رسالة إلى رهينة

 

أنطوان دو سانت إكزوبيري

 

في عام 1994 احتفلت فرنسا بالذكرى الخمسين لوفاة أنطوان دو سانت إكزوبيري (1900-1944) الذي يُعتبَر واحداً من أكابر الكتاب الإنسانيين في فرنسا، وأحد رواد الطيران في العالم.

وقد اختفت طائرة سانت إكزوبيري التي يُعتقَد أن الطائرات الألمانية قد تصدَّت لها وأسقطتْها في البحر الأبيض المتوسط فيما كان يقوم بمهمة استطلاعية، ولم يُعثَر عليها إلا مؤخراً. وبمناسبة الذكرى الخمسينية لرحيل سانت إكزوبيري أصدرت فرنسا صورته على ورقة الخمسين فرنكاً، وعليها عدد من الرسوم التوضيحية التي قام هو برسمها لروايته الأشهر الأمير الصغير.

 

كَتَبَ سانت إكزوبيري هذا النص ووجَّهه إلى صديقه اليهودي في المنفى ليون فيرت (الذي أهدى إليه الأمير الصغير) قبل فترة وجيزة من رحيله المأساوي، وتناول فيه جوانب من وجه العالم الذي تمزِّقه الحرب، منطلقاً من لشبونة التي تحولت إلى موجز وديع لمآسي العالم، نظراً لأنها كانت عاصمة بلاد محايدة في زمن مليء بالاضطراب والهيجان. وهذا ما يجعل هذا النص وثيقة نادرة لكاتب نادر من أعمق وأصفى كتَّاب هذا القرن.

روز مخلوف

***

حين عبرتُ البرتغال في كانون الأول 1940 متوجِّهاً إلى الولايات المتحدة بدتْ لي لشبونة كنوع من جنة مضيئة وحزينة. كانوا يتكلمون فيها آنذاك كثيراً عن غزو وشيك، وكان البرتغال يتشبث بوهم سعادته. كانت لشبونة التي أقامت أروع معرض في العالم تبتسم ابتسامة شاحبة قليلاً، كابتسامة أولئك الأمهات اللواتي ليست لديهن أية أخبار عن أبنائهن في الحرب ويبذلن الجهد لإنقاذهم من خلال ثقتهن: "ابني حي لأنني أبتسم..."، "انظروا، تقول لشبونة، كم أنا سعيدة وهادئة ومضاءة جيداً...". كانت القارة بأسرها تلقي بوطأتها فوق البرتغال مثل جبل متوحش، ثقيل بقبائله المتوحشة. كانت لشبونة المبتهجة تتحدى أوروبا: "أيمكن أن أُعتبَر هدفاً وأنا أُعنى إلى هذا الحد بألا أتخفَّى أبداً! وأنا هشة إلى هذا الحد...".

كانت مدائن بلادي، ليلاً، بلون الرماد. كنت قد فقدت فيها ألفتي لرؤية أي بصيص من الضوء. وهذه العاصمة المشعة تسبب لي ضيقاً غامضاً. إذا كانت الضواحي المحيطة مظلمة فإن ماساتِ واجهةٍ شديدةِ الإضاءة تجتذب متسكعين نشعر بهم يجولون. كنت أشعر أن ليل أوروبا يُثقِل على لشبونة، الليل المسكون بجماعات ضالة من المدفعيين، كأنهم أحسوا بهذا الكنز من بعيد.

لكن البرتغال كان يتجاهل شهية الوحش. يرفض تصديق المؤشرات السيئة. كان يتكلم عن الفن بثقة يائسة. هل كان أحدٌ ليجرؤ على سحقه في عبادته للفن؟ كان قد أخرج كل أعاجيبه. هل كان أحد ليجرؤ على سحقه في أعاجيبه؟ كان يُظهِر رجاله العظماء. فنظراً لعدم وجود جيش، وعدم وجود مدافع، نصب البرتغال في وجه حديدِ الغازي جميعَ حرَّاسه المصنوعين من حجر: الشعراء والمستكشفين المغامرين. وبسبب عدم وجود جيش أو مدافع كان ماضي البرتغال بأسره يسد الطريق. هل كان أحد ليجرؤ على سحقه في إرث ماضيه العظيم؟

هكذا كنت أهيم كل مساء كئيباً، عبر نجاحات هذا المعرض فائق الذوق، حيث كان كل شيء يلامس الكمال. حتى الموسيقى شديدة الهدوء التي اختيرت بهذا القدر من الرهافة كانت تنساب بنعومة فوق الحدائق دون دويٍّ، مثل مجرد رقرقة ينبوع. أكان أحد ليدمِّر هذا الحسَّ الرائع بالاعتدال؟

وجدتُ لشبونة في ابتسامتها أكثر حزناً من مدائني المطفأة.

عرفت، وربما عرفتم، تلك العائلات غريبة الأطوار إلى حدٍّ ما، التي كانت تحتفظ بمكان لميت إلى موائدها. كانت تنكر ما لا يمكن إصلاحه. غير أن هذا التحدي لم يكن يبدو لي مواسياً. من الموتى علينا أن نصنع موتى. عند ذلك يستعيدون، في دورهم كموتى، شكلاً آخر من الوجود. إلا أن تلك العائلات كانت تعطِّل عودتهم. كانت تجعل منهم غائبين أبديين، مدعوين متأخرين إلى الأبد. كانت تقايض الحِدادَ بانتظارٍ عديم المحتوى. وتلك البيوت كانت تبدو لي غارقة في ضيق لا كفارة عنه، خانق بشكل مختلف عن الغم. قبلت أن ألبس الحِداد على الطيار غِيُّوميه، آخر صديق فقدتُه، الذي صُرِعَ أثناء الخدمة البريدية الجوية. يا إلهي! غِيُّوميه لن يتغير بعد الآن، لن يعود حاضراً بعد الآن أبداً، إلا أنه لن يكون غائباًُ أبداً كذلك. ضحيت بطبقه على مائدتي – ذلك الفخ غير المجدي – وجعلت منه صديقاً حقيقياً ميتاً.

لكن البرتغال كان يحاول أن يؤمن بالسعادة، تاركاً لها مكانها وفوانيسها وموسيقاها. في لشبونة كان يلعب لعبة السعادة حتى يؤمن بها...

يعود مناخ الحزن في لشبونة أيضاً لوجود بعض اللاجئين. لا أتكلم عن المُبعَدين الباحثين عن ملجأ، لا أتكلم عن المهاجرين الباحثين عن أرض يخصبونها بعملهم. أتكلم عن أولئك الذين يغادرون أوطانهم ويبتعدون عن بؤس ذويهم من أجل وضع مالهم في مأمن.

وباعتباري لم أستطع السكن في المدينة بالذات سكنتُ في أستوريل قرب الكازينو. كنت خارجاً من حرب كثيفة: كان فريقي الجوي، الذي لم يوقف قط طلعاته فوق ألمانيا طوال تسعة أشهر، قد فقد في الهجوم الألماني وحده ثلاثة أرباع طواقمه. بعودتي إلى بلدي عرفت جوَّ العبودية القاتم، وتهديد المجاعة، عشت ليل مدننا السميك. وها على بعد خطوتين من منزلي يعمر الكازينو بالأشباح. كانت سيارات كاديَّاك صامته تضعهم، وهي تتظاهر بالتوجُّه إلى مكان ما على الرمل الناعم لرواق المدخل. ارتدوا ملابس للعشاء، كما في السابق. كانوا يُظهِرون واقيات صدورهم أو لآلئهم. دعوا بعضهم بعضاً إلى وجبات ممثلين صامتين؛ فقد لا يكون لديهم شيء يقولونه بعضهم لبعض.

ثم يلعبون لعبة الروليت أو البَكَرا، بحسب الثروة. كنت في بعض الأحيان أذهب للفرجة عليهم. لم أكن أشعر لا بالغيظ ولا بالسخرية، بل بقلق غامض؛ القلق الذي يجعلك تضطرب في حديقة الحيوان أمام النماذج الناجية من نوع منقرض. كانوا يأخذون أماكنهم حول الطاولات، يتزاحمون حول مدير لعبة القمار الصارم، ويجتهدون في مكابدة الأمل، واليأس، والخوف، والحسد، والابتهاج. كما الأحياء. كانوا يقامرون بثروات، ربما كانت في تلك الدقيقة بالذات قد فرغت من مدلولها. ربما كانوا يستعملون عملة باطلة. ربما كانت قيمة خزائنهم مكفولة من قبل مصانع تمت مصادرتها، أو هي الآن في سبيلها إلى أن تنسحق تحت تهديد الطوربيدات الجوية. كانوا يسحبون كمبيالات على الشِّعرى اليمانية. يسعون جهدهم، بارتباطهم بالماضي، أن يمنوا بشرعية حماهم، بغطاء شيكاتهم، بأزلية اصطلاحاتهم، كما لو أن شيئاً منذ عدد مبين من الأشهر لم يبدأ بالتقصف على الأرض. كان ذلك غير حقيقي. كان أشبه بباليه دُمى. لكنه كان شيئاً حزيناً.

دون شك لم يكونوا يحسون شيئاً. كنت أتركهم وأذهب لأتنفس عند شاطئ البحر. وكان بحر أستوريل ذاك، بحر مدينة المياه، البحر المروَّض، يبدو لي أنه داخلٌ في اللعبة أيضاً. كان يدفع إلى الخليج موجة وحيدة رخوة، لامعة تماماً في ضوء القمر، مثل ثوب له ذيل في غير أوانه.

التقيت بلاجئيَّ على سطح السفينة. كانت هذه السفينة، هي أيضاً، تنشر قلقاً خفيفاً. كانت تنقل من قارة إلى أخرى هذه النبتات عديمة الجذور. كنت أقول لنفسي: "أريد أن أكون مسافراً، ولا أريد أن أكون مهاجراً. تعلمت في بلدي أشياء كثيرة، تصير بلا فائدة في مكان آخر." ولكن هاهم مهاجريَّ يخرجون من جيبهم دفاتر عناوينهم الصغيرة، بقايا هوياتهم. مازالوا يلعبون لعبة كونهم أشخاصاً مهمين. كانوا يتعلقون بكل قواهم بمدلول ما. "أتعرف، هذا هو أنا، كانوا يقولون، أنا من المدينة الفلانية... صديق فلان... أتعرف فلاناً؟"

ويقصُّون عليك قصة صديق، أو قصة مسؤولية، أو قصة خطيئة، أو أية قصة أخرى يمكن أن تربطهم بأي شيء كان. ولكن لم يعد شيء من هذا الماضي ينفعهم لأنهم هجروا أوطانهم. كان الأمر ما يزال ساخناً جداً، طازجاً جداً، حياً جداً مثلما هي ذكريات الحب في بداية الأمر.

تُصنَع رزمةٌ من الرسائل الرقيقة. تُرفَق بها بعض الذكريات. ويُربَط الكلُّ بكثير من العناية. إن بقايا الأشياء الثمينة تثير سحراً كئيباً في البداية، ثم تمر شقراء ذات عينين زرقاوين، فتموت البقايا. لأن الصديق أيضاً، والمسؤولية مسقط الرأس، وذكريات البيت، تفقد ألوانها إنْ هي ما عادت تُستعمَل.

كانوا يحسون بذلك جيداً. ومثلما تلعب لشبونة لعبة السعادة، كانوا هم يلعبون لعبة الاعتقاد بأنهم سيعودون قريباً. عذبٌ غيابُ الابن الضال! إنه غياب مزيف لأن البيت الأسري باقٍ وراءه. فسواء كان الغياب في الغرفة المجاورة، أو على الجانب الآخر من الكوكب، ليس الفرق جوهرياً. يمكن أن يكون وجود الصديق الذي ابتعد ظاهرياً أكثر كثافة من وجود فعلي. إنه وجود الصلاة. لم يسبق أن أحببت بيتي قط أكثر مما أحببتُه في الصحراء. لم يسبق أن كان خُطَّابٌ أكثر قرباً إلى خطيباتهم من البحارة البروتون في القرن السادس عشر، عندما يجتازون رأس هورن ويشيخون في مواجهة الرياح المعاكسة. منذ انطلاقهم يكونون قد شرعوا بالعودة. وحين ينشرون الأشرعة كانوا يعدُّون العدة بأيديهم الثقيلة للعودة. كان الطريق الأقصر من ميناء بروتاني إلى البيت يمر من رأس هورن. ولكن هاهم المهاجرون أولاء يبدون لي مثل بحارة بروتون انتزعت منهم نافذتها لأجلهم. لم يكونوا قط أبناء ضالين. كانوا أبناء ضالين دون بيت يعودون إليه، عندما يبدأ السفر الحقيقي، السفر خارج الذات.

كيف السبيل لإعادة بناء الذات؟ كيف السبيل لإعادة صنع تلك اللغة الثقيلة من خيوط الذكريات؟ كانت هذه السفينة محمَّلة بأرواح سوف تولد كأنها في حالة مؤقتة. وحدهم الذين كانوا يبدون حقيقيين، حقيقيين إلى درجة يودُّ معها المرء أن يلمسهم بإصبعه، هم أولئك الذين أعْلَتْ وظائف حقيقية من شأنهم، فحملوا الأطباق، وجَلُوا النحاسيات، ولمَّعوا الأحذية، وباحتقار غامض، خدموا أصواتاً. أبداً ليس الفقر هو السبب في ذلك الازدراء الخفيف لدى طاقم الموظفين إزاء المهاجرين. ليس المال هو ما كان ينقصهم، بل الكثافة. فما عاد واحدهم الرجل الذي ينتمي إلى بيت معين، إلى صديق معين، إلى مسؤولية معينة. كانوا يلعبون الدور، ولكن ذلك لم يعد صحيحاً. لا أحد يحتاج إليهم، لا أحد يستعد للاتصال بهم. أية أعجوبة هي تلك البرقية التي تقلب كيانك، تُنهِضك في منتصف الليل، تدفعك إلى المحطة. "أسرع أنا بحاجة إليك!" بسرعة، نكتشف لأنفسنا أصدقاء يساعدوننا، ولكننا ببطء نصبح جديرين بأن تُطلَبَ منا المساعدة. صحيح أن أشباحي لم يكن أحدٌ يكرههم، لم يكن أحد يحسدهم، لم يكن أحد يضايقهم. إلا أن أحداً لم يكن يحبهم مجرد الحب الذي يمكن أن تكون له قيمة. كنت أقول لنفسي: منذ وصولهم، ستأخذهم حفلات كوكتيل الترحيب، عشاءات المواساة. ولكن من هو الذي سوف يرجُّ بابهم مطالباً بأن يُفتَح له: "افتح، هذا أنا!" يجب إرضاع طفل وقتاً طويلاً قبل أن يطالِب. يجب العناية بصديق زمناً طويلاً قبل أن يطالِب بحقه في الصداقة. يجب أن تفلس أجيال في إصلاح القصر القديم الذي يتصدع حتى يتعلَّم المرء أن يحبه.

2

كنت إذن أقول لنفسي: "الشيء الأساسي هو أن يبقى ما شَبَبْنا عليه موجوداً في مكان ما. العادات، وأعياد الأسرة، ومنزل الذكريات. الشيء الأساسي هو أن تعيش من أجل العودة...". وكنت أشعر أن هشاشة الأقطاب التي كنت أرتبط بها تهددني في جوهري ذاته. كنت على وشك معرفة صحراء حقيقية، وبدأت بفهم لغز كان قد حيَّرني طويلاً.

عشت ثلاث سنين في الصحراء. حلمت، أنا أيضاً، بسحرها، بعد آخرين كثيرين. كلُّ من عرف الحياة الصحراوية، حيث ليس كل شيء في الظاهر سوى وحدة وقفر، يبكي مع ذلك تلك السنين كأحلى سنين عاشها. ليست كلمات "الحنين إلى الرمال، الحنين إلى الوحدة، الحنين إلى الامتداد" سوى صيغ أدبية، ولا تفسر شيئاً، في حين أنه يبدو لي أني فهمت الصحراء للمرة الأولى، على ظهر سفينة تعج بالمسافرين المكدسين بعضهم فوق بعض.

لا شك أن الصحراء لا تقدم، على مدِّ النظر، سوى رمال متشابهة، أو بدقة أكبر، رملة كثيرة الحصى، لأن الكثبان نادرة فيها. نَعوم فيها بشكل دائم في ظروف الضجر ذاتها. ومع ذلك فإن آلهة غير مرئية بَنَتْ لها شبكة من الاتجاهات، من المنحدرات والعلامات، جهازاً عضلياً خفياً وحياً. فليس ثمة رتابة. لكلِّ شيء وِجهتُه. حتى الصمت لا يشبه فيها صمتاً آخر.

هناك صمت السلام عندما تتصالح القبائل، عندما يسترد المساء برودته، ويبدو لك أنك طويت أشرعتك وتوقفت في ميناء هادئ. هناك صمت الظهيرة، حين تعلِّق الشمسُ الفكرَ والحركة. وهناك صمت كاذب، حين تهدأ ريح الشمال، ويعلنُ ظهورُ الحشرات، المنتزَعة من واحات الداخل، كأنها رحيق، عن هبوب عاصفة الشرق حاملةً الرمال. وهناك صمت المؤامرة، حين نعلم أن قبيلةً بعيدة هائجةٌ. وهناك صمت اللغز، حين تنعقد بين العرب مؤامراتُهم المبهمة. هناك صمت متوتر حين يتأخر المبعوث في العودة؛ صمتٌ حادٌّ، حين يحبس المرء أنفاسه لكي يسمع صمتاً كئيباً، عند تذكُّر من نحب.

كل شيء يستقطب. كل نجمة تثبت اتجاهاً حقيقياً. كلها نجوم المجوس. وكلها تخدم إلهها الخاص. تشير هذه إلى جهة بئر بعيدة يصعب الوصول إليها. والامتداد الذي يفصلك عن تلك البئر يجثم كأنه متراس. وتدل تلك على اتجاه بئر جفَّتْ مياهُها. وتبدو النجمة ذاتها جافة. وليس للامتداد الذي يفصلك عن البئر الجافة انحدارٌ. تلك الأخرى تفيد دليلاً إلى واحة مجهولة مَدَحَها لك البدو، ولكن الشقاق يمنعها عنك، والرمال التي تفصلك عن الواحة أرضٌ للحكايات الخرافية. تلك الأخرى أيضاً تشير إلى اتجاه مدينة بيضاء في الجنوب، يبدو أنها لذيذة مثل ثمرة تغرز فيها الأسنان. تلك تشير إلى البحر.

أخيراً هنالك أقطاب تكاد تكون غير حقيقية تُمَغْنِطُ من بعيد جداً هذه الصحراء: بيت طفولة، يبقى حياً في التذكار، صديقاً لا تعرف عنه شيئاً سوى أنه حي.

هكذا تشعر بالانشداد والانتعاش من خلال حقل القوى التي تتجاذبك أو تدفعك، تغريك أو تقاومك. ها أنت ذا قائم فوق أسس ثابتة تماماً، عازم تماماً، مستقر تماماً وسط جهات أصلية.

وبما أن الصحراء لا تقدم أي غنى ملموس، بما أنه ليس هناك شي ء يُرى أو يُسمَع في الصحراء، فإنك مرغم تماماً على الاعتراف بأن محرضات غير مرئية هي التي تحرك الإنسان أولاً. وما دامت الحياة الداخلية تقوى فيها ولا تنام، فإن النفس هي التي تحكم الإنسان. في الصحراء قيمتي تعادل قيمة آلهتي.

هكذا فأنا، إن كنت أشعر بأني غني بجهات ما تزال مبحرة، على متن سفينتي الحزينة. وإن كنت أسكن في كوكب ما يزال حياً فقد كان ذلك بفضل بعض الأصدقاء الضائعين في ليل فرنسا ورائي، ممَّن بدأوا يصبحون أساسيين بالنسبة لي.

من المؤكد أن فرنسا لم تكن بالنسبة لي آلهة مجردة، ولا مفهوماً مؤرَّخاً، بل كانت حقاً من لحم أنتمي إليه، شبكة من الصلات التي تديرني، مجموعة من الأقطاب التي تسند منحدرات قلبي. كانت لدي حاجة لأن أحس بأن أولئك الذين أحتاج إليهم كي يوجِّهوني هم أصلب وأكثر دواماً منِّي أنا نفسي. حتى أعرف أين أعود، حتى أكون موجوداً.

كان بلدي بأكمله يسكن فيهم ويعيش فيَّ من خلالهم. هكذا تُختصَر قارةٌ في مجرد بريق بعض المنارات بالنسبة لمن يسافر في البحر. المنارة لا تقيس البعد. ضوؤها حاضر في العيون، بكل بساطة. وكل عجائب القارة تسكن النجمة.

واليوم، ها هي ذي فرنسا، على إثر الاحتلال الشامل، تدخل دفعة واحدة في الصمت مع حمولتها، مثل سفينة جميع أنوارها مطفأة، ونجهل إن هي نَجَتْ من أخطار البحر أم لم تنجُ. مصير كل من أحبهم يعذبني بطريقة أكثر جسامة من مرض مقيم في داخلي. أكتشف أن هشاشتهم تهددني في جوهري.

ذلك الذي لازَم، هذه الليلة، ذاكرتي، عمرُه خمسون عاماً. هو شخص مريض ويهودي. كيف سينجو من الهول الألماني؟ لكني أتخيل أنه مازال يتنفس. يلزمني الاعتقاد أن الغازي لم يعرفه، وأن سور الصمت الجميل لفلاحي قريته قد آواه سراً. عندها فقط أعتقد أنه مازال حياً. عندها فقط يسمح لي، وأنا أطوف بعيداً في إمبراطورية صداقته التي لا حدود لها أبداً، ألا أشعر بنفسي مهاجراً، بل مسافر، لأن الصحراء ليست حيث نعتقد. الصحراء أكثر حياة من عاصمة، والمدينة الأكثر اكتظاظاً تفرغ إذا زالت المَغْنَطَة عن الأقطاب الأساسية للحياة فيها.

كيف تبني الحياة إذن خطوط القوة تلك التي نحيا منها؟ من أين يأتي الثقل الذي يجذبني نحو بيت هذا الصديق؟ ما هي، إذن، اللحظات الأساسية التي جعلت من ذلك الحضور أحد الأقطاب التي أحتاج إليها؟ ما هي، إذن، الأحداث الخفية التي جُبِلَت منها المشاعر الرقيقة المميزة، ومن خلالها حب البلد؟

كم هو قليل الضجيج الذي تصنعه المعجزات الحقيقية! وكم هي بسيطة الأحداث الجوهرية! إنه لشيء قليل جداً أن يقال عن اللحظة التي أريد أن أرويها إنه يلزمني أن أعيش ثانية في الحلم، وأن أكلم ذلك الصديق.

كان ذلك في يوم من أيام ما قبل الحرب، على ضفاف نهر صاوون، من جهة تورنيس. كنا قد اخترنا من أجل الفداء مطعماً تطلُّ شرفتُه الخشبية على النهر. مستندين بأكواعنا على طاولة بسيطة تماماً، حفرها زبائن بالسكين، طلبنا كأسي برنو. كان طبيبك قد منعك من تناول الكحول، إلا أنك كنت تغش في المناسبات الكبيرة. وتلك كانت واحدة منها. لم نكن نعرف لماذا، ولكنها كانت واحدة منها. ما يُبهِجُنا كان يفوق نوعية الضوء في عدم قابليته للَّمس. كنت قد قررت إذن اختيار البرنو الخاص بالمناسبات الكبيرة ذاك. وباعتبار أن بحارَيْن كانا يُفرِغان حمولة أحد الزوارق على بعد عدة خطوات منا فقد دعوناهما. ناديناهما من فوق الشرفة. وجاءا. جاءا ببساطة. وجدنا من الطبيعي جداً أن ندعو أصحاباً، ربما بسبب ذلك العيد غير المرئي فينا. كان من البديهي جداً أن يستجيبا للإشارة. بناء على ذلك تناولنا المشروب!

كانت الشمس طيبة. عسلها الفاتر يغمر شجرات حور الضفة الأخرى والسهل حتى الأفق. كنا نزداد فرحاً شيئاً فشيئاً، ودائماً دون أن نعرف السبب. كانت الشمس تُطَمْئن بأن تضيء جيداً، والنهر بأن يجري، والوجبة بأن تكون وجبة، والبحارين باستجابتهما للنداء، والنادلة بأن تخدمنا بنوع من اللطافة السعيدة، كما لو أنها ترأس عيداً أبدياً. كنا في حالة سلام تام، مندمجين تماماً، في حضارة نهائية، بعيداً عن الفوضى. كنا نتذوق نوعاً من الحالة التامة، التي لم يعد لنا فيها ما نُسِرُّ به بعضنا لبعض مادامت جميع الأمنيات متحققة. كنا نحس بأننا أنقياء، مستقيمون، مشرقون، ومتسامحون. ما كنا لنعرف أية حقيقة كانت تظهر لنا في بداهتها، إلا أن الشعور المسيطر علينا كان الشعور باليقين تماماً. يقين يكاد يكون مزهواً.

كذلك الكون كان يثبت نيَّته الطيبة من خلالنا. كل شيء، تكاتف السديم، قساوة الكواكب، تشكُّل الأميبات الأولى، عمل الحياة الهائل الذي أوصل الأميبة إلى الإنسان. كل شيء تلاقى لحسن الحظ حتى يصل من خلالنا إلى هذه النوعية من المتعة: لم يكن ذلك سيئاً كنجاح.

هكذا كنا نتذوق ذلك التفاهم الصامت وتلك الطقوس شبه الدينية. البحاران ونحن، يهدهدنا رَواح الخادمة الكهنوتية وغذوُّها. كنا نشرب كأننا رواد الكنيسة ذاتها، رغم أننا لم نعرف أية كنيسة هي. كان أحد البحارَيْن هولندياً. الآخر ألماني، هرب من النازية. لوحق هناك كشيوعي، أو تروتسكي، أو كاثوليكي، أو يهودي (لم أعد أذكر الصفة التي أُبعِد الرجل تحت اسمها). غير أنه في تلك اللحظة لم يكن مجرد صفة، بل كان شيئاً آخر. كان المحتوى هو المهم. العجينة الإنسانية. كان صديقاً، بكل بساطة. وكنا متفقين فيما بيننا كأصدقاء. أنت كنتَ متفقاً، وأنا كنت متفقاً. كان البحاران والخادمة متفقين. متفقين على ماذا؟ على كأس البرنو؟ على مغزى الحياة؟ على حلاوة النهار؟ ما كنا كذلك لنعرف. إلا أن ذلك الاتفاق كان مليئاً جداً، وراسخاً في العمق رسوخاً مكيناً. كان يقوم على كتاب مقدس واضح في جوهره، رغم عدم قابلية صياغته في كلمات، إلى درجة كنا لنقبل معها بكل طيبة خاطر أن نحصِّن هذا الجناح، أن نقيم محاصَرين فيه، وأن نموت فيه خلف رشاشات لكي ننقذ هذا الجوهر.

أي جوهر؟ هذا هو بالضبط ما يصعب التعبير عنه! أخشى أنني أكاد لا ألتقط سوى الظلال، وليس الشيء الأساسي. الكلمات، بعدم كنايتها، سوف تؤدي إلى فرار حقيقتي، وسيكون في قولي غموضٌ إن ادَّعيت أننا كنا سنحارب بسهولة إنقاذاً لابتسامة معينة كابتسامة البحارة، وابتسامتك وابتسامتي، وابتسامة الخادمة، إنقاذاً لمعجزة معينة لهذه الشمس، التي كلَّفت نفسها، منذ هذا القدر من ملايين السنين، كل هذا العناء لكي تصل من خلالنا إلى نوعية ابتسامة، كانت متقنة إلى درجة كافية.

غالباً ما يكون الجوهري بلا وزن إطلاقاً. لم يكن الجوهري هنا، في الظاهر، سوى ابتسامة؛ وغالباً ما تكون الابتسامة هي الشيء الجوهري. نعطي حقنا ابتسامةً. نكافأ بابتسامةٍ. تحرِّكنا ابتسامةٌ. ويمكن أن تؤدي نوعية ابتسامة إلى أن نموت. مع ذلك، وبما أن هذه النوعية كانت تخلِّصنا بشكل ممتاز من غمِّ الظروف الحاضرة، وتمنحنا اليقين والأمل والسلام، فأنا أحتاج اليوم، سعياً للتعبير عن نفسي بشكل أفضل، أن أروي أيضاً قصة ابتسامة أخرى.

كان ذلك أثناء روبورتاج عن الحرب الأهلية في إسبانيا. تهوَّرتُ فحضرت، خُلسة، في حوالى الثالثة صباحاً، عملية شحن لوازم عسكرية سرية في محطة بضائع. بدا أن اضطراب أفراد الفرقة وبعضاً من الظلام قد ساعدا على تطفلي. إلا أني بدوت لبعض جنود الميليشيا مشبوهاً.

كان ذلك في غاية البساطة. لم أكن أشك بعد بشيء من اقترابهم المطاطي الصامت، عندما أطبقوا علي، بهدوء، مثل أصابع اليد. حطَّت سبطانة غدَّارتهم قليلاً فوق بطني، وبدا لي الصمت مهيباً. أخيراً رفعت ذراعي مستسلماً.

لاحظت أنهم كانوا يحدَّقون، ليس بوجهي، بل بربطة عنقي (كانت موضة الضواحي الفوضوية لا تنصح بارتداء هذه القطعة الكمالية). تشنَّج لحمي. كنت أنتظر الطلقة النارية؛ فقد كان ذلك هو زمن الأحكام المتسرعة. إلا أنه لم يحصل أي إطلاق. بعد بضع دقائق من الفراغ المطلق، بدت لي الفرقة خلالها كمن يرقص نوعاً من باليه الأحلام في عالم آخر، أشار إلي الفوضويون الذين يحاصرونني أن أتقدمهم. ورحنا نسير، على مهل، عبر المسالك المختارة. تم الأسر في صمت تام، وباقتصاد مدهش في الحركات. هكذا تلهو طغمة تحت الماء.

سرعان ما غُصْتُ باتجاه قبو حُوِّل إلى مركز حراسة. كان هناك أفراد ميلشيات آخرون يغالبون النعاس، غدَّاراتهم بين أرجلهم، وقد أضاءهم مصباح بترول رديء إضاءة سيئة. تبادلوا مع رجال دوريتي بعض الكلمات بصوت حيادي. قام أحدهم بتفتيشي.

أنا أتكلم الإسبانية إلا أني أجهل الكتالانية. مع ذلك، فهمت أن أوراقي مطلوبة. كنت قد نسيتها في الفندق. أجبت: "فندق... صحفي"، دون أن أعرف إن كانت لغتي تنقل شيئاً ما. تناقل أفراد الميلشيا جهازاً تصويرياً من يدٍ إلى يد، كأنه وثيقة إثبات. بعض من أولئك الذين كانوا يتثاءبون، خائرين في مقاعدهم العرجاء، نهضوا بنوع من الملل واستندوا إلى الجدار.

الانطباع السائد كان الملل. الملل والنعاس. كانت قدرة الانتباه لدى هؤلاء الرجال مستهلَكة، كما كان يبدو لي، حتى الاجترار. كدت تقريباً أتمنى ظهور مؤشر للعداء. لعلاقة إنسانية. لكنهم لم يشرفوني بأية إشارة غضب، ولا حتى بإشارة استياء. حاولت مرة بعد مرة أن أحتجَّ باللغة الإسبانية. سقطت احتجاجاتي في الفراغ. نظروا إليَّ دون إبداء ردِّ فعل، مثلما كانوا سينظرون إلى سمكة صينية في حوض ماء.

كانوا ينتظرون. ما الذي كانوا ينتظرونه؟ عودة أحد منهم فجراً؟ قلت لنفسي: "ربما كانوا ينتظرون أن يشعروا بالجوع...".

قلت لنفسي أيضاً: "سيرتكبون حماقة! إنه شيء مضحك قطعاً!..." الشعور الذي كان ينتابني – يفوق مثيراً شعوراً بالغمِّ – كان قرفاً من العبث. كنت أقول لنفسي: "إذا خرجوا من جمودهم، إذا أرادوا التصرف، فسوف يطلقون!"

هل كنت في خطر فعلاً أم لا؟ هل مازالوا يجهلون أني لست مخرباً، ولا جاسوساً، بل صحفي؟ إن أوراقي الشخصية موجودة في الفندق. هل اتخذوا قراراً؟ ما هو؟

لم أكن أعرف عنهم شيئاً، سوى أنهم كانوا يعدمون بالرصاص دون جدال كبير مع ضمائرهم. الطلائع الثورية، لأي حزب كانت، لا تسعى وراء الرجال (إنها لا تزن الرجل بالنظر إلى جوهره)، بل تسعى وراء الأعراض والأمارات. تبدو لهم حقيقةُ الخصم وباءً. ومن أجل عرض مريب، يُرسَل الموبوء إلى محجر العزل الصحي: المقبرة. لهذا السبب بدا لي هذا الاستجواب الذي يهبط عليَّ من وقت لآخر، في مقاطع لفظية غامضة، ولم أكن أفهم منه شيئاً، مشؤوماً كلعبة روليت عمياء تقامر برأسي. لهذا السبب أيضاً كنت، كي أفرض على نفسي حضوراً حقيقياً، أشعر بحاجة غريبة تجثم فوقي بأن أصرخ لهم بشيء كان يفرضني في حياتي الفعلية. عمري مثلاً! عمر الرجل شيء مؤثر! إنه يلخِّص حياته بأكملها. يُصنَع النضج ببطء. يُصنَع ضد كثير من العقبات المذلَّلة، ضد كثير من الأمراض الخطيرة التي نشفى منها، ضد كثير من الآلام التي تهدأ، ضد كثير من حالات اليأس المتجاوزة، ضد كثير من المخاطر التي أفلتَ معظمُها من الشعور. يُصنَع عبر كثير من الرغبات، كثير من الآمال، كثير من حالات الندم، كثير من النسيان، وكثير من الحب، عمرُ الرجل. إنه يمثِّل حمولة جميلة من التجارب والذكريات! رغم الأفخاخ والهزات والمشاق، تابعنا السير إلى الأمام، كيفما كان، مثل طنبر جيد. والآن بفضل تقاطع عنيد لحظوظ سعيدة وصلت إلى هنا. عمري سبعة وثلاثون عاماً. والطنبر الجيد، إن شاء الله، سيحمل حمولته من الذكريات إلى مكان أبعد. كنت أقول لنفسي إذن: "هاهنا وصلت. عمري سبعة وثلاثون عاماً...". كنت أتمنى لو ألقي بثقل هذه المُسارَرة على قضاتي. ولكنهم توقفوا عن استجوابي.

عند ذلك حدثت المعجزة. معجزة متكتمة جداً. لم يعد معي سجائر. وبما أن واحداً من سجانيَّ كان يدخن فقد أشرت إليه أن يتخلَّى لي عن سيجارة، وشرعت بابتسامة غائمة. تمطَّى الرجل في البداية، مرَّر يده ببطء فوق جبينه، رفع بصره، لا إلى ربطة عنقي، بل إلى وجهي، وأمام ذهولي الشديد، شرع، هو أيضاً، بابتسامة. كان ذلك مثل طلوع النهار.

لم تحل تلك الابتسامة المأساة بل مَحَتْها ببساطة، كما الضوء، كما الظل. لم تعد تحدث أية مأساة. لم تغيِّر هذه الابتسامة شيئاً مرئياً. مصباح البترول الرديء، الطاولة ذات الأوراق المبعثرة، الرجال المستندون إلى الحائط، لون الأشياء، رائحتها، كل شيء بقي على حاله. إلا أن كل شيء كان قد تحول في جوهره ذاته. تلك الابتسامة كانت منقذة لي. كانت مؤشراً يضاهي ظهور الشمس في حسمه، وبداهة نتائجه القريبة، وعدم قابلية ردِّه. كانت تفتتح عهداً جديداً. لم يتغير شيء، وكل شيء قد تغير. الطاولة ذات الأوراق المبعثرة أصبحت حية. مصباح البترول أصبح حياً. الجدران أصبحت حية. الملل الذي يرشح من أشياء هذا القبو الميتة تلطَّف فجأة. كان الأمر كما لو أن دماً غير مرئي بدأ يجري، رابطاً كافة الأشياء في جسد واحد، ومعيداً إليها مغزى ما.

الرجال كذلك لم يتحركوا. إلا أنهم، بينما كانوا منذ ثانية يبدون لي أبعد عني من نوع يعود لما قبل الطوفان، ها هم أولاء يولدون من حياة قريبة. انتابني شعور استثنائي بالحضور. هذا هو الأمر تماماً: الحضور! وشعرت بقرابتي معهم.

الصبي الذي ابتسم لي، والذي لم يكن، منذ ثانية، سوى وظيفة، أداة، نوع من الحشرات الشنيعة، ها هو ذا يتكشف عن رجل أخرق قليلاً، شبه خجول، خجلاً مدهشاً. ليس معنى هذا أن هذا الإرهابي كان أقل فظاظة من غيره! لكن ظهور الإنسان فيه أضاء جانبه الهش، جيداً! نحن البشر نتعاظم كثيراً. إلا أننا نعاني، في قرارة الفؤاد، من التردد والشك والأسى...

لم يكن قد قيل شيء بعد. مع ذلك كان كل شيء قد حُلَّ. وضعت يدي، على سبيل الشكر، فوق كتف الجندي، حين مدَّ لي يده بسيجارتي ونظر الآن. حالما كُسِرَ ذلك الجليد عاد جنود الميلشيا الآخرون، هم أيضاً، بشراً، ودخلتُ ابتسامتهم جميعاً مثلما أدخل بلداً جديداً وحراً. دخلتُ ابتسامتهم مثلما دخلتُ سابقاً ابتسامة منقذينا في الصحراء. الرفاق الذين عثروا علينا بعد أيام من البحث، وهبطوا في الموضع الأقل بعداً قدر الإمكان. كانوا يسيرون بخطوات واسعة باتجاهنا، وهم يؤرجحون، بشكل مرئي تماماً، قِرَبَ الماء في طرف الذراع. أذكر ابتسامة المنقذين إذا كنت غريقاً، وابتسامة الغرقى إذا كنت منقذاً، مثلما أذكر وطناً كنت أشعر فيه بسعادة شديدة. المتعة الحقيقية هي متعة أن تكون مدعواً. لم يكن الإنقاذ إلا مناسبة لهذه المتعة. لا يكون للماء القدرة على خلب الألباب إذا لم يكن أولاً هدية النية الطيبة للبشر.

العناية المقدَّمة للمريض، الاستقبال الذي يقابَل به المُبعَد، وحتى العفو، أمور لا قيمة لها إلا بفضل الابتسامة التي تضيء المناسبة. نلتقي في الابتسامة فوق اللغات والطبقات والأحزاب. نحن رواد الكنيسة ذاتها، فلان وعاداته، أنا وعاداتي.

3

أليست نوعية الفرح تلك أثمن ثمرة للحضارة التي هي حضارتنا؟ تستطيع حكومة استبدادية توتاليتارية أيضاً أن تلبي حاجاتنا المادية. لكننا لسنا دواب تُعلَف. لا يمكن أن يكون الازدهار والرخاء كافيين لإرضائنا، نحن الذين تربينا على تقديس احترام الإنسان. اللقاءات البسيطة التي تتحول أحياناً إلى مناسبات رائعة شيء له وزن كبير بالنسبة لنا.

احترام الإنسان! احترام الإنسان!... هنا يكمن المحك! حين يحترم النازي حصراً من يشبهه فهو لا يحترم شيئاً عداه هو نفسه، يرفض التناقضات الخلاقة، يدمِّر كل أمل بالارتقاء، ويبني لألف عام روبوتات في مأرضة، بدلاً من الإنسان. النظام لأجل النظام يخصي الإنسان وينتزعه من قدرته الحقيقية، التي هي القدرة على تغيير العالم وتغيير نفسه. الحياة تخلق النظام، لكن النظام لا يخلق الحياة.

يبدو لنا نحن، على العكس من ذلك تماماً، أن ارتقاءنا لم يكتمل. إن حقيقة الغد تتغذى على خطأ الأمس، وإن التناقضات التي ينبغي تخطِّيها هي التربة الخصبة ذاتها لنموِّنا. نعترف بأولئك الذين يختلفون عنا أقرباء لنا. ولكن، يا لها من قرابة غريبة! إنها قائمة على المستقبل، وليس على الماضي. على الهدف، وليس على الأصل. نحن حُجَّاج بعضنا إلى بعض، نسعى جاهدين، في دروب شتى، نحو الموعد ذاته.

أما اليوم، فها هو ذا احترام الإنسان، شرط ارتقائنا، في خطر. تقصُّفات العالم الحديث أدخلتْنا في الظلمات. المشكلات متنافرة والحلول متعارضة. حقيقة الأمس ماتت، وحقيقة الغد مازالت تحتاج إلى بناء. لم يُستشَف أي توليف مقبول، وليس لدى كل منا سوى جزء من الحقيقة. الأديان السياسية تستدعي العنف بسبب افتقارها للوضوح الذي يفرضها. وها نحن ذا، نتيجة انقسامنا حول المنهج، نجازف بالكف عن الاعتراف بأننا نغذ السير نحو الهدف ذاته.

المسافر الذي يجتاز جبله باتجاه نجمة معرَّض، إن ترك نفسه تستغرق في مشاكل صعوده، لخطر نسيان أية نجمة تقوده. وإنْ هو ما عاد يعمل إلا بهدف العمل فإنه لن يذهب إلى أي مكان. مؤجِّرة الكراسي في الكاتدرائية تجازف، إن هي انشغلت انشغالاً شديداً بتأجير كراسيها، بأن تنسى أنها تخدم إلهاً. هكذا فإني، بانزوائي في هوى متحزِّب، أجازف بأن أنسى أن سياسة ما لا يكون لها من معنى إلا شريطة أن تكون في خدمة بديهية روحية. تذوقنا في أوقات المعجزة نوعية معينة من العلاقات الإنسانية: هنا تكمن الحقيقة بالنسبة لنا.

مهما كان العمل ملحاً فإنه غير مسموح لنا أن ننسى النداء الروحي الذي يجب أن يوجِّهه، وإلا بقي هذا العمل عقيماً. نريد أن نرسي أسس احترام الإنسان. لماذا يكره بعضنا بعضاً في قلب الموقع ذاته؟ لا يملك أي منا احتكار نقاء السريرة. أستطيع أن أحارب، باسم طريقي، طريقاً اختارها أحدٌ غيري. أستطيع انتقاد مناهج عقله. فمناهج العقل متقلبة. ولكن عليَّ أن أحترم هذا الرجل، على مستوى الروح، إذا كان يجهد في سبيل النجمة ذاتها.

احترام الإنسان! احترام الإنسان!... إذا تأسس احترام الإنسان في قلب البشر فإن البشر سيصيرون بالمقابل إلى تأسيس النظام الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي الذي سوف يكرس هذا الاحترام. تتأسس الحضارة أولاً في الجوهر. تكون أولاً رغبة عمياء ذات حرارة معينة داخل الإنسان. بعدها، من خطأ إلى خطأ، يعثر الإنسان على الطريق الذي يؤدي إلى الشعلة.

هذا هو، دون شك، يا صديقي، السبب في حاجتي تلك لصداقتك. أتعطش لرفيق يحترم فيَّ الرجل الذي يحج إلى تلك الشعلة، متعالياً على نزاعات العقل. أحتاج أحياناً أن أتذوق مقدماً الحرارة الموعودة، وأن أرتاح قليلاً في الجانب الآخر من نفسي، في ذلك الموعد الذي سيكون موعدنا.

تعبت جداً من السجالات، من الشروط المانعة، من التعصبات! أستطيع دخول بيتك دون أن أرتدي زياً نظامياً، دون أن أخضع لاستظهار نصٍّ مقدس، دون أن أتخلَّى عن شيء، أياً كان، من وطني الداخلي. بجوارك لست مضطراً أن أداري نفسي، لست مضطراً أن أترافع، لست مضطراً أن أثبت. بجوارك أجد السلام مثلما في تورنيس. فوق كلماتي الخرقاء، فوق المحاكمات التي يمكن أن تخدعني. إنك ببساطة تعتبر فيَّ الإنسان، تبجِّل فيَّ سفير المعتقدات والعادات والميول الخاصة. إن كنت أختلف عنك فأنا لا ألحق الضرر بك، بل أجعلك أكثر مما أنت عليه. تسائلني مثلما يسائل المسافر.

أنا الذي أشعر، مثل كل إنسان، بحاجة لأن يُعترَف بي، أشعر بنفسي نقياً فيك، وأذهب إليك. أحتاج أن أذهب إلى حيث أكون نقياً. ليست كلماتي ولا تصرفاتي هي التي أخبرتك عمَّن أكون قط، بل قبول ما أنا عليه هو الذي جعلك، عند اللزوم، متساهلاً مع هذه التصرفات، كما مع هذه الكلمات. أنا ممتنٌّ لك لكونك تستقبلني على ما أنا عليه. ما حاجتي إلى صديق يحاكمني؟ إن استقبلت صديقاً على طاولتي فإني أرجوه أن يجلس إذا كان أعرج، ولا أطلب منه أن يرقص.

صديقي، أحتاج إليك مثلما أحتاج إلى لقمة يتنفس الإنسان فيها: أحتاج أن أتكئ بجوارك، مرة أخرى، إلى طاولة نَزْل صغير، ألواحُه منفصلة بعضها عن بعض، على ضفاف نهر صاوون، وأن أدعو إليها بحارَيْن، نشرب بصحبتهما في سلام ابتسامةً شبيهة بالنهار.

إذا بقيتُ أحارب فسوف أحارب قليلاً لأجلك. أحتاج إليك حتى أعتقد اعتقاداً أفضل بمجيء تلك الابتسامة. أنا بحاجة أن أساعدك على العيش. أراك ضعيفاً جداً، مهدداً جداً، لكي تستمر يوماً إضافياً، على رصيف بقالية فقيرة، ترتعد في حماية مزعزعة لمعطف رثٍّ. أنت، الفرنسي جداً، أراك معرَّضاً مرتين لخطر الموت، لأنك فرنسي، ولأنك يهودي. أحس بكامل ثمن مجتمع ما عاد يسمح بالخصومات. ننتمي جميعاً إلى فرنسا مثلما ننتمي إلى شجرة. وسوف أخدم حقيقتك مثلما كنت لتخدم حقيقتي. القضية بالنسبة لنا، نحن فرنسيي الخارج، هي قضية إطلاق مؤونة البذار الذي جمَّده الوجود الألماني. القضية هي تحرير لحم في الأرض التي لكم فيها الحق الأساسي في تنمية جذوركم. أنتم أربعون مليون رهينة. تتهيَّأ الحقائق الجديدة دوماً في أقبية الاضطهاد: أربعون مليون رهينة يتنكرون هناك في حقيقتهم الجديدة. ونحن ندين سلفاً لهذه الحقيقة.

فأنتم بالتحديد الذين سترشدوننا. لسنا نحن من سيعطي الشعلة الروحية لأولئك الذين سبق أن بدأوا يغذونها بجوهرهم الخاص كما لو أنهم يغذونها بالشمع. ربما لن تقرأوا كتبنا. ربما لن تسمعوا أحاديثنا. ربما ستتقيأون أفكارنا. نحن لا نؤسِّس فرنسا. نحن لا نستطيع شيئاً سوى أن نخدمها. لن يكون لنا حق، مهما فعلنا، بأي اعتراف بالجميل. لا سبيل للمقارنة بين المعركة الحرة وبين الانسحاق في الليل. لا سبيل للمقارنة بين مهنة الجندي ومهنة الرهينة. إنكم أنتم القديسون.

*** *** ***

ترجمة: روز مخلوف

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود