أربعون

 

غلاديس مطر

 

أكملت بهية عامها الأربعين، وانتهى عمرها الافتراضي. صحيح أنها جميلة الملامح، مدججة بأنوثة هادئة، وفوق هذا وذاك، وقورة ومتعلِّمة. إلا أن لا شفاعة لمن تجاوزت الأربعين في مجتمعها. قريباً جداً سوف يغدو خطيراً على صحتها أن تنجب طفلاً إذا ما تزوجت. وإن لم تفعل، فخطير على سمعتها إن تبنَّته من دون زواج. وحين تصنَّف اجتماعياً فمُربِك أن توضع في خانة الشباب، ومُربِك أكثر إنْ وُضِعَتْ في عداد المتزوِّجين الكبار. وحين يريد أرمل كهل في الستين أو الخامسة والستين، أو مطلَّق مع أولاد، أو حتى عجوز، الزواجَ فهي النموذج المثالي الذي يشار إليه. وحين تهز رأسها استنكاراً فإنها تلقَّب بالغبية التي تضيِّع الفرص الأخيرة.

في مجتمعنا تشعر بهية بثقل السن. كل عام يمر، بل كل دقيقة، تدفعها إلى حدود هاوية الأربعين. أما بعد هذا الحد فتبدأ الأحلام الصغيرة الفردية بالسقوط كورق الخريف. وما كان صعباً قبولُه يبدو الآن معقولاً، وما كانت تظنه ليس لها أصبح يبدو اليوم على مقاسها تماماً. حتى ألوان الثياب أخذت تختارها أقل وهجاً، والفساتين أطول، والزينة أهدأ.

وإن كانت بهية اليوم تشعر بحدة أقل تجاه ذلك، فإن والدتها كانت تعقص شعرها إلى الوراء في مثل سنها، وقد تركت خصلاتها البيضاء تظهر من دون وجل.

وفي المساء تجلس بهية إلى مرآتها بعد أن تتخلص من عملها المكتبي المضني، فتتأمل الخطوط التي أخذت بالظهور حول العينين، والبقع البنية الخفيفة التي أسرعت تكافحها بقلق. أما الشعر الأبيض الزاحف بتؤدة حول الجبهة والصدغين فلم يكن يُربِكها. إنها اختارت لوناً جميلاً تصبغه به كل شهر. والحق أن الناظر إليها لا يمكن أن يميز عمرها. فما زالت تتقن العناية بنفسها كفتاة في الخامسة والعشرين. ومع ذلك، مَن مِن الجيران والأهل والأصحاب لا يعرف عمرها الحقيقي؟ ومَن مِن الغرباء غير قادر على معرفته، بل وبتحديد الشهر واليوم والساعة، حتى لو لزم الأمر السؤال هنا وهناك. إذاً لا مفر!

لقد تسنى لبهية في السنوات الثلاثة الأخيرة أن تتعرف على الكثير من الرجال الذين التقتهم لدى بعض الأصدقاء والأقارب والذين أتوا خصيصاً للتعرف عليها وسبر أغوارها كزوجة محتملة لهم.

في إحدى المرات، دعتها صديقة إلى منزلها. وهناك وجدتْه جالساً في ثيابه الأنيقة وشعره المصبوغ، وقد ترك يده تداعب حبات مسبحة ثمينة. شعرت بالاشمئزاز. ذلك أن نظراته كانت أوقح من قدرتها على الاحتمال. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فقد أخذ يعدُّ ويستفيض في شرح ما يملك، وما لديه من عقارات وأرصدة في البنوك، غير آبهٍ إلى أن إصبعه كان ينتقل بانتظام من أنفه إلى أذنه محاولاً تنظيفها.

وحين خرج لم تستطع أن تمسك نفسها عن التأفف، صارخة في وجه الصديقة "الخدومة":

-       هذا الرجل مقرف، وقليل الحس، و...

-       أيتها المتبطرة! ماذا تقولين؟! هل ترفضينه لهذه الأسباب السخيفة؟!

-       أسباب سخيفة! انظري إلى ماذا يدفعني كي أتزوج رجلاً مثل هذا... هيه؟

أجابت صديقتها بلؤم:

-       لن يلحَّ عليك يا عزيزتي في الإنجاب. فأولاده ما شاء الله تجاوزوا الخمسة... وهو...

وخرجت بهية مدهوشة، من دون أن تدع الصديقة تنهي حديثها.

لقد انتهى عمرها الافتراضي، عمر الحمل والإنجاب وتربية الأولاد، سمة المرأة الشابة الخصبة. إذاً – هكذا يقول مجتمعُها – فلتنكسر مهزومة ولتقبل "ظل راجل ولا ظل حيطة". ولكن أي رجل؟ المهم "ظل" موجود يؤمِّن هذا الوجود الشرعي.

وكانت بهية تلبِّي دعوات المحبين من أجل "الفرجة" على العرسان. وفي كل مرة كانت تشعر بالانكفاء والوحدة. وبدأت تحس أن العلة ربما فيها، وأنها لا بدَّ تصعِّب من شروطها، أو هي غير قادرة على تغيير نمط حياة اعتادته منذ زمن.

إنها أكثر أناقة من صديقاتها المتزوجات، وأكثر فراغاً واهتماماً بالشأن الثقافي، وربما أطول نَفَساً على المماحكة والأخذ والرد. ذلك أن الحياة الأسرية الزوجية لم تُبقِ وقتاً لهنَّ لمثل تلك الأمور.

*

مرة لبَّتْ بهية، بعد تردد، دعوة لحضور أحد معارض الرسم التي تنظِّمها "رابطة المدينة الثقافية". وهناك لفت نظرها الفنانُ نفسه أكثر من اللوحات، وبهرتْها طريقة شرحه وحركة يديه المعروقتين فوق سطح القماش المؤطَّر، وهو يبدي وجهة نظره في اختيار اللون ومدلولاته وبقع الضوء والفكرة الكامنة وراءها. وحين كانت تتطلَّع منسجمة، عرفت أنه أعجبها منذ اللحظة الأولى. حب يتيم متأخر، ربما ولد ميتاً.

وعادت بهية لحضور المعرض ثانية في اليوم التالي، وأخذتْ تسأل عن كل لوحة بالتفصيل ودقة، الأمر الذي استرعى انتباهه هو الآخر. وأخيراً طلب إليها اللقاء منفردين على فنجان قهوة.

-       هل أنت متزوجة؟

-       آ... حتماً لا. وإلا لما أتيت.

-       عفواً... إن أغلب صديقاتي متزوجات... ونحن نتصرف على سجيَّتنا، ومن دون أفكار مسبقة... تعرفين أن ما يجعلنا أهم من كل هذه التصنيفات.

-       هل أعتبر نفسي أول من خَرَقَ طابع صداقاتك؟

-       ليس ضرورياً... فكل طالباتي غير متزوجات... إنك في عمرهن على ما أظن؟

أجابت بارتباك:

-       ربما! على كل حال لستَ على هذه الدرجة من الكهولة.

-       لا... لا يغشك مظهري. أنا في الخمسين.

-       أوه... ولكن لا يبدو عليك السن!

تكررت لقاءات بهية مع فنانها المثير. وفي كل مرة كانت تشعر بالانسجام يكبر والتفاهم يزداد. أخيراً، أمكن لها أن تكسر طوق الأربعين، وتعيش حياة حقيقية نابضة، مليئة بالأحاسيس المختلفة.

-       أريد أن أريك مرسمي!

أجابت بسعادة ظاهرة:

-       فكرة رائعة!

هناك عثرت بهية على حريم الفنان الكبير... نساء عاريات ممددات في حمامات تركية، وأخريات في وضعيات تثير التساؤل، ولوحات جدارية أكبر تمثل الحرملك، بكل ما فيه من أقمشة بروكار، وعمامات قصبية، وعي، وخصيان، وعيون متلصصة.

-       هذا هو موضوع معرضي القادم... ما رأيك؟

-       لكن لماذا اخترت هذا الموضوع بالذات... أقصد ما علاقة هذا المعرض بالمعرض السابق؟

-       المعرض السابق هو أنا. وهذا المعرض أيضاً هو أنا!

-       ولماذا نساء الحرملك التركي!

-       لا أعرف... أراه عالماً غامضاً جميلاً مليئاً بالاستيهام...

-       هل أنت معجب به؟!

-       نعم... أقصد... لا أدري... أليس هناك حرملك مأهول في داخل كل رجل؟

-       حتى رجل هذا الزمن!

-       وما الفرق... هل تغير الرجل حتى يتغير الزمن... أقصد هل تغير الإنسان كله حتى يتغير هذا الزمن؟

-       أظن ذلك!

-       وأنا لا أظن ذلك.

بين ظنِّها وظنه فرق كبير... فرق قادر على أن يدمِّر الحب في مهده، وأن يحيل الإعجاب والفتنة إلى نفور أخرس.

*

حين أكملت بهية عامها الأربعين. أطفأت شمعة واحدة، ليس بسبب عدم جرأتها على مواجهة سنها، وإنما لأنها أصبحت أكثر واقعية.

لقد ارتبطت بعد عدة أشهر برجل وقور له مواصفات كهل يريد الزواج. وأخذت تلبِّي معه الدعوات الرسمية والزيارات العائلية، متأبِّطة ذراعه المرتجفة، بينما كان الحديث دائماً يدور حول تقارير الأطباء، ومعدل ارتفاع السكر والكوليسترول. أما هي فقد بدا عليها سيماء الزوجة الرصينة، مداعبة رؤوس أطفال العائلة المضيفة، سائلة إياهم عن تقدمهم الدراسي... ثم مودِّعة إيَّاهم بقبلة رقيقة من "تانت" بهية.

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود