الإنسان والكون

من منظور علم الباطن

 

حياة أبو فاضل

 

 

وتحسبُ أنك جرمٌ صغيرُ وفيكَ انطَوى العالمُ الأكبرُ

التراث الصوفي العربي

 

كنتُ كنزاً مخفياً وأردتُ أن أعرَفَ فخلقتُ الخلقَ فبي عرفوني.

حديث قدسي

 

هل زماننا اليوم هو غير زمان قائل البيت السابق الذي أدرك أن الإنسان، جسماً وروحاً، ينطوي على أسرار الكون في أدق تفاصيله – ومن هنا أهمية وجوده وحياته وكل اختباراته؟!

إن زماننا – زمن العلم والمعلومات التي تنهال علينا في المدارس والجامعات والكتب والإذاعات والتلفزيونات والإنترنت، زمن التكنولوجيا في قمة سطوتها المستبدَّة – لم يعطِ إنسان هذا العصر أي اطمئنان إلى معنى وجوده. لذا فإن سعادته "سعادة" آلية، والسؤال عن معنى الحياة ما يزال ملحاً.

حتى الدِّين لم يقدِّم جواباً مقنعاً لأن إنسان الدين إنسان "خاطئ"، وُلِد في الخطيئة، وحياته ليست إلا فرصة للتكفير عن تلك الخطيئة – مع ما يقال في اللاهوت المسيحي من أن المسيح أتى وحمل عن الجنس البشري كل خطاياه، وبيَّن بأن "الثوب الجديد لا يُرقَّع بقطعة من قماش قديم". والله، خالق البشر أجمعين، يقف للعُصاة بالمرصاد ليلقى بهم في نار جهنم، رغم أنه، على ما يقول الدين الحنيف، رحمن رحيم، غفار ودود.

أمام هذا التناقض في مفهوم الحياة ومعناها، وفي علاقة الإنسان بالإنسان وفي علاقته بالخالق، وأمام شعوره بالعزلة وبعدم جدوى الحياة في أحيان كثيرة، نشأ علم النفس الذي حاول التوصُّل إلى حلول تزيل أوجاع النفس وتُدخِل إليها الاطمئنان، ونجح بعض الشيء في التخفيف من أعراض القلق والكآبة والحصر بالتحليل من جهة، وبالعقاقير المهدِّئة من جهة ثانية. لكن محاولات العلم في مختلف ميادينه بقيت سطحية المفعول، غير شاملة.

ظل الأمر كذلك حتى بدأت بواكير الحكمة المشرقية الآتية من الهند تدقُّ أبواب الغرب، حاملة خبرات روحية ألوفية، وعبر هذه الخبرات، إجاباتٍ واضحة وجذرية على أسئلة إنسان هذا الزمان. يقول حضرة عناية خان، الصوفي الهندي الكبير الذي كان أول من نقل مبادئ التصوُّف إلى الغرب، إن في الشرق ثلاث مدارس باطنية الجذور تحمل مفاتيح معرفة أسرار الكون والوجود والغاية منه: المدرسة الفيدنتية التي تعتمد أسفار الأوبنشاد، والمدرسة البوذية، والمدرسة الصوفية.

تقوم على سلسلة "حلقة الدراسات الهندية" مجموعة من السنسكريتيين اللبنانيين، بإشراف الحكيم الهندي سوامي تشيدانندا، بهدف تعريف القارئ العربي، بعيداً عن أية متاجرة رخيصة، بالتراث الروحي للهند الذي يكاد هذا القارئ يجهل كل شيء عنه. فالهدف ليس على الإطلاق تبشير المسلمين والمسيحيين في العالم العربي بمعتقدات جديدة، بل المساهمة المتواضعة في فتح الأذهان والتشجيع على التقصِّي الشخصي بالتَّماس مع أشكال أخرى غنية من الروحانية لم يألفوها بالضرورة.

ولماذا الهند؟

لأن القائمين على هذه السلسلة رأوا أن البوذية والهندوسية لا تستدعيان إعمال العقل والمنطق وحسب، بل القلب والتسامح أيضاً، وبخاصة الحدس الروحي الحي بإتاحة الوسائل المناسبة لبلوغه هنا والآن.

إن التعصب والعنف لا يمرحان إلا في جوٍّ من الجهل أو التجاهل أو إلغاء "الآخر"، بينما التربية، التي تقود إلى الحوار بين الثقافات والأديان، هي الوسيلة الأكيدة، وربما الوحيدة، لتحرير العقول من التزمُّت الديني والانتماء الطائفي الأعمى. وفي الشرق الأدنى ليس التعصب حكراً على طائفة دون أخرى؛ إنه نتاج حلقة مفرغة من الأفعال وردود الأفعال لا تختلف إلا في طريقة تعبيرها (العدوانية والتبشيرية، الخوف والانغلاق، أو مزيج من الموقفين). ولقد بيَّنت الخبرة المتراكمة من جراء تعليم المعرفة والرياضات التي أثمرت عنها روحانية الهند لآلاف من المسلمين والمسيحيين والدروز إبان سنوات الحرب الأهلية اللبنانية أن الانفتاح على "ما يتعدى الحرف" هو الأرضية الصحية التي من شأنها أن تيسر للإنسان استعادة إنسانيَّته.

فمنذ "الفتح" الإسلامي للهند، باستثناء بضعة مؤلفات تشتمل على هاجس معرفة "الآخر" (من نحو تحقيق ما للهند لأبي الريحان البيروني ومجمع البحرين لدارا شيكوه بن شاه جهان)، لم يُكتَب عملياً شيء بالعربية عن روحانية الشرقين الأوسط والأقصى؛ حتى إن الأمر وصل ببعض أساتذة الجامعة اللبنانيين إلى الظن أن الهند تدين بالبوذية! وهؤلاء يعترفون، على حدة، بأنهم "لا يعرفون الكثير"، لكنهم متأكدون أن لدى البوذيين نظام مراتب وأنهم يعبدون البقرة!

لقد تبيَّن للقائمين على "حلقة الدراسات الهندية"، مثل روبير كفوري وجورج حلو وريما صعب، أن هذا الجهل المرعب ناجم حصراً عن غياب ترجمات للنصوص الأساسية للتراث الروحي للهند. لذا فقد عكفوا، منذ سنوات، على النهوض بعملية التعريف والترجمة بهذا التراث الغني. والمؤلفات التي أعدوها للنشر ونُشِر بعضُها فعلاً (راجع المصادر) هي:

1.    الحكمة الهندوسية: المدارس الفلسفية والمعتقدات ونصوص مختارة وسِيَر حكماء.

2.    الحكمة البوذية: حياة البوذا وتعاليمه، مع ترجمة للـدْهَـمَّـبَـدا ومختارات من الـبِـتَـاكا.

3.    الأوبنشاد.

4.    البْـهَـغَـفَـدغيتا.

5.    يوغا سوترا بَـتَـنْـجَلي، مع شروح سوامي تشيدانندا عليها.

6.    شنكراتشاريا: حياته وتعاليمه مع ترجمة للـأتمابودها.

7.    شيفاسمهيتا.

8.    بحثاً عن الله، لرامداس، مع مختارات من تعاليمه.

9.    هكذا تكلم...: رامَنا مهارشي، شيفانندا، تشيدانندا.

10.                       مقترب عملي إلى الإله لتشندرا سوامي (ترجمه إلى الفرنسية المرحوم إيفان أمار).

فما هي نظرة تلك المدارس إلى "الإنسان" المبثوثة في الكتب السابقة؟

تقول العلوم الباطنية إن الجسم المادي للإنسان، ذا الذبذبات الكثيفة، هو جزء من كلٍّ يشتمل على "مركبات" vehicles أخرى ذبذبية التكوين: الجسم الأثيري etheric double، أو جسم الصحة، ومنه تمتد الهالة aura خارج الجسم المادي؛ الجسم النجمي astral body، جسم المشاعر والعواطف؛ الجسم العقلي mental body، جسم الفكر والذكاء؛ المبدأ الإشراقي buddhi، ومقرُّه "القلب"، محل المعرفة والإشراق الروحي؛ وأخيراً الروح. وهذا الكلُّ هو الذي يؤلِّف وحدة الإنسان، بما هو كون صغير. فكيف ذلك؟

تتحدث الـبرهادأرنيكا أوبنشاد – أحد كتب الفيدنتا – عن عناصر التكوين التي تشمل كلِّية سيرورة الخلق. يقول الحكيم كرشنانندا، في معرض شرحه بالإنكليزية على النص السنسكريتي المترجَم، إن الكون والإنسان مكوَّنان من خمسة عناصر هي: التراب والماء والهواء والنار والأثير، وإن الفضاء الذي تقتضيه سيرورة الخلق هو الذي يفرِّق بين المخلوقات، يفرِّق بين أجسام الناس، ويفصل الفرد عن باقي الكون ويجعله يشعر بالعزلة. وذلك الشعور ناتج عن عملية انفصال الفرد عن المطلق.

فما هي العلاقة بين الفرد والمطلق؟

في بدء التكوين، عندما لم يكن هناك فرق بين الرائي والمرئي، نظراً لغياب إمكان الوعي الخارجي من جراء انعدام حركة الحواس، لم يكن ثمة فرق بين المدرِك والمدرَك. إذن، لم يكن هناك وجود؛ وعملية خلق الكون لم تكن عملية تصنيع مادة جديدة. هذه العملية لم تكن إلا امتداداً خارجياً لمطلق غير قابل للانقسام. المسبِّب كان من صلب السبب؛ والذي فرَّق السبب عن المسبِّب حالة خاصة من الوعي حصلت داخل المسبِّب. وهكذا افترق المسبِّب عن السبب، ونشأت البذرة الأولى للتنوُّع والامتداد من خلال التكاثر، واللون، والصوت، إلخ. عملية الانقسام الذاتي تلك، التي تقضي على وحدة الذي لا ينقسم، وتعزل الواحد عن الآخر، تتسبب في نشوء حالة "جوع" إلى الانضمام والعودة للاتحاد بالوعي أو بالأصل.

تقول الحكمة الهندوسية – مثلما جاء في إنجيل يوحنا – إن "الكلمة" في البدء كان عبارة عن ذبذبات تكثَّفت، وتشكَّلت، وتجسَّمت، وتلك الذبذبات الأصلية هي مصدر الكون بكل ما فيه. وأصغر هذه التشكُّلات هي الذرة المؤلَّفة من نواة مركزية وفراغ وقسيمات دون ذرية، تنتظمها حقول من الطاقة، وتتحول جزئياً إلى طاقة لدى تفكُّكها. ولقد أظهرت الفيزياء الكوانتية أن القسيمات دون الذرية لا تتصف بأية خاصية منعزلة، لكنها تُفهَم بوصفها روابط بين قوى وطاقات، ولا توجد إلا عند تدخُّل أدوات الرصد والقياس. الميكانيكا الكوانتية تبرِز إذن الوحدة الأساسية للكون وللوجود. إذ إنه لدى اختراق المادة، تظهر شبكة معقَّدة من الروابط بين الأجزاء المتنوِّعة للكل الواحد غير المنقسم.

ونموذج الذرة، بنواتها المركزية والقسيمات ما دون الذرية، يتكرر في معظم أشكال الوجود. فالخلية cell تتبع النموذج نفسه؛ والجسم بأكمله، ونواته القلب كذلك، إلى المجموعة الشمسية التي تدور كواكبها حول الشمس–النواة، إلى البناء الهرمي للمجتمع ونواته الحاكم؛ وحتى في مجتمع الحشرات الاجتماعية، كالنمل والنحل، هناك الملكة–النواة.

والمادة في الكون ليست صماء مطلقاً، بل هي في تذبذب ورقص دائمين، تماماً كما في خلايا الأنسجة في العضويات الحية، وفي حركة الكواكب ضمن المجموعات الشمسية، ما نعرف منها وما لا نعرف بعد.

والإنسان كون صغير لأن أعضاء جسمه شبكة واحدة كثيرة الأجزاء، تمثل كل ما في الكون، ابتداءً من المجرات، وانتهاءً بحالة الوعي الكوني، الشامل، الذي "ينام" داخل كل منا، إلى أن يستفيق.

على صعيد آخر، تخبرنا العلوم الباطنية أن الجهاز العصبي يمثل القوى الكهرمغناطيسية في الكون. فالقلب صورة مكثفة عن الشمس، مصدر الحياة وقلب الوجود النابض الذي يتوسط نظامنا الشمسي. والقلب البشري ينبض بإيقاع قلب الشمس ذاته، وهو على اتصال معنوي بالقلب الباطني للكرة الأرضية الذي تقول مصادر الحكمة القديمة إنه موجود فعلاً في مكان ما من جبال الهملايا.

والجسم أيضاً على اتصال دائم بالطاقة الكونية (برانا prana)، وهو يستمدها مع النَفَس ومن اليخضور (=الكلوروفيل) النباتي، لكنها ليست الهواء، ولا الماء، ولا الكلوروفيل.

ثم نأتي إلى الذاكرة البشرية العادية التي تنتهي بالـأكاشا akasha، أو "الذاكرة الكونية" التي تتكلم عليها العلوم الباطنية. وهذه الذاكرة تحوي تاريخ الكون والأرض والإنسان منذ البدء الأول؛ وهي ما يصطلح التصوُّف الإسلامي، ممثلاً بابن عربي، على تسميته بـ"اللوح المحفوظ". ذاكرة الإنسان موجودة أيضاً في "مركباته" الباطنية التي تحتفظ العليا منها بسجل أعماره الماضية جميعاً. وبما أنها ذبذبية القوام، فإنها أساساً تضطلع بوظيفة الوعي. وذاكرة وعي الظاهر امتداد لذاكرة وعي الباطن، وتلك الذاكرة جزء محدود من الذاكرة الكونية. وجملة هذه الذاكرات على ارتباط وثيق، وعلاقتها بعضها ببعض علاقة الجزء بالكل. والذاكرة نافذة يطل منها المرء على العالم المكنون في كيانه، أي على المعرفة الهاجعة في دخيلة ذاته. ومن هذه ينطلق التطور الذاتي ليبلغ المعرفة في كلِّيتها. من هنا قول أفلاطون إن "المعرفة تذكُّر". فالذاكرة البشرية صورة للـأكاشا" أو الذاكرة الكونية.

تقول الفلسفة الهندوسية إن المعرفة كامنة في وعي الإنسان، وإلا لما استطاع معرفة الكون وأسراره؛ حتى إنها ذهبت حتى القول إن الفسيولوجيا البشرية تحتوي على كل القدرة التنظيمية غير المحدودة للطبيعة. ذاك ما يشرحه د. طوني ناضر، الاختصاصي في الطب العصبي، قائلاً إن جوهر كتب الفيدا والأوبنشاد موجود داخل تركيبة دماغ الإنسان. كذلك كواكب مجموعتنا الشمسية بكواكبها والأبراج الإثني عشر. وما أدرانا إن كانت تركيبة الـDNA لا تنطوي على نظام الكواكب والأبراج. ويلخص د. ناضر دراسته الشائقة بقوله إن ثمة حقل وعي واحد: فالجسم هو تكثيف للعقل، والمادة هي الذكاء، والفسيولوجيا – أي علم وظائف الأعضاء – هي عينها علم الوعي.

الإنسان، إذن، كون صغير، خلية من خلايا الكون الكبير بكل ما فيه، وهو يحيا مغامرة الحياة الرائعة بكل ما فيها من تنوع. إنه جزء من كل، تربط المحبة أجزاءه بعضها ببعض، مثلما تربطه بالوجود بأسره. لكن هذا الكون الصغير يتألم لأنه لا يدرك وحدته مع الوجود ولا يعي المعرفة الكامنة في داخله. ولأنه كون صغير فهو يتفاعل ويتأثر بالكون الكبير ويؤثر فيه؛ وبما أنه على سفر دائم داخل نظام كوني عادل لا يخطئ بتاتاً، فإنه، إذا أثَّر في النظام سلباً وتسبَّب بخلل ناجم من فكر أو قول أو فعل، مهما كان بسيطاً، فعليه أن يدفع الثمن. أما إذا كان في تناغم مع النظام فإنه يتمتع بكل إيجابياته. لكن لِمَ هذا السفر، ومن قرَّره، وما الغاية منه؟ هذا ما سوف نحاول تقديم إجابة مختصرة عليه، مستلهمين مصادر الحكمة الهندية التي تتكلم على الغاية من الوجود ومبدأ كارما karma، قانون الفعل وردِّ الفعل.

إن الإنسان – ذلك الكون الصغير المسافر ضمن الكون الكبير والذي يملك كل صفاته لأنه خلية منه –، هذا الكون الصغير يتفاعل مع الكون الكبير ويؤثر فيه. فمن قرَّر هذا السفر؟ وما الغاية منه؟ وما هي شروطه؟

إن "لعبة الفكر" هي التي تقودنا إلى طرح أسئلة مثل: لِمَ تمَّت عملية الخلق؟

تقدم الأوبنشاد الهندوسية تفسيرات عدة لعِلَّة عملية الخلق، فتقول، مثلاً، إن الكون، بكل ما فيه، "لعبة" lila الخالق، وتقول إن الغاية من الخلق هي الامتداد والنماء. خارج لعبة الفكر لا ينطرح هذا السؤال، إذ الكون موجود وحسب. إنما في الـبرهاد أرنيكا أوبنشاد، نجد جواباً مفاده أن الخالق أراد أن تكون له "ذات" ثانية. والذات الثانية هي هذا الكون الذي لا يتمتع بكل صفات المطلق، إلا أنه الذات.

تذكر نصوص الفيدنتا ثلاثة أنواع من "الذات": الذات الأولية، وهي عينها في الكل، لا تختلف من شخص لآخر، وتدعى "الذات المطلقة"؛ الذات الثانية متعلقة بفردية الشخص، وكل ما تحبه هو أيضاً "ذات". حركة الذات باتجاه "الآخر" تصير سبباً للتعاطف معه. لذا عندما نحب الآخر نحب ذاتنا ولا شيء آخر. من هنا فإن كل أنواع الحب هي، في العمق، "الذات الكبرى". أما الذات الثالثة فهي الجسد الذي يُعتبَر ذاتاً مرحلية هدفها التطور من خلال اختيار الحياة المحكومة بالقانون الكوني – مبدأ الفعل وردِّ الفعل الذي يصون خير الخليقة.

الخالق هو الكل في الكل. تشرح هذا القول "حلقة الدراسات الهندية" في كتابها سرُّ النجاح في ممارسة اليوغا – والقول لشونيناتا: "يتفق المتديِّنون والصوفية على القول بأن الله باسط كلِّي الوجود. وهذا يعني أن الله أو البرهمن هو الأساس الأول للخلق، وما الخليقة سوى تعبير أكثف عنه، كالماء الذي هو التعبير الأكثف عن البخار. وهذا يعني أيضاً أن كل ما يُدرَك هو الله. كل أزواج الأضداد في الله، الخير والشر، النهار والليل، كلها تعبيرات عن الوعي الواحد الأحد اللاثنائي."

ويقول الحكيم شنكرا: "ليس الله سبباً من الأسباب المكوِّنة للعالم، بل هو السبب الأوحد والعِلَّة الأصلية. إنه القاعدة الأساسية للأشياء. الله هو البرهمن الذي منه تنبثق الكائنات، وبه تبقى بعد أن تنبثق، وفيه تتوارى في النهاية."

السفر في الحياة، إذن، انطلاق من الذات الكبرى، ثم العودة إلى نقطة الانطلاق. ومن بين كل المخلوقات، وحده الجنس البشري حائز على ملكة "العقل" والقدرة على التمييز، ومؤهل للعودة إلى المصدر عن سابق وعي وتصميم. وطريق العودة، طريق الارتقاء نحو الهدف الأسمى، يرافقها توق إلى الخلاص من شوائب الحياة الجسدية. وللطريق قانون: كارما، قانون الفعل وردِّ الفعل. النفس، وفقاً لهذا القانون، تحصد عواقب أعمالها، سلباً أو إيجاباً. وثمة رأيان مختلفان في مصدر قانون "العمل" أو كارما. كتاب الـميمانسا الذي يحلل قانون العمل ويقول بأن هذا القانون يعمل بذاته. وتجيب كتب الفيدنتا عن ذلك القول بأن القانون "العاطل" يتطلب وجود مدبِّر ذكي لعمليَّاته، لأنه مبدأ العدالة الذي يساوي ويلائم بين الأفعال والاستحقاقات. واضع قانون العدالة هو الله، وهو القانون، هو الساكن المقيم في دخائل النفوس، يوجِّهها لتتحرر وتترقَّى في مسيرة تطور نحو العودة إلى المصدر.

تقول الحكمة الهندوسية إن فعل العمل يولد حالة خاصة لكل نفس، ومصيراً خاصاً. فإن لم يتحقق ذلك المصير في العمر الراهن، فسوف يتحقق في نهاية سلسلة طويلة من الأعمار المتعاقبة لأن انحلال الجسد لا يؤدي إلى انحلال النفس التي تبقى أسيرة ما صدر عنها من أعمال، حسنة أو سيئة، فتمرُّ بولادات متتالية، تحصد إبانها ثمار أفعالها السابقة. تعود النفس مجدداً مادامت لم تحصل على الصفاء والانعتاق من مجال كارما من خلال المعرفة.

الوجود الكوني ذبذبي التكوين، مترابط بذبذباته ومتأثر بكل ما يصدر عن الكل. والإنسان يؤثر بفكره وقوله وفعله الصادر عنه. لذا تحتاج عملية التطور والتحرر من العودة إلى أعمار متتابعة من أجل وعي تلك الحقيقة، حتى يستطيع التخلص من سلبياته التي تشدُّه إلى المادة وتبعده عن الهدف المنشود الذي هو العودة إلى المصدر. الحكمة الهندوسية تختصر طريق العودة ذاك عبر الزهد بكل أشياء الحياة المادية وعدم التعلُّق بها. وتبقى أسئلة كثيرة من دون إجابات واضحة: لِمَ يتوق الإنسان عندما يختبر الوجود المادي إلى العودة إلى الوجود غير المادي؟

وعندما تختبر نفسُه عالم الروح، عالم الذبذبات اللطيفة، يعصف بها الحنين للعودة إلى عالم المادة.

أم أنه لا يعصف؟

من يدري؟

من يدرك سرَّ تلك "اللعبة" الرائعة الكاملة غير المكوِّن، الرحمن، الكلِّي الوجود؟

*** *** ***

المصادر

-         Brihad Aranyaka Upanishad, Swami Krishnananda, New Delhi, 1984.

-         Human Physiology Expression.

-         Veda and the Vedic Literature.

-         The Inner Life, Hazrat Inayat Khan, Shambhala Publications, Boston, 1996.

منشورات حلقة الدراسات الهندية بإشراف جورج حلو وريما صعب وروبير كفوري:

-         معرفة الذات، للحكيم شنكرا، نوفل، بيروت، 1997.

-         الحكمة الهندوسية، نوفل، بيروت، 1998.

-         اليوغا الفكري والحكم اليوغية، لبتنجلي، نوفل، بيروت، 1998.

-         هكذا تكلم الحكماء: سر النجاح في ممارسة اليوغا، نوفل، بيروت، 1999.

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود