القتل

 

المطران جورج خضر

  المطران جورج خضر

المزمور الخمسون: "ارحمني يا الله بحسب عظيم رحمتك" تسبقُه فاتحةٌ تقول إنه "مزمور لداود عندما أتاه ناتان النبي بسبب دخوله على بتشابع". هذا الكلام يشير إلى ما ورد في سفر صموئيل الثاني، إذ قال ناتان لداود: "قد ضربتَ أوريا الحثي بالسيف وأخذتَ امرأته امرأة لك." زِنى استتبع قتلاً، حتى صرخ داود في نشيده: "نجِّني من الدماء يا الله!" فهم صاحب المزامير أن الله وحده ينجي الإنسان من الغضب الذي أوَّلُه البغض. في التماس النبي ربَّه إقرارٌ بأن السقوط البشري لا يشفيه إلا هذا التنازل الإلهي الذي نسميه "نعمة"، لنقول إن الإنسان، لو تُرِكَ لقواه وحدها، إنما لا يعرف مجانية العطاء. إنه يريد نفسه مسلَّطاً على الدنيا؛ وهذا يسوقه إلى إبادة الآخر، أو إلى كراهيته – وهي بدءٌ لإلغاءٍ يبقى كامناً أو ينفذ في أوان السخط.

والقصة تبدأ في أول الخليقة لما "نظر الرب إلى هابيل وتقدمته، وإلى قايين [قابيل] وتقدمته لم ينظر، فغضب قايين"، وتمَّ القتل. كان هذا غضباً على الله انصبَّ على مخلوق. ألا يتضمن ذلك أنك تريد شطب الله؟ رمزُ شطبه إبادةُ أخيك. هابيل صورة البريء. والبريء يجب أن يموت لأن كيانه توبيخ، إذ يدَّعي أن الأرض هي أيضاً له، وقرَّر الشرير أنها له وحده. واحد يعترف أن الأرض مكان لكل الناس، للِّقاء، لعيش نشترك فيه، وآخر يرفض هذه المشاركة. وما من شك في أن قايين اعتقد أن هناء هابيل في حياته المتواضعة إنما هو عنف. هذا اللطف الموبِّخ إنما يجعل حياة الشرير مستحيلة.

في البدء كانت الخصومة لأني أشتهي مالك أو امرأتك أو تفوُّقك العقلي. أن أسرق لك زوجتك أو مالك هو أن أصير مثلك، أن أقلِّدك وأنت لا تريد ذلك، لأنك تعيش في ما تشتهيه وتأبى أن أشتهي ما هو لك. لذلك كنَّا في خصام.

على صعيد أوسع، أنت قررت أن يكون البلد لك ولعشيرتك. لذلك يجب أن يزول سواك. حبُّك للاستيلاء على البلد ينشئ فيك قراءة لتاريخه توافق مصالحك. يجب إذاً أن يفنى من ادَّعى المشاركة. العشائر ليس عندها تحديداً مشاركة. غير أنك تحتاج إلى نظرية تقول سيادتَك الكاملة، المطلقة. لذلك تستخدم الله. بلا إله تسخِّره لشهوتك لن يكون لك شيء. لهذا يفتح الله لك البلد. ليس أن هذه شيمته؛ ولكنك تستخدمه لكي ترسي مطامعك على الثابت. أنت لا تعترف أن شهوتك تزكِّيك لأنك لا تثبت ما لم تؤسِّسْها على الخالد، فتنزل من الله لوضع إيديولوجية إبادة. فالله كتب لك الأرض بحق الفتح. وهذا يضطرك إلى قراءة دينية للإلغاء قائمة على إله يقتل. الإله القاتل مقيمك، ولست أنت بمقيمه.

في العمق أنت إله نفسك، ولكنك تستعير إلهاً يدعم حقدك لتعلن نفسك بالسلوك إلهاً على القوم.

***

إزاء ذلك تأتي الموعظة على الجبل: "سمعتم أنه قيل: العين بالعين والسن بالسن. أما أنا فأقول لكم: لا تقاوموا الشرير، بل من لطمك على خدك الأيمن، فاعرض له الآخر. ومن أراد أن يحاكمك ليأخذ قميصك، فاترك له رداءك أيضاً." (متى 5: 38-40)

"العين بالعين والسن بالسن" وردت في العهد القديم. يتجاوزها يسوع. فالوصية حسابية، وتفترض أن كل عين تساوي عيناً أخرى، وأن السن تساوي سناً أخرى. ما أراده الناصري أن العلاقة بين الناس في العمق لا ينبغي أن تقوم على معادلة رياضية، لأن كلاً منا فريد، لأننا لسنا أرقاماً لإله.

كلام المسيح يهزأ منه الواقعيون الذين يرون في هذا الموقف خنوعاً أو شهوة الألم. الناس سياسيون؛ والسياسة، كما رسموها، هي وحدها عقلية أو معقولة. من الواضح أن يسوع ما أراد لنا الذل والتسكع أمام الجبابرة. ولكن في الحقيقة ماذا يريد الأشرار؟ إنهم يريدون إثارتنا، وأن نسابقهم في العنف، وأن نثأر، ليزدادوا علينا غضباً. فإذا طاوعناهم في الغضب يجدون حجَّة ليقضوا علينا. أما إذا رفضنا عنف العنفاء فلا يسعنا إلا أن نقضي على عنفهم بالسلام. هذا السلام هو وحده العيش لنا ولهم.

قد يقتبسون هدوءنا. فكما أن القتل عدوى فالسكون النفسي الحق عدوى. السكينة shekinah هذه – الداخلية – اسم مرادف للحضور الإلهي في الأدب السابق لتدوين الأناجيل. أنت لا تحافظ على غيرك ما لم تعتبر أنه قائم بالكلمة الإلهية، وأن ربَّه يريد له أن يحيا كما الله يحيا. غيرُك وجودُه سرٌّ إلهي وسطوع لوجه الله. الآخر موجود لأن الله موجود، ولأنه استودع شيئاً إلهياً فيه. من هنا قولي إنك إذا أقدمت على القتل فأنت قاتل الوجود كلِّه. وهذا ما رآه القرآن بقوله: "من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً" (المائدة 32). هذا هو إقرار التنزيل بوحدة البشر التي يقول بها الصالحون.

إلى هذا سبب الامتناع عن الجرم. هذا مردُّه إلى آية أخرى في سورة المائدة نفسها التي تورِد كلام هابيل لأخيه: "لئن بسطتَ إليَّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين" (المائدة 28). خوف الله كان سبب العفة عن المعصية. ومذ أعلن نيتشه موت الله لم تبقَ الفضيلةُ في الفكر الغربي قائمة عليه. وهذا ما يذكِّرني بكلمة لدوستويفسكي: "إذا كان الله غير موجود فهل لا أزال أنا قائداً للسفينة؟"

عندما تُجَنُّ الجماهير لتقتل فلأن وجه الله غاب عنها وصارت وجوهُها هي الوجود. وضمن العصبة الواحدة التي كان يجمعها حبُّ الموت للآخر يستقوي واحدٌ من العصبة ويتزعَّم، فيصطنع عبادة لنفسه، وتصبح كلمتُه هي وحدها الكلمة لتأتي الحياة منه. إزاءه قائد لعصبة أخرى. ما يجمع بين القائدين حبٌّ واحد للموت. "طبائع الاستبداد" نابعة من أن الحياة غير قابلة للتوزُّع. معبود بشري واحد أساسي في كل جَمْعٍ ليتمَّ القتل. وإله في السماء واحد أساسي ليزول القتل.

كيف يتوصل الإنسان إلى أن يحس أن الكون كلَّه يسلس له إذا أباد عدوَّه؟ كيف يشعر أن كل شيء في الوجود يتغير إذا غُيِّبَ واحدٌ معيَّن عنه؟ ما من شك في أن أحداً لا يقتل إلا إذا بلغ هذا الاقتناع. إذا صحَّ تحليلُنا فمعنى ذلك أن التوازن النفسي قد اختل عند هذا الرجل. لقد دخل مملكة الظلام ويتتابع فيه منطقُ الجريمة بصورة محكمة.

يزين لي أن أية خطيئة لا تهزُّ الكيان مثل هذه عند وعيها لأنها الأذى الكامل. عندما يستفيق القاتل إلى كونه قضى على حياة لم يبدعها هو، وكانت لها جمالاتها ومنافعها من حولها، قد يبقى بلا نوم بصورة مجنونة. أنت تسترجع نفسك من الكذب والسرقة وسواهما بالكف عن ذلك. كيف تسترجع نفسك من الذبح، من رؤيتك عيني الذبيح عندما كنت تهمُّ بقتله؟ إن آثار القتل في القاتل تلازمه سنين طولى أو كل عمره، ويعسر عليه جداً أن يدرك غفران الله له.

غير أن القتل الجماعي قد لا يكون كذلك. أنا عرفت واحداً أقرَّ لي بأنه قتل نحو ثلاثين ضحية ولم يتُبْ. وأنا واثق من أن الكثيرين الذين سلكوا هذا السلوك لم يتوبوا. جل ما قاله هؤلاء إنهم غلطوا. الغلطة ليست الخطيئة. هي ندامة على منهج نهجوه. ولكنها ليست عندهم وصمةً لطَّختهم. ولذلك ليس بينهم وبين الله مصالحة. وليست بيننا وبينهم لحمة في الحق.

***

إذا شئت أن تستأصل الغضب العميق فيك، وتالياً، كل نزعة إلى تجريح الآخرين، يجب أن تؤمن بالشهادة، بحيث تضرب العنف جذرياً، وتصير أنت ذبيحة فيها، لإيمانك بقولة يسوع: "من أخذ بالسيف بالسيف يؤخذ." لن تكون مبغضاً، ولا قامعاً، ولا مستولياً، ولا مستكبراً، وأن يكون الله وحده رجاءك ومصدر نفحاتك. بهذا تصبح شاهداً للحقيقة. وهذا قد يقودك إلى شهادة الدم الذي تبذله راضياً للاستمرار في تأكيد الحقيقة، لكونها أغلى من الدم، ولعلمك بأن الدم المهراق أبلغ من هذا الجسد التافه.

هذا هو التغيير الأساسي الذي صنعه يسوع الناصري لمَّا تنكَّر للزعامة السياسية التي أرادها له بعض من أنصاره ليصير في نظر الأقوياء لا شيء، فصار في نظر الله كل شيء.

موقفه هذا جاء استئصالاً لمبدأ القتل ولشرعية القتل. أن تبيد الآخرين لأية قضية تعتقد فيها يلغي القضية نفسها. أنت لا تستطيع أن تذهب بحياة إنسان لإحقاق حق، أو تثبيت موقف، أو إعطاء أمثولة. الحياة وحدها هي الحق؛ وكل ما دونها وسائل يحسبها الناس نافعة لإقامة مجتمع عادل وما إلى ذلك من مُثُل. ليس من مجتمع يفيد أحداً إلا إذا حافظ على البشر جميعاً في التلاقي والغفران والتعاون والتحابب. كل ما كان دون الحب العميم إنما هو باطل.

سياسة الله الوحيدة حفظ أبنائه جميعاً في لحمة هي هو.

*** *** ***

عن النهار، السبت 2 شباط 2002

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود