الراحل في مركبه الفرعوني

إنْ رَسَمَ فاليدُ ترى مثل العين، وإن حَفَرَ فلا قعر لذاكرته

 

نزيه خاطر

 

نحيل كقضيب توت ربيعي، مُلَمْلَمٌ كفقير هندي، شفاف كنقفة عودٍ بغدادي، مصطفى الحلاج الذي عرفتُه ذات يوم، زمن كانت لمحلَّة الفاكهاني، هناك، نكهة العاصمة الفلسطينية. وكان له يومذاك دور الرسام وملامح أخرى تلوِّنه بالصفات التي تصنع الرجل أولاً، والمثقف ثانياً، والفنان دوماً.

"الحوار مع الكون حوار صمت."

وكان الصمتُ رداءً يحميه من كثرة كلام في "المواضيع الساخنة"، كما كان يقال حينئذٍ. وكان فيه هدوء على حذر، وانزواء على مسمع، وطيبة على كرم، وثعلبة على براءة. وفيما آخرون ينشطون للامتداد أفقياً كَسْباً للوجاهة، اختار هو التواري في ثنايا ذاته، والغوص في بحرها... كمن يحفر في ذاكرة إنسان لا قعر لذاكرته.

من أعمال مصطفى الحلاج

وكان مصطفى الحلاج بسيطاً وأليفاً وقريباً في صورته اليومية. إنما كذلك في تصاويره المتمثلة في ظلال سوداء على بياض، متراكمة من دون ثقل، ومتشابهة من دون تكرار، ومن غير ادِّعاء في الابتكار. كان يستعير، في نقاء طفولي لم تعطبْه الخيبات، الأشكالَ المتوارَثة من عشرات القرون في حضارات شرقية، يتصرف بمفرداتها البصرية كما اعتاد منذ ولادته التصرف كلاماً بالمفردات العربية. مما يفترض لديه انحيازاً إلى عفوية وَضَعَها بمثابة هدف للإنجاز: "أريد ليدي أن ترى مثلما ترى عيني" – كان يردد دوماً لدى الحديث عن عمله. ولم يكن ليهتم بمصير أعماله، ولم يكن ليتخلَّى عنها في سهولة أيضاً: "أنا أرسم لنفسي" – كان يقول، رافضاً أي همٍّ تجاري تسويقي استهلاكي: "لكلٍّ عملُه. أنا أرسم، وتاجرُ الفن، إن وُجِدَ، يتاجر" – كان يقول. وحينها كانت بيروت محاصرة بالحروب.

ويده تختزل كيانه. لم يكن يرغب، رساماً، في فنِّ التوافق التلقائي بين يده ومخيِّلته. وكان يعترف أمام قلة من الأصدقاء – وكان يختارهم واحداً واحداً – بأنه يختزن في إنسانه الإرثَ الحضاري لعالمٍ رافقه في كل الأماكن التي عبر في تجاعيدها، وغرف من ركائزها، واندمج في عناوينها، حتى أصبحت ذاكرتُها جزءاً من ذاكرته: فلسطين، مصر، لبنان... مضيفاً أسماء مدن عربية وأجنبية قَطَفَ بعضَ زَبَدِها عبوراً: "من قال إن الواقع صندوق فرجة؟! لست أرى الواقع. أعيش الواقع، أعبِّر عنه" – كان يقول.

***

وكان يعترف بفضل مصر عليه، وبأنها أعطتْه ما هو أكثر قيمة من الامتلاك المتين لمهنة فن الحفر، بعد فنَّيْ النحت والرسم: "ورأيت في فنِّ الحفر بعض الشبه بفنون الخطِّ..." – كان يردد، مضيفاً أنه يتعامل مع الحفر بالعفوية الملتصقة بعمل خطاط عربي عليه أن يستنفر جميع طاقاته ليضيف نقطة على مخطوطته. ويتحدث عن الطابع الأفقي المعقود لديه على بنية محفوراته، ويستذكر لذلك دوماً الأثرَ الذي تركَه فيه عملُه الطويل على الفنون الفرعونية، بدءاً من النحت الذي جذبه إليه مدةً، قبل أن يقرر مزاولة فن الحفر كاختيار رئيسي في حياته.

وفي الوقت عينه اختبر مصطفى الحلاج فنوناً تنتمي إلى كل أدوات التعبير: كتب الشعر، وقارب الموسيقى، ونظم للفضاء المسرحي التصاميم السينوغرافية، واهتم بالأزياء، وصولاً إلى مَكْيَجَة الوجوه بعين من يبتكر قناعاً لوجه. وربط تجاربه هذه بالبحث التأملي عن الأبعاد الخفية للحياة.

وبين تقشف وجودي وتصوف روحي حافظ على ارتباطه بما كان حصَّله ذات يوم من خلال مطالعته كتاب الموتى الفرعوني. ومرة، على ما أذكر، حدَّثني عن علاقته بالموت، وكيف أنه حوَّل الجزء الخاص جداً من حياته، والسرِّي جداً، إلى رحلة طقسية بطيئة لكن متماسكة لمواجهة الموت: "[...] الموت شجاعة، الموت حرية [...]" – كان يردِّد علي في مثل تلك اللحظة.

والحياة نفسها كانت، بالنسبة إليه، فعلاً تجريبياً يومياً. وكان يدل على "ضرورة التحول" دائماً – وإلا فالعيش موتٌ مادي: "الثعبان نموذج. فهو يبدِّل جلده... وأنا أيضاً. وبينما تلزمه سنة لفعلته فإني أفعل ذلك في كل لحظة من نهاري وليلي [...]" – كان يقول مشيراً إلى أنه يرى إلى الشعر كرحلة طقسية إلى الموت الفرعوني، ويذكِّر بالمركب الفرعوني إلى الأبدية.

ولم يكن رغم ذلك غير مكترث بملذات العيش: "فمن حق الجسد على ما هو عليه أن يتمتع بما فيه من حواس. فصانعه أعلم بما يطالبه به" – كان يقول، وفي ملامحه إشارات سخرية توحي بشبه غشية تبرز كلياً مع ندماء طروبين.

لم يهادن مرة حين كان الأمر يدور على فلسطين. كانت لديه دوماً مواقف المحاربين، وبالسلاح الذي يبرع فيه أكثر من سواه انطلاقاً من ركيزة فكرية تبلورت لديه: "الحوار المجدي صامت." كان يهدد دوماً، منحازاً في شغف إلى الفعل الثقافي ضمن الأنشطة الميدانية للثورة الفلسطينية. حتى إنه بدا مراراً فلسطينياً من خامة خاصة. وكان زملاؤه من مزاولي الفن الملتزم يأخذون عليه محتويات نصوصه المنحازة تصويراً، في حفرياته خاصةً، إلى أجواء بين الرمزية والسوريالية، وإلى هذه أو تلك بحسب اللحظة التي يعمل فيها. وللمعترضين من فناني محلَّة الفاكهاني كان يقول: "أعمل في مدينة عربية، بيروت، هي الأقرب حالياً إلى فلسطين. والفنان الفلسطيني في الداخل له مقوِّمات خاصة؛ ولأمثالي مقوِّماتهم غير المعقود عليها عملُ فلسطينيي الشتات."

الفلسطيني بين الرمزية والسوريالية...

... وبين الداخل والشتات

***

وإنساني أولاً، مصطفى الحلاج. وفي المدينة كأحد روادها المصنوعين من هواء. تخترعه ابتسامة بين بين، تضيء شفتيه، يلبس في ملامحها غالباً ما يخلِّف إزعاجاً لدى الرفاق. وحين يأتي، وإن بعد موعد، فكأنها مصادفة. يبدو دوماً في رحيل إلى أبعد من حيث هو موجود، ومن مكان وقوفه. رحَّالة هو مصطفى الحلاج، أو من طينة الرحَّالين الذي يحطون في الأماكن كالعصافير على قضيب توت.

وهو الآن، هناك، في غربة مستمرة، ربما على مركب شراعي، في سباق مع فرعون ما...

*** *** ***

عن النهار، الأحد 22 كانون الأول 2002

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود