الاغتراب

بين "عقلانية" الصوفية و"شطح" الأنثروبولوجيا

 

سمير التقي

 

بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ؛ فطوبى للغرباء.

حديث شريف

 

من الممكن تتبُّع جذور مفهوم الاغتراب alienation عميقاً في كتابات أوائل المفكرين الإغريق. فمن سقراط، إلى نظرية الفيض عند أفلوطين، ثم الأفلاطونية الحديثة، فانتقالها فيما بعد إلى اللاهوت المسيحي. ثم سارت هذه الموضوعات قُدُماً إلى الأمام حين بدأت تسقط عنها أرديتُها وتفسيراتُها الميتافيزيائية القديمة مع التغيرات العلمانية التي طرأت على الفكر الأوربي في عصر التنوير.

لذلك، إذا قلَّبنا هذا المفهوم عبر مسيرة الفكر الإنساني نلاحظ تعدد، بل تشتت، تفسيراته ومضامينه، مما يؤكد طابعه المركَّب؛ حيث لقي الكثير من الاهتمام لدى المفكرين، من روسو إلى هيغل وماركس ونيتشه، بحيث حمل عدة معانٍ تتراوح بين مختلف المواقع الإيديولوجية:

1.    الاغتراب بمعنى الانفصال بين الذات والواقع (وحتى، أيضاً، شعور الإنسان باختلاف ذاته عن الآخرين)، وافتقاد الإحساس بالعلاقة بينهما؛ ومن بعدُ انعدام الشعور بالقدرة على تبديل الواقع، ثم افتقاد القدرة على اكتشاف المغزى والعبرة القيمية من الحياة.

2.    تلاشي المعايير والعزلة النفسية عن المجتمع، ثقافياً وحياتياً؛ ومن بعدُ الاغتراب عن الذات self-alienation.

3.    البحوث النفسية التي عالجته، من حيث كونه ناتجاً عن تعرُّض الفرد لرضوض نفسية نتيجة انتزاعه من بعض الأشياء أو الناس الذين يحبهم (العمل، الأم، الحب، أو القوى الغيبية، أو المجتمع).

4.    أما لغوياً فهو يعبِّر عن حرمان الإنسان من أشياء يحبها، أو عن ابتعاده عن شيء أو شخص يرغبه أو يحبه بطبيعته أو غريزته؛ وهو تعبير عن ضياع وافتقاد هذا الشيء.

ولئن كان من العسير التوصل إلى حدود فاصلة لتقسيم مواقف مختلف المفكرين على ضوء هذا التصنيف فإن هدفنا من سرده هو تمييز مختلف جوانب الرؤيا التي عولجت بها فحسب. فبعض المفكرين اتجهوا إلى معالجة هذه القضية من جهة كون الاغتراب ناتجاً عن الانتزاع من البيئة التي تربَّى فيها الإنسان (بمعنى الانسلاخ الطبقي)، كما حصل في المجتمعات الرأسمالية المبكرة (راجع أبحاث بعض المؤرخين الإنكليز)؛ وآخرون عالجوها بمعنى الانفصال: أي الانفصال بين المستويات المختلفة للمعرفة، كما في كتابات هيغل؛ وآخرون أيضاً عالجوها من جهة كون الاغتراب ناجماً عن الشعور بانعدام القدرة والسلطة والعجز، كما يتجلَّى ذلك في أبحاث ماركس – بمعنى أن هؤلاء جميعاً جنحوا إلى تحميل الظروف الموضوعية للأفراد مسؤولية هذه الحالة. أما مانهايم فلقد نظر إلى الاغتراب من جهة افتقاد المغزى، وخاصة في ظروف المجتمع الصناعي، أو في ظروف التفرقة العنصرية. ويرى مرتون في الاغتراب تعبيراً عن العزلة وانقطاع التواصل العاطفي والثقافي بين الفرد ومجتمعه، بل وانفصال القيم الأخلاقية والثقافية لديه عن القيم العامة للمجتمع.

لن نمضي أبعد من ذلك في الحديث العمومي عن قضية الاغتراب؛ ذلك أن ما يهمنا طرحه في هذه الورقة هو تتبُّع هذا المفهوم كما تجلَّى لدى بعض الباحثين الإسلاميين الأُوَل، وفي مفهوم كل من فويرباخ وماركس، ومن بعدُ الأنثروبولوجيين المحدثين، لهذه القضية؛ إذ لقد لاقى هذا المفهوم على أياديهم المزيد من التطوير والتعميق، حيث يركز هؤلاء على أن الاغتراب لم يكن قضية تخص مرحلة معينة من مراحل التطور الإنساني، ولا هي حالة تتعلق بمجتمع معين أو تنظيم اقتصادي عابر، وإنما هي ظاهرة يمكن تتبُّعها منذ ظهور المجتمع البشري الأول.

جاء في الحديث الشريف: "بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ؛ فطوبى للغرباء." تختلف الروايات في استعراض ردود الرسول في تفسير كلمة "الغرباء"، لكنها تُجمِع على القول بأن مفاده هو بقاء قلة من المؤمنين، يجدون أنفسهم في حالة من الغربة عن جملة المجتمع الإسلامي، والافتراق بين قيمهم، من جهة، وبين الواقع المعيش، حتى في إطار المؤسسة الاجتماعية الإسلامية، من جهة أخرى.[1]

إذاً فطوبى للغرباء! إذ لا يُعتبَر الإيمان في الإسلام بحدِّ ذاته كافياً، ولا هو بالحل الناجز لغربة الإنسان! بل إن هذه الغربة باقية نتيجة افتراق المفاهيم والقيم والأخلاق الاجتماعية المعيشة فعلاً عن المفاهيم والقيم والأخلاق النابعة من الرؤية المتبصِّرة العميقة للمؤمن الحقيقي الذي يصير "كالقابض على الجمر"، حتى في المجتمع وفي إطار المؤسسة الإسلامية. طوبى للغرباء الذين يعانون من الغربة، لا بمعناها الجغرافي والمادي، بل بمعناها الروحي والنفسي. طوبى للغرباء من المؤمنين لأن في غربتهم ألماً! فليُثابوا عليه. وبالتالي لا يُنظَر هنا للغربة على أنها ظاهرة غير مفيدة، أو أن من الممكن تجنبَّها، بل يشير الحديث الشريف إلى أنها تجلٍّ لعمق الإيمان.

إذا كان الدين اليهودي، في تفسيراته التلمودية، مبنياً على أن الله هو مصدر الثواب والعقاب، ويتدخل أولاً بأول في قوانين الطبيعة، وإذا كانت المسيحية قد أكدت أن الله يحب ويغفر، فمن المفيد أن نلحظ أن مناهج التنوير في الإسلام (على النقيض من المناهج السلفية) حاولت التأكيد على استقلال العقل. يقول محمد عبده: "إن الإسلام هو إعلان حرية واستقلال العقل والإرادة." ورسالة التوحيد هذه هي نفيٌ للمعجزات وللخوارق وللطقوس والشعائر الكهنوتية. إذ لقد وُصِف الحسن البصري وسفيان الثوري كلاهما بالغربة؛ ويقال إن أحمد بن عاصم الأنطاكي (المتوفى عام 215 هـ) قال: "إن أدركت من الأزمنة زماناً عاد فيه الإسلام غريباً كما بدأ، وعاد وصف الحق فيه غريباً كما بدأ. إن ترغب فيه إلى عالمٍ، وجدتَه مفتوناً بحب الدنيا، يحب التعظيم والرياسة؛ وإن ترغب فيه إلى عابدٍ، وجدتَه جاهلاً في عبادته، مخدوعاً صريعاً، غدره إبليس، قد صعد به إلى أعلى درجات العبادة، وهو جاهل بأدناها، فكيف بأعلاها؟!"

لم تفعل الرسالة المحمدية في مكة، من حيث جوهرها، إلا تكرار رسالة موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء؛ إلا أنها في المدينة، وقد غدت سلطة دولة، لم يعد يكفيها أن يصعد توجُّه الناس نحو الخلاص الفردي، إلى روحانية الإنسان؛ بل كان عليها أن تتصرف كسلطة وكدولة، وكان عليها تكريس هذه القيم كمؤسِّسة لهذه الدولة، حيث تبلور مفهومُ الإنسان المُستَخْلَف. والمسؤولية الواحدة الموحَّدة تجاه الله هي التي تشكل الأساس الإنساني للديمقراطية.

وعلى الرغم أن الشهرستاني يحيل كل الملل والنحل إلى الشبهة الأولى لإبليس، وإلى إعمال العقل فيما هو ليس مخولاً له ("إحكام العقل على من لا يُحتَكم عليه")، وأن كل من يُعمِل العقل في هذه الأمور هو إما مقصِّرٌ أو مغالٍ، فإن ابن حزم يقول إن الله حث على إعمال العقل وذمَّ التقليد والمقلدين، بل رأى الإيمان قائماً على الاستدلال: "لا يصحُّ إسلامُ أحدٍ حتى يكون بعد بلوغه شاكاً غير مصدق." ويرى الططري ذات الرأي، كما يرى بأن العقل هو مناط التكليف. ويسير على نسق هؤلاء المفكرين "العقلانيين" الهروي الأنصاري، فيعرِّف الاغتراب بأنه "أمر يشار به إلى الانفراد عن الأكفاء". ويضع السهروردي أساس مفهومه عن الاغتراب من وجهة النظر الصوفية الإشراقية، حيث "العارف في شاهده غريب". وكذا القشيري يقول: "الزاهد غريب في الدنيا، والعارف غريب في الآخرة."

مضت المناهج الصوفية بعيداً في هذا البحث والطريق إلى تجاوز غربة الإنسان. وبدت هذه الموضوعة بالنسبة للصوفية من أكثر الموضوعات تعمقاً في مسعاها لفهم العلاقة بين الخالق والمخلوق، وبين المخلوق وذاته، وبين المخلوق والمخلوق الآخر؛ حيث تمثل الصوفية تجربة تسعى لحلِّ مشكلة الاغتراب عن طريق التجربة الذاتية بين الحق والخلق، "دون حلول ولا صيرورة". من ذلك ما تداولتْه الصوفية عن عبد الله بن عمر، إذ روى قول الرسول الكريم: "أحَبُّ شيء إلى الله الغرباءُ. قيل: ومن الغرباء؟ قال: الفرارون بدينهم، يبعثهم الله يوم القيامة مع عيسى بن مريم عليهما السلام."

وقبل هؤلاء بكثير كان أبو ذر الغفاري، الذي أراد معاوية بن أبي سفيان أن يمتحنه في دعوته إن كان صادقاً، فبعث إليه بألف دينار؛ فلما أصبح أراد أن يستردها منه بحيلة، فوجد أنه قد فرَّقها كلها. ثم بعث له بثلاثمائة دينار مع حبيب بن مسلمة أمير الشام، فقال لحاملها: "ارجع إليه بها. أما وجد أحداً أغرب لله منا."

ولعل من أمتع الأمور وأكثرها فائدة، في هذا السياق، التعمق في بحث مفهوم محيي الدين بن عربي للاغتراب. فعلى الرغم من أن ابن عربي لم يستخدم هذا التعبير بذاته، فإنه، إذ يدفع بنظريته عن الفناء والبقاء (الفناء عن الجهل والبقاء بالعلم)، يتحدث عن تحقق صلة النفس بالعقل، حيث لا تنظر النفس إلى الواحد باعتباره شيئاً خارجاً عنها، أو غريباً عن طبيعتها، بل باعتباره قائماً بها، متواصلاً معها؛ فتفنى ذاتُها باتصالها التام به. إذاً يتلخص هدف الإنسان من المعرفة الإنسانية عند ابن عربي في خلاصه من غربته، في تحقيق تَلامُس الذات بأعمق أعماقها. وبهذا المعنى يبدو الاغترابُ الدافعَ الأساسي والمحرِّكَ الأهم للمعرفة البشرية.

ولعل بعضهم يعترض، هنا أو في مواضع لاحقة من هذه الورقة، قائلاً بأن المنهج المعرفي لابن عربي هو منهج إشراقي، تلعب فيه الخبرة الصوفية، لا العقلية، دور الأداة المعرفية. ولكي نزيل هذا الافتراق، أو لكي نضيِّقه، لا بدَّ أن نستعرض بإيجاز مفهوم ابن عربي عن "وحدة الوجود" و"وحدة الشهود". فهو يرى أن الوجود بأسره حقيقة واحدة، ليس فيها ثنائية ولا تعدد. وعلى الرغم مما قد يبدو لنا من افتراق الخالق والمخلوق، ما ذلك إلا اسمان أو وجهان للحقيقة الكونية. فإن نظرت إليها من منظور وحدتها بدت لنا حقاً؛ وإن نظرت إليها من منظور كثرتها وتعددها بدت لنا خلقاً. فكما في جاء في فصوص الحكم:

وليس خلقاً بهذا الوجـه فأدركوا

فالحق خلق بهذا الوجه فاعتبروا

وهـي الكـثيرة لا تُبـقِ ولا تَذِرُ

جمـعٌ وفرقٌ فإن العـين واحدة

كذلك قوله في موضع لاحق:

أنت لـما تخلقه جـامع

يا خالق الأشياء في نفسـه

فأنت الضـيِّق الواسـع

تخلـق ما لا ينتهي كنـهه

إن ما يُحدِث التصور بالكثرة في الوجود هو العقل؛ أما حقيقة الموجودات فواحدة.

الحق في ذاته، عند ابن عربي، حقيقة مطلقة لا نتصل بها، ولا نعرفها بوجه من الوجوه. والحق هو كما يبدو لنا في تجلِّياته في الوجود؛ وهو بهذا المعنى مرادف للوجود. يأتي الحق هنا بمعنى الحقيقة المطلقة، والوجود بمعنى الرؤية العقلانية الشمولية للكون!

بذلك نلحظ ذلك الجهد المعرفي العقلاني الكبير الذي أبداه ابن عربي في بحثه المعرفي. فهو، تمشياً مع العقل (وليس مع الكشف والإشراق)، يحاول تفسير العلاقة بين الخالق والمخلوق، بين الوحدة والكثرة. وهو، وإن كان في سوقه لحُجَجِه المختلفة يضرب الكثير من الأمثال، فإنه كان أبعد ما يكون عن الأخذ بالعقائد الرائجة بتشخيصاتها وموصوفاتها. التجربة الصوفية عنده هي الأداة للخلاص من الاغتراب، حيث تتحقق فيها الوحدة الذاتية بين الحق والخلق، دون أن يحل أحدهما في الآخر أو يصيره. بهذا فقط يربط بن عربي بين نظريته في وحدة الوجود ووحدة الشهود: "حيث يزول الفرق بين مقصد العقل والكشف" (افهم: العقل الباطن...).

إذاً يتلخص جهد الإنسان ضد غربته في تحقيق تَلامُس الذات الإنسانية مع أعمق أعماقها عبر جوهرها الإنساني. وإن أهم ما يمكن استخلاصُه من هذا المفهوم للاغتراب هو ذلك الموقف الإيجابي من الذات الإنسانية ومن مقدرتها على الخوض في تجربة المعرفة بشكل ناجح. ولئن كان موقف ابن عربي يتَّسم، ككلِّ الصوفية، بالمبالغة في إبراز التجربة الذاتية فإن ابن عربي بالذات كان من أكثرهم عقلانية ومنطقاً. ولئن كانت حكمة ابن عربي المتأثرة بالفلسفة اليونانية القديمة تتَّسم أساساً بالسعي لتحديد موقع الإنسان بالنسبة إلى كلِّية ليس هو فيها إلا برهة فإنها، إضافة إلى ذلك، كانت تؤكد أن المعرفة هي التي تتيح للإنسان السيطرة على الذات وتقود إلى السعادة. أوَلم يؤكد أرسطو أن عقلانية العالم هي قانون فكر الإنسان ذاته، حيث يصبح الشيء الجوهري في هذه المعرفة هو وعيَها لذاتها بالذات.

من فويرباخ، إلى ماركس، إلى الداروينية الجديدة وعلم النفس التجريبي، إلى الأنثروبولوجيين المحدثين

كانت موضوعة الاغتراب عند فويرباخ، بالمقابل، مبنية على أن التديُّن هو الذي ميز الإنسان عن الحيوان! ويرجع هذا التمييز إلى أن لدى الإنسان شعوراً ووعياً بالمعنى الدقيق للكلمة؛ حيث تتمايز الحياة الداخلية للإنسان عن حياته الخارجية، وحيث يطمح الوعي إلى الوعي باللانهائي، وحيث الذات والموضوع يتشاركان، ولكنهما يبقيان مستقلين؛ بل إن الإنسان يعي ذاته عن طريق الموضوع. والوعي بالله عنده هو وعي الإنسان لذاته؛ وما الدين إلا إظهارٌ لكلِّ ذلك الغنى الإنساني والاعتراف بوجوده، حيث الله حاضر في روح الإنسان نفسه.

إن فويرباخ يبني نظريته في الاغتراب على أساس التفريق بين المحتوى الأنتولوجي (الوجودي) للدين وبين محتواه الثيولوجي (الأسطوري، الاغترابي، الشعائري). فالاغتراب، بالتالي، هو الاغتراب عن الذات. الاغتراب بدأ عند الفصل بين الذات، كمشروع نحو المطلق، وبين المطلق ذاته. بل إن فويرباخ يبيِّن أن الدين، في وصفه الأنثروبولوجي للإنسان، كان يصف الإنسان قبل أن يقع فريسة للاغتراب، في حين يشكل الوجود الأخلاقي للإنسان عنده وجوداً مطلقاً.

لا يعتبر ماركس، بدوره، الاغترابَ حالةً أبدية، بل حالة نابعة من اغتراب العمل الذي يميز كل "المجتمعات الطبقية"؛ حيث يشعر الإنسان أن ما ينتجه ويبتدعه نتيجة كدِّ يديه وعقله لا يرتد إليه؛ بل قُلْ إنه يرتد عليه ليزيد من عبوديته. وعلى ذلك، فإن الاغتراب لدى ماركس ما هو إلا صورة من صور عجز الإنسان أمام قوى الطبيعة والمجتمع، حيث يربط الاغتراب في المجتمع بشعور الإنسان أن النقد وقيمته المادية هي التي تخلق الإنسان، وليس العكس. ويفصل ماركس بحزم بين "التَمَوْضُع"، الذي يعبِّر عن جهد الإنسان للتأثير في الوسط المحيط، والتأثير في الموضوع لمصلحته عن طريق رفع الإنسان لمستوى ثقافته، وبين الاغتراب، حيث لا يعود مردود هذا الجهد يرتد لصالح الإنسان ذاته.

يقول ماركس: "إن ماهية الاغتراب لا تكمن في كون الإنسان يُمَوْضِع ذاته بصورة غير إنسانية، في تعارض مع ذاته، بل تكمن في كونه يُمَوْضِع ذاته في تمايز عن الفكر المجرد وفي تعارض مع ذاته هو."

يمكن، باختصار، تلخيص نظرية ماركس في الاغتراب بأن الإنسان المنتج، في الوقت الذي يقوم فيه بإنتاج الحضارة، فإنه ينتجها بشكل مغترب، حيث يوجد انقطاع بين من ينتج الحضارة ومن يستثمرها.

أما المعطيات الحديثة لعلم النفس التجريبي وللعلوم الأنثروبولوجية فإنها تشير إلى وجود حالة من التوحيد، بل التوحُّد، بين الإنسان والطبيعة، بين الإنسان والعالم الموضوعي المحيط به، بين الإنسان وعمله، في الأشكال المبكرة لمعيشة الإنسان (كما في مجتمع القطاف، ثم الصيد والقنص، ثم الرعي والزراعة البسيطة المتنقلة) السابقة للزراعة المستقرة. يومئذٍ كان الإنسان والطبيعة لا ينفصلان؛ بل كان يعتبر الحيوانات امتداداً لوجوده بالذات، وكيانها جزءاً من جماعته هو؛ بل كثيراً ما أطلق عليها أسماء محببة! وبعد، فإن ما حصل ينطبق على ما يقول جان والون: "منذ أصبح نشاط الإنسان يوجِّهه شيء آخر غير ردود فعله الآلية الخادمة لحاجاته، منذ ذاك الوقت بدأت مغامرة التأمل الكبرى."

ثم تفاقم اغتراب الإنسان عن عمله في ظل المجتمع الصناعي وتقسيم العمل، حيث لم ينفصل الإنسان عن خيرات إنتاجه وحسب، بل وانفصل عن العملية الإنتاجية العامة بأسرها، ولم يعد يرى دوره إلا كقطعة من منظومة كبرى عمياء تخضع لسلطانها ووطأتها كلُّ قواه المادية والروحية.

ولئن أظهرت تلك البحوث الحديثة شيئاً من التناقض الظاهري الشكلي بينها وبين المعرفة الإشراقية لدى ابن عربي فإننا نستطيع أن نلمح أن هذا التناقض يسير تدريجياً إلى الزوال مع اضمحلال التخوم بين الخيال العلمي والمشروع الإنساني، بين التجربة الذاتية والتجربة الموضوعية، وبين الحقيقة الخيالية أو الافتراضية virtual reality. فلئن كانت التجربة تدل على أن حلَّ قضية الاغتراب لا يتم عبر الخبرة الذاتية المتفردة، بل عبر التطور التاريخي والاجتماعي الذي سيسمح، عبر تطور الوعي، بتجاوز الاغتراب؛ ولئن كانت المفارقة الراهنة تستند إلى ثنائية الوجود الفردي والمثال الأعلى وثنائية الاغتراب، فإنها، من الناحية العملية، تواصُلٌ لا انقطاع فيه مع الفكر والجذور المعرفية لفكر بن عربي، حيث يصبح تجاوز غربة الإنسان تخطياً جدلياً، لا انقطاعاً للمفارقة بين الإنسان والمجتمع وبين الإنسان والطبيعة.

وتؤكد العلوم الحديثة أن الأديان هي مراتب مختلفة من نمو الفكر البشري، مؤكدةً صحة رأي فويرباخ عن أن "الدين هو اعتراف غير مباشر بالإنسان سيداً لهذا العالم، ولكن بالواسطة، وأنه بذلك لا يشكل بحدِّ ذاته ظاهرة ناتجة عن الاغتراب."

إن من أهم ما يوحِّد مقولات العلوم والفلسفة وعلم النفس الحديث مع الرؤية الصوفية هو ما يمكن أن نسميه بـ"القاع الإنساني" للوعي الديني. فأين يكمن هذا "القاع الإنساني"؟

إنه يكمن في تلك الثغرة أو ذلك النقص، بل في تلك الغربة التي تنتج عن عزل الفرد وتجزئته وبتره، تعبيراً عن الافتقار إلى الحياة النوعية (التي تعكس السمات النوعية للجنس البشري) الإنسانية الحقة والمغتنية بكل المكاسب التاريخية للبشرية. الوعي الديني هو في ذات الوقت انعكاس لهذا النقص وتمرد عليه.

وعلى الرغم من أن الإسلام لم يكن ثورة للعبيد بل دين لهم فإن ذلك لا يمكن أن يعمينا عن رؤية أن علم الكلام والصوفية في الإسلام حاولا أن يشكلا جسراً جديداً في تطور هذا الوعي البشري، جسراً خارج المفهوم الرائج لعلم الكلام الإسلامي، نحو حلٍّ معرفي حقيقي لمشكلة الاغتراب. من هنا لن يبقى الوعي الديني، كما رأى ماركس، مجرد ملاذ وتكملة "علوية" وتعويض عما يفتقد الإنسان في هذا العالم.

يقول أراغون: "إن العلاقة التي تنشأ عن نقض الواقع بالخارق هي في جوهرها ذات سمة أخلاقية؛ إذ إن الخارق هو دائماً تجسيد لرمز أخلاقي يتعارض تعارضاً شديداً مع أخلاق العالم الذي يظهر وسطه." ويقول: "إن السجايا التي يزخر بها هذا الإيمان الإلهي هو نظرة إلى الإنسان يمكن أن يشترك فيها المسيحي والشيوعي، ولكن لا يمكن أبداً أن يأخذ بها النازي."

بعد هذا الاستعراض السريع صار بإمكاننا أن ندرك أن الاغتراب، بمفهومه الحديث، ليس مقولة أخلاقية، بل مقولة أنثروبولوجية وتاريخية، لأن تناقضات الإنسان الداخلية لا يمكن فصلها عن التناقضات الاجتماعية.[2]

ولكن لنكن حذرين هنا! فالعلوم الحديثة وعلوم الذات الإنسانية تخوض خضم تلك الدراما التاريخية الهائلة لتعيد بصورة فاعلة، عبر سلسلة من الفرضيات والنماذج والتجارب، بناء عالم الموضوعات، بهدف تحقيق المزيد من تماهي الذات البشرية مع العالم الموضوعي، حيث يشكل قعر الذات البشرية واحداً من أعظم حقائقها!

فالإبداع الإنساني الراهن، سواء في العلوم "الصلبة" أو "الطرية"، بما يشتمل عليه من حياة غنية، ليس في النهاية إلا استكمالاً لذاك الجهد البشري العظيم، إنْ على صعيد علاقة الإنسان بذاته، أو على صعيد علاقة الإنسان بالإنسان الآخر، أو على صعيد العلاقة مع الطبيعة، وتأكيداً لكل أبعاد النفس البشرية، ونهجاً ملموساً لسبر هذه الأبعاد، ثم تجاوزاً لها في استنفاد غربتها!

إن هذا النهج لا يمكن تمييزه في النتيجة إلا قليلاً – في بعض الخطوط العريضة بالطبع – عن منطق ابن عربي ومنطق فويرباخ. فهو مبني على تأكيد الموقف الإيجابي من الإنسانية، وعلى الثقة من قدرة الإنسان على الخوض في تجربة معرفية عقلانية حقيقية، وعلى موقف إيجابي من حركة التاريخ والزمن، موقف إيجابي من تلك الدراما التاريخية العظيمة التي تشكِّلها مسيرة البشرية، موقف إيجابي من مستقبل الإنسان.

هذه الرؤى مبنية جميعاً على وجود "قاع إنساني" للإنسان، قاع نصبو للِّقاء به لقاءً كاملاً؛ بل يصبح فيه لقاء الفكر والعقل والحلم والجمال والموسيقى لقاءً مع الكمال. ذلكم هو الحل الحقيقي لغربة الإنسان. إنه يتحقق عبر تحقيق التماهي بين الحقيقة الأخلاقية المطلقة التي يشكِّلها تحقيق إنسانية الإنسان وبين واقع أفكاره. وبذا يكون الاغتراب انعكاساً للحاجة إلى تلبية نقص، فيما يشكِّل، في الوقت ذاته، مسعى (فاشلاً أو ناجحاً) لتخطِّيه.

يتساءل أينشتاين في كتابه كيف أرى العالم: "ما هي المشاعر والحاجات التي قادت البشر إلى التأمل الديني، وإلى الإيمان بالمعنى الواسع؟" ويجيب: "الإنسان يريد أن يستشعر كلِّية الوجود كوحدة زاخرة بالمعاني. وهذا الشعور الديني الكوني هو الحافز الأقوى والأنبل على البحث العلمي، وهو إيمان عميق بعقلانية العالم، ودهشة ذاهلة أمام اتساق قوانين الطبيعة."

ولئن كانت السمة الدائمة للحكمة القديمة هو سعيها لتحديد موقع الإنسان بالنسبة إلى كلِّية الكون (ولا نقصد الإنسان الفرد، بل الإنسان النوع)، ولئن كان هدف المعرفة هو تحقيق إدراك العالم، فإن عقلانية العالم ما هي إلا صفة لعقله هو! ومن هنا تكتسب الذات قيمتها العظيمة ومعناها التاريخي. إلا أن المغزى من ذلك كله ليس مجرد السيطرة على قوانين الطبيعة والمجتمع؛ بل إنه يتجسد في لمس البعد الإنساني للإنسان، والاعتراف بدوره الخلاق القادر على العطاء والحب.

هذا المفهوم هو الذي يسمح بالربط بين الحاجة إلى السيطرة العقلانية على العالم ومطلب ضرورة إنصاف المبادرة التاريخية للإنسان بالطابع الإنساني المحض؛ الربط بين العقلانية والحرية، بين الأخلاقي والتاريخي. إن الحب، كخيار أخلاقي مطلق، هو بالتالي خلق إنساني محض؛ وما فعلته منجزات العلوم الأنثروبولوجية وعلم النفس في القرن الماضي هو التأكيد على علاقة الحب بالاتجاه المعاكس، بالاتجاه من الحب إلى أعماق الذات الإنسانية. وهنا بالذات تتجلَّى عظمة علم اللاهوت المسيحي.

يشكل مذهب النفي – سواء بُنِيَ على الخلفية المثالية أو المادية، بدءاً من الحلاج، إلى سبينوزا، إلى فيخته، إلى ماركس – مفهوماً مطلقا مجرداً، مفهوماً غير معيَّن ولا معرَّف، مفهوماً لانهائياً، يشكل، بالتالي، قيمة عليا في عملية تقدم وارتقاء لامحدود، سواء على الصعيد المفهومي أو على الصعيد الفيزيائي، عبر نفي النفي. وبالتالي، نستطيع القول إنه يتضمن، موضوعياً، مبدأ اللاخلق واللافناء بالمعنى الفيزيائي والمعرفي؛ بل ويتضمن الفناء بالمعنى المفهومي – الفناء بمعنى التوحُّد، بمعنى الوحدة، وحدة وصراع التناقضات، الوحدة في التناقض – لكي يصير نفي النفي مضمون التاريخ، سواء كان التاريخ الطبيعي أو البشري الاجتماعي.

نفي النفي هذا ينمو، إذن، بفضل انعقاد ضفيرة متعددة الخطوط، تتصاعد على مسار حلزوني متشابك، حيث لا يبلغ التطور مآله بصعود مستقيم، بل يبلغه بصعود دائري. صعود من الدائرة عبر الخط، لينتقل إلى بُعد، فإلى آخر، ويصعد من الفيزيائي إلى الكيميائي، ثم من البيولوجي إلى الاجتماعي، من المادي إلى الروحي، كما يقول تيار دو شاردان – ينتقل، ينحرف، يدور، ليصعد. ويتضمن هذا المفهوم، بالتعريف، مفهوماً وجودياً بوحدة الوجود، بكل صيغها وتظاهراتها – وحدة الوجود الفيزيائي والروحي. بل نقول إنه اعتراف بوحدة الوجود المادي بالروحي القائمة، جدلياً، على جدل المتناقضات، جدل نفي النفي.

إن سقوط الاغتراب لا يتم بإدارة الظهر للعالم الموضوعي، بل بالتوجُّه إليه. وسقوط الاغتراب لا يتم بإدارة الظهر للروح البشرية، بل بإغنائها، بالمشاركة في تغيير العالم. وبذلك لا تبقى الحقيقة كلِّية الوجود، بل تصبح كلِّية مفتوحة تنمو أبداً. وبذلك لا تكون ثنائية وحدة الوجود ووحدة الشهود، وحدة الأخلاقي والتاريخي، وحدة المعرفي والإنساني، إلا تعبيراً عن حقائق مطلقة يشكل الاغتراب مظهراً لتناقضها في الواقع، ومظهراً لمقاومة هذا التناقض في ذات الوقت.

الله–الجمال

علم الجمال، رياضيات الشواش Chaos، رياضيات البنى الحرجة، وقوانين الاحتمالات ورياضيات المصادفة، كلها تشير بوضوح كامل إلى أن التوجُّه والانجذاب إلى نسق ونمط نظام معين هو قانون سائد في الطبيعة، وفي المادة، وفي العقل. إنه ببساطة الجمال الذي ندركه نحن البشر، لا بفضيلة العقل وحده، بل وبفضيلة ذلك البعد الجمالي والطبيعي الكامن في النفس البشرية، لا في ذاتها الواعية بل وفي ذاتها الباطنة أولاً.

فالجمال ليس مجرد حالة من التناغم harmony تسود علائق الكائنات؛ إذ من الواضح انه بقدر ما يتكامل وتتعقد بنيته، يرتقي وترتقي القيمة التي يعبِّر عنها. فمعروف أن الجمال قيمة موضوعية أمكن تحقيقها رياضياً؛ وبقدر ما ترتقي البنية الجمالية، والقيمة التي تعبِّر عنها، ترتقي رياضياً وتجريداً. فالفراشة الجميلة جميلة بغض النظر عن إدراكنا الجمالي النابع من ظرفنا الاجتماعي والنفسي والاقتصادي (ماركس)، جميلة موضوعياً (رياضياً) بغض النظر عن ذواتنا. وهذا أمر يمكن إثباته والبرهنة عليه من خلال تدقيق العلائق الرياضية القائمة من خلال التناغم الرياضي الكامن في أشكال أجنحتها.

لا شك أن للجمال بعداً ذاتياً، بعداً له ارتباط بالتجربة الاجتماعية والنفسية؛ وبالتالي، لا شك أن للجمال ارتباطاً عميقاً بحالة الاغتراب الناجمة عن تقسيم العمل الاجتماعي والحس الطبقي واغتراب المنتج عن نتاج عمله وثمرته. ولكن هل هذا هو البعد الأساس للجمال وللحسِّ الجمالي؟

إذا كان هذا البعد الذاتي للجمال تجلياً من تجلِّيات الغربة في أعتى أشكالها فإن عملية إدراك وإبداع البعد الموضوعي للجمال شكَّل الأساس في ذلك الجهد الدرامي للإبداع الإنساني في ما هي محاولة لتجاوز حالة الاغتراب. فحتى لو أُغرِمَ امرؤ القيس بالسمان الحرائر، والقيصر بجاريته البضة، لأن في ذلك دليل رفاه وغنى، فإن جسد المرأة يبقى جميلاً في كل الأحوال.

إنني لا أرغب، بل لست في موضع الخوض بعيداً في غمار هذا النقاش الجمالي. لكنْ حسبي أن أشير إلى فقر الطروح المادية المبسطة عن فهم الروح، بل الروح الجمالية. الجمال – هذه القيمة العليا التي تتسامى إليها النفس البشرية – ليس قيمة جديرة بالازدراء لمجرد عدم ثبات علاقته بالعقل ومناهج التحليل المنطقي؛ بل إن الحس الجمالي لطالما حمل ذلك الجهد الإنساني للتعبير، وإن بطرق غير عقلية، عن ذلك الميل الروحي للإنسان للتوحُّد بالطبيعة، للعودة إلى عفويته الطبيعية التي فقدها منذ أن قتل قايينُ هابيلَ. فالتجربة الفنية ليست إلا تجربة لتجاوز فرسخ الاغتراب بما "قد" يتيح الاندماج والتوحُّد بالطبيعة وبأنماطها وقوانينها الشكلية والباطنة. وهذه التجربة لا تتم بالابتعاد أو الانفصال عن الوجود، بل بالالتصاق به أكثر فأكثر؛ كما أنها لا تتم بالانفصال عن الذات الإنسانية بل بالالتقاء بها أكثر وأعمق.

خلف كل تجربة إنسانية عميقة، خلف الاغتراب والإبداع والحس الديني، خلف بروميثيوس وزرياب وبيتهوفن وموسيقى الجاز، تقف تلك المحاولة الدرامية المضرَّجة بدماء كل البشر للتماهي مع الأفق الهدف، مع المجردات الكبرى للوجود الكوني، أياً كان، وأية كانت هويته. التجربة الجمالية تأتي محاولةً للعودة إلى الكل، إلى الكلِّي، إلى الأصل في الكينونة؛ محاولةً للقفز فوق برزخ الاغتراب إلى الجنة التي طُرِدَ منها جدُّنا آدم منذ أن قرر قضم تفاحة المعرفة وأن يكون إنساناً على الأرض، وليس في "السماء"!

فليس الاغتراب الطبقي، إذن، هو وحده الذي جعل الإنسان فناناً؛ ليس الاغتراب الطبقي هو السبب الوحيد الذي أكسب الإنسان غربته، وأكسبه ذلك الميل العظيم الذي ميَّز إنسانية الإنسان، ألا وهو الإبداع الفني. الاغتراب، الدافع الفني العميق، هو حالة كامنة في البشر منذ أن انفصل الإنسان عن الطبيعة، منذ أن انفصلت الذات عن الموضوع. كان موجوداً، وسيبقى كبنية نفسية عميقة الجذور في التاريخ، في النفس البشرية، في العقل الباطن والواعي، كما وفي الغريزة. هذا ما تؤكده بشكل حاسم البحوث البيولوجية التاريخية والأنثروبولوجية والنفسية.

"كن جميلا ترى الوجود جميلاً." بهذه الكلمات الرائعة في عمقها وبساطتها عبَّر إيليا أبو ماضي عن نظرية متكاملة في علم الجمال. فالتجربة الجمالية تأتي من داخل النفس الحية، كجهد للتواصل مع الوجود، مع كل تلك الطبقات السحيقة للنفس البشرية. فلو كان المطلق الجمالي خارج هذه النفس وخارج الوجود فما المغزى أصلاً من وجود ذلك الكائن العظيم الجمال: "الإنسان".

إنها العقلانية الكبرى، إنها العقل المركَّب، نقيضاً للعقلانية المادية المقفرة والرمادية.

لقد حاول الشكل الرائج المبتذل للماركسية أن يطرح البعد الطبقي كبعد وحيد لاغتراب الإنسان؛ وهكذا أيضاً كان متعذراً على الماركسية، في صيغتها الدارجة، أن تقبل بغير "الواقعية الاشتراكية"، "الجدانوفية"، نظرية وحيدة للفن. فإن كانت المهمة الوحيدة للفن هي تبرير الانحياز الطبقي فما ذلك إلا نفي لجوهر العملية الفنية كتجربة إبداعية معرفية، كعملية إبداعية جمالية. وهكذا انتحر ماياكوفسكي، واغترب غوركي، وبقي بريشت ورايش ولوكاتش، وحتى أراغون وبيكاسو، خارج جنة علم الجمال السوفييتي. فبئس هذا الفكر، ويا لبؤسها من مادية!

ثم هل من الصحيح أن المنهج العلمي لا يحتمل الاعتراف بطرائق المعرفة الجمالية؟ ألا يمكن للإنسان أن يكون ماركسياً وأن يكون، في الوقت نفسه، رساماً أو شاعراً أو صوفياً، يستخدم الأدوات والرموز الجمالية اللاعقلية والمافوقطبيعية والعرفانية والمفهومية؟ – بحيث يجد مغزى حياته في أن يترك للبشرية بنى جمالية جديدة لن تتمكن العقلانية أن تدركها، ولا أن تصفها، ولا أن تدرك قيمتها، إلا من خلال الوظيفة الجمالية، التي تستند بدورها إلى تراث عظيم من القيم الروحية التي لا يمكن التفريق بينها وبين الجذور والمسلَّمات الإيمانية الأسطورية والقيمية العليا للبوذية والإسلام الصوفي.

في هذا السياق تعبِّر الأسطورة عن تلك التجربة التي تعطي لبواطن النفس البشرية، تعطي لتفاعلات العقل الباطن وللموروث النفسي التاريخي، أشكالا ملموسة وأخيلة وصوراً. الأسطورة هنا تأتي كتجربة لاختراق الدهشة، لشهوة اكتشاف الجانب المعتم من القمر، من الكون، ومن الذات البشرية.

تحاول التجربة الجمالية مقاربة هذا الكل المطلق بالتماهي معه عبر حالة من الترقِّي الفني، حالة من الحب، حيث لا سيطرة، بل تواصل، حيث لا انقطاع مع قعر الوجود، مع قعر الذات.

الفن والإبداع الجمالي ليس إلا محاولة لرأب البرزخ بتجاوز المسافة بين الموضوع والذات. إنها حالة لاوصفية، حالة معرفية انفعالية، فوقشعورية، حالة قفز إلى ما وراء اغتراب الإنسان عن الطبيعة، نحو ناموسها الأعلى. إنها حالة إدراك لاحتمالات التفرُّد، التعدد، لاحتمال الحرية والموت، حالة "يأس على ضفاف الأمل، وأمل على ضفاف اليأس".

حين ترقص الكلمات، وتغني الألوان، وتلتمع الموسيقى... حين تصعد، تهبط، تموج، وتهدر، تتلوى وترتجف، تختنق وتندثر، تتمزق وتتوثب، في التجربة الفنية، تصبح كيانات الكائنات الفنية نماذج ومفاهيم، تصبح قيماً جمالية، أخلاقية، فتصبح شيئاً يخص الآلهة. فثمة مسافة بين عَرَضية الوجود الفردي للإنسان وخلود وجوده: برزخ يراه الإنسان اغتراباً، ويعالجه بالرحيل إليه عقلاً ونفساً، علماً وفناً، رياضياً وجمالياً. وبين البرهة والمطلق يسري الإنسان ويعرج.

إن أية معرفة علمية تفقد قيمتها ما لم تهدف إلى التأسيس للالتحام بالطبيعة، بالذات البشرية، بروح الإنسان، ما لم تعمِّق حساسيته، قلقه الجمالي، وعيه الفني. الإنسان هنا، في التجربة الفنية الجمالية، واقعُ حرية، احتمال تفرُّد وخلود، يخترق بالتجربة الفنية اللاهوت إلى الله. هي تجربة تواصُل، تجاوز لمحدودية وجوده، في الزمان والمكان، عبر سلسلة من الرموز–النماذج. هدف التجربة الجمالية الارتقاء بأنماط وأنساق الرمز والنموذج إلى التطابق مع اللامتناهي، بحيث لا يبقى حلم الصيف ولا حتى مجرد كابوس، بل يصبح الحلم رؤيا، يصبح أداة بديلة ولغة أخرى.

حتى الرموز والنماذج الجمالية ترتحل في عملية ارتقاء ونفي، حيث تولِّد أشكالاً وصوراً هي ابتكار محض للذكاء الجمالي. إنها بواطننا، أفكارنا، نماذجنا الروحية، في حركتها؛ إنها روحنا محمولة على أشكال فنية، وكلمات شعرية، وأنساق موسيقية، ورقصات مقدسة. إنها بنية خيالية للمكان، إعادة تكوين للعالم في صورة الخالق وفي صورة قيمته العليا. بذلك يتَّحد العالم، ينعقد في اللحظة، ينعقد الماضي بالحاضر والمستقبل... لحظة عودة متجددة للبكارة، للعذرية الطبيعية.

يقول المثل الفرنسي: "قد ترى عينُ النسر الأشياء أدق عشر مرات من عين الإنسان، لكن عين الإنسان ترى في الأشياء آلاف المرات أكثر من عين النسر."

التجربة الفنية تكون ميتة حين تكون لغتها لا تزال مجرد لغة للملموس، حين يبقى رمزها مجرد مطابقة للشكل والموضوع، حين يكون اللحن مجرد تقليد للطبيعة. لكن الحياة تبدأ تدب في أوصالها حين تتجاوز لغتها لتصعد بها إلى الأسطورة، إلى المطلق، لتغدو هي اللحن والكلمة واللون، لتغدو رحماً لكل البدايات، ولكل خلق، ولكل كثرة وتفرُّد. لذلك نقول: لا يمكن أن يكون الحس الفني واقعياً إلا عندما تنشأ بينه وبين الواقع مسافة.

في الفن الإسلامي، الزركشة، الأقواس، الشبابيك، النوافير، البيت، القصيدة... ما هي إلا محاولات لخلق عوالم الجمال الصوفي، عوالم لا تُعنى بشيئية الوجود، بل عوالم صُوِّرَت بعين القلب، بعين الماهيَّة تخترق الواقع إلى سرة الأشياء، حيث المحاكاة قبح، وحيث الإنسان عقل وخيال. إنه علم الكلام في أرقى تجلِّياته وهرطقته الفنية. فهل نزدري هذه العبقرية والذكاء اللاعقلاني لمجرد كونه غير مادي؟ أقول: لا يزال الشرق، ولا تزال روح الشرق تحمل الكثير لهذا العالم. فهل ندرك مغزى مورثنا السامي (من بني سام) هذا؟

لقد حاول الجدل المادي أن يكون نظرية شمولية للفكر البشري، لكنه تجاهل بقعاً سوداء بقيت محرَّمة أو مرذولة في وهم الإدراكات العقلانية المبسطة. ذلك أن تجاهل الحياة الروحية لم يؤدي إلا إلى قفر روحي إنساني.

إنني لا أقصد في النتيجة الدعوة لاعتماد الرمزية الأسطورية والعرفان الصوفي أداة معرفية تستخدم كيمياء الشكل والفكرة ولا تؤدي إلا إلى اليأس والعدم. بل إن ما نريده هو تكريس للعمل والحلم حافزاً لإعادة تخليق العالم – لعل تذكُّر الجنة الضائعة، تذكُّر الإلدورادو، أطلنطس، أورشليم السماوية، يثير فينا شيئاً من رفض ذلِّ الراهن. فلتغدُ الممارسة والفكر نمطاً من رقص الحياة، حيث الرقص فعل للحياة، الرقص فوق الرمل والريح. فأنت، حين ترقص، تتعلم أن تتنفس إيقاع الحياة.

عند هذا الخط بالضبط (ولا أقول هذه النقطة) تلتقي العلمانية الثورية الصوفية وعلمانية الجدل المادي، علمانية ابن عربي والحلاج بعلمانية ماركس. لا تلتقيان في الطريقة، في المنهج المعرفي، لكنهما تلتقيان في المفهومية الكبرى للعالم، في جدل الأنا والموضوع، في جدل الله– الإنسان والطبيعة من خلال التوحُّد والفناء، من خلال وحدة الوجود. العقل الإشراقي الصوفي هنا يبرز كفهم، كذكاء جمالي، لا كمنطق.

وهكذا فمن ابن خلدون وماركس، إلى ابن عربي وبيكون وسبينوزا، تقف الطبيعة كسمفونية عقلانية، تتجلَّى فيها ثنائية الناموس–الطبيعة، الله–العالم، التعالي–التحايث.

*** *** ***


[1] هنا أسجل اعترافي – وأنا ذو الأصول والنشأة المتدينة – بأني قد دهشت لتأخري في الاطلاع على هذا الحديث؛ إذ يَرِدُ فيه مفهومٌ كان يبدو لي بعيداً عن التناول في الإيمانيات الإسلامية.

[2] هنا خطا ماركس خطوة أبعد من هيغل وفويرباخ، إذ أحال سبب الاغتراب إلى بنية المجتمعات، إلى علاقات الإنتاج. فجذور الاغتراب، بحسب ماركس، لا تكمن في عقل الإنسان نفسه، بل في العالم التاريخي والواقعي؛ وبالتالي فإن البشرية ستكون قادرة على تخطِّي هذا الاغتراب عن طريق تبديل ظروف حياتها تبديلاً واعياً.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود