرثوذوكس في اللاذقية التي أصبحت مقراً له. كذلك أيَّده أغلب المسيحيين الأرثوذكس في حمص وبعض المناطق السورية واللبنانية.

كان عمري يومها 13 سنة، وكنتُ جميلة جداً. وكان أبيفانيوس (72) الذي حلَّ ضيفاً على منزلنا لبعض الوقت يدلِّلني كثيراً. وكنت أنا فخورة بهذا. فمعظم الفتيات والنساء كنَّ يعشقنه لجماله ولمواهبه المتعددة. تصور أنه كان شاعراً ورساماً. وكان مختلفاً تماماً عن باقي كهنة الطائفة..."

وأتذكر أن والدتي غالباً ما كانت تدمدم بعضاً من قصيدة غزل وأغنية لهذا الكاهن–الشاعر تقول:

ظبيـة الأنس إليَّـا    بادري قـبل الفـوات

وانشـري طيباً ذكيَّا     منعشاً فـيَّ الحيـاة

هل ترى أبقى شقـيَّا    أم ترى الماضي يعود

لسـتً واللَّه نسـيَّا     أبداً تـلـك الـعهود

"ثم اتفقت الكتلة الوطنية مع فرنسا، واعتقدنا لفترة أن الاستقلال أضحى في متناول يدنا. ولكن هذا لم يحصل، إذ سرعان ما جاءت الحرب..." ولكن...

-       بعضهم، يا بابا، كجماعة عفلق (73) والبيطار (74)، عارضوا في حينه، كما يقولون، الاتفاق مع فرنسا...

-       بابا... ما كان يوجد بعثيون في تلك الأيام، ولم يكن أحد قد سمع لا بعفلق (75) ولا بجماعته. كان هناك فقط بعض المتطرفين من جماعة "النادي العربي" الذين لا يعرفون ماذا يريدون. وكان صوتهم عالياً، وكانوا يزايدون على الجميع، مستغلين ما كان يجري من أحداث في فلسطين. ولكنهم كانوا أقلِّية... فالشعب بأغلبيته كان مع الكتلة الوطنية. والشعب بأغلبيته أيَّد الاتفاق...

-       لكن، كيف كان شعبنا ينظر عموماً إلى فرنسا؟

-       لم يكن شعبنا، كأي شعب، يحب الاحتلال. وبالتالي، لم يكن شعبنا يحب فرنسا... خاصة وأنه كان ينظر إلى الفرنسيين كمحتلِّين. أما العثمانيون فكان ينظر إليهم استمراراً للخلافة الإسلامية...

-       وكيف كانت الأحوال في تلك الأيام؟

-       لم تكن سيئة. فلقد أفادت فرنسا بلدنا عموماً. فالريجي، والكاداسترو، ومفاهيم الإدارة الحديثة جائتنا على يدها. كذلك تطور على يدها التعليم وكثر عدد المدارس في أيامها. ثم إنه كان هناك حرية للرأي وللتعبير. كما أن القضاء كان مستقلاً ومحترماً بشكل عام...

-       وبشكل خاص؟

-       كان هناك شواذات، كما هي الحال دائماً... كتلك التي حدثت مثلاً مع عمِّي كريم (76)، حيث اعتُقِل كريم ذات يوم لأنه كان يصنِّع عرق التين، وهذا كان محظوراً. فاستطاع أن يرشو القاضي الذي حكمه براءة لأن التين من مشتقَّات العنب!!! لكني أؤكد مرة أخرى أن هذا كان شواذاً...

-       لماذا تؤكد هكذا؟

-       اسمع هذه القصة واحكم بنفسك. كان الشيخ تاج (77)، كما تعلم، رئيساً للدولة. وذات يوم، بينما كان يتنزه بعربته على طريق الربوة، استوقف العربة أحد الزعران وتعرَّض له بالشتيمة والإهانة. فرفع الشيخ تاج دعوى ضد هذا المواطن تتهمه بالتعرُّض لرئيس الدولة وشتمه. وتصدى الوطنيون للقضية وكلَّفوا أفضل محامييهم للدفاع عن هذا "المناضل المغوار". واستمرَّت الدعوى سنة. ثم حكمت المحكمة على هذا المواطن بغرامة قدرها ليرة سورية واحدة لتعرُّضه لموظف دولة...

"في عام 1938 عاد عمك رزق الله (78) من باريز حائزاً على شهادة دكتوراه دولة في الحقوق التجارية. عاد بالباخرة عن طريق بيروت فذهب جدُّك (79) وكريم (80) إلى هناك لملاقاته في المرفأ..."

"عاد رزُّوق (81) إلى الوطن، وكانت ترافقه زوجته الأولى التي كانت فرنسية وتدعى ميشلين (82)..."

"كانت ميشلين امرأة شقراء نحيلة جداً وجميلة جداً. كانت كاللعبة! ولكن شكلها لم يكن ليعجب لا لطف الله ولا كريم اللذان كانا يفضلان له امرأة أكثر اكتنازاً..."

"ثم كان طلاق عمِّك رزق الله (83) من ميشلين (84) لأنها لم تنجب له أطفالاً. وكان قد وقع في هوى ماري المعلِّم (85)..."

"كانت ماري المعلِّم (86) ابنة أسرة متواضعة من معلولا. وقد تعرَّف رزق الله (87) إليها من خلال دعوى أقامتها لديه. و..."

"كانت ماري (88) جميلة جداً. طويلة ومكتنزة ومغرية جداً. ففُتِن عمُّك بها وتزوجها..."

"حين عرَّف رزق الله(89) والده بماري (90)   التي أضحى مزمعاً على الزواج منها، ضحك وقال له مداعباً: "هكذا يا رزُّوق، هذه امرأة!""

"لكن قبل ذلك كان عمُّك فلاديمير (91) قد تزوج من ليندا طرزي (92)، ابنة شقيقة قريبنا ميخائيل اليان (93) -الصديق اللدود لعمك رزق الله..."

"كانت ليندا (94) امرأة قوية جداً، سرعان ما سيطرت على فلاديمير (95) ذي الشخصية المسالمة..."

"كما سيطرت ماري المعلِّم (96) على رزُّوق (97) ذي الشخصية القوية والشرسة..."

"كان رزق الله (98) وفلاديمير (99) يسكنان قريباً من منزلنا. كان منزل رزق الله في حي الشعلان قرب مدرسة الفرانسيسكان (منزل روز سانتو (100) حالياً). وكان منزل فلاديمير في الحيِّ الموازي لحيِّنا في شارع العابد... أمّا مكتب رزق الله فكان فوق سينما الروكسي (سينما الأهرام اليوم)..."

"وفي العام 1939 وُلِد أول حفيد للطف الله (101) من فلاديمير (102) وليندا (103). فأسموه لطف الله (104) تيمُّناً بوالدي. ثم، في العام 1941 وُلِد له، أيضاً من فلاديمير وليندا، حفيدة أسموها ليلى (105)..."

"لأنه يبقى هناك دائماً من يتزوج ويطلِّق وينجب أطفالاُ، وكأنما العالم بألف خير..."

"لم تتأثر عائلتنا عموماً بالحرب ولكن..."

كانت الأوضاع صعبة في البلد من الناحية المعاشية. كان هناك تقنين على المواد الأولية...

خلال فترة جماعة فيشي كان هناك حدٌّ من بعض الحريات. ولكن، لم يكن هناك تذمُّر كبير. فجماعة فيشي كانوا مع هتلر (106)، والرعاع في بلدنا كانوا مؤيدين لهتلر. ولكن الشعب عموماً، والمثقفين منه خصوصاً، كانوا في حيرة...

وازدادت مشاعر التأييد لهتلر (107) بين الناس أثناء تمرُّد رشيد عالي الكيلاني (108) في العراق. وقد بقيت الحال هكذا حتى تمت إزاحة الفيشيين على يد الإنكليز والديغوليين، وعاد الوطنيون إلى الحكم مباشرة. ثم، حين بدأ هتلر يُهزَم على يد الحلفاء، بدأت مشاعر الناس المعجبين بهتلر تتحول...

وأصبحت الحكومة في أواخر عهد جماعة فيشي مؤيِّدة للوطنيين. وأصبح خالد العظم (109) رئيسها...

وفي الثامن من حزيران 1941 دخلت القوات الإنكليزية وقوات "فرنسا الحرَّة" إلى دمشق واستسلمت القوات التي كانت مؤيدة لفيشي...

-       لكن أنت يا بابا (110)، هل أيدت هتلر (111)؟

-       كنت لفترة قصيرة معجباً بجرأته. ثم اقتنعت مع جدك أنه كان مجنوناً...

"جدُّك (112) كان الوحيد في العائلة الذي لم يقبض هتلر (113) على الإطلاق. فبالنسبة له كان هذا الأخير مجنوناً خطراً، وبالتالي، فإن له ولأمثاله من المجانين مكان آخر محدد يجب أن يوضعوا فيه..."

وتضيف والدتي أن:

"خلال الحرب كان هناك غلاء. وكان أيضاً غزو من الجراد الذي غطَّى ذات يوم سماء حمص..."

"وخلال الحرب، أفلس جدُّك حسيب (114) الذي كان يملك أراضي في حمص ومعمل حرير في مشتى الحلو..."

وأتذكَّر أني توقفت طويلاً ذات يوم أمام أنقاض ذلك المعمل التي كانت ما زالت قائمة هناك. وكنت في حينه أتنزه مع صديق لي من المنطقة كان يحدثني قائلاً: "هذا كان معمل حرير، لعائلة العاقل..." قبل أن يسألني بماذا كنت شارد...

"لقد أُغلِق المعمل بعد أن توقفت فرنسا عن شراء حريرنا، فبعناه برخص التراب. ثم باع والدي أراضيه ليطعم عائلته وليلبي طلبات أمِّي أولغا أنطاكي (115)..."

نعم – هي بعينها – أولغا (116)، الشقيقة الصغرى لجدِّي لطف الله (117)، التي كانت تزوجت في عام 1915 من المدعو حسيب العاقل (118)، ابن العائلة الحمصية الغنية المعروفة، الذي أنجب منها خمس بنات وذكرين...

"كانت أمِّي أولغا (119) قاسية، مشاكسة ومستهترة، لا تفكِّر إلا بنفسها. فخربت بيت زوجها. كما أنها كانت تعاملنا أسوأ معاملة..."

"ثم إنها أضحت تسيء معاملة والدي الذي أضحى مُقعَداً بعد أن وقع من على ظهر جواده وتدهورت به الأحوال..."

"لم تكن جدَّتك تخاف إلا من شقيقيها لطف الله (120)، وخاصة من كريم (121) الذي كان يصيح بها بصوت جهوري "اخرسي ولك!!" حين كانت تتمادى على زوجها بحضوره. ووالدي كان غالباً ما يستغيث بلطف الله وبكريم لإعانته على زوجته..."

"لقد عشنا، يا ماما، في تلك الأيام، ومنذ إفلاس أبي أياماً في منتهى التعاسة. وكنا نستدين بالفائدة لنستطيع إكمال مصروف الشهر. وكان عزيز صليبي (122) (أبو موريس)، الشخص الذي كنا نستدين منه، يقرع بابنا في مطلع كل شهر، مصطحباً معه ابنه البكر (موريس (123) الذي أصبح من ثم رئيساً في حزبكم)، ليأخذ ما ترتب له من استحقاقات وفوائد. إن وضعنا السيئ، وليس الحب، هو الذي أسرع في موافقتي على الزواج من أبيك. ولكن، بعد أن حصل خالك إميل (124) على البكالوريا، وبدأ يعمل كأستاذ مساعد، عادت أحوال عائلتنا إلى طبيعتها بعض الشيء..."

"لقد درَّس إميل (125) لمدة سنتين في قرية نائية تدعى الميادين. استأجر هناك غرفة منعزلة كانت تستعمل كزريبة قبل أن يسكنها..."

"وكان جاره في الغرفة خلال سنتي إقامته هناك ثعبان..."

-       ثعبان؟!

-       نعم ثعبان. كان إميل (126) يتأمله كلَّ يوم حين يعود ليلاً إلى وكره في أعلى حائط الغرفة. الثعابين مخلوقات مسالمة أكثر من البشر يا ماما، فهي لا تهاجم إلا من يعتدي عليها...

"ثم انتقل خالك بعد ذلك ليدرِّس في قرية قرب حمص تدعى فيروزة..."

"بعد عودته من فرنسا اتصل رزق الله (127) بالكتلة الوطنية وغدا من مؤيِّديها. وكان معجباً وعلى علاقة طيبة ببعض وجوهها الشابة في حلب، كمعروف الدواليبي (128) ورشدي الكيخيا (129)...

بعد فترة من مجيء الديغوليين وعودة الوطنيين إلى الحكم، جاء ديجول (130) لزيارة سورية (عام 1943). وأراد الفرنسيون أن ينظموا له استقبالاً حافلاً. لكن الوطنيين، بالتنسيق مع الإنكليز، قاطعوا استقباله الذي كان باهتاً جداً في دمشق. ثم تقرر أن يزور حلب...

"اتصل الفرنسيون في حلب آنذاك بعمِّي كريم (131) الذي كان صاحب مقهى وشيخ حارة في باب الفرج والسليمانية. وطلبوا منه مقابل مبلغ لا بأس به من المال أن ينظم مظاهرة استقبال لديغول (132). وكان ما حصل أن ذلك الجمهور الذي حشده كريم أنطاكي (133) لتحية ديغول كان يمرُّ أمام المنصة محيياً قائد "فرنسا الحرَّة" من جهة، ثم، وسط إعجاب الفرنسيين، الذين لم يكونوا يفهمون ماذا كان يجري، كان الجمهور يلتفت للطرف المقابل للمنصة فيوجِّه تحية أخرى للناس المحتشدين أي عملياً، لعمِّك كريم (134) ولزوجته بهيَّة اللذين كانا واقفين بين الناس في الطرف الآخر..."

"وفي العام 1943 رُزِق رزق الله (135) وماري المعلِّم (136) ابنة أسمياها إميلي (137) تيمناً بوالدته، فأضحى له حفيد ثالث..."

"وعُيِّن ابن عمنا نعيم (138) وزيراً للخارجية والأشغال العامة في وزارة عطا الأيوبي (139)..."

ولكن، ما كان يُقلِق العجوز أكثر من أي شيء آخر في حينه هو ابنه الأصغر (والدي)، الأقرب إلى قلبه، والأقرب إليه طبعاً وميولاً. لذلك قرر أن يزوِّجه. وكانت من وقع عليها هذا "الاختيار السعيد" هي ابنة عمَّته من حمص...

"... كنتُ في تلك الليلة التي سبقت زواجي من أبيك أبكي وحيدة في غرفتي. عندما جاءني والدي وضمَّني بحنان إلى صدره وقال لي: "إن كنتِ لا ترغبين في الزواج من ابن خالك فما زال بوسعك التراجع..." فتذكرت أمِّي، وما كانت تذيقنا إياه من العذاب... وأجبت أبي: "بل أنا أريد هذا الزواج..."

"... وفي عام 1943 تم زواج ابننا أريستيدي  (140) من روزين حسيب العاقل  (141)..."

***

الفصل الثاني: أقاصيص الأهل - آ ) الخطوات الأولى الفصل الأول - الجزء الأول: على ضوء كتاب مقدّس وأيقونة

============================

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود