الدماغ وعلم النفس

من وجهة نظر هولوغرافية

 

قيصر زحكا

 

منذ فجر التاريخ، مروراً بالمدارس الطبية الإغريقية والعربية وغيرها، والإنسان متنازَع بين وجهتي نظر: وجهة نظر تجزيئية، انفصالية، تنظر لدور كل شيء، ولكل جزء، داخل هذا الشيء بمفرده؛ ووجهة نظر شمولية تكاملية تنظر للكون وللأشياء ككل متكامل لا يقبل التجزئة. وقد ظهرت وجهتا النظر في شتى المجالات العلمية والطبية والفلسفية والاجتماعية والسياسية والدينية. وكانت تغلب في زمن ما وفي مجتمع ما وجهة النظر الأولى، بينما تسود الثانية في مجتمع آخر أو في زمن آخر. ومع قيام النهضة العلمية في أوروبة وتأثيرها على مستوى المجالات، غلبت وجهة النظر التجزيئية بشكل عام؛ ولكن مع حلول القرن العشرين والفواجع التي حدثت إبان الحربين العالميتين والحروب الأخرى، ومع المآسي الاجتماعية التي حدثت نتيجة التطور التقني والجشع والإمعان في النظرة الفردية والتجزيئية، بدأت تظهر نوازع شمولية تكاملية من جديد على مختلف الأصعدة من الفيزياء الكوانتية، إلى نظريات كارل غ. يونغ وغيره في علم النفس، إلى الدراسات العديدة، الاجتماعية والسياسية والإنسانية والبيئية التي تنادي بتأثير الأشياء بعضها على بعض باستمرار، وبأن أي ضرر نلحقه بإنسان آخر، مهما كان عرقه، دينه، جنسه وموطنه، أو بالأشياء الأخرى، أو بالبيئة والأرض، سوف ينقلب علينا ويترك تأثيرات مدمِّرة. وعلى الرغم من أن الطب، بشكله الحديث، مازالت تغلب عليه وجهة النظر التجزيئية، إلا أنه يلاحَظ انتشار متزايد ومتسارع، وخاصة في الدول الغربية، لأفكار ومدارس تكاملية، يعود بعضها طبعاً إلى أزمان غابرة، مثل الطب الصيني، والطب الهندي المعروف باسم Ayurvedic Medicine، والطب الطبيعي Naturopathy الذي له علاقة وثيقة بالطب الشاماني، من خلال العقاقير التي كانت تحضَّر من مواد نباتية ويستعملها الشاماني أو الحكيم في تلك القبائل، والطب التجانسي Homeopathy الذي بدأ مع الطبيب الألماني Hahnemann ويسير على مبدأ "وداوِها بالتي كانت هي الداء".

وقد بدأ بعض الأطباء يهتمون أكثر وأكثر بكيفية تعبير أعضاء الجسم المختلفة وأمراضها عن نفسها في أعضاء بعيدة عنها، كالعين والأذن والقدم، وبذلك ازدادت أواصر الشمولية والتكاملية في الجسم، فنشأ علم الـ Iridology الذي يمكن بواسطته تشخيص العديد من الأمراض عن طريق النظر إلى قزحية العين؛ وقد أصبح يدرَّس في عدد من كليات الطب في ألمانيا ودول أوروبا الشرقية والاسكندنافية؛ وعلم الـ Reflexology الذي يمكن بواسطته التأثير على أعضاء وأمراض مختلفة عن طريق الضغط على نقاط معينة في القدم؛ وهو ينتشر بشكل خاص في الولايات المتحدة وكندا؛ وكذلك علم الـ Osteopathy الذي يتم بواسطته إجراء مناورات عديدة على العظام المختلفة والأنسجة الرخوة ليؤثر بواسطتها على أعضاء أخرى؛ وهو ينتشر أيضاً في الولايات المتحدة وكندا. كما أحدث اكتشاف الطبيب الفرنسي Paul Nogier أن صيوان الأذن يحوي شكلاً مصغراً لإنسان مقلوب، وأن استعمال الإبر الصينية والتنبيهات الكهربائية على مناطق محددة من صيوان الأذن سيؤثر على أعضاء معينة من الجسم، ضجة كبيرة، وخاصة أن هذا الطبيب لم يكن يعرف آنذاك أن الصينيين القدماء استعملوا هذه الطريقة. وعندما قورنت مخططاته بالمخططات الصينية القديمة وُجِد تطابق لا يقل عن 90 بالمئة.

سنمر في هذا البحث على العديد من الأفكار والنظريات التي قد تبدو غريبة للبعض؛ ولكن، كما يقول T. H. Huxley: "انظر إلى الحقيقة كطفل صغير، وكن مؤهلاً لأن تتخلى عن كل المعلومات السابقة، واتَّبع الطبيعة فقط إلى حيث تقودك، وإلا فلن تتعلم شيئاً."

قبل البدء بالموضوع الأساسي، لا بد أن أمر مروراً بسيطاً على بعض المبادئ الرياضية والفيزيائية الأساسية؛ أوَّلها الهولوغرام Hologram. يحدث الهولوغرام من تجزئة شعاع ليزري وحيد إلى جزأين: الأول يمر على جسم ما كتفاحة، والثاني يمر على عدة مرايا عاكسة ليلتحم بعد ذلك مع الجزء الأول ويُحدِث نمط تداخل، ثم يوجَّهان نحو فيلم حساس. سترى العين المجردة عندئذٍ دوائر ذات مركز واحد كالتي تحدث عندما ترمى حصاة في الماء. ولكن إن قمنا بتوجيه ضوء ليزر آخر نحو الفيلم، أو حتى ضوء مصباح شديد، ستتكون عندنا صورة ثلاثية الأبعاد للجسم، وسيظن أي شخص أن هناك بالفعل تفاحة، وسيراها من أية زاوية كانت؛ ولكن إن حاول مد يده لالتقاطها، سيصاب بخيبة أمل شديدة. فالصفات الممتعة والمميزة للهولوغرام هي:

أولاً: ثلاثية الأبعاد

أ. الجزء يعبر عن الكل: إذا قمنا بتقسيم قطع الفيلم، فإن أية قطعة، إذا وُجِّهت إليها أشعة ليزرية، ستعطي صورة كاملة للتفاحة، ولكن بشكل مصغَّر. بمعنى آخر، ستحوي كل قطعة معلومات عن الكل. (أحب أن أوضح هنا أن هذه الظاهرة لا علاقة لها بالصور ثلاثية الأبعاد الموجودة في السوق التي تُرى بالعين المجردة، بل يجب أن تكون من النمط الذي لا يُرى إلا بتوجيه أشعة معينة تجاهه).

ب. إمكانية اختزان كم هائل من الصور: إذا قمنا بتغيير الزاوية التي يأتي منها إشعاعا الليزر، يمكن لنا أن نختزن عدة صور على نفس الفيلم الحساس؛ ويمكن الحصول على الصورة ببساطة إذا وجهنا ضوء الليزر بنفس زاوية الإشعاعين الأصليين. وقد وجد العلماء أنه يمكن لإنش مربع من الفيلم أن يختزن المعلومات الواردة في أكثر من حجم الكتاب المقدس بـ 50 مرة.

ج. إمكانية الارتباط بين الأشياء: هنا مُرِّر جزءان لأشعة ليزر معينة على جسمين مختلفين، كرسي وغليون، ومن بعدُ سُمِح للأشعة المنعكسة عن الجسمين أن تتحد وتُحدِث نظام تداخل وتسجَّل على فيلم حساس؛ بعد ذلك قام العلماء بإضاءة الكرسي بأشعة ليزر جديدة والسماح لها بالسقوط على الفيلم الحساس؛ وإذا بصورة ثلاثية الأبعاد للغليون تظهر، والعكس بالعكس.

د. التصوير الهولوغرافي التداخلي Interference Holography: وهنا ينظر الشخص، عبر قطعة من فيلم هولوغرافي تحوي صورة شيء معين أجريت قبل فترة، نحو الشيء نفسه وقد أجريت عليه تعديلات معينة؛ فالشخص الناظر يستطيع رؤية كيف تغير الشيء وما هي الصفات التي بقيت على حالها، وذلك لأن الأجزاء التي تغيرت ستعكس الضوء بصورة مختلفة. وهي طريقة حساسة جداً لدرجة يمكن رؤية طبعة إصبع على لوح غرانيت. وهي تستعمل حالياً في فحص المواد.

هـ. التصوير الهولوغرافي التعرُّفي Recognition Holography: هنا تمر أشعة الليزر على نوع خاص من المرايا، تسمى بالمرآة المجمِّعة، قبل أن تصل للفيلم الحساس؛ وبعد ذلك تمرَّر أشعة ليزر على جسم شبيه بالأول، ولكن ليس مطابقاً. وتمرَّر من جديد على مرآة مجمِّعة، ومن بعدُ على الفيلم نفسه بعد إظهاره. تظهر نقطة مضيئة على الفيلم. وكلما كانت النقطة مضيئة وحادة كان التشابه بين الجسمين أكبر. وإذا كان الجسمان مختلفين تماماً، لا تظهر أية نقطة مضيئة. وإذا وُضِعت خلية ضوئية حساسة خلف الفيلم الحساس يمكن عندئذ استعمال الجهاز كجهاز تعرُّف حساس.

ثانياً: المعادلات الرياضية لفورييه: إن ما قام به الرياضي الفرنسي Jean Fourier باختصار شديد هو أنه ابتكر طريقة لتحويل أي نمط، كان مهما كان معقداً، إلى نظام موجي، ولإعادة النظام الموجي إلى النمط الأصلي، وذلك كما تقوم عدسة كاميرا التلفزيون بتحويل أية صورة إلى ذبذبات كهرطيسية، ويقوم جهاز التلفزيون بتحويل هذه الذبذبات إلى صورة من جديد. سُمِّيت المعادلات الرياضية التي استخدمها لهذا التحويل بـ"تحويلات فورييه". كانت هذه التحويلات أساس عملDennis Gabor  لتحويل صورة جسم ما إلى نظام تداخل على قطعة فيلم هولوغرافي ولابتداع طريقة لتحويل نظام التداخل هذا إلى صورة الجسم الأصلي؛ وهذا الكل المحتوى في كل جزء من الهولوغرام ينتج عن تحويل النمط إلى لغة فورييه الموجية.

ثالثاً: النظام المنطوي والنظام المنكشف Implicate & Explicate Orders: يعتقد الفيزيائي الكبير David Bohm أن الواقع المحسوس لحياتنا اليومية وهمٌ، تماماً كالصورة الهولوغرافية. فما يوجد خلف هذا الواقع هو وجود على مستوى أعمق وأوسع وأكثر بدئية من الواقع؛ وهذا الواقع الأصلي هو الذي يولد الأشياء والمظاهر المختلفة في واقعنا الأرضي، تماماً كما تقوم قطعة فيلم هولوغرافي بتوليد الهولوغرام. يسمي Bohm هذا المستوى العميق للوجود بالنظام المنطويImplicate or Enfolded Order ، بينما يطلق على مستوى وجودنا الظاهري بالنظام المنكشف أو المنفتح Explicate or Unfolded Order. ويستعمل هذين المصطلحين لأنه يرى الكون كنتيجة لانطواءات وانكشافات لا حدود لها، متداخل بعضُها مع بعض باستمرار. فهو لا يرى الإلكترون كشيء واحد، وإنما ككلِّية أو ensemble منطوية عبر الكون بأكمله. فعندما يكشف جهاز معين وجود إلكترون، يحدث هذا ببساطة لأن صفة معينة من صفات هذا الإلكترون قد انكشفت للظاهر، تماماً كما تنكشف نقطة حبر على مساحة محددة من الغليسرين. وعندما نرى الإلكترون يتحرك، فهذا نتيجة مجموعة مستمرة من الانطواءات والانكشافات. فالأشياء، حسب مفهومه، ليست ثابتة، بل هي كالماء الخارج من النافورة يستمر بفضل الدفع المستمر من النظام المنطوي. وعندما يتراءى لنا أن شيئاً ما قد توارى، فهو لم يختفِ بل عاد للانطواء إلى المستوى الأعمق الذي انطلق منه.

يفسر هذا التبادل المستمر بين النظامين كيف يتغير قسيم particle ما إلى شكل آخر كالإلكترون في الذرة البوزيترونية. فهذه التغيرات تفسر، مثلاً، بأن الإلكترون عاد إلى النظام المنطوي، بينما قام فوتون آخر بالانكشاف وأخذ مكانه؛ كذلك تفسر كيف يمكن للشيء أن يظهر كقسيم أو كموجة تبعاً للراصد الخارجي. فبحسب ما يتفاعل هذا الراصد مع هذا التكوُّن أو الـ ensemble ينكشف مظهر ما وينطوي آخر؛ تماماً كما يتعامل الصائغ مع جوهرة ما بحيث تصبح إحدى وجوهها مرئية والأخرى لا. ويفضل Bohm في الحقيقة استعمال تعبير الحركة الكلِّية Holomovement بدلاً من هولوغرام بسبب الصورة الدائمة التغير والديناميَّة للعالم.

وجهة النظر التجزيئية التوضعية للدماغ

استندت هذه النتائج على المراقبة السريرية، ومن بعدُ، على الوسائل التقنية المتطورة لكي تبين أن مناطق معينة في الدماغ قد تكون مسؤولة عن وظائف معينة، وأن إصابة هذه المناطق تؤدي إلى فقدان وظائف معينة أو ظهور علامات مرضية لم تكن موجودة سابقاً. كان أشهر من قام بهذا المجال الطبيب الفرنسي Paul Broca والطبيبان الألمانيان Carl Wernicke وKurt Goldstein. وقد قام Broadmann بعد ذلك بتقسيم قشر الدماغ بكامله إلى مناطق وظيفية ورقَّمها بحسب التتابع الزمني لاكتشافها. وبقيت بعض الوظائف، وخاصة الذاكرة، خارج مجال هذا التوضيع، واعتبرها الكثيرون وظيفة معمَّمة تشمل الدماغ بكامله، إلى أن جاءت تجارب الجراح العصبي الكندي المشهور Wilder Penfield في العشرينات من هذا القرن لتبدأ القول بأن ذكريات معينة تتوضع في مناطق معينة من الدماغ. وبينما كان بنفيلد يقوم بجراحات متعددة على أدمغة المرضى المصابين بالصرع الذين كانوا بكامل وعيهم (من المعروف أن الدماغ بذاته لا يشعر بالألم بشكل مباشر، ومادامت فروة الرأس والجمجمة مخدَّرتين، يمكن إجراء العمل الجراحي على مريض بكامل وعيه) وجد أنه عندما قام بالتنبيه الكهربائي للفصَّين الصدغيين عاش المرضى من جديد ذكريات سابقة من حياتهم بشكل حيّ. لقد عاش رجل من جديد تجربة نقاش سابق مع أصدقائه في أفريقيا الجنوبية؛ وتخيل طفل أنه يسمع صوت أمه على الهاتف، وبعد تنبيهات كهربائية كان قادراً على إعادة كل ما قالته والدته. وحتى عندما قام بنفيلد بخداع مرضاه بأنْ قال لهم إنه ينبِّه مناطق أخرى من الدماغ وقام بتنبيه نفس المنطقة، أدى ذلك إلى تذكر نفس الحادثة. وقد قام بتسمية هذه المناطق الذاكرية بالـ engrams. استنتج بنفيلد في كتابه أحجية الذهن،[1] الذي صدر عام 1975 قبل وفاته، بأن كل شيء نعيشه منذ كنا أطفالاً يسجل في أدمغتنا في مناطق محددة منه. وقد اقتيد بعد ذلك Geschwind و David Mesulam باجتهادات أخرى، وبتوفر الوسائل التقنية الحديثة، إلى القول بأن الدماغ يعمل بين مجالين هما الواقع الخارجي extrapersonal reality والخلط الداخلي internal milieu (تعتبر النظرية الهولوغرافية هذين المجالين شيئاً واحداً، كما سنرى لاحقاً)، وقاما بتقسيم قشر الدماغ، تبعاً للطبيعة النسيجية والوظيفية وبحسب قربها من الواقع الخارجي أو الخلط الداخلي، إلى خمس مناطق:

أ. المناطق الأولية Primary Cortex: وهي مسؤولة عن وظيفة معينة بشكلها الخام، مثل البصر والسمع والحس والحركة، وبالتالي هي الأقرب إلى الواقع الخارجي.

ب. المناطق المشاركة وحيدة النمط Unimodal Association Areas: وهي المسؤولة عن أمور دقيقة تفصيلية ضمن تلك الوظيفة المعينة. ففي مجال البصر هناك مناطق مسؤولة عن إدراك اتجاه الشيء أو موقعه في الفراغ أو لونه أو عمقه أو إدراك الأشياء المقروءة. وتسبب أذية ما في تلك المناطق عدم القدرة على القراءة، مع أن البصر ما يزال سليماً. وفي مجال السمع، هناك مناطق مسؤولة عن مصدر الصوت في الفراغ أو حدَّة الصوت أو طبيعته إلخ.

ج. المناطق المشاركة متعددة الأنماط Heteromodal Association Areas: وهي المسؤولة عن ربط وجمع المعلومات الآتية من وظائف متعددة معاً، كجمع المعلومات الآتية من البصر والسمع والحس ضمن مفهوم متكامل وربطها مع الحركة. وقد تسبب أذيَّاتها خللاً في الحساب والكتابة مثلاً، أو في التعرف على الأصابع المختلفة من اليد، أو عدم القدرة على التمييز الفراغي أو اليمين من اليسار أو تقليد الشيء أو تسميته أو القدرة على متابعة حركة الشيء بالبصر؛ كما قد تسبب، في قسمها الأمامي، اضطرابات إدراك تتابع الأحداث وتعديلها، واضطرابات في الشخصية، كفقدان الفضول، أو التفكير المجرد والمحاكمة، أو القفز مباشرة إلى نتائج متعسفة وعدم القدرة على إبعاد التشوش والتداخل الخارجي.

د. المناطق المجاورة للجهاز اللمبي Paralimbic Region: هنا نقترب أكثر من الخلط الداخلي ونبتعد أكثر عن الواقع الخارجي. وتؤدي أذيَّات تلك المناطق إلى خلل في الذاكرة والشم والذوق وعدم القدرة على التعامل مع شيء معين تبعاً لأهميته بالنسبة للشخص، كما قد تؤدي إلى عزلة اجتماعية؛ وتؤدي أذيَّتها في الحيوانات إلى الرعب من الأشياء الجديدة، بينما قد لا يبدي الحيوان أي اهتمام نحو الإنسان أو الثعبان.

هـ. الجهاز اللمبي Limbic System: وهو أكثر المناطق علاقة بالخلط الداخلي؛ وتؤدي أذيَّته إلى تغيرات خطيرة في الذاكرة، كالاهتمام والانفعال أو عدم التمييز بين ما يؤكل وبين ما لا يؤكل من الأشياء، وعدم التمييز الجنسي بين الأشياء، مما يُعرَف بتناذر Kluver Bucy.

إن واحداً من أهم الشخصيات التي تبرز لنا في هذا المجال هو Karl Pribram الذي كان عالم فسيولوجيا عصبية وجراحاً عصبياً في جامعة ستانفورد ومؤلف كتاب لغات الدماغ.[2] كانKarl Pribram  منذ البداية صاحب موقف إنساني معارض للتخريب العشوائي لمناطق من الدماغ دون دراية كافية عن عمل الدماغ. ففي عام 1935 قام الجراح العصبي البرتغالي Egas Moniz باستعمال طريقة جراحية لفصل عمل المنطقة قبل الجبهية عن باقي الدماغ Prefrontal Lobectomy لعلاج الأمراض العقلية؛ وقد فاز بجائزة نوبل لهذا الإجراء عام 1940. وقام من بعده الجراح الأميركي Walter Freeman بالقيام بهذا العمل الجراحي وكتابة مقالات متعددة، وادعى بأن هذا الإجراء قد قام بتحويل الشواذ اجتماعياً، كما أسماهم، من فصاميين ولوطيين ومتطرفين، إلى أميركيين جيدين. عارض Karl Pribram هذا الإجراء كثيراً، وكانت نتيجة ذلك أنه خسر وظيفته. وهذا ما يذكرنا بما جرى للفيزيائي الشهير David Bohm – وهو من أهم أعلام النظرية الهولوغرافية في الفيزياء الحديثة – عندما طُلِب منه الوقوف في المحكمة ضد أستاذه فيما سمي بالفعَّاليات اللاأميركية، ورفض؛ وكانت نتيجة ذلك أنه خسر عمله في جامعة Princeton ولم يعلِّم أبداً في الولايات الأميركية بعد ذلك، بل انتقل إلى البرازيل، ومن بعدُ إلى لندن.

يقول Karl Pribram: "لا أقول إن عالم الظواهر خاطئ ولا أقول إنه لا يوجد شيء في الخارج على مستوى معين من الواقع، وإنما أقول إنه إذا نظرنا عبر الأشياء ونظرنا للكون نظرة شمولية، نصل إلى وجهة نظر جديدة وواقع مختلف، وإن هذا الواقع المختلف قد يفسر كثيراً من الأمور التي لاتزال مبهمة علمياً، كالظواهر الخارقة للعادة paranormal phenomena والتزامنات synchronicities والمصادفات ذات المغزى الواضح.

الذاكرة والنظرية الهولوغرافية

كان أول ما دفع Pribram للتوجه نحو النظرية الهولوغرافية السؤال التالي: كيف وأين تُختزَن الذاكرة في الدماغ؟ وحيث إن الفكرة التي كانت سائدة في الأربعينيات من هذا القرن هي اختزان الذاكرة في منطقة معينة في الدماغ بحسب Penfield، فلم يشك في البدء؛ لكنه عندما ذهب ليعمل مع Karl Lashly – وهو عالم نفس عصبي مشهور – استطاع أن يرى بأم عينه كيف أن لاشلي أعاد تجارب Penfield ولم يصل إلى نفس النتائج، بل دحضها كلياً. قام لاشلي بتعليم الجرذان على أعمال مختلفة، كإيجاد الطريق الصحيح ضمن وكر معقد، وقام بعد ذلك باستئصال أقسام مختلفة من أدمغتها وإعادة التجربة لكي يجد المنطقة المسؤولة عن الذاكرة؛ ولكن لدهشته وجد أنه مهما كانت المنطقة التي استأصلها كبيرة، مما أدى أحياناً، بالطبع، إلى التأثير على مشي الفئران، فإن ذاكرتها بقيت موجودة. قامPribram  بكتابة الكثير من دراسات لاشلي وصار اكثر اقتناعاً بأن الذاكرة تُختزَن بشكل معمَّم وغير متوضع في مكان معين من الدماغ. انتقل بعد ذلك إلى جامعة Yale وبدأ يلاحظ أن المرضى الذين عانوا من استئصال أقسام كبيرة من أدمغتهم، قد يعانون من اضطراب عام في الذاكرة، ولكنهم لا يعانون من نقص في ذكريات معينة وبقاء أخرى؛ والذين يتعرضون لحوادث سيارات ورضوض دماغية لا ينسون نصف أفراد عائلتهم أو نصف المقال الذين قرأوه؛ وحتى بعد استئصال أقسام من الفصَّين الصدغيين الذين اعتُبِرا أساسيين في الذاكرة، حسب بنفيلد، لم يسبب هذا فجوات في ذاكرة الشخص. قام Pribram بعدها بتكرار تجارب بتنبيه أقسام معينة من الدماغ عند أناس سليمين ولم يستطع الحصول على نفس النتائج التي حصل عليها بنفيلد، ولدى مراجعته أبحاث بنفيلد وجد أن بنفيلد نفسه لم يستطع الحصول على نفس النتائج عند أناس سليمين غير مصابين بالصرع.

بدأت صورة تكاملية للذاكرة تتضح شيئاً فشيئاً عند Pribram، ولكنه لم يعرف الطريقة تماماً، إلى أن قرأ عن بناء أول هولوغرام، ومن بعدُ التقى بالفيزيائي الكبير David Bohm الذي كان يعتبر الكون بأكمله عبارة عن هولوغرام. تساءل الاثنان عما إذا كان ما تحدث عنه الحكماء الأقدمون في الشرق بأن ما نراه في الواقع يعتبر وهماً أو Maya وأن ما يوجد في الحقيقة هو سيمفونية متناغمة من الأمواج التي تحولت إلى العالمK كما نعرفه من خلال حواسنا فقط.

قام الرياضي والفيزيائي الهنغاري المشهور John von Neumann بحساب معدل كمية المعلومات التي يختزنها الدماغ على مسار حياة شخص بكاملها، فوجد أنها في حدود 2,8  Î 10 20 خانة أوbit  من المعلومات، وقد عجز العلماء عن إيجاد طريقة تفسر هذه القدرة الهائلة للدماغ، والطريقة الوحيدة المقبولة اليوم هي الخاصية الثالثة للهولوغرام بتغيير زوايا الإسقاط. كذلك يمكن للخاصية الرابعة، وهي إمكانية الارتباط مع تفسير لماذا تقوم أشياء معينة أو روائح معينة بتحريض ذكريات معينة عن أشياء أخرى. كذلك تفسر لنا الخاصيتان الخامسة والسادسة كيف نستطيع معرفة شخص ما بعد تقدمه في السن وعدم رؤيتنا له لمدة عشرين عاماً، وكيف نميز شخصاً معيناً من بين مئات الأشخاص في جمهور معين. كما أوضح بعض الباحثين من جامعة هارفارد عام 1972 أن الفرضية الهولوغرافية للدماغ قد تستطيع تفسير لماذا يمتلك بعض الأشخاص ذاكرة تصويرية photographic memory. فهؤلاء الأشخاص يقضون ثواني قليلة ينظرون إلى مشهد معين، وعندما يريدون رؤية المشهد من جديد، يصدرون صورة عقلية عنه، إما وأعينهم مغلقة أو بالنظر إلى حائط أو شاشة فارغة. وقد وجد العالمان  Pollenو Tractenberg عندما قاما بدراسة امرأة اسمها إليزابيث أن الصور العقلية التي أصدرتها كانت حقيقية لدرجة أن عيناها كانتا تتحركان كما لو كانت تقرأ صفحة حقيقية من كتاب فاوست Faust لغوته. وافترض العالمان أن لهؤلاء الأشخاص ذاكرة عظيمة، ربما لأنهم يستطيعون الوصول إلى مناطق أكبر من الهولوغرام الذاكري، بينما يصل معظمنا لمناطق صغيرة منه فقط.

يبين بريبرام أيضاً كيف أن النظرية الهولوغرافية تستطيع تفسير نقل المهارات المكتسبة واستخدامها في غير مكانها المستعمل عادة. فإذا قمت مثلاً بكتابة اسمك بالمرفق الأيسر فغالباً ما سوف تجد أن هذه عملية سهلة رغم أنه من المحتمل أنك لم تقم بها أبداً في السابق. لو كان الدماغ مثل الكمبيوتر يتعلم المهارات فقط بعد القيام بأفعال متسلسلة مرتبة، وبعد أن قام هذا التعلُّم المتكرر بإيجاد تواصلات عصبية بين الخلايا الدماغية لصعب علينا هذا؛ بينما عندما يقوم الدماغ بتحويل القدرات المتعلَّمة إلى لغة من الأمواج المتداخلة سيكون أكثر مرونة وقدرة على تحويل ونقل معلومات معينة من مكان لآخر، كما يقوم عازف البيانو بنقل مقطوعة كاملة بدءاً من مفتاح موسيقي معين إلى مفتاح آخر. كذلك يفسر هذا كيف نستطيع معرفة شخص أو شيء معين أياً كانت الزاوية التي نظرنا منها.

قد نستطيع أيضاً تفسير لماذا نتذكر بعض الأشياء في أوقات معينة بينما ننساها في أوقات أخرى. فتذكُّر شيء هو بمثابة إسقاط أشعة ليزر على قطعة فيلم حساس يحتوي على عدد من الخيالات بالزاوية المطلوبة تماماً لرؤية هذا الشيء؛ بينما يكون عدم قدرتنا على تذكر الشيء معادلاً لإسقاط عدة إشعاعات بغير الزوايا المطلوبة لإظهار خيال الشيء المطلوب.

البصر والنظرية الهولوغرافية

تابع Karl pribram أيضاً أعمال لاشلي وتجاربه في مجال البصر. وكان لاشلي قد قام باستئصال ما يقارب 90 بالمئة من قشر الدماغ المسؤول عن البصر في الجرذان، ووجد أنه، رغم نقص المجال البصري، إلا أن الجرذان كانت لاتزال قادرة على القيام بمهارات بصرية معقدة. وقام بريبرام من بعده بإلحاق الأذى بما بقارب من 98 بالمئة من الأعصاب البصرية للهر بدون التأثير بشكل كبير على قيام الهر بأعمال بصرية معقدة.

كان الرأي السائد في تلك الأيام، الذي لايزال موجوداً إلى حد كبير في أيامنا هذه، هو وجود علاقة واحد إلى واحد (أي إذا كنَّا ننظر، فرضاً، إلى مربع، ستحدث شحنات كهربائية في مناطق محددة من الدماغ ستأخذ شكل مربع!). وقد استطاع بريبرام إثبات خطأ هذا من خلال مراقبته لعدد كبير من المرضى، وأيضاً من خلال التجارب الحيوانية التي أثبتت باستمرار قدرة الأشخاص والحيوانات إدراك أشكال معقدة رغم الأذيَّات الواسعة لقشر الدماغ البصري. استطاع بريبرام حل اللغز من خلال ملاحظته أن الخلايا العصبية في الدماغ تحوي اشتباكات واسعة مع غيرها من الخلايا، مما يجعلها شديدة التزاحم. وعندما تترافق هذه الفعالية الكهربائية مع النظرية الموجية، نرى أن الدماغ يخلق بذلك أنظمة تداخل لانهائية؛ وهذا ما يعطي الدماغ طبيعته الهولوغرافية. فمهما كانت الأذيَّة واسعة في الدماغ فإن كل جزء صغير باقٍ يقدر على إنشاء الكل الذي كانت العينان تراه – وهذا يدحض علاقة واحد إلى واحد.

كانت الأبحاث في الستينيات من هذا القرن قد أظهرت أن كل خلية قي قشر الدماغ البصري مهيَّئة لتستجيب بنمط مختلف: فبعض الخلايا ترتكس عند رؤية خط أفقي وبعضها عند رؤية خط شاقولي؛ وسميت هذه الخلايا بكاشفات الصفات الشكلية feature detectors. واستنتج العلماء من هذه الأبحاث أن الدماغ يقوم بHخذ الاستجابات المختلفة من كاشفات الصفات الشكلية هذه ويضعها معاً بطريقة ما ليحصل على إدراكات هذا العالم. وقد انتشرت هذه الأفكار وأصبحت لها شعبيتها. ومع هذا شعر عالما الفسيولوجيا العصبية Russel وKaren De Valois  من جامعة Berkley أن هذه النتائج صحيحة جزئياً فقط، فقاما بتحويل أنماط بسيطة أو معقدة، مثل لوح الشطرنج، إلى معادلات موجية، ووجدا أن الدماغ لم يستجب للأنماط الأصلية، بل لتحويلاتها الموجية. وكان الاستنتاج أن الدماغ يقوم باستعمال رياضيات Fourier، كما يقوم الهولوغرام بذلك. وقامت مخابر أخرى بعد ذلك بتأكيد هذا.

الإحساس والنظرية الهولوغرافية

قد يعتبر معظمنا أن إحساسات ومشاعر الحب، الجوع، الغضب، وغيرها، واقع داخلي، بينما تكون أصوات فرقة أوركسترا، أو حرارة الشمس، أو رائحة الخبز المحمص، واقعاً خارجياً. ولكن يبدو أنه، حتى الآن، لايزال من غير المفهوم كيف تفرق أدمغتنا بين الاثنين. يوضح Karl Pribram أنه عندما ننظر لشخص ما ففي الحقيقة تكون صورته على شبكية أعيننا؛ ومع هذا، لا نعتقد أنه موجود على شبكية أعيننا، بل في الخارج. وعندما نهرس إصبعنا نشعر بالألم في إصبعنا، رغم أن التفاعلات الكيماوية للألم ليست فقط في الإصبع، بل في النخاع الشوكي والدماغ. ويعد هذا مطابقاً للوهم الذي يكوِّنه لنا الهولوغرام بأن هناك جسماً ثلاثي الأبعاد في مكان ما. ولكن إذا أردنا مسك هذا الشيء أو استعمال جهاز حساس لمعرفة وجود طاقة معينة في ذلك المكان، لا يمكننا الحصول على أي شيء، وهذا لأن الهولوغرام عبارة عن صورة تبدو في مكان حيث لا يوجد أي شيء في الحقيقة.

قام العالم Georg von Bekesy، الحائز على جائزة نوبل، بوضع أجهزة مولدة للاهتزاز على ركبة أشخاص وضع أقنعة على وجوههم، وقام بتغيير تردُّد الاهتزاز، ووجد بعد فترة أنه يستطيع بتردُّدات معينة أن يجعلهم يشعرون كما لو أن الاهتزازات قد قفزت من ركبة لأخرى، وحتى أن يشعروا كما لو أن الاهتزازات تقع في المسافة بين ركبتيهم، وبتعبير آخر، في مواقع فراغية حيث لا توجد فعلاً مستقبلات حسية!

يعتقد Pribram أن تجارب Bekesy قد تدل على النظرية الهولوغرافية. فبعض الأنظمة التداخلية للاهتزازات قد تسمح للدماغ بأن يضع بعض الاحساسات والتجارب خارج الحدود الجسمانية. وهذا ما يفسر شعور الأشخاص الذين بُتِرت لهم ساق أو ذراع بوجود طرفهم المبتور في مكانه، وحتى شعورهم بآلام وتشنجات ونَمَل في تلك المناطق. فقد يكون السبب هو الذاكرة الهولوغرافية للطرف التي ماتزال محفوظة في الأنماط التداخلية لدماغهم.

وجد  Bekesyأيضاً أن جلدنا حساس لأنواع مختلفة من الاهتزازات وكانت من نوع المعادلات الرياضية لـ Fourier، كما وجد عالم الفيسيولوجيا الألماني Herman von Helmholtz أن الأذن تقوم أيضاً بتحليل الأصوات إلى مركبات اهتزازية، واكتشف آخرون أن حاستي الشم والذوق تخضعان لنفس القاعدة.

ألسلوك الغريزي والنظرية الهولوغرافية

قام عالم البيولوجيا الأميركي Paul Pietsch بسلسلة من التجارب على حيوان السمندل. وقد وجد أنه يستطيع أخذ الدماغ خارجاً بدون قتل السمندل. ورغم أن السمندل سيدخل في حالة سبات مادام الدماغ ناقصاً، إلا أن التصرفات تعود طبيعية حالما يوضع الدماغ في مكانه من جديد. كانPietsch  في الحقيقة يحاول إثبات أن نظرية بريبرام خاطئة، وأن اختلاف وضعية الدماغ في الرأس سيغير من تصرفات معينة أو يلغيها؛ فقام بإبدال نصف الكرة الدماغي الأيسر بالأيمن، والعكس بالعكس؛ ولكنه وجد أنه حالما صحا السمندل من التخدير عادت تصرفاته الغذائية سليمة كما كانت. قام بعد ذلك بقلب الدماغ بين الأعلى والأسفل ولكن السمندل عاد ليتغذى بشكل طبيعي. شعرPietsch  بالإحباط وأراد اللجوء لعمليات أخرى، فقام بأكثر من 700 عملية تقطيع وقلب وحذف مناطق من الدماغ، لكنه حالما قام بإرجاع ما بقي من أدمغتها، عادت تصرفاتها سليمة. وهذا ما جعلPietsch  مؤمناً بالنظرية بدلاً من ناقد لها، وعلى أساسها كتب كتابه Shufflebrain.

مع هذه الدلائل المختلفة على الطبيعة الموجية الهولوغرافية للبصر والإحساسات المختلفة، أصبح Karl Pribram أكثر اقتناعاً بكلِّية نظريته. وما زاد من اقتناعه ما وجده العالم الروسي Nikolai Bernstein من أن الحركات التي نقوم بها تختزَن في دماغنا بشكل لغة من معادلات Fourier؛ فما قام به Bernstein هو إلباس الأشخاص ملابس سوداء وضع عليها نقاط بيضاء في منطقة المفاصل، كالمرفق والركبة والرقبة إلخ، مع وجود خلفية سوداء. ثم قام بتصوير هؤلاء الأشخاص وهم يقومون بنشاطات مختلفة، كالرقص والمشي والقفز والكتابة على آلة كاتبة. وعندما قام بإظهار الفيلم ظهرت النقاط البيضاء فقط تتحرك للأعلى والأسفل بشكل منساب ومعقد. وعندما قام بتحويل هذه الخطوط والنقاط إلى معادلات موجية من نمط فورييه، تبين له وجود أنماط خفية للحركات تجعله قادراً على توقع الحركة التالية بأجزاء من السنتمتر. تحمس Pribram كثيراً لما وجده بيرنشتاين، نظرا للتطبيقات العملية الكبيرة لهذه النتائج. وكان بنظره أن سبب ظهور الأنماط الخفية يعود إلى أنها تلك هي الطريقة التي يختزن بها الدماغ المعلومات الحركية. وعندما يقوم الدماغ بتحليل تلك الحركات إلى مركِّباتها الموجية، فإن هذا يعطي سرعة كبيرة لتعلَّم الحركات المعقدة. فعندما نركب دراجة لا نقوم بتذكر كل جزء صغير من الحركة، بل نأخذها كحركة انسيابية كاملة. وهذا الاعتقاد السائد السابق بأن الدماغ يسجل كل حركة جزءاً بعد جزء لا يستطيع تفسير كيف نتعلَّم هذه الحركات المعقدة، بينما عندما يقوم الدماغ بتحليل الحركة إلى شبه معادلات فورييه واختزانها ككل، فإن هذا يعطي تفسيراً أكثر قبولاً.

علم النفس والنظرية الهولوغرافية

يقول الدكتور Ken Dychtwold بأننا لو نظرنا من قريب إلى الكائن الإنساني لوجدنا أنه بحد ذاته هولوغرام متميز متضمَّن ضمن ذاته، ومولِّد لذاته ويعرف ذاته. وإذا قمنا بإخراج هذا الكائن الحي من الواقع الأرضي سنلاحظ بسرعة أنه كالـ mandala (وهي أشكال هندسية رائعة تعبِّر عن وحدة الكون وعن فكرة أن ما يوجد في المحيط يوجد في المركز)، حيث إنه داخل الإنسان تجري كميات هائلة من المعلومات الجسمانية والاجتماعية والنفسية والتطورية التي تم عن طريقها تشكُّله.

منذ بدايات عمله، كان الطبيب النفسي السويسري المشهور Carl G. Jung مقتنعاً بأن الأحلام والأعمال الفنية وتخيلات وإهلاسات hallucinations مرضاه لا يمكن أن تكون ناجمة فقط عما تعرضوا له في حياتهم، بل على العكس تشبه إلى حد بعيد ما جاء في أعظم أساطير وديانات عالمنا. وقد استنتج بأن الأساطير والأحلام والإهلاسات والرؤى الدينية تنبع كلها من مصدر واحد، من لاوعي جمعي مشترك بين البشر.

وقد كانت إحدى الوقائع التي قادت يونغ إلى هذا الاقتناع تخص شخصاً يعاني من الفصام الزوري Paranoid Schizophrenia، رآه يونغ مرة يحدق في الشمس ويهز رأسه من جهة لأخرى. وعندما سأله عن سبب فعل هذا، أجابه بأنه ينظر إلى العضو الذكري للشمس، وبأنه عندما يقوم بتحريك رأسه من جهة لأخرى يتحرك العضو ويسبب حركة الريح. اعتقد يونغ عندئذٍ بأن هذا مجرد هلوسة. وبعد عدة سنين وقع بين أيديه ترجمة لكتاب فارسي ديني قديم يعود إلى قبل ألفي سنة، ويحتوي على مجموعة من الشعائر والطقوس التي تجلب الرؤى الدينية للشخص الممارس. وكانت إحداها تقول بأن الممارس لهذه الطقوس يمكنه رؤية أنبوب معلق من الشمس، وعندما يتحرك هذا الأنبوب تحدث حركة الريح. ولما كان هذا الكتاب نادراً جداً في ذاك الوقت وغير مألوف أبداً، فمن غير المعقول أن يكون قد وقع بين يدي ذاك المريض. فاستنتج يونغ أن الرؤيا أتت من مستوى عميق من اللاوعي الجمعي للجنس البشري ودعاه بالأنماط البدئية Archetypes. وكان مقتنعاً أن كلًا منا يحوي ذاكرة شخص بعمر مليوني عام داخل عقولنا.

وبحسب النظرية الهولوغرافية، ترتبط الأشياء كلها بعضها ببعض بشكل لانهائي في الكون؛ وكذلك يرتبط الوعي. فنحن كلنا ، رغم التظاهرات المختلفة، كائنات بلا حدود، أو، كما يقول David Bohm: "ما يوجد داخل وعي الناس بأجمعهم واحد."

الأحلام والنظرية الهولوغرافية

قام الطبيب النفسي المشهور Montague Ullman من جامعة Albert Einstein بتجارب على المتطوعين، وقام بجعل أحد المتطوعين ينام ضمن إحدى غرف المخبر في الوقت الذي قام به متطوع آخر بالنظر إلى لوحات فنية مختلفة بشكل عشوائي. وفي بعض المرات كانت النتائج سلبية طبعاً، ولكن في بعض المرات حدثت مفاجآت. فبينما كان المتطوع ينظر في إحدى المرات إلى لوحة فنية لـ Tamayo تصور كلبين يتناهشان عظمة كبيرة، فحلمت المتطوعة بأنها مدعوة للعشاء ولم تكن توجد كمية كافية من اللحم، فكان الأشخاص "يتكالبون" على الطعام. وفي مرة أخرى كان المتطوع ينظر إلى لوحة باريس من النافذة لـ Chagall التي تحوي الكثير من الألوان الفاتحة وشخصاً ينظر إلى منظر لباريس وقطة بوجه إنساني وأشخاص يطيرون في السماء وكرسي مغطى بالأزهار، فحلمت المتطوعة لعدة ليالٍ بأشياء فرنسية، ببناء على الطراز الفرنسي، بقبعة رجل فرنسي، وبمجموعة من النحل تطير حول الأزهار، إلخ.

ومن خلال تعامله الطويل مع الأحلام، وجد Ullman أن الإنسان أميل لأن يكون أكثر حكمة في أحلامه مما هو في الواقع. فبعض الأشخاص الذين اتصفوا بكثير من الدناءة والغرور والتحايل والأنانية يرون علاقات أفضل بكثير في أحلامهم. وكثيراً ما كانت تتكرر الأحلام نفسها بصور ظاهرية مختلفة أو متشابهة كأنها محاولة لإعطاء الشخص فرص متكررة لمعرفة الحقيقة. وكان Ullman يعتقد، على العكس من الكثير من المدارس الأخرى، أن الأحلام لا تنبع من مركَّب بدائي للشخصية، بل بأنها، على العكس، تعتبر تحولاً طبيعياً من النظام المنطوي إلى المنكشف.

الأحلام الرائقة والأكوان المتوازية

ازداد اهتمام علماء النفس في السنين الأخيرة بموضوع الأحلام الرائقة lucid dreams التي تتميز بأن الحالم يحافظ على كامل وعيه خلال الحلم ويعرف في الوقت نفسه بأنه يحلم، ويقوم بدور فاعل في الحلم، ويستطيع التحكم بأحداث الحلم، كأن يقوم بتحويل كوابيس إلى تجارب سعيدة، أو أن يقوم بتغيير خلفية الحلم، أو يضع أشخاصاً متعددين في موقع واحد. كذلك تتميز الأحلام الرائقة عن الأحلام العادية بأنها أكثر حيوية ونشاطاً، فتبدو الورود فعلاً ذات ألوان خلابة وروائح عطرة، ويبدو كل شيء مليئا بالإشعاع والطاقة. يعتقد العلماء اليوم أن للأحلام الرائقة دوراً كبيراً في تحريض النمو الفردي والثقة بالنفس وتحسين الصحة العقلية والجسمية وتسهيل الفكر الإبداعي لحل المشكلات.

يعتقد عالم الفيزياء Fred Alan Wolf بأن النظام الهولوغرافي قادر على تفسير ظاهرة الأحلام الرائقة. ففي الحقيقة تقوم قطعة فيلم هولوغرافي بتوليد نوعين من الصور: صورة افتراضية تبدو خلف الفيلم، وصورة حقيقية تبدو أمام الفيلم. والأمر الفارق بين الصورتين هو أن الأمواج الضوئية التي تشكل الصورة الافتراضية أو الوهمية تبدو آتية من محرق أو مصدر معين، ثم تنفرج؛ وهي وهمية لأنه ليست لها أبعاد فراغية تماماً كصورة المرآة. أما الصورة الحقيقية في الهولوغرام فتتشكل فعلاً من الأمواج الضوئية القادمة لتتلاقى في المحرق؛ وهي ليست وهمية، بل لها أبعاد في الفراغ. ولكن، للأسف، لم يهتم العلماء بالتطبيقات العملية لهذه الصورة لأنها غير مرئية بشكل واضح في الهواء ولا تُرى إلا عندما تمر جزيئات الغبار عبرها، أو عندما ينفخ الشخص نفخة دخان عبرها.

ذكر Wolf في المؤتمر السنوي لدراسة الأحلام في واشنطن عام 1987 أن الأحلام بشكل عام هولوغرامات داخلية، وأن الأحلام العادية عبارة عن صور افتراضية أو وهمية. ولهذا السبب تكون أقل حيوية من الأحلام الرائقة التي تشكل صوراً حقيقية. ويكون السبب في إشعاعية الأحلام الرائقة هو أن الأشعة تتلاقى ولا تنفرج، كما هي الحال في الحلم العادي. فلو وقف شخص ما حيث تتلاقى الأشعة لأصبح هذا الشخص ضمن المشهد تماماً.

مادمنا ذكرنا سابقاً أن Pribram و Von Bekesy يقولان بأن عقولنا هي التي تشكل الوهم القائل بأن هناك شيء في الخارج، فلنشر أيضاً إلى أن Wolf أيضاً يعتقد بهذا، وأن هذه الآليات هي التي تسمح بخلق وقائع داخلية قد تبدو ملموسة وواقعية ويمكن تسميتها بالمقابلات الموضوعية objective counterparts. ويعتقد Wolf أن قدرتنا على تكوين حلم رائق قد يكون بسبب عدم وجود فارق أصلاً بين العالم الخارجي والعالم الداخلي. ولما كان الشخص في الحلم الرائق قادراً على الفصل بينه وبين المشهد، لا يمكننا، إذن، اعتبار الحلم الرائق ذاتياً فقط، بل لابد أن تكون هناك ناحية موضوعية. ويتابع Wolf أن الأحلام الرائقة (وربما الأحلام جميعاً) زيارات لأكوان موازية للكون الذي نحيا فيه ساعة اليقظة، وهي عبارة عن هولوغرامات ضمن الهولوغرام الكوني الأوسع. ويقترح Wolf تسمية الأحلام الرائقة بوعي الأكوان المتوازيةParallel Universe Awareness.

الأمراض النفسية والنظام المنطوي

ذكر كل من David Bohm و Karl Pribram أن الرؤى والتجارب التي اختبرها عبر العصور حكماء أتوا من كافة الحضارات الإنسانية، ومن كافة الديانات السماوية وغير السماوية، مثل الشعور بالوحدة مع كل الكون والارتباط والوحدة مع الحياة، تشبه كثيراً وصفاً للنظام المنطوي. وقد اقترحا أنه لابد أن يكون هؤلاء الحكماء قد استطاعوا تجاوز الواقع المنكشف، واستطاعوا أن ينظروا إلى عمق الصفات الهولوغرافية للكون. ويعتقد Ullman أن المرضى النفسانيين قادرون أيضا على اختبار بعض مظاهر المستوى الهولوغرافي للحقيقة؛ ولكن هذا لا يحدث بالترتيب والتنظيم المنطقي الكافي، فتتحول إلى شكل تراجيدي.

يذكر الفصاميون مثلاً أنهم يشعرون كما لو كانوا في محيط أو بحر ويتصلون مع كامل الكون بشكل سحري هذياني؛ كما يذكرون فقدان الحدود بينهم وبين الآخرين، وهذا ما يجعلهم يظنون أن أفكارهم لم تعد ملكهم وبأنهم يستطيعون قراءة أفكار الآخرين؛ فبدلاً من أن يجدوا هؤلاء الأفراد كأشخاص مختلفين عنهم، يجدونهم كأعضاء في مستويات أكبر وأوسع. وهذا ما يشير إلى الطبيعة الهولوغرافية لتفكيرهم. كذلك يعكس الفصاميون في تفكيرهم صفة أخرى من صفات الهولوغرام، ألا وهي غياب أهمية التتابع الزمني والعلاقات الفراغية بين الأشياء. فبالنسبة للفصامي القول بأن الحدث ألف يسبق باء، مشابه لباء يسبق ألف، والقول بأن رأس الشخص أعلى من كتفيه مشابه للقول بأن كتفيه أعلى من رأسه.

ويعتقد Ullman أنه إذا تمكن الفصامي من الحصول على بعض الرؤى من النظام الهولوغرافي، فإن المصاب بالاكتئاب الهوسي يندمج بشكل مفرط بهذا النظام، ويظن نفسه مالكاً لكل قدراته التي لا حدود لها. فهو لا يستطيع أن يمنع كل الأفكار التي تنصب عليه، فيعمد إلى الكذب والاحتيال على من حوله لكي يستطيع التعامل مع هذا الشعور المتوسع. والنتيجة في الغالب ضياع واختلاط مصحوبان ببعض اللحظات من الإبداع والنجاح الباهر. وبعد أن يعود الهوسي من عطلته الفوقواقعية surrealist ويجابه تحديات وإحاطات الحياة اليومية، يصاب بالاكتئاب.

كما يعتقد Ullman أيضاً أن جميعنا يواجه النظام المنطوي في أحلامنا، ولكننا نتركها وراءنا عندما نستيقظ، بينما على المرضى النفسيين التعامل معها بنفس الوقت الذي يحاولون فيه مجابهة الواقع اليومي. كما أن معظمنا يملك عادة آلية دفاعية طبيعية تمنعنا من الاتصال بالنظام المنطوي بشكل أكبر مما نتحمل.

تعدد الشخصيات والنظام الهولوغرافي

يعتقد Shainberg مثلما يعتقد David Bohm أن الوعي ينكشف باستمرار من النظام المنطوي. وعندما نسمح لهذه الطاقات بالتعبير عن نفسها دائماً من مصدر محدد، فإننا نخلق حاجزاً بين أنفسنا وبين التداخلات الجديدة الرائعة التي يمكن أن تأتي من مصدر غير منتهٍ. ولكي نعي تماماً هذا الشيء، علينا أن ننظر إلى الأطفال الذين لم يشكلون بعد عوائق تذكر؛ فهم يتعاملون مع الأشياء بشكل منفتح ومرن. ويرى Shainberg أن سبب الحيوية المفرطة التي يتمتع بها الأطفال تعود إلى الطبيعة المنطوية المنكشفة للوعي. فإذا أردت أن تصبح مدركاً للآراء الجامدة التي نكونها بعد مرحلة الطفولة، انظر/انظري إلى نفسكَ/نفسكِ من خلال محادثة، وكيف نحاول باستمرار الدفاع عن آرائنا وتصرفاتنا التي نادراً ما تتغير، حتى بعد دخول معلومات جديدة. فنحن في الحقيقة نادراً ما نظهِر اهتماماً بما تعنيه محادثة حقيقية.

أما بالنسبة لتناذر الشخصيات المتعددة Multiple Personality Syndrome الذي يتظاهر كما لو أن شخصيتين مختلفتين أو أكثر تسكنان جسماً واحداً، فغالباً ما يكون أصحاب هذا التناذر غير عالمين عن حالتهم، بل يشعرون فقط بفترة نسيان أو إغماء. ومعدل عدد الشخصيات المتعددة في هؤلاء الناس هو8-13 شخصية. ولقد تبين أن 97 بالمئة من أصحاب الشخصيات المتعددة تعرضوا لرضٍّ شديد في الطفولة قد يكون جسدياً أو نفسياً أو جنسياً. وافترض العلماء أن هذا الرضّ الشديد الذي يصعب تحمُّله على شخصية واحدة قد أدى إلى الانقسام إلى عدة شخصيات.

ويبدو أن ظاهرة الشخصيات المتعددة دليل على ما يسميه Bohm بالتجزُّؤ fragmentation: عندما تقوم النفس بتجزيء نفسها فهي لا تصير مجموعة أقسام مكسورة، بل تكاملات أصغر ضمن التكامل الأكبر؛ وكل تكامل له صفاته وأهدافه ورغباته المحددة. وقد لوحظ أن معظم أصحاب هذا التناذر يشخَّصون في عمر 28- 35. وهذا ما يدل على وجود نظام تنبيه داخلي في هذا العمر محذراً إياهم بضرورة التشخيص واللجوء إلى العلاج.

ولقد وجد أن النمط العام للموجات الدماغية قد تختلف من شخصية لأخرى. وهذه ظاهرة غريبة جداً لا يمكن تفسيرها إلا بالنظام الهولوغرافي، لأن الشخص نفسه لا يستطيع تغيير طابع موجات دماغه بهذا الشكل حتى في الحالات الانفعالية الشديدة. كذلك لوحظ أنه من الممكن أن تصاب شخصية ما بداء السكري مع العلم أن الشخصية الأخرى غير مصابة به. كذلك تختلف الضغوط الدموية وجريان الدم والمقوية العضلية وعدد دقات القلب وطريقة الكتابة والقدرات الفنية واللغات الأجنبية المتقَنة، وحتى نسبة الذكاء. ولقد ذكرت حالة مريضة كانت كل شخصياتها تتحسس من عصير البرتقال، باستثناء واحدة منها، فكان يظهر طفح واضح على الجلد كلما شربت العصير، ويختفي الطفح عندما تظهر الشخصية غير المتحسِّسة، ليعاود الظهور مع شخصية أخرى. كذلك قد تكون شخصية ما ثملة بتأثير الكحول، بينما يعود الشخص إلى صحوه عندما تظهر شخصية أخرى. كذلك أظهرت الأدوية تأثيراً مختلفاً على الشخصيات، وخاصة أن بعض الشخصيات تكون طفلية، فتؤثر عليها مقادير صغيرة من الأدوية. كذلك وجدت حالات نساء يملكن دورتين أو ثلاثة دورات طمثية في شهر واحد، لأن كل شخصية لها دورتها الطمثية المستقلة. كذلك يختلف النمط الصوتي من شخصية لأخرى (على الرغم من أن أحسن الممثلين أداءً لا يستطيع تغيير صوته بشكل كافٍ يستبعد معه النمط الأصلي الخاص به).

بعد أن استعرضنا الاضطرابات المختلفة لتعدد الشخصيات، لابد أن نذكر ميزات كبرى قد يتمتع بها صاحب الشخصيات المتعددة: فهو لا يتقدم في السن بنفس السرعة التي يتقدم بها الأشخاص الآخرون. وقد ذكرت حالة امرأة تدعى Cassandra تملك قدرات شفائية كبيرة نظراً لتنميتها لقدرات التخيُّل وقضائها أوقاتٍ طويلة في التأمل وممارسة طريقة تدعوها التنسيق المتوازي Parallel Processing. فهي تتحكم بالشخصيات المختلفة في نفس الوقت، وتعطي كلاً منها دوراً معيناً. فهي تستطيع العمل على عدة مؤلفات في نفس الوقت؛ كما تستطيع أن تجعل إحدى الشخصيات ترتاح وتنام بينما تقوم الأخرى بتحضير العشاء أو تنظيف البيت؛ كما أن إحدى شخصياتها المدعوة Celeste تقضي 24 ساعة في اليوم في التأمل وتخيل أن الجسم في صحة تامة وعندها معلومات هائلة عن تشريح وفيسيولوجيا الجسم.

إننا كثيراً ما نكون مقتنعين باستحالة تغيير الأشياء. فإذا كان بصرنا ضعيفاً، فمعنى هذا أنه سيكون كذلك طوال الوقت؛ وإذا أصبنا بداء السكري، لا نتخيل أن حالتنا ستزول مع اختلاف في المشاعر أو الأفكار. بينما تقوم دلائل الشخصيات المتعددة بكسر حدود هذه الحواجز التي وضعناها وتقدم فرضيات جديدة.

العقاقير المهلِّسة والمفهوم الهولوغرافي

يعتبر Stanislav Grof رائد دراسات حالات الوعي غير العادية أثناء استعمال المهلِّسات hallucinogens، من نحو الـ LSD. وقد بدأ اهتمامه منذ الخمسينيات من القرن المنصرم عندما كان يعمل في مركز الأبحاث النفسية في وطنه الأم تشيكوسلوفاكيا. وقد تابع Grof دراساته في منصبه الحالي كرئيس لقسم الأبحاث النفسية في Maryland، وكأستاذ مساعد في جامعة John Hopkins.

كانت الآراء السائدة في الخمسينيات أن التجارب التي يمر بها متعاطو الـ LSD عبارة عن ارتكاس دماغي متكرر شديد لمادة كيماوية مؤذية. لكن Grof لم يجد دلائل واضحة على هذا الارتكاس المتكرر، بل وجد استمراراً ما يحدث عبر الجلسات المتتابعة. وقد ذكر أن التجارب بدت كانكشافات متتابعة لمستويات من الوعي تزداد عمقاً.

ولقد وجد Grof وزملاؤه أن جلسات الـ LSD ساعدت على تسريع عملية الشفاء النفسي لعدد كبير من المرضى، كما أن كثيراً من الذكريات المؤلمة التي عانى أفرادها منها لسنين طويلة، وحتى أمراض نفسية كالفصام Schizophrenia قد شفيت نتيجة هذه الجلسات. والتجربة الشائعة جداً عند مستعملي الـ LSD كانت أن يعيشوا من جديد تجربة وجودهم داخل رحم أمهم. اعتقد Grof في البدء أن هذه مجرد تخيلات، لكنه وجد بعد ذلك أن وصف هؤلاء الناس لتجاربهم كان أعلى بكثير من مستوى معرفتهم وثقافتهم المعتادة، كأن يقوموا بشرح صفات دقات قلب أمهم وجريان الدم في المشيمة وآليات خلوية وكيميائية داخل الجسم؛ كما وصفوا مشاعر أمهم في أوقات مختلفة من الحمل والرضوض الجسمانية والعاطفية التي تعرضت لها.

لم يكتفِ Grof باستكشاف الحياة الجنينية عند هؤلاء الأشخاص، بل وجد أن قسماً منهم قد تجاوز حدود الأنا، ووجد نفسه يشعر بما تعنيه صيرورته شخصاً آخر أو كائناً حياً آخر. فقد قامت واحدة من النساء باختبار شخصية زاحف منقرض، فلم تكتفِ المرأة بوصف ما تعنيه بكونها زاحف وما تشعر به، بل وصفت أيضاً الميل الجنسي نحو واحد من ذكور الزواحف لوجود حراشف ملونة على جانبي رأسه (رغم عدم معرفتها السابقة عن ذلك). وعندما تكلم Grof مع أحد علماء الحيوان، تبين أن وجود هذه الحراشف الملونة يلعب فعلاً دورا جنسياً عند بعض الزواحف. كما استطاع أناس آخرون الدخول فعلاً في وعي أقربائهم وأسلافهم وإعطاء تفاصيل دقيقة عما مرَّ بهم قبل عقود وقرون. كما استطاع بعضهم إعطاء تفاصيل دقيقة عن الاشتراك في حملات جنكيز خان، أو رقص الغيبوبة مع قبائل الـ Kalahari، أو الدفاع عن حقوق الأستراليين الأصليين، إلخ. وكانت تلك المعلومات واسعة جداً وتقنية وغير معروفة سابقاً عند هؤلاء الناس. وقد قامت امرأة غير متعلمة بإعطاء تفاصيل دقيقة عن التحنيط المصري والتقاليد والشعائر المستخدمة في الجنائز وكيفية صنع الملابس المستخدمة والمواد التركيبية لها؛ وقام آخرون بسرد دروس كاملة في الديانات البوذية والطاوية.

وفي الحقيقة بدا كما لو أنه لا يوجد حدود لما قد يصل إليه الأشخاص تحت تأثير الـ LSD. فقد استطاعوا أن يشعروا بتجربة كل إنسان، أو حيوان، أو حتى كل نبات على شجرة التطور، وحتى ما يعنيه وجودهم ككريَّة دم حمراء أو بيضاء، أو ذرة، أو تفاعل نووي داخل الشمس، أو الوعي الكائن للكرة الأرضية، وحتى للكون. لقد استطاعوا تجاوز حدود الزمان والمكان، وذكر بعضهم إحساسه بوجود ذكاء غير إنساني لكائنات دنيا، وبوجود مرشدين على المستوى الروحي من مجالات أعلى للوعي وتكوينات فوق إنسانية.

وفي بعض المحاولات، بدا كما لو أن الأشخاص سافروا إلى أكوان أخرى ومستويات أخرى من الواقع. فبينما كان Stanislav Grof يعالج شخصاً مصاباً بالاكتئاب، انتقل ذاك الشخص تحت تأثير الـ LSD إلى بعد جديد أكثر إنارة وإشعاعاً وأحس كما لو أنه توجد كائنات أخرى، رغم عدم استطاعته رؤيتها، ثم فجأة أحس بشيء يأمره تخاطراً أن يخبر شخصين يعيشان في مدينة Kromeriz في مورافيا بأن ابنهم Ladislav بأمان، وأعطاه اسم الأشخاص والشارع ورقم الهاتف. وبعد تردد كبير، ودون إخبار أحد خوفاً من الاستهزاء، قام Grof بالاتصال وسأل عن الابن؛ فإذا بالمرأة على الجانب الثاني تبكي وتنتحب وأخبرته أنه توفي منذ ثلاثة أسابيع.

بعد انتقالGrof  إلى الولايات المتحدة عام 1960، قام بما يزيد عن 3000 جلسة LSD ودرس ما يفوق 2000 حالة، وتوصل للنتيجة بأن فهمنا الحالي للكون وللطبيعة وللواقع، وبشكل خاص للإنسان، ما تزال سطحية، غير صحيحة وغير كاملة. وبالاشتراك مع Abraham Maslow وغيره، دعا علم النفس الجديد هذا بعلم النفس العبرشخصيTranspersonal Psychology.

وبحسب اعتقاد Grof، فإن النظام الهولوغرافي هو الوحيد الذي يستطيع تفسير جميع هذه الظواهر العبرشخصية من خلال الطبيعة المنطوية للفراغ والزمان، ومن خلال صفة الترابط بين جميع الأشياء في الكون. ويعتقد Grof أن هناك إمكانية لانهائية لحفظ وجلب المعلومات من خلال هذا النظام. وهذا يفسر لماذا تكون تجربة حلم، أو جلسة LSD، أو رؤيا معينة، قادرة على إعطاء معلومات هائلة عن شخص بأكمله، عن منهجه الشامل في الحياة، عن تقييمه لنفسه، عما يشعر نحو أهله أو زواجه، إلخ، كما تفسر الأنماط البدئية Archetypes، كالرجل والمرأة الكونيين، الأب والأم، والعاشق والألعبان والغبي والمدافع إلخ.

أخيراً، علي أن أذكر أنه ليس من المهم أن نقول أيُّهما أفضل: النظرية التجزيئية أم النظرية التكاملية. ففي النهاية نحن بحاجة لكلتيهما مادمنا نعيش على مستوى أرضي. فكما أن قدم الإنسان تختص بوظيفة المشي، لكنها تؤثر على أعضاء الجسم المختلفة (كذلك الأمر بالنسبة للأذن وقزحية العين أو أية خلية في الجسم)، كذلك بالأحرى الدماغ، وهو صلة الوصل بين الجسم من جهة، والفكر والنفس والروح من جهة أخرى. وحتى الإنسان نفسه عليه أن يقوم بدور متخصص مادام موجوداً على الأرض، يرتدي كساءً جسدياً، لكن عليه بنفس الوقت إدراك وحدته مع الكون ومع كل شيء وكل إنسان في كل لحظة لكي يقوم بتحقيق الغاية التي من أجلها وُجِد.

*** *** ***


[1] The Mystery of the Mind.

[2] Languages of the Brain.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود